النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: شرح الشيخ صالح آل الشيخ لفصل ( الإيمان ) من العقيدة الطحاوية

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    الدولة
    333333
    المشاركات
    42

    شرح الشيخ صالح آل الشيخ لفصل ( الإيمان ) من العقيدة الطحاوية

    وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ.
    وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.



    [الشرح]
    الحمد لله، وبعد:
    هذه الجملة من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله من الأصول العظيمة في معتقد أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفِّرون أحدا من أهل القبلة بمجرد حصول الذنب منه إلا إذا استحلّه باعتقاد كونه حلالا له أو حلالا مطلقا، وكذلك أنهم لا يخفّفون أمر الذنوب بحيث يجعلون الذنب غير مؤثّر في الإيمان، لهذا قال تقريرا لهذا الأصل العظيم (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.)، وهذه الجملة من كلامه أراد بها أن حصول الذنب من أهل القبلة لا يعني تكفيره كما ذهبت إلى ذلك الخوارج، وحصول الذنب من أهل القبلة لا يعني أنّ هذا المؤمن لم يتأثر بحصول الذنب منه كما تقوله المرجئة، فخالف في هذا القول الخوارج والمعتزلة وخالف أيضا المرجئة.
    وهذه المسألة لاشك أنها من المسائل العظيمة جدا وهي مسألة التكفير تكفير المنتسب إلى القبلة الذي ثبت إسلامه وإيمانه، إذا حصل منه ذنب فإن قاعدة أهل السنة والجماعة أن من دخل في الإسلام والإيمان بيقين لم يُخرجه منه مجرد ذنب حصل منه، ولا يُخرجه منه كل ذنب حرّمه الشارع؛ بل لابد في الذنوب العملية من الاستحلال بأن يعتقد أن هذا العمل منه حلال له وليس بذنب وأنه ليس بمحرّم، وهذا هو طريقة أهل السنة والجماعة بأنهم لا يكفّرون؛ بل يخطئون أو يضللون أو يفسقون، فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته مسلم بما معه من التوحيد؛ ولكنه فاسق لما ارتكب من الكبيرة التي أظهرها ولم يتب منها.
    فهذه الجملة فيها تقرير لعقيدة أهل السنة ومخالفتهم للخوارج والمعتزلة وكذلك فيها مخالفة أهل السنة للمرجئة.
    إذا تبين هذا فتحت هذه الجملة مسائل:

    المسألة الأولى: في الدليل؛ دليل أهل السنة والجماعة على أن من أصاب ذنبا من أهل القبلة فإنه لا يُكَفَّر دلّ على ذلك جملة أدلة من الكتاب والسنة:
    منها قول الله جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾[البقرة:178]، ومعلوم أن القاتل داخل في هذا الخطاب في النداء بالإيمان، وقال جل وعلا بعدها ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة:178]، فسماه أخا له فدل على أن حصول القتل على عظمه لم ينف اسم الإيمان.
    وكذلك قوله جل وعلا ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾[الحجرات:9-10]، فسمّاهم مؤمنين وسماهم إخوة أيضا فوصفهم بالأخوة فدل على أن وقوع القتل منهم لم ينفِ اسم الإيمان، مع قوله جل وعلا ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾[النساء:93]، فأثبت له جهنم وعيدا، وغضب الله جل وعلا عليه واللعنة، ومع ذلك لم ينف عنه اسم الإيمان، فدل على أن وقوع الكبيرة من المسلم لا يسلب عنه الإيمان، ووقوع الذنب ليس مبيحا لإخراج هذا المذنب من أصل الإسلام إلى الكفر.
    ويدل على ذلك أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري وغيره حينما أوتي برجل من الصحابة يقال له حمار شرب الخمر فجلده، ثم شربها ثانية فأوتي به فجلده، ثم لما أوتي به الثالثة قال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال نبينا عليه الصلاة والسلام «لا تقولوا ذلك فإنه يحبّ الله ورسوله»، فدلّ على أن وجود المحبة الواجبة لله جل وعلا ولرسوله  مع حصول الكبيرة مانع من لعْنه، وهذا يعني أنها مانع من تكفيره ومن إخراجه من الدين من باب الأولى.
    كذلك قال الله جل وعلا ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]، فناداهم باسم الإيمان مع حصول الذنب منهم وهو الإلقاء بالمودة إلى عدو الله جل وعلا وعدو رسوله ، فدل على أن إلقاء المودة لأمر الدنيا ليس مخرجا من اسم الإيمان؛ بل يجتمع معه قال تعالى في آخر الآية ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[الممتحنة:1].
    وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة في إسراره للكفار بخبر رسول الله  ما يدل على وقوع الذنب منه وعلى مغفرة الذنب له لأنه من أهل بدر، قال عليه الصلاة والسلام في حقه «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم» في الرواية الثانية «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
    والأدلة على هذا الأصل عند أهل السنة والجماعة كثيرة.
    ومما يدل عليه من جهة النظر: أن الكبائر كالسرقة والزنا وشرب الخمر والقتل ونحو ذلك شُرعت لها الحدود، كذلك القذف شرعت لها الحدود والحدود مطهرة، والمرتد يقتل على كل حال، ووجود الحدود هذه دليل ظاهر على أنه ارتكب فعلا لم يخرجه من الملّة؛ لأن النبي  قال «من بدّل دينه فاقتلوه»، وقال «والتارك لدينه المفارق للجماعة» يعني ممن يحلّ دمه، فدل على أن وقوع هذه الذنوب من العبد تُطَهَّر بهذه الحدود وليست كفرا؛ لأنها لو كانت كفرا لكان يقتل ردة لقوله «من بدّل دينه فاقتلوه».
    ويدلّ عليه أيضا أنّ ولي الدم في القتل يعفو، فإذا عفا له السلطان إن شاء عفا وإن شاء أخذ، قال جل وعلا ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾[الإسراء:33]، قال ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ وهذا يدلّ على أن الحق هنا للمخلوق، وأما الرّدة فهي حق لله يعني أما الردة فجزاؤها حق لله جل وعلا ليس لولي المقتول.
    فدلّت هذه الأدلة ودلّ غيرها على بطلان قول الخوارج وعلى ظهور قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة في أن صاحب الذنب من الكبائر العملية التي ذكرنا بعضا منها أنه لا يخرج من الإسلام بحصول الذنب منه؛ يعني بحصول ذنب منه أو بحصول كل ذنب أو بحصول أي ذنب منه؛ يعني ليس كل ذنب مخرجا له من ذلك؛ بل الكبائر العملية ليست كذلك يعني مخرجة له من الإسلام خلافا لقول الخوارج والمعتزلة في التخليد في النار.

    وأما الجملة الثانية وهي قوله (وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.) فهذه أيضا فيها مخالفة للمرجئة الذين يقولون: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والأدلة دلت على أن الذنوب تؤثر في الإيمان قال جل وعلا في ذكر القاتل﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾[النساء:93]، وقال جل وعلا في الربا ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ﴾[البقرة:275]، وقال جل وعلا في المرابين ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾[البقرة:279]، وشرع الله جل وعلا الحد في السرقة ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾[المائدة:38]، وشرع الجلد في القذف وفي الزنا إلى آخر ذلك، وهذا يدل على أن هذه الأمور أثّرت في الإيمان، هذه الكبائر أثرت في الإيمان، والأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب كثيرة «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتَّاتٌ»، «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَاطِعُ رَحِم» وهذا تأثير في الإيمان بسبب هذه الكبيرة.


    المسألة الثانية: هذه الجملة اشتملت على معتقد فيه النهي عن التكفير، والتكفير تكفير أهل القبلة بأي ذنب حرام، والخوض في مسائل التكفير بلا علم أيضا حرام، وقد يكون من كبائر الذنوب؛ بل هو من كبائر الذنوب وذلك لأوجه:
    الأول أن الإسلام والإيمان ثبت في حق الشخص -في حق المعين- بدليل شرعي، فدخل في الإسلام بدليل، فإخراجه منه بغير حجة من الله جل وعلا أو من رسوله  من القول على الله بلا علم ومن التعدي ومن تعدي حدود الله ومن التقدم بين يدي الله جل وعلا وبين يدي رسوله .
    وهذا فيه التحذير من هذا الأمر الجلل وهو مخالفة ما ثبت بدليل إلى الهوى أو إلى غير دليل، لهذا يقول العلماء: من ثبت إيمانه بدليل أو بيقين لم يزل عنه اسم الإيمان بمجرد شبهة عرضت أو تأويل تأوله؛ بل بد من حجة بينة لإخراجه من الإيمان، كما يقول ابن تيمية ولابد من إقامة حجة تقطع عنه المعذرة.
    الثاني من الأوجه في خبر التكفير وما تضمنته هذه الكلمة من معتقد أهل السنة والجماعة: أن التكفير خاض فيه الخوارج وهم أول الفئات التي خاضت في هذا الأمر، والصحابة رضوان الله عليهم أنكروا عليهم أبلغ الإنكار بل عدوهم رأس أهل الأهواء، وأول مسألة خاض فيها الخوارج وشددت التوسع في التكفير هي مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ حيث احتجوا على علي  بأنه حكّم الرجال على كتاب الله كما حصلت واقعة في التحكيم بين أبي موسى الأشعري وبين عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقالوا: حكّم الرجال على كتاب الله فهو كافر، فكفروا عليا  وأرضاه، استدلالا بقوله جل وعلا ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾[المائدة44]، فذهب إليهم ابن عباس يناظرهم منى احتج عليهم بقول الله جل وعلا ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾[النساء:35] الآية، فرجع ثلث الجيش وبقي طائفة منهم على ضلالهم وظهرت فرق كثيرة من الخوارج.

    فيدلك على قبح الخوض في هذه المسألة بلا علم أنها شعار أهل الأهواء؛ أعني الخوارج وهم أول فرقة خرجت في هذه الأمة وخالفت الجماعة، ولا شك أن التزام نهج أتقى أهل الأرض بعد رسول الله  هو المتعين.
    الوجه الثالث من أوجه بيان خطر التكفير والخوض فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» يعني إن كان كافرا فهو كما ادُّعي عليه وإلا عادت إلى الآخر وهذا وعيد شديد.
    وقد يكون التكفير مبعثه الهوى.
    وقد يكون مبعثه الجهل.
    وقد يكون مبعثه الغيرة.

    فهذه ثلاثة أسباب لمنشإ التكفير:

    قد يكون الهوى يعني التكفير بلا علم الهوى، وقد يكون منشؤه الجهل، وقد يكون منشؤه الغيرة.
    أما الأول والثاني فواضح يعني الهوى والجهل فواضح وأمثلة أهل الأهواء فيه كثيرة.
    وأما الثالث وهو أن التكفير قد يحمل المرء عليه الغيرة على الدين قصة عمر  مع حاطب ابن أبي بلتعة حيث لما حصل من حاطب ما حصل قال عمر لنبينا عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. والحكم عليه بالنفاق حكم عليه بإبطانه للكفر، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يؤاخذ عمر  في ذلك لأنه من أهل بدر ولأنه قالها على جهة الغيرة وخطؤه مغفور له؛ لأنه من أهل الجنة؛ يعني لسبق كونه من أهل بدر، فدل هذا على أن الغيرة غير حجة شرعية في التوسع أو في ابتداء القول في هذه المسائل بلا علم أو في التكلم فيها، الغيرة ليست عذرا لهذا النبي  ما عذر عمر بالغيرة، وإنما عذر عمر  لاشتباه المقام أولا في حق حاطب، ثم لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما بيّن عذره يعني ما بين الرجل للنبي  عذره، فقال عمر لما أخذ بتلابيب حاطب، قال «أرسله يا عمر -أو دعه يا عمر-، يا حاطب: ما حملك على هذا؟» فلما استفصل منه رجع الأمر إلى الوضوح فيه.


    المسألة الثالثة:
    افترقت هذه الأمة في هذه المسألة العظيمة وهي مسألة التكفير إلى ثلاث طوائف، طائفتان ضلتا، وطائفة هي الوسط وهي التي على سبيل الجماعة، وهذه الطوائف الثلاث هي:
    الأولى:
    من كفّر بكل ذنب، وجعل الكبيرة مكفِّرة وموجبة للخلود في النار، وهؤلاء هم الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتقدِّمين ومن أهل العصر أيضا ممن يشركهم في هذا الأصل والعياذ بالله.

    الطائفة الثانية:
    من قالت: إن المؤمن لا يمكن أن يخرج من الإيمان إلا بانتزاع التصديق منه القلبي وحصول التكذيب، وهؤلاء هم المرجئة وهم درجات وطوائف أيضا، وهذا مبني على أصلهم في أنّ الإيمان هو تصديق القلب فلا ينتفي الإيمان عندهم إلا بزوال ذلك التَّصديق، وهذا أيضا غلط؛ لأن لأدلة ربما تأتي إن شاء الله تعالى.

    والطائفة الثالثة:
    وهم الوسط الذين نهجوا ما دلت عليه الأدلة وأخذوا طريقة الأئمة التي اقتفوا فيها هدي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، فقالوا: إن المِلِّيَّة والواحد من أهل القبلة قد يخرج من الدين بتبديله في الدين ومفارقته الجماعة بقولٍ أو عمل أو اعتقاد أو شك، وهذا هو الذي أورده الأئمة في باب حكم المرتد، وقالوا: إن هذا يدخل في تبديل الدّين الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام «من بدّل دينه فاقتلوه»، ويدخل في قول الله جل وعلا ﴿مَنْ [يَرْتَدَّ] مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[المائدة:54] الآية آية البقرة ونحو ذلك، فدل ذلك على أن المؤمن المسلم قد يحصل منه ردة وهذه الردة لها شروطها ولها موانعها بتفصيل لهم في كتب الفقه في باب حكم المرتد.
    فعند أهل السنة والجماعة لا يُتساهل في أمر التكفير بل يُحذَّر منه ويُخوَّف منه وأيضا لا يمنعون تكفير المعين مطلقا؛ بل من أتى بقول كفري يخرجه من الملة أو فعل كفري يخرجه من الملة أو اعتقاد كفري يخرجه من الملة أو شك وارتياب يخرجه من الملة، فإنه بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع يحكم عليه العالم أو القاضي بما يجب من الردة ومن القتل بعد الاستتابة في أغلب الأحوال.



    المسألة الرابعة: دلّ القرآن والسنة على أن الناس ثلاثة أصناف لا رابع لهم، وهم:
     المؤمنون.
     الكفار.
     المنافقون.
    والمؤمن المسلم هو من دخل في الإسلام وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأتى بلوازم ذلك.
    والكافر الأصلي قد يكون كتابيا وقد يكون مشركا وثنيا، فأهل الكتاب مثل اليهود والنصارى، قد يكون وثنيا مثل المجوس وعبدة الكواكب والأوثان ومشركي العرب وأشباه ذلك.

    والثالث من الأنواع التي في القرآن المنافقون، فالمنافق هو من يبطن الكفر ويُظهر الإسلام، فيُحكم بإسلامه ظاهرا كما فعل النبي  مع المنافقين، حتى إنه باعتبار الحكم الظاهر ورَّثهم وورث الصحابة من آبائهم المنافقين، وهم في الباطن كفّار أشد من اليهود والنصارى لقوله ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ﴾[النساء:145]، فمن حصل منه ذنب ووقع في ذنب من الذنوب فإنه لا يخلو إما أن يكون من أهل الإيمان وإما أن يكون من أهل الكفر وإما أن يكون ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر، فمن كان من أهل الإيمان فإنه ليس كل ذنب يُخرجه من الإيمان، فلما شهد شهادة الحق بيقين وظهور فإنه لا يُخرجه منها إلا يقين مماثل لذلك مع إقامة الحجة ودرء الشبهة.

    وهذا التفصيل تنتفع به في مسائل تدل على هذا أو ذاك؛ يعني على أحد الأقسام.


    المسألة الخامسة:

    من أصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب وما خالفوا به الخوارج والمعتزلة والمرجئة في باب الإيمان والتكفير: أنهم فرّقوا بين التكفير المطلق وما بين التّكفير المعين، أو ما بين تكفير المطلق من الناس دون تحديد وما بين تكفير المعيَّن، فأهل السنة والجماعة أصلهم أنهم يكفرون من كفره الله جل وعلا وكفره رسوله  من الطوائف أو من الأفراد، فيكفّرون اليهود ويكفرون النّصارى ويكفرون المجوس ويكفرون أهل الأوثان من الكفار الأصليين؛ لأنّ الله جل وعلا شهد بكفرهم، فنقول: اليهود كفار، والنصارى كفار، وأهل الشرك كفار يعني أهل الأوثان عباد الكواكب عباد النار عباد فلان إلى آخره هؤلاء كفار وهؤلاء كفار أصليون نزل القرآن بتكفيرهم، كذلك نقول بإطلاق القول في تكفير من حكم الله جل وعلا بكفره في القرآن، ممن أنكر شيئا في القرآن فنقول: من أنكر آية من القرآن أو حرفا فإنه يكفر، نقول من استحلّ الربا المجمع على تحريمه فإنه يكفر، من استحل الخمر فإنه يكفر، من بدّل شرع الله جل وعلا فإنه يكفر، من دعا الناس إلى عبادة نفسه فإنه يكفر وهكذا، فيطلقون القاعدة.
    وأما إذا جاء التشخيص على معين فإنهم يعتبرون هذا من باب الحكم على المعين فيرجعونه إلى من يصلح للقضاء أو الفتيا.
    فالأول وهو التكفير المطلق أو تكفير المطلق دون تحديد هذا مما يلزم المؤمن أن يتعلّمه ليسلم لأمر الله جل وعلا وأمر رسوله ، ويعتقد ما أمر الله جل وعلا به وما أخبر به، فإن تكفير من كفره الله جل وعلا بالنوع واجب والامتناع عن ذلك من الامتناع عن شرع الله جل وعلا.

    وأما المعين فإنهم لا يكفرونه إلا إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع، وعند من تجتمع الشروط وتنتفي الموانع؟ عند من يحسن إثبات البيّنات ويحسن إثبات الشرط وانتفاء المانع وهو العالم بشرع الله الذي يصلح للقضاء أو للفتيا، فيحكم على كل معين بما يستحقه.
    فإذن من أصولهم التفريق ما بين الحكم على المعين وما بين القول المطلق.
    وهذا الأصل دلت عليه أدلة من فعل أئمة السلف ومن أقوالهم، فإن الإمام الشافعي مثلا حكم على قول حفص لما ناقشه بأنه كُفر ولم يحكم عليه بالردة، وكذلك من حكموا على من قال بخلق القرآن أو أن الله لا يُرى في الآخرة بأنه كافر لم يطبقوه في حق المعين، لهذا الإمام أحمد لما حكى أو قال بتكفير من قال بخلق القرآن لم يكفر عينا أمير المؤمنين في زمانه الذي دعا إلى ذلك؛ بل أمراء المؤمنين الثلاثة المأمون ثم المعتصم ثم الواثق حتى جاء عهد المتوكل، فاستدل منه أئمة الإسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية على أنّ إطلاق الكفر غير تعيين الكافر، ووجه ذلك ما ذكرته لك من أن التعيين يحتاج إلى أمور؛ لأنه إخراج من الدين والإخراج له شروطه وله موانعه.


    المسألة السادسة:

    نرجع إلى قول الطحاوي هنا (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) أُخذ عليه على الطحاوي أنه قال (بِذَنْبٍ) وهذا يفيد أنه لا يكفر بأي ذنب، قال (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) يعني أن أي ذنب لا يُكَفَّر به حتى يستحله، وهذا ليس هو معتقد أهل السنة والجماعة على هذا الإطلاق وإنما يعبرون بتعبير آخر وهو مراد الطحاوي يقولون: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بمجرّد ذنب، كما يقوله طائفة من أئمة الدعوة أو لا نكفر أحدا من أهل القبلة بكلّ ذنب كما يقوله أيضا طائفة من العلماء المتقدّمين ومنهم شارح الطحاوية تبعا لغيره.
    فإذن قول الطحاوي (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ) المقصود به الذنوب العملية من الكبائر كالخمر والزنا والسّرقة وقذف المحصنات والتولي يوم الزحف ونحو ذلك من كبائر الذنوب العملية التي كفر الخوارج بها، ويدل على هذا أن العقيدة مصنفة لبيان ما يخالف فيه أهل السنة أهل البدع والخوارج وما تميزت به الجماعة، ومعلوم أن الخوارج خالفوا في تكفير مرتكب الكبيرة مثل القتل والزنا وشرب الخمر والسرقة وأشباه ذلك، فخالفهم بهذا القول؛ يعني لا نكفر بهذه الذنوب (بِذَنْبٍ) يعني من الذنوب العملية التي كفّر بها الخوارج أو خلّد أصحابَها في النار المعتزلةُ ويدل عليه أنه قال بعدها (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) والاستحلال غالبه في الذّنوب العملية.


    المسألة السابعة:
    قوله (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) الاستحلال معه يكون مرتكب الكبيرة كافرا، والاستحلال هو اعتقاد كون هذا الفعل حلالا، قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول : والاستحلال أن يعتقد أن الله جعله حلالا أو أن الله لم يحرمه. فإن اعتقد أن هذا الشيء حلالا، أو أن الله لم يحرم هذا سواء كان حلالا على الأمة جميعا أو حلالا عليه هو، وسواء كان عدم التحريم على الجميع أو عليه هو -لأنها صورتان- فإن هذا هو الاستحلال، فإذن ضابط الاستحلال المكفر هو الاعتقاد وذلك أنّ( )... الخمر حلال فإنه جحد تحريمها، ويأتي الصلة ما بين الجحد والتكذيب والاستحلال في المسألة التي تليها إن شاء الله تعالى.
    فإذن ضابط الاستحلال المكفّر أن يعتقد كون هذا المحرم حلالا وله صورتان:
    أن يعتقد كونه حلالا له دون غيره، وهذه تسمى الامتناع.
    والصورة الثانية أن يعتقد كونه حلالا مطلقا له ولغيره، وهذه تسمى التكذيب أو الحجد المطلق.
    فالاستحلال المكفِّر هو الاستحلال بالاعتقاد، قال بعض أهل العلم: وأما ما جاء في حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري الذي في البخاري معلقا بل موصولا، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر -يعني الزنا- والحرير والخمر والمعازف»، هل هذا الاستحلال من الاستحلال العملي أو الاستحلال المكفّر؟ قال طائفة -كما ذكرتُ لك وهو ظاهر-: أن هذا الاستحلال عملي وليس باعتقاد كون هذه الأشياء حلالا، فلم يُخرجهم من الإيمان إلى الكفر ولم يخرجهم من كونهم من هذه الأمة لقوله «ليكونن من أمتي» فجعلهم بعض هذه الأمة وهذا يُلْمِعُ إليه كلام ابن تيمية وكذلك للحافظ ابن حجر ولجماعة، وهو ظاهر في أن المدمن للذنوب يكون فعله فعل المستحل؛ لكن ليس اعتقاده اعتقاد المستحل، فقال «يستحلُّون» يعني يستحلون عملا لا اعتقادا لأجل ملازمتهم لها وإدمانهم لهذه الذنوب.
    فضابط الكفر في الاستحلال الذي ذكره هنا (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) يعني ما لم يعتقد أن الله لم يحرم هذا، أو أن الله أباح هذا، أو أن هذا الأمر حلال، أو ليس بحرام إلى آخره، وهذا القدر له ضابط أصلي عام، وهو أنّ الذي ينفع فيه ضابط الاستحلال هي الذنوب المجمع على تحريمها، المعلومة من الدين بالضرورة، أما إذا كان الذنب مختلَفا فيه إما في أصله أو في صورة من صوره فإنه لا يكفّر من اعتقد حِلّ هذا الأصل المختلف فيه يعني في أصله أو الصورة المختلف فيها.
    يوضح ذلك النبيذ الذي أباحه طائفة من التابعين من أهل الكوفة وأباحه طائفة من الحنفية أو من أباح ما أسكر كثيره ولم يسكر قليله فإن أهل العلم من أهل السنة لم يكفروا الحنفية الذين قالوا بهذا القول وكذلك لم يكفروا من قال به من أهل الكوفة أو غيرهم.
    وكذلك من لم يقل بتحريم ربا الفضل لأنه فيه اختلاف، وكذلك بعض صور الربا، وكذلك مسائل النظر إلى المحرمات يعني إلى الأجنبيات أو إلى الغينات ونحو ذلك.
    فإذا كان هناك أصل مجمع على تحريمه معلوم من الدين بالضرورة؛ يعني الضرورة ما لا يحتاج معه إلى الاستدلال فإننا نقول: من اعتقد إباحة هذا أو حله فإنه يكفر، مثل الخمر المعروفة في زمن النبي  التي تسكر من شربها؛ تخامر عقله، مثل السرقة، مثل الزنا والعياذ بالله، مثل نكاح ذوات المحارم إلى آخر هذه الصّور.
    المسألة الثامنة: مما له صلة بلفظ الاستحلال واشتبه على كثيرين أيضا الجحد والتكذيب، وطائفة من أهل العلم يجعلون التكذيب والجحد شيئا واحدا، وهذا ليس بجيد؛ بل هما شيئان مختلفان، قد يجتمعان وقد يفترقان، ويدل على ذلك قول الله جل وعلا في سورة الأنعام ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾[الأنعام:33]، فنفى عنهم التكذيب وأثبت لهم الجحد، فدل على أن التكذيب والجحد متغايران.

    فما صلتها بالاستحلال؟
    الاستحلال اعتقاد كون هذا الأمر حلالا يعني هذا المحرم حلالا.
    والجحد أن يرد الحكم بأنه حلالا أو أنه حرام، حجد وجوب الصلاة؛ يعني ردّ هذا الحكم، يعني قال: لا، الصلاة ليست واجبة، جحد حرمة الخمر قال: الخمر غير محرمة.
    فإذن الاستحلال وهو اعتقاد كون الشيء حلالا؛ الشيء محرم معه جحد قلبي؛ ولكن ليس معه جحد لساني قد يكون معه وقد لا يكون؛ لأن ظاهر آية الأنعام ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ يعني في الباطن ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ يعني في الظاهر.
    فالجحد قد يكون في الظاهر وقد يكون في الباطن. والتكذيب قد يكون في الباطن وقد يكون في الظاهر.
    والتكذيب هو عدم اعتقاد صدق الخبر أو الأمر أو النهي، ولهذا أرجع كثير من أهل العلم من أهل السنة أرجعوا أكثر مسائل التكفير إلى التكذيب، وذلك لأن التكذيب في أصله مناقض للتصديق الذي هو أصل الإيمان.
    والمرجئة ومن شابههم قصروا الكفر على التكذيب فضلوا، وأهل السنة والجماعة جعلوا الخروج من الإسلام والردة يكون بتكذيب ويكون بغيره كما ذكرتُ لك.
    فإذن من الكلمات التي لها صلة بالاستحلال وتلازم الاستحلال أيضا الجحد والتكذيب.
    ومن الكلمات أيضا التي لها صلة بالاستحلال الالتزام والامتناع، التزم وامتنع.
    ومن الكلمات القَبول والرد.
    وهذه تحتاج في بيانها إلى مزيد ضبط وسبق أن أوضحنا لكم بعض هذه المسائل.


    التاسعة:

    من أهل العلم من جعل التكفير في الاعتقادات أو جعله في المسائل العلمية، فقال: العملية لا نكفر فيها إلا بالاستحلال، وأما المسائل العلمية التي دخل فيها أهل الأهواء والبدع فإننا نكفر المخالف فيها.

    وهذا قال به بعض المنتسبين إلى السنة؛ ولكنه مخالف لقول أئمة أهل الإسلام وما تقرر من اعتقاد أهل السنة والجماعة، فإن الخطأ والاجتهاد والغلو ونحو ذلك يدخل في المسائل العلمية، فأهل البدع لا يكفَّرون بإطلاق، فليس كل من خالف الحق في المسائل العلمية يُعد كافرا بل قد يكون مذنبا، وقد يكون مخطئا وقد يكون متأولا، وهذه الثلاث حكم أهل السنة وأئمة الإسلام بأن هذه بدعة:
    قد تكون ذنبا يوصله إلى الكفر.
    وقد تكون ذنبا فيما دونه.
    وقد يكون سلك البدعة عن جهة الغلط منه والخطأ أو الجهل.
    وقد يكون تأول في ذلك.

    ويستدلون على هذا بقصة الرجل الذي أوصى إذا مات بأن يُحْرَقَ ثم يذر رفاته وقال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذاب لم يعذبه أحدا من العالمين. فجمع الله جل وعلا رفاته وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنما فعلته خشية عذابك. أو كما جاء.
    ففعل هذا الفعل الذي أنشأه عنده الجهل أو عدم اعتقاد الحق في صفة من صفات الله جل وعلا وهي صفة تعلّق القدرة برفاته هو وبقدرة الله جل وعلا على بعثه، وعفا عنه رب العالمين لأجل عظم حسناته الماحية أو لجهله؛ لأنه قال فعلته من خشيتك أو خوفا من عذابك أو نحو ذلك، وهذا اعتقاد عظيم وهو حسنة عظيمة قابلت ذلك الاعتقاد السيئ، فدل على أن الاعتقادات البدعية والمخالفة للحق قد يعفى عن صاحبها.

    فإذن قول من قال أن أهل البدع والضلالات المخالفين في التوحيد أو في الصفات أنهم يكفَّرون إذا خالفوا ما دل عليه الكتاب والسنة فهذا قول وليس بصواب عند أئمة أهل السنة والجماعة؛ بل الصواب تقسيمه:
     فمنهم من يكون كافرا إذا قامت عليه الحجة الرسالية ودفعت عنه الشبهة وبين له.
     ومنهم من يكون مذنبا لأنه مقصر في البحث عن الحق.
     ومنهم من يكون مـتأولا.
     ومنهم يكون مخطئا ومنهم من له حسنات ماحية يمحو الله جل وعلا بها سيئاته.
    المسألة التي بعدها:


    المسألة العاشرة:

    أن التكفير يشترط في تكفير المعين يشترط فيه إقامة الحجة، وإقامة الحجة شرط في أمرين:
    الأول: في العذاب الأخروي؛ يعني في استحقاق العذاب الأخروي.
    والثاني: في استحقاق الحكم الدنيوي.
    والدليل على ذلك قول الله جل وعلا ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، وكذلك قوله ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ فشرط لتولية المشار ما تولى وجعل جهنم له وساءت مصيرا أن يكون تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]، وكذلك قوله جل وعلا ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾[التوبة:115]، وكذلك قوله جل وعلا ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾[الجاثية:23]، وكذلك قوله جل وعلا ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ(175)وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾[الأعراف:175-176]، هذه كلّها فيها اشتراط العلم وإقامة الحجة وكلّ رسول بعث لإقامة الحجة على العباد.

    إذا تبين هذا فإنّ إقامة الحجة تحتاج:
     إلى مقيم.
     وإلى صفة.
    أما المقيم: فهو العالم بمعنى الحجة، العالم بحال الشخص واعتقاده.
    وأما صفة الحجة: فهي أن تكون حجة رساليّة بيَّنة، قال جل وعلا ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم:4]، واشترط أهل العلم أن تكون الحجة رسالية؛ يعني أن تكون قول الله جل وعلا وقول رسوله ؛ يعني أما إن كانت عقلية وليس المأخذ العقلي من النص فإنّه لا يُكتفى به في إقامة الحجة؛ بل لابد أن تكون الحجة رسالية، لهذا يعبر ابن تيمية ويعبر ابن حزم وجمع بأن تكون الحجة رسالية؛ لأنها يرجع فيها من لم يأخذ بالحجة إلى ردّ ما جاء من الله جل وعلا ومن رسوله .
    وأما فهم الحجة فإنه لا يُشترط في الأصل، ومعنى عدم اشتراطه: أننا نقول ليس كل من كفرْ كفرَ عن عناد بل ربما كفر بعد إبلاغه الحجة وإيضاحها له؛ لأنه عنده مانع من هوى أو ضلال منعه من فهم الحجة، قال جل وعلا ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾( )، والآيات في هذا المعنى متعددة.


    أما ما معنى فهم الحجة؟ يعني أن يفهم وجه الاحتجاج بقوة هذه الحجة على شبهته، وعنده شبهة بعبادة غير الله، عنده شبهة في استحلاله لما حُرِّم مما أجمع على تحريمه؛ لكن يُبلَّغ بالحجة الواضحة بلسانه ليفهم معنى هذه الحجة، فإن بقي أنه لم يفهم كون هذه الحجة راجحة على حجته فإن هذا لا يشترط-يعني في الأصل-؛ لكن في بعض المسائل جعل عدم فهم الحجة يعني كون الحجة راجحة على ما عنده من الحجج جعل مانعا من التكفير كما في بعض مسائل الصفات.

    يعني أن أهل السنة والجماعة من حيث التقسيم اشترطوا إقامة الحجة ولم يشترطوا فهم الحجة في الأصل؛ لكن في مسائل اشترطوا فيها فهم الحجة وهذا الذي يعلمه من يقيم الحجة وهو العالم الرّاسخ في علمه الذي يعلم حدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله .


    المسألة الحادية عشرة:

    قوله (وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) هذا فيه مخالفة للمرجئة، والمرجئة جعلوا أصل الإيمان التصديق وجعلوا هذا التصديق لا يتأثر زيادة ولا نقصا، وإنما هو شيء واحد لذلك لم يجعلوا الإيمان يزيد وينقص، ولم يجعلوا التصديق أيضا واليقين يزيد وينقص بل جعلوه شيئا واحدا لهذا لم يجعلوا ذنبا يضر مع الإيمان، والمرجئة في هذا على درجات مختلفة، يأتي بيانُها إن شاء الله تعالى عند قول المؤلف (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ).


    المسألة الثانية عشرة والأخيرة:

    أن هاتين المسألتين وهما ما خالف أهل السنة الخوارج وما خالفوا فيه المرجئة فرع لأصل ومثال لقاعدة؛ وهي قاعدة الوَسَطية لأهل السنة والجماعة بين فرق الضلال، فهم وسط في باب الأسماء والأحكام؛ يعني في أبواب الإيمان والكفر ما بين الخوارج والمعتزلة الوعيدية وما بين المرجئة في قول أولئك وقول هؤلاء، فهم يحذِّرون من الذنوب ويتوعدون بها ويتوعدون بالكفر، ولكن لا يُخرجونه من الإيمان إلا بعد تمام الشروط وانتفاء الموانع.

    فهم -أعني أهل السنة والجماعة ثبَّتني الله وإياكم على طريقتهم- لهم في ذلك الطريق الوسط في هذا الباب وفي باب الأسماء والصفات، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي جميع أبواب الدين؛ بل وجميع أبواب الشَّريعة -يعني في أصولها- لهذا فالطَّريقة المثلى هي أن يكون المرء بين طرفي الغلو والجفاء، فالغلو مذموم بأنواعه والجفاء مذموم أيضا لأنه قصور عن أمر الله، والغلو أيضا مذموم لأنه زيادة على أمر الله جل وعلا، والحق فيما بينهما.

    أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين، وأن يعلمنا ما يفعنا، وأن يزيدنا من الفقه في الدين، ومن متابعة سنة سيد المرسلين، وأن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وأن يشفي قلوبنا من الأدواء والأهواء، وأن يشفي أبداننا من الأمراض نحن وجميع أحبابنا إنه سبحانه كريم جواد كثير النوال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


    [الأسئلة] نجيب على سؤالين ما يتعلق بالدرس.

    س1/ ما حكم الحكم بغير ما أنزل الله ؟
    ج/ مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ذكرها الشّارح ضمن الكلام في المسألة على اعتبار أنها ذنب من الذنوب، والكلام فيه هل يكفر أو لا يكفر؟ نقل فيها كلام ابن القيم رحمه الله، ولم أتطرق لها مع علمي بما ذكره الشارح لأنها مسألة طويلة الذيول تحتاج إلى بحث وتفصيل فيها، لعل لها مكانا آخر إن شاء الله تعالى.

    س2/ قول القائل: كان من المفترض أن يُحِلَّ الله هذا؟
    ج/ بعض الناس يستعمل هذه الكلمة وما يقصد ظاهر الكلام؛ لأن ظاهر الكلام بشع؛ لأنه يكون الشيء حرمه الله جل وعلا ويقول هو من المفترض أن يكون حلالا هذا اعتراض واعتقاد أو تثبيت أنه حلال.
    لكن بعض الناس يستعمل هذه العبارة من جهة رأيه وما عنده يقول في المسائل إذا تجادل اثنان أو أكثر يقول: من المفترض أنه يصير هذا مباح لعدم علمه لا لأجل مثلا، ما يقولها مثلا في الخمر من المفترض أن يكون الخمر حلال، وإنما في المسائل المشتبهة التي لا يعرف وجهتها.
    فإذن هذه الكلمة لابد فيها من التفصيل قالها في أي ذنب ولكنها من الكلمات الوخيمة.


    س3/ هل هناك فرق بين عدم فهم الحجة وعدم الاقتناع بالحجة؟
    ج/ نعم فيه فرق.
    س4/ هل يحكم على اليهودي المعين الذي مات على اليهودية أنه من أهل النار؟

    ج/ نعم يحكم على المعين الذي مات على اليهودية أو على النصرانية بأنه من أهل النار، وهذا لأنه كافر أصلي والنبي  لما زار اليهودي الغلام اليهودي وقال له «قل لا إله إلا الله» أو «قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، فجعل الغلام ينظر إلى أبيه ولم يقلها فقال له والده اليهودي: أطع أبا القاسم. فقال الغلام وكان يخدم النبي : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام «الحمد لله الذي أنقضه الله بي من النار»، وقال عليه الصلاة والسلام «والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله في النار»، وقال أيضا كما في صحيح مسلم «حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» وقال أيضا جل وعلا ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72]، وهذا لا يدخل في قول أهل السنة والجماعة، ولا نشهد لا معين من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله ، هذا في حق المعين من أهل القبلة، أما من مات على كفره من اليهود والنصارى أو مات ونحن نعلم أنه يهودي أو نصراني فهذا كافر يشهد عليه بأنه من أهل النار «حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار».


    س4/ هل من كفَّر بغير علم يصبح مرتدا فيقتل، أو أن عمله هذا يقتل به؟
    ج/ من كفر بغير علم:
     يلحقه الوعيد «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» هذا واحد.
     ويلحقه الوعيد في مشابهة الخوارج؛ لأن الخوارج كفروا بغير علم.
     ويلحقه الوعيد أيضا من جهة ثالثة وهو أنه تعدى على الدليل من القرآن والسنة؛ لأنه كما ذكرتُ لك في الأسباب أن إثبات الإيمان جاء بدليل، فنفي الإيمان عن المعين لابد فيه من دليل، فمن حكم بكفر أحد لهوى أو لقصور أو لغلو أو لقصور عنده في العلم فإنه تعدى ما أُذن له به إلى أمر إنما هو لأهل العلم، فهو يؤاخذ بذلك.
    كما ذكرتُ لك في قصة عمر  وهي قصة تحتج منك إلى اعتبار في أنه قد يطلق المرء التكفير من جهة الغيرة وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، والواجب على العبد أن يحترز من فلتات لسانه، يخاف أشد الخوف، فرُبّ كلمة قالها العبد لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا.
    ومن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم الذي قرره أئمة أهل السنة أن أهل العلم من أهل السنة يخطئون أو يضللون ولا يكفِّرون، يقول: هذا القول بدعة، هذا ضلال، هذا فسق، هذا خطأ، ونحو ذلك وقد يحكمون على المعين إذا كان الحاكم من الأئمة ومن العلماء ولكن لا يكفرون إلا ببينة ووضوح.
    وهذه المسائل مع الأسف شاعت عند الشباب في هذا العصر، وصاروا يتداولونها حتى في المجالس وهو يعلم من نفسه أن مسائل الطهارة ما يعرفها، وكثير من مسائل الصلاة ما يعرفها، ومسائل يمكن معاشرة الزوجية يجيء فيها بحكم الطبيعة أو بحكم حياته ما آلفه وإلى آخره، ما يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله في هذه المسائل، ومع ذلك تجد أنه يقتحم هذه المسألة العظيمة وهي مسألة التكفير، وإنما هي لأهل العلم.
    ذكرتُ لك أنّ لها قسمين:
    القسم الأول اعتقاد المسائل اعتقاد مسائل التكفير مثل ما ذكرتُ لك.
    والثاني التطبيق: التطبيق ليس إليك إنما هو لأهل العلم والقضاء والفتيا ونحو ذلك.
    أما الاعتقاد فهذا واجب أن تعتقد ما أمر الله جل وعلا به، أو ما أخبر به جل وعلا من إيمان المؤمن وكفر الكافر وكذا ما أخبر به عليه الصلاة والسلام.[/b]
    التعديل الأخير تم بواسطة الناقل ; 06-18-2007 الساعة 04:38 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •