ص 347
 وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ.


[الشرح]
قال (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) يُريد بذلك أنّ أهل السنة والجماعة خالفوا الخوارج والمعتزلة الذّين يوجبون للعبد النّار والخوارج الذين يكفّرون بالذنوب، فقال: إن العبْدَ لا يَخْرُجُ مِنَ الإيمَانِ بعد أن دخل فيه وصار مؤمنا إلا بجُحُودِ ما أَدْخَلَهُ فيه. وهذا لأجل أنّ أعظم المسائل التي يتّضح فيها الخروج من الإيمان هو الجحد، وإلا فهذا الحصر غير مراد للمؤلف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فإذن هذه الجملة فيها بيان مخالفة المكفّرين بالذنوب من الخوارج وأشباههم أو الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه خالد مخلَّد في النار من الخوارج المعتزلة ومن شابههم.
إذا تبين هذا فهذه الجملة المهمّة فيها مسائل:
المسألة الأولى: دليل هذه الجملة.
دليلها الإجماع؛ إجماع أهل السّنة والجماعة على أنّ من دخل في الإيمان بيقين فإنه لا يخرج منه إلا بأمرٍ متيقَّن مماثل -يعني في اليقين- بما به دخل في الإيمان، وهذا الإجماع له أدلته من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله .
المسألة الثانية: هذا الحصر في كلام المؤلف ليس مرادا في أنه يكون لا يخرج أحد من الإيمان إلا بالجحد، فينفي التكفير والحكم بالردة بالاستحلال أو بالإعراض أو بالسب أو بغير ذلك مما يحكم على من أتى به مع قيام الشروط وانتفاء الموانع بالردة.
ودليل عدم إرادته للحصر أنه ذكر في المسألة الثالثة التي مضت أنّ المؤلف تبعا لأهل السنة لا يكفّر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله فقال في المسألة التي مرا علينا قريبا (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) واستحلال الذنب غير الجحد، الاستحلال صورة والجحد صورة، فدل على أن الطحاوي لا يريد بالحجد الحصر، ففيه ردّ على من حصر الردة أو الكفر بالتكذيب أو بالجحد.
المسألة الثالثة: الجحد من الكلمات التي جاءت في القرآن، ولها دلالتها في لغة العرب.
فدلالة الجحد في اللغة: الجحد هو الرد والإنكار، جحد الشيء يعني رده أو أنكره، هذا من جهة اللغة، فيجتمع في اللغة مع التكذيب بالشيء ظاهرا أو مع التكذيب به باطنا.
وأما في القرآن فإن الله جل وعلا ذكر الجحد في عدة آيات، وبيّن أن الجحد يجتمع مع التكذيب لأن الجحد قد يجتمع مع التكذيب وقد لا يجتمع مع التكذيب، قال جل وعلا في سورة الأنعام في وصف المشركين ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾[الأنبياء:33-34] الآية، فدل على أنهم لم يكذبوا وجحدوا، ولهذا حقيقة الجحد عند أهل السنة والجماعة مرتبطة بالقول لأجل هذه الآية قال ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ يعني باطنا ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ يعني ظاهرا، وهذا مرتبط بالقول لأنهم ردّوا على النبي عليه الصلاة والسلام.
والخوارج ذهبوا إلى أنّ الجحد يكون بالقول وبالفعل معا، فعندهم أنّ الجحد يكون بالقول كقول أهل السنة، ويكون أيضا بالفعل فيدل الفعل على جحده، وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أنّ الجحد ليس مورده الفعل؛ لأن الفعل محتمل يدخله التأويل ويدخله الخطأ ويدخله أشياء كثيرة، وأما القول فإنه يقين وواضح؛ لأنّه دخل في الإيمان بالقول -بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله-، فلا يخرج منه إلا بجحود ما أدخله فيه، وما أدخله فيه كان قولا أعلنه، وجَحْد ما أدخله ورده وتكذيبه وإنكاره لما دخل فيه.
وهذه الكلمة كلمة الجحد من الكلمات التي يَحصل فيها خلط وخلل، والواجب الرّجوع في فهمها إلى دلالة الكتاب والسنة وإلى ما أجمع عليه سلف الأمة.
المسألة الرابعة والأخيرة: أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في تفصيل قولهم في الإيمان -الذي سيأتي في المسألة التي بعدها- خالفوا الخوارج والمرجئة، وفي إخراجهم الواحد من أهل القبلة من الإيمان أيضا خالفوا الخوارج والمرجئة، لهذا ثَم ارتباط ما بين الدخول والخروج من جهة اليقين، ولهذا المؤلف الطحاوي ذكر لك تنبيه على هذا بقوله (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ.)، ولم يقل إلا بالجحد أو إلا بالجحود فيكون مطلقا؛ بل قال (إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ)، وذلك لأنه إذا ثبت الأمر بيقين لم يَزُل بالشك؛ بل لابد في زواله من يقين يماثل الأول، والمكفِّرات وما يُحكم على الواحد من أهل القبلة فيه بالردّة اختلف فيه الفقهاء والعلماء؛ لكن يجمع ذلك أنه لا يُخص عند أهل السنة لا يخص بالجحد.
ولهذا نقول: الذين قيّدوا التكفير وإخراج العبد من الإيمان بالجحد فقط هؤلاء -دون الاستحلال ودون الشّك ودون الإعراض إلى آخره- هؤلاء ذهبوا إلى أنه لا يكفر إلا المعاند المكذّب ظاهرا كحال الكفّار والمشركين، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الله جل وعلا بيّن أن كفر من كفر من العرب:
• بعضهم من جهة الإعراض.
• وبعضهم من جهة الشك.
• وبعضهم من جهة الجحد ظاهرا والاستيقان باطنا وهو العناد.
ولهذا نقول: إن المرجئة هم الذين قالوا: لا يخرج المرء من الدين إلا بالتكذيب فقط. لابد من التكذيب، والتكذيب قد يكون مع الجحد، وقد يكون الجحد بلا تكذيب كما نصت عليه الآية ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾[الأنعام:33].
إذا تبين هذا: فأصل قول المرجئة في الإيمان -كما سيأتي- أن الإيمان أصله الاعتقاد، فلذلك جعلوا المخرج منه التكذيب، ومن أضاف الاعتقاد والقول جعل المخرج التكذيب والجحد، مثل كلام الطحاوي هنا؛ لأنه يأتي أن الإيمان عنده هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، فيجعل التكذيب مخرجا ويجعل الجحد مخرجا لعلاقة التكذيب بالاعتقاد وعلاقة الجحد بالإقرار باللسان.
وأما أهل السنة الذين خالفوا المرجئة في هذه المسألة العظيمة؛ فقالوا إن الركن الثالث من أركان مسمى الإيمان وهو العمل أيضا يدخل في هذا، وهو أنه يخرج من الإيمان بعمل يعمله يكون من جهة اليقين مخرجا للمرء مما أدخله فيه من الإيمان، وهذا سيأتي مزيد تفصيل له.
فإذن أهل السنة عندهم المخرجات من الإيمان:
• ومنها التكذيب وهو أعظمها.
• ثم الجحد.
• ثم الإعراض وهو الذي جاء في قوله جل وعلا ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾[السجدة:22]، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون﴾[الأحقاف:3]، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24].
• ومنه الشّك، الريب، يرتاب ما عنده يقين، المؤمن هو لا يرتاب، أما إذا ارتاب فهو لا يدري محمد عليه الصلاة والسلام رسول أم لا؟ فإن هذا صفة المنافق وهو المعذب في قبره لقوله يقول: ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وهذه جمل يأتينا مزيد بيان.
نعم...




 وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.
وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.
[الشرح]
قال الطحاوي في هذا الموضع (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) يريد بالإيمان الإيمان الذي أمر الله جل وعلا به الناس والذي يصير به المرء معصوم الدم والمال، فعرّف الإيمان بأنه (الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ)، وهذا التعريف من جهة مورد الإيمان، وهو اللسان والجنان، فيتعلق باللسان عبادة الإقرار في الإيمان ويتعلق بالجنان عبادة التصديق في الإيمان.
وهذا التعريف من جهة المورد هو المشهور عن الطائفة التي يسميها العلماء مرجئة الفقهاء، وهم الإمام أبو حنيفة ومن تبعه من أصحابه، ومنهم أبو جعفر الطحاوي صاحب هذه العقيدة، وهذه الجملة مما وافق فيه المؤلف الطّحاوي ما وافق فيه المرجئة وقرّر فيها عقيدتهم، وطريقة أهل السنة ومذهب أهل الحق خلاف هذا لأدلة كثيرة في هذا الموطن.
إذا تبين ذلك من جهة أن الطحاوي في هذا الموطن لم يقرر عقيدة أهل السنة والجماعة وإنما ذكر معتقد طائفته وهم الحنفية في هذه المسألة، وهو قول المرجئة -مرجئة الفقهاء- فإننا نقول: لابد من بيان لهذا الأصل العظيم وذلك يرتب على المطالب التالية:
الأول من المطالب أو المسائل: أن الإيمان لفظ مستعمل في اللغة قبل ورود الشرع، والألفاظ لها في استعمالها قبل ورود الشرع لها حالان:
الأول الحال العرفي.
والثاني الحال الأصلي.
والحال العرفي جعلناه الأول لقربه.
والحال الثاني الأصلي جعلناه الثاني لأنه بعيد؛ يعني من جهة العموم.
وهذا هو الذي يسميه طائفة من العلماء يسمونه الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية، فإن الألفاظ المستعملة لها حقائق لغوية حقيقة ليست مجاز، ولها حقائق عرفية يعني في استعمال أهل العرف لها.
مثال ذلك لفظ الدّابة، فإنه في اللغة الأصلية- في لغة العرب في الاستعمال العام- الدابة كل ما يدبّ على الأرض سواء ما يدب على بطنه أم يدب على رجلين أم يدب على أربع، ودلّ على هذا قول الله جل وعلا ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ يعني من الدواب ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[النور:45].
ثم خصت بالاستعمال العرفي بأن الدابة هي ذات الأربع التي تركب في الاستعمال يعني يركبها الناس أو يحرثون عليها أو إلى آخره، هذه تسمى حقيقة عرفية.
والمعنى الأول يسمى حقيقة لغوية.
فإذن صارت الحقيقة اللغوية أخص من الحقيقة اللغوية، اللغة دائما تكون عامة، ثم الناس يقيدون هذا اللغوي ببعض ما يحتاجون إليه للاستعمال، فتكون الحقيقة العرفية دائما أضيق من الحقيقة اللغوية، ثم لما أتى الشرع ظهرت ما سماه العلماء الحقائق الشرعية، الحقيقة الشرعية، أو ما سماه طائفة ممن ألف في فقه اللغة بالأسباب الإسلامية؛ الأسباب الإسلامية يعني ألفاظ جُعِل لها معانٍ لأجل السبب مجيء الإسلام. ( )
من الأمثلة على ذلك لفظ السجود: لفظ السجود
في اللغة للخضوع والذل بحركة البدن.
ثم في العرف أن السجود يكون بالانحناء إما بركوع أو بما نسميه السجود؛ يعني وضع الجبهة على الأرض.
ثم في الشرع السجود هو من وضع جبهته وأنفه على الأرض قال جل وعلا لبني إسرائيل ﴿ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً﴾[البقرة:58] يعني راكعين؛ لأنّ السجود العرفي يدخل فيه الركوع.
أما في شريعة الإسلام ففي الحقيقة الشرعية للسجود هي وضع الجبهة على الأرض.
هذه المقدمة مهمة في تأصيل هذه الحقائق الثلاث على مسألة الإيمان.
الإيمان في أصل اللغة -اللغة مرتبطة بالاشتقاق، اللغة لها اشتقاق يجمع الكلام الذي شروطه واحدة- فالإيمان والأمن والأمان هذه كلماتها واحدة، أمن وأمان وإيمان فاشتقاقها من حيث الأصل واحد، ولهذا الإيمان يرجع إلى الأمن في اللغة، والأمان يرجع إلى الأمن وإلى الإيمان، فهذه الألفاظ في أصل اللغة اشتقاقها واحد وذلك من الأمن الذي هو المصدر.
ما علاقة الإيمان في اللغة بالأمن يعني في دلالة اللغة؟ لأنه من آمن فقد أمِنَ، آمن بالشيء أمن على نفسه، آمن يعني صدق استسلم أطاع إلى آخره فإنه يعتبر مستسلما؛ يعني يعتبر أمن عدوه آمن بما قال عدوه صدقه فإنه يكون أمن غائلته.
إذا تبين هذا فهذا الأصل اللغوي الذي هو [مزيد] الاشتقاق من كلمة واحدة يدلك على أن أصل كلمة الإيمان في اللغة من حيث الاشتقاق( )....
خصت ذلك المعنى إلى أن الإيمان هو التصديق تصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه.
وهذا جاء في القرآن يعني في استعمال المعنى اللغوي للإيمان في مواضع:
كقوله جل وعلا في قصة يوسف مخبرا عن قول إخوة يوسف لأبيهم ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾[يوسف:17] لاحظ الأمن يعني بمصدق لنا التصديق الجازم الذي يتبعه عمل؛ أنك لا تؤاخنا بما فعلنا، قال ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾[يوسف:18]، فما أعطاهم الأمن. كذلك قال جل وعلا في قصة إبراهيم عليه السلام ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾[العنكبوت:26] ﴿آمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ يعني صدقه تصديقا جازما تبعه عمل له بحيث يأمن من العذاب الذي توعد به إبراهيم قومَه.
كذلك في وصف النبي  في سورة براءة قال ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[براءة:61] ﴿وَيُؤْمِنُ﴾ أي يصدقهم فيما يقولون فيَأْمنون معه عقوبة النبي عليه الصلاة والسلام.
إذن فالإيمان في اللغة اُستعمل ويراد به التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه؛ لأنه فيه صلة دائما بين المعنى العرفي الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية.
جاء الشرع فأمر الناس بالإيمان، أمر الله جل وعلا الناس بالإيمان، فهذا الإيمان فيه كما ذكرنا لك أن الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية أسباب زائدة فيها زيادة عن الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاا لها وقد تكون رجوع إلى الأصل الأول فتكون أوسع منها.
فالإيمان في الشرع جاء بأنه متجه إلى الإيمان بالله ملائكته وكتبه ورسله إلى آخر أركان الإيمان الستة، وهذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عرفنا منه أنه لا يكون إلا بعمل ولا يكون إلا بإقرار ولا يكون إلا بتصديق، قال جل وعلا ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[البقرة:285]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾[النساء:136]، ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى﴾[البقرة:177] الآية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[الأنفال:2].
فإذن وصف الله جل وعلا المظلوم من المؤمن بأن المؤمن مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأيضا وأنه يعمل، وأيضا أنه يقول بلسانه.
ولهذا جعل الله جل وعلا الصلاة للدلالة على هذا الأصل جعل الصلاة هي الإيمان فقال سبحانه ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾[البقرة:143]، نحن الآن نبحث هذا من جهة لغوية من الجهة التأصيلية للكلمة لا من جهة التعريف ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ هذا استعمال، استعمال لكلمة الإيمان ويراد بها الصلاة، فهذا الصلاة هي الإيمان معنى هذا أنه تخصيص لأنه تصديق، فهو ليس تصديقا فقط، الإيمان صار صلاة إذن هذا من جهة الاستعمال اللغوي زاد على العرف ورجع إلى سعة اللغة، وهو التخصيص الواقع للتصديق لبعض ما يشمله التصديق الذي يتبعه عمل.
إذا تبين هذا فيظهر لك أنّ الإيمان في الشرع نُقل عن الإيمان في العُرف، كما أن الإيمان في العرف نقل عن الإيمان في اللغة، فتأصيل الإيمان على أنه في اللغة هو إقرار وتصديق ليس صحيحا؛ لأن الإيمان في اللغة أعم من ذلك، مثل ما ذكرنا لك، الإيمان ما يجلب الأمن من عمل، من إقرار، من تصديق، من تصرف، من موالاة، كل ما يجلب الأمن هو إيمان، في اللغة قُيِّد ذلك على نحو ما ذكرت لك الآيات، في الشرع جاء تسمية الإقرار إيمانا، وجاء تسمية الاعتقاد إيمانا، وجاء تسمية العمل إيمانا.
فإذن من حيث الدلالة اللغوية والدلالة العرفية والدلالة الشرعية تبيّن لك أن هناك اختلاف في مصير في معنى الإيمان.
المرجئة مع أهل السنة في هذه المسألة اختلفوا، وهذا الاختلاف طويل الذيول كما هو معلوم؛ لكنهم اتفقوا من حيث الأصول -أصول الفقه- على أنّ الكلمة إذا اعتراها هذه الأمور الثلاثة الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية اتفق الجميع -الحنفية مع الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم- اتفقوا على أن تقدم الشرعية لماذا؟ لأن الألفاظ الشرعية تخصيص، فلا يقول الحنفية -الذين قالوا في الإيمان بهذا التعريف- لا يقولون إن السجود إذا أمر به فإنه يصلح بالركوع يعني مثلا لو كان قرأ القارئ القرآن وهو يمشي، ثم مرت آية سجدة، فهل يركع ويكتفى بها؟ أم أنه يصير إلى السجود؟ السنة أمرت بالسجود السجود الشرعي، لماذا؟ لأن السجود جاء بهذا اللفظ الشرعي وبينته السنة فيكون هو المراد لا السجود العرفي.
المسألة لها نظائر في الفقه في العقيدة في اللغة بعامة.
فإذن نقول: اجتمعوا على أن الحقيقة الشرعية مقدمة، ثم هل تقدم اللغوية أو العرفية؟ خلاف بينهم.
لهذا نقول: ما دام أن الجميع اتفقوا على تقديم الحقيقة الشرعية، فما هي أدلة الحقيقة الشرعية في الإيمان؟ الأدلة على ذلك يطول الكلام عليها، ونرجئها مع تفصيلها في الكلام والمذاهب للدرس القادم.
لكن نكمل المقدمات أنا أريدك تفهم مسألة الإيمان لأنها مسألة مشكلة، وكثير ممن خاض فيها في هذا العصر ما أدرك حقيقة الفرق ما بين قول أهل السنة وقول المرجئة في هذا الباب.
المسألة الثانية: الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم -كما ذكرنا لك- الذي يتبعه عمل يأمن معه المؤمن الغائلة والعقوبة إلى آخره.
وقولنا التصديق الذي معه عمل هذا تحصيل حاصل؛ لأنه إذا كان الشيء يلزم منه العمل فإنه لا يطلق في اللغة على من صدق به مصدقا حتى يعمل، فمن قال أنا مصدق بهذا الشيء، واحد جاء وقال سيارتك هي الآن تسرق، قال جزاك الله خيرا، قال فيها فلوس فيها أشياء هي الآن تسرق، قال جزاك الله خيرا وجلس ما تحرك، فهل يعتبر في اللغة مصدقا؟ إذا كان قد صدّق الخبر فإنه لابد أن يتبعه بعمل يدل على صدقه؛ لأن الناس ما يفرطون بأموالهم ولا يفرّطون بما فيه قوام حياتهم، فإذا مكث وقال أنا مصدق وهو ما ذهب وما عمل فلا يسمى مصدقا في اللغة، ليس في الشرع، لا يسمى مصدقا في اللغة، ودلّ على هذا الأصل قوله جل وعلا في قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل في سورة الصافات قال ﴿قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾[الصافات:102-103]، لاحظ العمل ﴿فَلَمَّا﴾ و﴿لَمَّا﴾ انتبه لكلمة ﴿لَمَّا﴾، ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾[الصافات:103-105]، رؤيا الأنبياء حق، الرؤيا إذا رآها النبي صدّق بأنها وحي من الله جل وعلا؛ لكن متى صار مصدقا بالرؤيا؟ لما امتثل دلالتها ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ وهذا تصديق لغوي وهو أيضا تصديق شرعي.
إذن فالإيمان في العرف -في الحقيقة العرفية- ولو أرجعناه إلى التصديق فإن حقيقة التصديق أن يكون معه عمل، فلا يسمى مصدقا من ليس يعمل أصلا فيما صدّق به.
المسألة الثالثة: يمكن أن يُضبط ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان بالحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية يمكن أن يضبط بضابط وهو أنه:
• إذا اقترن بالإيمان الأمن أو كانت الدلالة عليه فإن المراد به سعة المعنى اللغوي.
• وإذا عُدي الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإن المراد به الإيمان العرفي؛ يعني اللغوي العرفي.
• وإذا عدي الإيمان بالباء، فإنه يراد به الإيمان الشرعي.
وهذه كل واحدة لها طائفة من الأدلة تدل عليها.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام:82]، ﴿آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ﴾ هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي.
المعنى العرفي ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾[يوسف:17]، لاحظ التعدية باللام ﴿بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾، ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾[العنكبوت:26]، ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[براءة:61] يعني النبي  ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ هذا المعنى العرفي.
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ﴾[البقرة:285]، لاحظ الباء عدي الباء للدلالة الشرعية.
لماذا اختلفت التعدية؟ لأن المطلوب اختلف، كيف؟ الإيمان اللغوي ما دام أنه تصديق فيقول: العرب صدق لفلان، تعديه باللام، صدق لفلان، وتقول صدق بكذا أيضا فتعديه بالباء؛ لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا لاحظ التعدية مضمَّن أقر بكذا -أقرّ تتعدى بالباء في اللغة أليس كذلك؟- أقر بكذا صحيحة، عمل بكذا صحيحة، صدق بكذا صحيحة، ولهذا لما عدي الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمن المعنى الأصلي في اللغة زيادة تصلح للتعدية بالباء، فالمعنى اللغوي يتعدى باللام، فلماذا عدي بالباء تفريقا ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي؟ هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العُرفي.
هذا كثير في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى، ثم تختلف التعدية بالحرف فيُضمّن الفعل معنى فعل آخر.
سنضرب له مثالا حاضر عندكم جميعا وإن كان الأمثلة كثيرة لكن لقربه منكم، مثلا تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[الحج:25]، قالوا هنا معنى الإرادة إيش؟ الهم يعني الهم الجازم لماذا؟ قالوا لأن الإرادة بنفسها تتعدى، الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها، تقول أردت الذهاب، أردت المجيء، أردت القراءة، ما تقول أردت بالقراءة، فلما قال ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ ما قال ومن يرد فيع إلحادا قال ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ علمنا أن كلمة ﴿يُرِدْ﴾ هذه فيها فعل يناسب التعدية بالباء وهو همّ، همّ بكذا همّ فلان بكذا هذا الذي يناسب، ولذلك فسره الأئمة بأن المراد بالإرادة هنا الهم الجازم فيؤاخذ عليه ولو لم يحقق الإرادة من كل وجه وإنما يصدق عليه الهم؛ همّ بالفعل، همّ به صار داخلا في الفعل.
نرجع هنا في اللغة ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾[العنكبوت:26]، يعني صدق له، أقرّ له، تقول أنا أقررت لك، إيش أقول أقررت إياك؟ لا، أقررت بكذا؛ لكن لفلان ، أقررت لفلان أو أقررت بفلان ما قال؟ أقررت لفلان ما قال، ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ يعني صدق له، أقر له، إلى آخره.
لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي؛ لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة على التعدية باللام إلى التعدية بالباء قال جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[النساء:136]. ما قال آمنوا لله ولرسوله مع أنه قال في النبي  ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[براءة:61]، وقال في لوط ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ قال ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾إلى آخره ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ ﴾[النساء:136].
فإذن دلنا على أن هذا المعنى هو المعنى اللغوي، وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء، وهو العمل، تقول عملت بكذا، يعني آمنت بكذا فعملت به، آمنت بأن الأمر واقع فعلمت به؛ يعني عملتَ بما آمنت، فلذلك دخلت الزيادة التعدية بالباء لتدلنا على أن العمل دخل في مسمى الإيمان أصلا، وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى.
إذا تبين هذا فمن المهم في تفصيل هذه المسألة التي غلط فيها الكثيرون منذ نشأت المرجئة، أن يُعرف أن الإيمان في اللغة في حقيقته تصديق وإقرار؛ لكن تصديق معه نوع عمل وليس لازما في حقيقته؛ لكن لا يسمى تصديقا حتى يكون معه عمل يأمن به، لصلته بالمعنى اللغوي العام.
أما في الشرع فهو إقرار وتصديق وعمل؛ لأن الشرع جاء بالزيادة على المعنى اللغوي في هذه المسألة العظيمة.
المسألة الرابعة: تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ)، هذا فيه إخراج العمل أن يكون موردا للإيمان، وقصْر الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق. وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء.
والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة أشهرها قولان:
قول جمهور المرجئة وهو أن الإيمان هو التصديق، ولا يلزم معه إقرار.
ثم مرجئة الفقهاء -وذهب إليه الماتريدية والأشاعرة وجماعة- أن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان.
وسمُّوا مرجئة لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمّى الإيمان؛ يعني أخروه عن مسمى الإيمان، فجعلوا الإيمان متحققا بلا عمل.
واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله جل وعلا في آيات كثيرة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعطف العمل على الإيمان هذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة، قالوا فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ولما عطف العمل على الإيمان قالوا دلنا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان.
والجواب عن ذلك؛ يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر ونرجئ الجواب المطول، الجواب عن ذلك أن اللغة فيها العطف بالواو ويراد العطف بالواو التغاير، والتغاير تارة يكون تغاير ذوات وتارة يكون تغاير صفات، وتارة يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير ولكن تغاير ما بين الجزء والكل، وما بين العام والخاص، ما معنى هذا؟
معناه أنك تقول مثلا في اللغة دخل محمد وخالد، محمد ذاته غير ذات خالد، هذا له حقيقة ذات وهذا له حقيقة، هذا يسمى تغاير ذوات.
تغير الصفات تقول عندي مهنّد وصارم وحسام، والذي عند العرب سف واحد لكن يقول مهند من جهة وصفه أنه صنع في الهند، وصارم من جهة شهرته، وحسام من جهة أنه وقع عليه حسمه وقتله، منه في القرآن قال جل وعلا في تغاير الصفات ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾[الحجر:1]، الكتاب هو القرآن، والقرآن هو الكتاب، عطف بالواو هل لتغاير الذوات الكتاب شيء والقرآن شيء؟ لا أحد يقول بهذا من المتقدمين لا أحد يقول بهذا، فصار التعاطف هنا لتغاير الصفات ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ نظر فيه من جهة كونه مكتوبا باقيا، ﴿وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ يعني أنه يقرأ وينظر فيه للتلاوة والقراءة لتغاير الصفات.
الثالث أن يكون العطف بالواو للتغاير ما بين الجزئي والكلي وما بين الكلي والجزئي فيعطف الخاص على العام ويعطف العام على الخاص، مثاله قول الله جل وعلا في سورة البقرة ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾[البقرة:98] ﴿عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ﴾ لاشك الملائكة غير الله جل وعلا الملائكة مخلوقة والرب جل وعلا هو مالك الملك وخالق الخلق، ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ﴾ الرسل منهم رسل من الملائكة، ومنهم رسل من ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾[الحج:75]، فالرسل هنا أعم من الملائكة لأن منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر.
فإذن هنا صار عطفا عطف الكلي على الجزئي، ثم قال ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ جبريل وميكال من الرسل هؤلاء من الرسل، من الملائكة؟ نعم، فعطفهم ، هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟ لا، هذا تغاير صحيح؛ ولكن تغاير بين حقيقة الجزء والكل والكل والجزء، وليس تغاير ذوات ولا تغاير صفات ولا تغاير حقيقة، ومن هذا عطف الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل في قوله ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ﴿وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾[العصر:1-3]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾[الكهف:107]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا﴾[مريم:96]، الآيات كثيرة آمنوا وعملوا الصالحات، عطف العمل على الإيمان لأجل هذا وإلا فهو داخل في حقيقته.
هنا لماذا تخصّ الخاص بالذكر بعد العام؟ لأجل التنبيه على شرفه.
العرب تعطف الخاص على العام وتغاير في هذا لأجل التنبيه على شرف ما ذكر؛ لأنك تقول مثلا جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبد العزيز، هل هو ما هو من المشايخ؟ لكن هنا للتنبيه على شرفه جاءني المشايخ جميعا وزاد المقصود أو المقدم فيهم إلى آخره تنبيها على شرفه ومنزلته إلى آخره.
فإذن الاستدلال بهذا، هذا جواب مختصر ونذكر لكم بيقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي.
أنا أردت في هذا التطويل اللغوي تأصيل المسألة لكم؛ لأن مسألة الإيمان خاض فيها كثيرون في هذا العصر، كتبوا فيها كتابات سواء في الإيمان أو في التكفير، وهم لم يدركوا حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فمنهم من أدخل مذاهب المرجئة في مذهب أهل السنة وقصر الكفر على التكذيب والإيمان على التصديق وإما قولا أو باللازم، ومنهم من ذهب إلى أن الإيمان قول واعتقاد وأن العمل ليس من الإيمان أصلا كما هو قول المرجئة، والأقوال في هذا متعددة.
نسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على طريقة أئمتنا، وأن يكف عنا الشر وأن لا يخذلنا وأن ينور بصائرنا وبصائر أحبابنا إنه جواد كريم.
نكتفي بهذا القدر ونكمل المرة القادمة.