بسم الله الرحمن الرحيم

‏"‏الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين بشيرًا لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيرًا لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين، وصل اللهم على محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذرياته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين‏.‏

فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعال، محمد تقي الدين بن عبدالقادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه‏:‏

نشأت في بلاد سجلمانة، وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحدًا منهم لا عالمًا ولا جاهلًا إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرق، وتعلق بشيخها تعلق الهائم الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائمًا بشكره والثناء عليه فإن وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير، وسمعت الناس يقولون‏:‏ من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه‏.‏ وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف‏:‏

يصحب شيخًا عارف المسالك ** يقيه في طريقه المهالك

يذكــــــره الله إذا رآه ** ويوصل العبد إلى مولاه

ورأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين‏:‏

1ـ قسم ينتمي إليه العلماء وعلية القوم‏.‏

2ـ وقسم ينتمي إليه السوقة وعامة الناس‏.‏

فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مرارًا يقول‏:‏ لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والاستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي‏:‏ لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدنا عبدالقادر بن هلال، وجدنا كان مشهورًا بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي في بلاد المغرب‏.‏

والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلًا، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ ورد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له‏:‏ يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيرًا، وقال لي‏:‏ تأخذ الورد على صغر سنك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ بخ بخ أفلحت ونجحت، فأعطاني الورد وهو‏:‏

ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها ‏(‏الفضل المزعوم عندهم‏)‏ في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه، وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهره الكمال وهي‏:‏ اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية‏.‏‏.‏ الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشر مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فرضه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال‏:‏ وإنما اشترطت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه ما دام يذكرها‏.‏

ويجب ذكر الورد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة تامة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالسًا كجلسة التشهد على الأفضل مغمضًا عينيه مستحضرًا صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عمودًا من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد‏.‏

أما الوظيفة فيجب أن تذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم‏.‏

وأخبرني المقدم الشيخ عبدالكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الورد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الورد والوظيفة بإخلاص ملتزمًا الشروط مدة تسع سنين، وهناك ذكر آخر يكون يوم الجمعة متصلًا بغروب الشمس وهو‏:‏ لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعًا‏:‏ الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها منذ زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فعلت أمام الشيخ أحمد التجاني وبرضاه وإقراره‏.‏

وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أني كنت في الجزائر مسافرًا من ناحية ‏(‏بركنت‏)‏ بقرب حدود المغرب إلى ‏(‏المشرية‏)‏، وكان لي رفيق له جمل فعلقه وأوصاني بحراسته وتركني في خيمة وقلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فأخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى وقفًا إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرج واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة وشدة الحر، فقلت في نفسي‏:‏ هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكنني في قبض الجمل وإناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئًا من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب ‏(‏الإحياء‏)‏ للغزالي فطالعته فأثر في نفسي واجتهدت في العبادة والتزمت قيام الليل في شدة البرد، فبينما أن ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي كنت جالسًا فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غمامًا أبيض سد الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء وأخذ ذلك الغمام يدنو مني آتيًا من جهة الشرق ـوهي قبلة المصلي في المغرب والجزائرـ حتى وقف بعيدًا مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتمًا بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام‏.‏

ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة ألم السجدة ففزعت وخفت خوفًا شديدًا، فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القرآن مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءاتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر‏.‏ فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلمه، لأن كتب الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش والفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافيًا عليه، ولما طال علي زمان الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت‏:‏ يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني، وإن لم يكن في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلم هو أيضًا، ولم أسمع له صوتًا ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتمًا بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل وتسليمة أمامه للإمام، وتسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا‏.‏

وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائمًا في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فورًا أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلة ‏(‏حميان‏)‏ شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي‏:‏ يمكن أن يكون ذلك شيطانًا لو كان ملكًا ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب‏.‏

وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت كتاب ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ ما وقع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركًا أستغيث بغير الله وأخاف غير الله‏.‏ ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلًا على صلاح ما ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام‏.‏

وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلًا نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي‏:‏ انظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي إن الأوسط منهم هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده وقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت وعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يكفرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقدًا جديدًا على زوجته فقلت في نفسي هذا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى، فإما أن أكون عاصيًا أو كافرًا فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم‏.‏ هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفًا أمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت في بلاد المسلمين أم في بلاد النصارى، فقال لي البلاد كلها لله، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع اصبعه السبابة إلى السماء وقال لي عند الله‏.‏

وبعدما خرجت من الطريقة التجانية على أثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمان رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طويلًا أبيض نحيفًا مشربًا بحمرة، لحيته بيضاء، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفًا، ولحيته سوداء، وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى، وكانت رؤيتي له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحيانًا بما في كتاب جواهر المعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال‏:‏ ‏(‏من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيًا كان من الأحياء أو من الأموات أما من أخذ وردنا وتركه فإنه يحل به البلاء وأخرى ولا يموت إلا كافرًا قطعًا وبذلك أخبرني سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة ومنامًا‏)‏ وقال لي سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم‏.‏ وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة، وأرجم شيطانه بأحجارها فيخنس ثم يخسأ ويدبر فأرًا منهزمًا فلما رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان، وأظن القارئ لم ينس أني سألته في المرة الأولى فلم يدع لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله، فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يختم لي بالإيمان، فقال لي ادع أنت وأنا أؤمن على دعائك، فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمين وكان رافعًا يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والرؤيا تبشر ولا تغر، وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدمت ذكرها ولم يدع لي فيها، عشرون سنة، وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في الرؤيا الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى واتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم‏.‏