وقد بسطنا في الأصول : أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح .
فإن قيل : فقد ذكرتم أن من أفطر عامدًا بغير عذر كان فطره من الكبائر ، وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامدًا من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر ، وأنها ما بقيت تقبل منه على أظهر قولي العلماء ، كمن فوت الجمعة ، ورمي الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة ، وهذا قد أمره بالقضاء .
وقد روي في حديث المجامع في رمضان : أنه أمره بالقضاء ،
قيل : هذا إنما أمره بالقضاء ؛ لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوى بالقيء ، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن .
قال العلامة ابن العثيمين {قول الشيخ رحمه الله فيه نظر , وحصره التقيؤ بكونه دواء أو أكل ما فيه شبهة فيه نظر , قد يتقيأ الإنسان لثقل بطنه أو للتداوي بالاستسقاء بدون ضرورة , لكن ما قلنا أقرب للأصول , أنه إذا أفسد صومه بالقيء أو غيره وجب عليه القضاء , لأنه بشروعه فيه صار كالناذر له , ولهذا سمى الله تعالى مناسك الحج نذورا ومدح الذين يوفون بنذورهم , وليس هذا النذر الذي امتدح الله فاعله هو النذر المعروف كما توهمه بعض الناس , بل إن قوله {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني العبادات الواجبة وكذلك قوله {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} المراد المناسك .}
قال العلامة ابن العثيمين {وإذاكان المتقيء معذورًا كان ما فعله جائزًا وصار من جملة المرضى الذين يقضون ، ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر }
الآن الشيخ رحمه الله سوف يدفع الأحاديث التي وردت في قضاء من تقيأ عمدا بأنه إنما يتقيؤ غالبا للتداوي أو لوجود شبهة كما فعل أبو بكر رضي الله عنه , مع أن أبا بكر رضي الله عنه لا نعلم أنه كان صائما صوما واجبا ,لكن فيما يظهر أنه استمر في صومه ,أو أفطر لاندري الله أعلم .
ثم أتى بحديث آخر أن الرسول أمر المجامع أن يقضي فأجاب عنه
وأما أمره للمجامع بالقضاء فضعيف ، ضعفه غير واحد من الحفاظ ، وقد ثبت هذا الحديث مـن غـير وجـه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة ، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء ، ولو كان أَمَرَهُ بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه ، ولما لم يأمره به دل على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه ، وهذا يدل على أنه كان متعمدًا للفطر لم يكن ناسيا ولا جاهلاً .
قال العلامة ابن العثيمين {أما كونه أنه لم يكن ناسيا ولا جاهلا فظاهر من قوله "هلكت" فإن هذا يدل على أنه ليس بجاهل ولا ناسي ,وأما كونه لم يأمره بالقضاء فقد تعقبه الشيخ الألباني وقال فيه نظر فقد ذكره أكثر من واحد وأصل الحديث في الصحيحين ثم ساقه , ثم قال ورواه البيهقي من طريق أبي مروان قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال أخبرنا الليث بن سعد عن الزهري بإسناده هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقض يوما مكانه قال البيهقي : وكذلك روي ....ولهذه الروايات شاهد من مرسل سعيد بن المسيب عند مالك ومن مرسل نافع بن جبير ومحمد بن كعب ذكرهما الحافظ في الفتح , ثم قال : وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا (يقوله الحافظ) . }
والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره ، ويذكر ثلاث روايات عنه :
إحداها : لا قضاء عليه ولا كفارة ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين .
والثانية : عليه القضاء بلا كفارة ، وهو قول مالك .
والثالثة : عليه الأمران ، وهو المشهور عن أحمد .
والأول أظهر ـ كما قد بسط في موضعه ـ فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة : أن من فعل محظورًا مخطئًا أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك ، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله ، فلا يكون عليه إثم ،
قال العلامة ابن العثيمين {هذا هو الفقه العظيم , إذا كان الله لم يؤاخذه فمعناه أنه بمنزلة من لم يفعله , فما دام هو معفوا عنه فكأنه لم يفعله , وإذا لم يفعله هل يجب قضاء أو كفارة ؟لا يجب لاقضاء ولا كفارة , وكذلك يقال في جميع المحظورات في العبادات , في الصلاة إذا تكلم جاهلا أو ناسيا لم يؤاخذ , فيكون بمنزلة من لم يتكلم ,في الصيام إذا أكل أو شرب ناسيا لم يؤاخذ فيكون بمنزلة من يأكل ويشرب , في الحج إذا فعل محظورا ناسيا أو جاهلا فيكون غير مؤاخذ فهو بمنزلة من لم يفعله , وهذا الفقه من شيخ الإسلام رحمه الله عظيم , يعني ما كان يناله أحد من الذين يتبعون المذاهب اللهم إلا نادرا ,كل مالم تؤاخذ عليه فكأنه معدوم إلا في شيء واحد, فإذا تركت مأمورا فالعبادة ناقصة ما أتيت بها , لابد أن تأتي بها على ما أمرت , ولها لم يعذر النبي الرجل الجاهل الذي كان يصلي بلا طمأنينة بل قال له ارجع فصل فإنك لم تصل , لأنه ترك واجبا , لكن لم يأمره بقضاء ما سبق من الصلوات لأنه لم تبلغه الشريعة , ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم . }
ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيا ولا مرتكبًا لِمَا نُهي عنه ، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه ، ومثل هذا لا يبطل عبادته ، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه .
وطرد هذا : أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسياً ولا مخطئًا لا الجماعِ ولا غيره ، وهو أظهر قولي الشافعي .
وأما الكفارة والفدية ، فتلك وجبت لأنها بدل المتلَف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله ، كما لو أتلفه صبي أو مجنون أو نائم ضمنه بذلك ، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ ، والكفارة الواجبة بقتله خَطَأً بنص القرآن وإجماع المسلمين .
قال العلامة ابن العثيمين {القرآن نص نصا صريحا بوجوب الكفارة في قتل الخطأ , وكلامه هنا يظهر منه أنه يرى وجوب الجزاء في قتل الصيد على الجاهل والناسي, والراجح أنه لا يجب في قتل الصيد خطأ أو نسيانا جزاء , وهو نص القرآن , قال الله تعالى { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } مُّتَعَمِّدًا : مشتق وهو وصف مناسب للحكم فوجب أن يختلف الحكم بفقده , وأنه إذا قتله غير المتعمد فليس عليه جزاء , وهذا هو الصواب , وهو أيضا مقتضى طرد القاعدة أن جميع المحظورات إذا كان جاهلا أو ناسيا ليس فيها شيء, ولا يصح قياس هذا على إتلاف الصبي لأموال بني آدم , ولا على إتلاف الجاهل والناسي لأموال بني آدم , لأن الصيد في الإحرام إنما حَرُم لحق الله لا لأنه ملك فلان أو فلان ,وعلى هذا فإذا قتل المحرم صيدا ناسيا أو جاهلا وهو مملوك لفلان ماذا عليه ؟ عليه الضمان إما مثله إن أمكن أو قيمته }
وأما سائر المحظورات ، فليست من هذا الباب ، [ وتقليم ] الأظفار وقص الشارب والترفُّهُ المنافي للتفث كالطيب واللباس ؛ [ ولهذا ] كانت فديتها من جنس فدية المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل .
قال العلامة ابن العثيمين {خلافا للمذهب في هذه المسألة أن تقليم الأظفار وقص الشارب كالصيد لا يسقط بالنسيان والجهل , والصواب خلاف ذلك , فالصواب أنها ليست من باب المتلفات , فأي قيمة للظفر إذا قصه الإنسان أو الشعر ؟ ليس هناك قيمة .}
فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ إذا فعل محظورًا : ألا يضمن من ذلك إلا الصيد .
وللناس فيه أقوال : هذا أحدها ، وهو قول أهل الظاهر .
والثاني : يضمن الجميع مع النسيان ، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايات عن أحمد ، واختاره القاضي وأصحابه .
والثالث : يفرق بين ما فيه إتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم ، وما ليس فيه إتلاف كالطيب واللباس ، وهـذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانيـة ، واختارهـا طائفـة مـن أصحابه ، وهذا القول أجود من غيره ، لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب لا بقتل الصيد . هذا أجود .
والرابع : [ أن ] قتل الصيد خطأ لا يضمنه ، وهو رواية عن أحمد ، فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى .
قال العلامة ابن العثيمين {وجدت أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يذكر أنه يُسقِط وجوب فدية الصيد مع النسيان أو الجهل أو الكراهة , لكن ذكر في الإنصاف وكذلك في الفروع رواية عن أحمد وقال في الفروع اختاره أبو محمد الجوزي وغيره , فكأن شيخ الإسلام يُعتمد أن قوله ما ذكره هنا في حقيقة الصيام , أنه تجب الفدية .}
وكذلك طرد هذا : أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئًا ، فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف ، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك ، وقال أبو حنيفة : هذا هو القياس لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي ، ومنهم من قال : لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان ، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا : النسيان لا يفطر ؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، بخلاف الخطأ ، فإنه يمكنه ألا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس ، وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر .
وهذا التفريق ضعيف ، والأمر بالعكس ، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور ، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جدًا يفوت [ مع ] المغرب ويفوت معه تعجيل الفطور ، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها ، فإذا غلب [ على ] ظنه غروب الشمس [ و ] أُمر بتأخير المغرب إلى حد اليقين ، فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس ، وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف ـ وهو مذهب أبي حنيفة ـ : أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء ، وتأخير الظهر وتقديم العصر ، وقد نص على ذلك أحمد وغيره ، وقد علل ذلك بعض أصحابه [ بالاحتياط ] لدخول الوقت ، وليس كذلك ؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء ، وإنما سن ذلك ؛ لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر ، وحال الغيم حال عذر ، فأخرت الأولى من صلاتي الجمع ، وقدمت الثانية لمصلحتين :
إحداهما : التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة لأجل خوف المطر ، كالجمع بينهما مع المطر .
والثانية : أن يتيقن دخول وقت المغرب ، وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، [ و ] يجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء ، وهو قول مالك وأظهر القولين في مذهب أحمد .
الثاني : أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أولى من الخطأ في تقديم الظهر والمغرب ، فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحالٍ بخلاف تينك ، فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب ؛ لأن ذلك وقت لهما حال العذر ، وحال الاشتباه حال عذر ، فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك .
وهذا فيه ما [ ذكره ] أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط ، لكنه احتياط مع تيقن الصلاة في الوقت المشترك ، ألا ترى أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب ولا في العشاء والعصر ، ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت [ لطرد ] هذا في الفجر ، ثم يطرد في العصر والعشاء .
وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبكير بالعصر في يوم الغيم ، فقال : " بَكِّروا بالصلاة في يوم الغيم ، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " .
فإن قيل : فإذا كان يستحِب أن يؤخِر المغرب مع الغيم ، فكذلك يؤخر الفطور .
قيل : إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء بحيث [ يصليهما ] قبل مغيب الشفق ، فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب ، ولا يستحب تأخير الفطور إلى هذه الغاية .
ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب ، [ و ] لا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق ، بل [ في ] هذا حرج عظيم على الناس ، وإنما شرع الجمع لئلا يُحرَج المسلمون .
وأيضًا ، فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين ؛ بل أن يؤخر الظهر ويقدم العصر ، ولو كان بينهما فصل في الزمان . وكذلك في المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى لا يحتاجون إلى [ ذهاب ] إلى البيوت ثم رجوع ، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين ، كما [ قد ] ذكرناه في غير هذا الموضع .
قال العلامة ابن العثيمين {الموالاة والترتيب في الجمع , يجب أن نعرفهما فالترتيب معناه أن يبدأ بالأولى قبل الثانية والموالاة ألا يفصل بينهما بفاصل كثير , فشيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الجمع معناه ضم أحد الوقتين إلى الآخر وأنه لاتشترط الموالاة لا في جنع التقديم ولا في جنع التأخير , والمشهور من المذهب أنه تشترط الموالاة إذا كان الجمع تقديما وأما التقديم فلا , والاحتياط أن يوالي بينهما لافي التأخير ولا في التقديم لكن كون ذلك شرطا في جمع التقديم فيه شيء من القلق ولا يطمئن إليه الإنسان كثيرا , لكن الاحتياط يضم إحداهما إلى الأخرى وأن لايفصل بينهما , أما الترتيب فلا بد منه أن يبدأ بالأولى قبل الثانية.}