بسم الله الرحمن الرحيم

أحكام الخيار في البيع

دين الإسلام دين سمح شامل ، يراعي المصالح والظروف ، ويرفع الحرج والمشقة عن الأمة ، ومن ذلك ما شرعه في البيع من إعطاء الخيار للعاقد ، ليتروى في أمره وينظر في مصلحته من وراء تلك الصفقة ؛ فيقدم على ما يؤمل من ورائه الخير ، ويحجم ويتراجع عما لا يراه في مصلحته .

فالخيار في البيع معناه طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ

وهو ثمانية أقسام :

أولا : خيار المجلس أي المكان الذي جرى فيه التبايع ؛ فلكل من المتبايعين الخيار ما داما في المجلس ، ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا تبايع الرجلان ؛ فكل واحد منهما بالخيار ، ما لم يتفرقا وكانا جميعا .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين ، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى بقوله : عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فإن العقد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة ؛ فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حرما يتروى فيه المتبايعان ، ويعيدان النظر ، ويستدرك كل واحد منهما ، فلكل من المتبايعين الخيار بموجب هذا الحديث الشريف ؛ ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان التبايع ، فإن أسقطا الخيار بأن تبايعا على أن لا خيار لهما أو أسقطه أحدهما سقط ، ولزم البيع في حقهما أو حق من أسقطه منهما بمجرد العقد ؛ لأن الخيار حق للعاقد ، فيسقط بإسقاطه ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ما لم يتفرقا ، أو يخير أحدهما الآخر ويحرم على أحدهما أن يفارق أخاه بقصد إسقاط الخيار ؛ لحديث عمرو بن شعيب وفيه : ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) .

ثانيا : خيار الشرط بأن يشترط المتعاقدان الخيار في صلب العقد أو بعد العقد في مدة خيار المجلس مدة معلومة ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : المسلمون على شروطهم ولعموم قوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، ويصح أن يشترط المتبايعان الخيار لأحدهما دون الآخر ؛ لأن الحق لهما ، فكيفما تراضيا جاز .

- ثالثا : خيار الغبن إذا غبن في البيع غبنا يخرج عن العادة ؛ فيخير المغبون منهما بين الإمساك والرد ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا ضرر ولا ضرار ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه والمغبون لم تطب نفسه بالغبن ، فإن كان الغبن يسيرا قد جرت به العادة فلا خيار .

وخيار الغبن يثبت في ثلاث صور :

الصورة الأولى من صور خيار الغبن : تلقي الركبان ، والمراد بهم القادمون لجلب سلعهم في البلد ، فإذا تلقاهم ، واشترى منهم ، وتبين أنه قد غبنهم غبنا فاحشا ؛ فلهم الخيار ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه فاشترى منه ، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار رواه مسلم ؛ فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب خارج السوق الذي تباع فيه السلع ، وأمر أنه إذا أتى البائع السوق الذي تعرف فيه قيم السلع ، وعرف ذلك فهو بالخيار بين أن يمضي البيع أو يفسخ .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - للركبان الخيار إذا تلقوا ؛ لأن فيه نوع تدليس وغش " .

وقال ابن القيم : " نهى عن ذلك ؛ لما فيه من تغرير البائع ، فإنه لا يعرف السعر ، فيشتري منه المشتري بدون القيمة ، ولذلك أثبت له النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار إذا دخل السوق ، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن ؛ فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل ، فيكون المشتري غارّا له ، وكذا البائع إذا باعهم شيئا ؛ فلهم الخيار إذا هبطوا السوق ، وعلموا أنهم غبنوا غبنا يخرج عن العادة " انتهى .

الصورة الثانية من صور خيار الغبن : الغبن الذي يكون سببه زيادة الناجش في ثمن السلعة ، والناجش : هو الذي يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها ، وإنما يريد رفع ثمنها على المشتري ، وهذا عمل محرم ، قد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ولا تناجشوا لما في ذلك من تغرير المشتري وخديعته ، فهو في معنى الغش .

ومن صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة : أعطيت بها كذا وكذا وهو كاذب ، أو يقول : اشتريتها بكذا وهو كاذب .

ومن صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة : لا أبيعها إلا بكذا أو كذا ، لأجل أن يأخذها المشتري بقريب مما قال ، كأن يقول في سلعة ثمنها خمسة : أبيعها بعشرة ؛ ليأخذها المشتري بقريب من العشرة .

الصورة الثالثة من صور الغبن الذي يثبت به الخيار : غبن المسترسل .

قال الإمام ابن القيم : " وفي الحديث : غبن المسترسل ربا والمسترسل : هو الذي يجهل القيمة ولا يحسن أن يناقص في الثمن ، بل يعتمد على صدق البائع لسلامة سريرته ، فإذا غبن غبنا فاحشا ؛ ثبت له الخيار " .

والغبن محرم ؛ لما فيه من التغرير للمشتري .

ومما يجري في بعض أسواق المسلمين - وهو محرم - أن بعض الناس حينما يجلب إلى السوق سلعة ، يتفق أهل السوق على ترك مساومتها ، ويعمدون واحدا منهم يسومها من صاحبها ، فإذا لم يجد من يزيد عليه ، اضطر لبيعها عليه برخص ، ثم اشترك البقية مع المشتري ، وهذا غبن وظلم محرم ، ويثبت لصاحب السلعة - إذا علم بذلك - الخيار وسحب سلعته منهم ؛ فيجب على من يفعل مثل هذا التغرير أن يتركه ويتوب منه ، ويجب على من علم ذلك أن ينكره على من يفعله ويبلغ المسئولين لردعهم عن ذلك .

- رابعا : خيار التدليس : أي الخيار الذي يثبت بسبب التدليس ، والتدليس : هو إظهار السلعة المعيبة بمظهر السليمة ، مأخوذ من الدلسة بمعنى : الظلمة ؛ كأن البائع بتدليسه صير المشتري في ظلمة ، فلم يتم إبصاره للسلعة ، وهو نوعان :

النوع الأول : كتمان عيب السلعة .

والنوع الثاني : أن يزوقها وينمقها بما يزيد به ثمنها .

والتدليس حرام ، وتسوغ به الشريعة للمشتري الرد ، لأنه إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع ، ولو علم أنه على خلافها لما بذل ماله فيها .

ومن أمثلة التدليس الواردة : تصرية الغنم والبقر والإبل ، وهي حبس لبنها في ضروعها عند عرضها للبيع ، فيظنها المشتري كثيرة اللبن دائما ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، إن شاء أمسك ، وإن شاء ردها وصاعا من تمر .

ومن أمثلة التدليس تزويق البيوت المعيبة للتغرير بالمشتري والمستأجر ، وتزويق السيارات حتى تظهر بمظهر غير المستعملة للتغرير بالمشتري ، وغير ذلك من أنواع التدليس .

يجب على المسلم أن يصدق ويبين الحقيقة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصدق في البيع والشراء من أسباب البركة ، وأن الكذب من أسباب محق البركة ، فالثمن وإن قل مع الصدق يبارك الله فيه ، وإن كثر الثمن مع الكذب فهو ممحوق البركة لا خير فيه .

- خامسا : خيار العيب : أي الخيار الذي يثبت للمشتري بسبب وجود عيب في السلعة لم يخبره به البائع أو لم يعلم به البائع ، لكنه تبين أنه موجود في السلعة قبل البيع ، وضابط العيب الذي يثبت به الخيار هو ما تنقص بسببه قيمة المبيع عادة أو تنقص به عينه ، وترجع معرفة ذلك إلى التجار المعتبرين ، فما عدوه عيبا ، ثبت الخيار به ، وما لم يعدوه عيبا ينقص القيمة أو عين المبيع ، لم يعتبر ، فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد ، فله الخيار بين أن يمضي البيع ويأخذ عوض العيب ، وهو مقدار الفرق بين قيمة المبيع صحيحا وقيمته معيبا ، وله أن يفسخ البيع ويرد السلعة ويسترجع الثمن الذي دفعه للمشتري .

- سادسا : ما يسمى بخيار التخبير بالثمن : وهو ما إذا باع السلعة بثمنها الذي اشتراها به ، فأخبره بمقداره ، ثم تبين أنه أخبر بخلاف الحقيقة ، كأن تبين أن الثمن أكثر أو أقل مما أخبره به ، أو قال : أشركتك معي في هذه السلعة برأس مالي ، أو قال : بعتك هذه السلعة بربح كذا وكذا على رأس مالي فيها ، أو قال : بعتك هذه السلعة بنقص كذا وكذا عما اشتريتها به ؛ ففي هذه الصور الأربع إذا تبين أن رأس المال خلاف ما أخبره به ؛ فله الخيار بين الإمساك والرد ، على قول في المذهب ، والقول الثاني : أنه في هذه الحالة لا خيار للمشتري ، ويجري الحكم على الثمن الحقيقي ، ويسقط عنه الزائد ، والله أعلم .

سابعا : خيار يثبت إذا اختلف المتبايعان في بعض الأمور ، كما إذا اختلفا في مقدار الثمن ، أو اختلفا في عين المبيع ، أو قدره ، أو اختلفا في صفته ، ولا بينة لأحدهما ، فحينئذ يتحالفان ، فيحلف كل منهما على ما يدعيه ، ثم بعد التحالف لكل منهما الفسخ إذا لم يرض بقول الأخر .

ثامنا : خيار يثبت للمشتري إذا اشترى شيئا بناء على رؤية سابقة ، ثم وجده قد تغيرت صفته ، فله الخيار حينئذ بين إمضاء البيع وفسخه ، والله أعلم
منقول من كتاب الملخص الفقهي { كتاب البيوع باب في أحكام الخيار في البيع}
الشيخ العلامة صالح فوزان الفوزان حفظه الله