الدّرس السادس والثلاثون


 وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.
وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.
وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى.
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.
وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ.



[الشرح]
قال رحمه الله (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) هذه الجملة من كلامه في تعريف الإيمان المقصود بها التعريف الشّرعي للإيمان عند الطحاوي رحمه الله.
والذي دلّت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة -أئمة أهل الحديث والسنة- أن الإيمان قول وعمل، وبعض أهل العمل يعبّر بقوله الإيمان قول وعمل ونية كما قالها الإمام أحمد في موضع؛ ويعني بالنية الإخلاص يعني الإخلاص في القول والعمل، وهذا الأصل وهو أن الإيمان قول وعمل وُضِّح بقول أهل العلم:
الإيمان اعتقاد بالقلب يعني بالجنان، وقول باللسان وعمل بالجوارح الأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان.
فشمل الإيمان إذن فيما دلت عليه الأدلة هذه الأمور الخمسة، وهي: أنه اعتقاد، وأنه قول، وأنه عمل، وأنه يزيد، وأنه ينقص.
وتعريف الطحاوي للإيمان بقوله (هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) هذا تعريف بالمقارنة مع ما سبق فيه قصور، وهو موافق لما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابُه، فإنهم لم يجعلوا العمل من مسمى الإيمان، وجعلوا الإيمان تصديق القلب وإقرار اللسان، وجعلوا الأعمال زائدة عن مسمى الإيمان مع كونها لابد منها ولازمة للإيمان.
فقول الطحاوي هذا ليس مستقيما مع معتقد أهل السنة والجماعة وأتباع أهل الحديث والأثر، وفيه قصور لأنه أخرج العمل عن تعريف الإيمان.
وكون العمل من الإيمان له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة أظن أني قدمت لكم بعضها قبل رمضان:
ومنها في هذا المقام قول الله جل وعلا ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾[البقرة:143]، ويعني بالإيمان الصلاة، فسمى الصلاة إيمانا والصلاة عمل.
وقال أيضا جل وعلا ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾( ).
وقال ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[البقرة:285]. دلت الآية على أنّ الإيمان له حقيقة هي الاعتقاد والإيمان بهذه الأركان الخمسة ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ فإذا كان العمل ناشئا عن هذه، فإنه لا يتصور الانفكاك ما بين العمل والإيمان، ولهذا في آية البقرة ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ جعل العمل هو الإيمان؛ لأنّه منه، ولأنه ينشأ عنه، فنفهم إذن أن قوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾( ) ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ونحو ذلك، لما فيه عطف العمل على الإيمان -كما قدّمنا آنفا- أن هذا عطف الخاص بعد العام وعطف الجزء بعد الكل، وهذا كثير في القرآن وفي اللغة كما قدمته لك.
ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام كما قال لوفد عبد القيس لما أتوه في المدينة قال «آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله وحده» ثم فسره بأركان الإيمان ثم قال «وأن تؤدوا الخمس من المغنم» وهذا -آداء الخمس- عمل فجعله تفسيرا للإيمان.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فجعل الإيمان له قول مرتبط بالنص وله عمل الذي هو إماطة الأذى عن الطريق؛ يعني الذي هو نوع العمل، وجعل له عمل القلب وهو الحياء، فلهذا الحديث مثل النبي عليه الصلاة والسلام شعب الإيمان بثلاثة أشياء منها القول ومنها الاعتقاد أو عمل القلب ومنها عمل الجوارح.
ويأتي مزيد بيان لهذا الأصل في المسائل إن شاء الله تعالى.
ثم زيادة الإيمان ونقصانه دل على الزيادة قول الله جل وعلا ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا﴾[الأنفال:2]، وكذلك قوله ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾[الفتح:4]، وكذلك قوله ﴿زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾[محمد:17]، ونحو ذلك مما فيه زيادة، وإذا كان فيه الزيادة فإنه لابد أن يكون فيه النقص بمقابل ما تُرِك مما يسبب الزيادة في الإيمان.
ولهذا قال بعض الصحابة لما ذكر زيادة الإيمان وذكر نقصانه، قال: إذا سبحنا الله وحمدناه وذكرناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا فذلك نقصانه.
فزيادة الإيمان ونقصانه دل عليها قول الله جل وعلا والسنة وقول الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن هذا يتقرر أن قول الطحاوي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) هذا يوافق قول مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام المعروف، وأصحابه ممن أخرجوا العمل عن كونه جزءا من الماهية؛ عن كونه ركنا في الإيمان.
إذا تقرّر هذا فإن في مسألة الإيمان مباحث كثيرة جدا، وذلك لكثرة الخلاف في هذه المسألة وطول الكلام عليها وكثرة التصانيف التي صنفها السلف ومن بعدهم في هذه المسألة؛ لكن يمكن تقريب هذه المسألة لطالب العلم في مسائل:
الأولى: الإيمان يجمع:
الاعتقاد بالقلب، وهو الذي يسميه المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو يسميه العامة التصديق.
والثاني وقول اللسان.
والثالث عمل الجوارح والأركان.
والرابع الزيادة.
والخامس النقصان.
هذه خمسة أشياء فيها اختلف المنتسبون إلى القبلة على أقوال.
القول الأول: هو أن الإيمان تصديق فقط، وهذا هو قول جمهور الأشاعرة، وهو قول أبي منصور الماتريدي والماتريدية بعامة، وهذا مبني منهم على أن القول ينشأ عن التصديق، وعلى أن العمل ينشأ عن التصديق، فنظروا إلى أصله في اللغة بحسب ظنهم، وإلى ما يترتّب عليه فجعلوه التصديق فقط، واستدلوا له بعدة أدلة مما فيه أنّ الإيمان تصديق كقوله ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[البقرة:285]، وهذه أمور غيبية والإيمان بها يعني التصديق بها، وغير ذلك من الأدلة التي فيها حصر الإيمان بالغيبيات، والإيمان بالغيبيات يفهم على أنه التصديق. وهؤلاء يسمون المرجئة، وهم المشهورون بهذا الاسم.
ومن المرجئة طائفة غالية جدا وهم الذين جعلوا الإيمان ليس التصديق بالقلب ولكن هو المعرفة بالقلب، وهو القول المنسوب إلى الجهمية وغلاة الصوفية كابن عربي ونحوه ممن صنفوا في إيمان فرعون.
الفرقة الثانية: هم من قال إن الإيمان قول باللسان فقط، هؤلاء يسمون الكرّامية بالتشديد، الكرّامية ينسبون إلى محمد بن كرّام، هذا يقول: الإيمان هو الإقرار باللسان.
لم؟ قال لأن الله جل وعلا جعل المنافقين مخاطبين باسم الإيمان في آيات القرآن، فإذا نودي المؤمنون في القرآن فيدخل في الخطاب أهل النّفاق، والمنافقون إنما أقرُّوا بلسانهم ولم يصدِّقوا بقلوبهم فدخلوا في اسم الإيمان لهذا الأمر.
المذهب الثالث: هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، إقرار باللسان وتصديق بالجنان، ويجعلون أن الناس في التصديق -كما سيأتي- وفي أعمال القلوب أنهم واحد، فأعمال القلوب التي أصلها التصديق عندهم شيء واحد، والعمل ليس من الإيمان عندهم يعني من حقيقة الإيمان( )....
والأشاعرة والكرامية فإنهم يقولون أنه لو وافى بلا عمل فإنه ناجٍ، لو لم يعمل قط فإنه ينجو.
وأما مرجئة الفقهاء فيقولون لابد له من العمل فإذا ترك العمل فهو فاسق لكن لا يدخلونه في مسمى الإيمان، وأظن شبهتهم نصّ أبي حنيفة في هذه المسألة وهو بَنَاهُ على أن الذين خوطبوا بالإيمان هم المؤمنون والمنافقون، والمنافقون ليس لهم عمل، عملهم باطل وإنما أقرّوا باللسان فقط، والمؤمنون مصدّقون مقرّون، فجمع لهم ما بين يعني بين الطائفتين ما بين الإقرار باللسان والتصديق بالجنان؛ يعني في الخطاب الظاهر، وأما الأعمال فالحساب عليها آخر.
ومن أدلّتهم الأصل اللغوي الذي هو حسب ما قالوا أن الإيمان هو التصديق، والإقرار أُخذ من زيادة في الشريعة لأنه لابد من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الرابع: هو قول الخوارج والمعتزلة وهو أن الإيمان: اعتقاد بالجنان أو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح. وهذا العمل عندهم لكل مأمورٍ به، والانتهاء عن كل منهيٍّ عنه، فما أمر به وجوبًا فيدخل في مسمى الإيمان بمفرده، وما نُهي عنه تحريما فيدخل في مسمَّى الإيمان بمفرده، يعني أن كل واجب يدخل في مسمى الإيمان على حدا، فيكون جزءا وركنا في الإيمان، وكل محرم يدخل في الانتهاء عنه يدخل في مسمى الإيمان بمفرده، وبناء على ذلك قالوا: فإذا ترك واجبا فإنه يكفر، وإذا فعل محرما من الكبائر فإنه يكفر؛ لأن جزء الإيمان -ركن الإيمان- ذهب. فعندهم أن هذا العمل جزء واحد، إذا فُقِدَ بعضه فُقِد جميعه.
وبينهم خلاف -يعني بين الخوارج والمعتزلة- فيمن استحق النار بالآخرة ماذا يسمى في الدنيا؟ على القول المعروف عندهم:
• وهو عندهم في الدنيا عند الخوارج يسمى كافر.
• وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين لا يقال مؤمن ولا يقال كافر.
مع اتفاقهم على أنه في النار مخلد فيها لانتفاء الإيمان في حقه.
الخامس: هو قول أهل الحديث والأثر وقول صحابة رسول الله  وهو أن الإيمان: اعتقاد -ومن الاعتقاد التصديق-، وقول باللسان وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركانـ وأنه يزيد وينقص.
ويعنون بالعمل جنس العمل؛ يعني أن يكون عنده جنس طاعة وعمل لله جل وعلا، فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئا واحدا إذا ذهب بعضه ذهب جميعه أو إذا وُجد بعضه وُجد جميعه؛ بل هذا العمل مركّب من أشياء كثيرة لابد من وجود جنس العمل، وهل هذا العمل الصلاة؟ أو هو أي عمل من الأعمال الصالحة من امتثال واجب طاعةً وترك المحرم طاعةً؟ هذا ثَم خلاف بين علماء الملة في هذه المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا أو كسلا.
الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة أنّ أولئك جعلوا ترك أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرّم فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان، وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزء من الماهية؛ لكن هذا العمل أبعاض ويتفاوت وأجزاء، إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه فإنه لا يذهب كله. فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل؛ يعني أن يوجد منه عمل صالح ظاهرا بأركانه وجوارحه، يدل على أن تصديقه الباطن وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهرا، وهذا متصل بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يتصور بوجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يتصور وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله جل وعلا للانقياد له بنوع طاعة ظاهرا.
المسألة الثانية: الطحاوي هنا ترك العمل؛ يعني ما ذَكَرَ العمل في مسمى الإيمان، وكما ذكرتُ لك أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان وفي ماهيته وهو ركن من أركانه.
والفرق بينهما يعني بين قول مرجئة الفقهاء وهو الذي قرره الطحاوي وبين قول أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر، الفرق بينهما:
• من العلماء من قال: إنه صوري لا حقيقة له؛ يعني لا يترتب عليه خلاف في الاعتقاد.
• ومنهم من قال: لا هو معنوي وحقيقي.
ولبيان ذلك؛ لأن الشارح ابن أبي العز رحمه الله على جلالة قدره وعلو كعبه ومتابعته للسنة لأهل السنة والحديث فإنه قرر أن الخلاف لفظي وصوري، وسبب ذلك أن جهة النظر إلى الخلاف منفكّة:
• فمنهم من ينظر إلى الخلاف لأثره في التكفير.
• ومنهم من ينظر إلى الخلاف لأثره في الاعتقاد.
فمن نظر إلى الخلاف في أثره في التكفير قال الخلاف صوري الخلاف لفظي؛ لأن الحنفية الذين يقولون هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان هم متّفقون مع أهل الحديث والسنة مع أحمد والشافعي على أن الكفر والردة عن الإيمان تكون بالقول وبالاعتقاد وبالعمل وبالشك، فهم متفقون معهم على أن من قال قولا يخالف ما به دخل إلى الإيمان فإنه يكفر، ومن اعتقد اعتقادا يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر، وإذا عمل عملا ينافي به ما دخل به في الإيمان فإنه يكفر، وإذا شك أو ارتاب فإنه يكفر؛ بل الحنفية في باب حكم المرتد في كتبهم الفقهية أشد في التكفير من بقية أهل السنة مثل الحنابلة والشافعية ونحوهم، فهم أشد منهم، حتى إنهم كفروا بمسائل لا يكفر بها بقية الأئمة كقول القائل مثلا سورة صغيرة فإنهم يكفِّرون بها، أو مسيجد أو نحو ذلك أو إلقاء كتاب فيه آيات فإنهم يكفِّرون إلى آخر ذلك.
فمن نظر -مثل ما نظر الشارح، ونظر جماعة من العلماء- من نظر إلى المسألة من جهة الأحكام وهو حكم الخارج من الإيمان قال: الجميع متّفقون -سواء كان العمل داخل في المسمى أو خارج من المسمى- فإنه يكفر بأعمال ويكفر بترك أعمال، فإذن لا يترتّب عليه على هذا النحو دخول في قول المرجئة الذين يقولون بلا عمل ينفع ولا يخرج من الإيمان بأي عمل يعمله، ولا يدخلون مع الخوارج في أنهم يكفّرون بأي عمل أو يترك أي واجب أو فعل أي محرم.
فمن هذه الجهة إذا نُظِر إليها تُصُوِّر أن الخلاف ليس بحقيقي؛ بل هو لفظي وصوري.
الجهة الثانية التي ينظر إليها وهي أن العمل -عمل الجوارح والأركان- هو مما أمر الله جل وعلا به في أن يُعتقد وجوبُه أو يعتقد تحريمه من جهة الإجمال والتفصيل؛ يعني أن الأعمال التي يعملها العبد لها جهتان:
• جهة الإقرار بها.
• وجهة الامتثال لها.
وإذا كان كذلك فإن العمل بالجوارح والأركان فإنه إذا عمل:
فإما أن نقول: إن العمل داخل في التصديق الأول؛ التصديق بالجنان.
وإما أن نقول: إنه خارج عن التصديق بالجنان.
 فإذا قلنا إنه داخل في التصديق بالجنان -يعني العمل بالجوارح باعتبار أنه إذا أقر به امتثل- فإنه يكون التصديق إذن ليس تصديقا، وإنما يكون اعتقادا شاملا للتّصديق وللعزم على الامتثال، وهذا ما خرج عن قول وتعريف الحنفية.
 والجهة الثانية أن العمل يُمتثل فعلا فإذا كان كذلك كان التنصيص على دخول العمل بمسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات والأحاديث؛ لأن حقيقة الإيمان فيما تؤمن به من القرآن في الأوامر والنواهي في الإجمال والتفصيل أنك تؤمن بأنّ تعمل، وتؤمن بأن تنتهي، وإلا فإن لم يدخل هذا في حقيقة الإيمان لم يحصل فرق ما بين الذي دخل في الإيمان بيقين والذي دخل في الإيمان بنفاق.
يبيّن لك ذلك أنّ الجهة هذه وهي جهة انفكاك العمل عن الاعتقاد، انفكاك العمل عن التصديق هذه حقيقة داخلة فيما فرق الله جل وعلا به فيما بين الإسلام والإيمان، ومعلوم أن الإيمان إذا قلنا إنه إقرار وتصديق فإنه لابد له من إسلام وهو امتثال الأوامر والاستسلام لله بالطاعة.
لهذا نقول إن مسألة الخلاف هل هو لفظي أو هو حقيقي راجعة إلى النظر في العمل، هل العمل داخل امتثالا فيما أمر الله جل وعلا به أم لم يدخل امتثالا فيما أمر الله جل وعلا به؟ والنبي  بيّن أنه يأمر بالإيمان «آمركم بالإيمان بالله وحده»، والله جل وعلا أمر بالإيمان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾[النساء:136]. فالإيمان مأمور به، وتفاصيل الإيمان بالاتفاق بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء يدخل شعب الإيمان يدخل فيها الأعمال الصالحة؛ لكنها تدخل في المسمّى من جهة كونها مأمورا بها، فمن امتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فقد حقق الإيمان، وإذا لم يمتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فإنه بعموم الأوامر لا يدخل في الإيمان.
وهذه يكون فيها النظر مشكلا من جهة هل يُتصور أن يوجد أحد يؤمن بالإيمان يؤمن بما أنزل الله جل وعلا ولا يفعل خيرا البتة، لا يفعل خيرا قط، لا يمتثل واجبا ولا ينتهي عن محرم مع اتساع الزمن وإمكانه:
في الحقيقة هذا لا يتصور أن يكون أحد يقول أنا مؤمن يكون إيمانه صحيحا ولا يعمل صالحا مع إمكانه، لا يعمل أي جنس من الطاعات خوفا من الله جل وعلا، ولا ينتهي عن أي معصية خوفا من الله جل وعلا، هذا لا يُتصوّر.
ولهذا حقيقة المسألة ترجع إلى الإيمان بالأمر، الأمر بالإيمان في القرآن وفي السنة كيف يؤمن به؟ كيف يحققه؟ يحقق الإيمان بعمل، بجنس العمل الذي يمتثل به، فرجع إذن أن يكون الامتثال داخل في حقيقة الإيمان بأمره، وإلا فإنه حينئذ لا يكون فرقا بين من يعمل ومن لا يعمل، لهذا نقول إن الإيمان الحق بالنص بالدليل يعني بالكتاب والسنة بالله وبرسوله  وبكتابه لابد له من امتثال، وهذا الامتثال لا يُتَصَوّر أن يكون غير موجود للمؤمن أن يكون مؤمن ممكن أن يعمل ولا يعمل البتة.
وإذا كان كذلك، كان إذن جزءا من الإيمان:
أولا لدخوله في تركيبه.
والثاني أنه لا يتصور في الامتثال للإيمان والإيمان بالأمر أن يؤمن ولا يعمل البتة.
إذن فتحصل من هذه الجهة أنّ الخلاف ليس صوريا من كل جهة؛ بل ثم جهة فيه تكون لفظية، وثم جهة فيه تكون معنوية، والجهات المعنوية والخلاف المعنوي كثيرة متنوّعة، لهذا قد ترى من كلام بعض الأئمة من يقول أن الخلاف بين المرجئة وبين أهل السنة -مرجئة الفقهاء ليس كل المرجئة- أن الخلاف صوري؛ لأنهم يقولون العمل شرط زائد لا يدخل في المسمى وأهل السنة يقولون لا هو داخل في المسمى فيكون إذن الخلاف صوري.
من قال الخلاف صوري فلا يظن لأنه يقول به في كل صور الخلاف، وإنما يقول به من جهة النظر إلى التكفير وإلى ترتب الأحكام على من لم يعمل، أما من جهة الأمر من جهة الآيات والأحاديث والاعتقاد بها والإيقان بالامتثال فهذا لابد أن يكون الخلاف حينئذ حقيقا.
المسألة الثالثة: في الزيادة والنقصان.
زيادة الإيمان ونقصانه اختلف فيها العلماء على أقوال:
القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من أهل السنة ومن المرجئة ومن غيرهم قول الجمهور من جميع الطوائف أن الإيمان يزيد وينقص.
القول الثاني: أن الإيمان يزيد ولا ينقص، هذا منسوب إلى بعض أئمة أهل السنة؛ لأن الدليل دلّ على زيادته وهذا أمر لا يدخله القياس، فلا نقول بنقصانه لعدم ورود الدليل في ذلك.
الثالث: من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو قول طائفة من المرجئة ومن غيرهم.
لا ارتباط ما بين الإرجاء والخلاف في الثلاث أركان الأولى وبين القول بزيادة الإيمان ونقصانه، تارة تجد من ذهب إلى أحد الأقوال يقول بزيادته ونقصانه ومن ذهب إليه لا يقول بزيادته ونقصانه؛ يعني مثلا الأشاعرة الذي هم مرجئة والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه ومنهم من لا يقول بذلك لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان، هذا أمر زائد أدخلوه في البحث.
فإذن لا أثر في الخلاف مسألة زيادته أو نقصانه على كونه مرجئا، إذا قال أحد الإيمان ما يزيد ولا ينقص لا يدل على كونه مثلا مرجئا؛ لكنه يدل على أنه ليس من أهل السنة، إذا قال: الإيمان نقول بزيادته ونقصانه لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، فقد يكون مرجئا، لا ارتباط بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان.
المسألة الرابعة: عرَّف الإيمان بقوله إقْرارٌ باللِّسانِ، وتصديقٌ بالجَنَانِ وقلنا في التعريف اعتقاد بالجنان، والفرق ما بين التصديق والاعتقاد أن التصديق شيء واحد؛ بمعنى أنه أمر واحد عبادة واحدة، وأما الاعتقاد فإنه يشمل أشياء كثيرة من أعمال القلوب، لهذا قالت طائفة من السّلف في تعريف الإيمان: الإيمان قول وعمل.
وهذا دقيق لأنه يشمل قول القلب وقول اللّسان، وقول القلب هو تصديقه وإخلاصه في الله جل وعلا، وقول اللّسان هو إعلانه الشّهادة.
وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب من محبة الله جل وعلا والتوكل عليه والخوف منه جل جلاله ورجاؤه والإنابة إليه وخشية الرّب جل جلاله ونحو ذلك من أعمال القلوب.
فإذن ما يتّصل بالقلب من أمور الإيمان ليست شيئا واحدا ليس هو التصديق فقط، فثم أشياء كثيرة في القلب والتصديق هو أحدها، ولهذا فإن التفاضل -الزيادة والنقصان- زيادة ونقصان باعتبار العمل الظاهر، وزيادة ونقصان باعتبار عمل القلب الباطن، فالناس يتفاوتون في الإيمان من جهة زيادته ونقصانه في أعمالهم الظاهرة وهي أمور الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج والاستسلام لله جل وعلا في الأوامر والانقياد ونحو ذلك والانتهاء من المحرمات، وكذلك أعمال القلوب، وأعمال القلوب نوعان:
أعمال واجبة الفعل.
وأعمال محرمة العمل أو واجبة الترك.
أما واجبة الفعل، مثل محبة الله جل وعلا، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخشيته، والخوف منه، والطمأنينة له، ونحو ذلك من أعمال القلوب.
وما يجب تركه من أعمال القلوب، محرمات أعمال القلوب التي هي الكبر والبَطَر وتزكية النفس وسوء الظن بالله جل وعلا ونحو ذلك، هذه كلها يجب تركها.
فإذن أعمال القلوب مشتملة على تصديق، ومشتملة على أمور واجب أن يعملها القلب، وأمور واجب أن ينتهي عنها القلب، وهذه كلها في الحقيقة متصلة؛ فالتصديق متأثر زيادة ونقصانا بأعمال القلوب.
فأعمال القلوب تؤثر على تصديقه فأعمال القلوب الواجبة إذا زادت محبته لله جل وعلا زاد تصديقه، إذا زادت إنابته إلى الله وزاد خشوعه وخضوعه بين يدي الله وزاد توكله على الله سبحانه وتعالى زاد تصديقه وزاد يقينه.
وكذلك إذا انتهى عن المحرمات، خضع لله جل وعلا، لم يكن متكبرا، ذليلا لله جل وعلا، غير مترفع على الخلق، محبا لسلامته -سلامة قلبه-، مبتعدا عما يفسد القلب، هذه كلها مؤثرة في تصديقه.
فإذن رجع الأمر في زيادة الإيمان وفي نقصانه إلى زيادة الإيمان في أركانه الثلاثة ونقصان الإيمان في أركانه الثلاثة.
فإذن زيادة الإيمان نقول يزيد بطاعة الرحمن يعني يزيد التصديق أو الاعتقاد بطاعة الرحمن، يزيد الإقرار باللسان بطاعة الرحمن، يزيد العمل بالأركان أيضا بطاعة الرحمن، فزيادة الإيمان راجعة للثلاثة جميعا؛ لأن الزيادة: تارة تكون بالعمل الظاهر؛ زيادة صلاة، زيادة صدقة، زيادة بر، زيادة جهاد في سبيل الله، طلب علم ونحو ذلك، فيرجع هذا إلى التصديق وإلى الإقرار بزيادة فيكون تصديقه واعتقاده أكثر وأعظم وأمتن وأثبت وكذلك إقراره، وهذا الإنسان يحسه من نفسه فإنه إذا زاد إيمانه زاد لهجه بذكر به جل وعلا تهليلا وتسبيحا وتحميدا وتكبيرا وتمجيدا.
المسائل كثيرة نرجئ البقية إلى موضع آتي إن شاء الله.
قال بعدها (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.) وهذا يعني به أن المؤمن لا يفرق بين كلام الله جل وعلا ولا بين السنن، فكل ما جاء في الكتاب أو صح عن رسول الله  في أمور العقيدة والشريعة هذا يجب التسليم له، وكله حق يجب الإيمان به، وذلك كما قال جل وعلا في وصف اليهود ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ﴾[البقرة:85] الآية، وكذلك قوله ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾[البقرة:285]، وكذلك قوله ﴿[وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ] وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾[النساء:150]، فالواجب هو الإيمان بجميع ما أنزل الله جل وعلا على رسوله في القرآن، وما صح عن رسول الله  في السنة، فالكل حق صدر عن مشكاة واحدة عن الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه.
قال الطحاوي بعدها (وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) هذه العبارة منه تقرير لكلام أبي حنيفة وأصحابه الذين يسمّون مرجئة الفقهاء في أن الإيمان واحد؛ يعني أنه في أصل وجوده شيء واحد، إذا دخل في الإيمان دخل بشيء واحد، إذا وجد سمي مؤمنا وإذا لم يوجد لم يسمّ مؤمنا.
وهذا القدر القليل الذي هو الأصل نظروا إليه بأنه شيء واحد وأن أهله في أصله سواء؛ يعني أن أصل الإيمان يتساوى فيه المؤمنون، فجعلوا إيمان الناس كإيمان النبي عليه الصلاة والسلام، كإيمان أبي بكر، كإيمان محمد عليه الصلاة والسلام؛ بل كإيمان الرسل جميعا بل جعلوه كإيمان الملائكة جميعا، جعلوا اصل الإيمان لما كان واحدا يعني ما يحصل به الإيمان أول الأمر فجعلوا أهله في أصله سواء، وهذا كما ذكرت لك راجع إلى أن التصديق عندهم، وما يتصل به من أعمال القلب أنه شيء واحد، وقد نص على ذلك أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر في أن: التصديق واحد وأن التوكل واحد والمحبة واحدة وأن الخشية خشية القلب واحدة ونحو ذلك. فجعلوا ما في القلب مما يَحصل فيه الإيمان جعلوه شيئا واحدا.
والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة أن أهل الإيمان متفاضلون فيما بينهم، فالله جل وعلا فضل بعض الرسل على بعض فقال سبحانه ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾[البقرة:253]. وتفضيل بعضهم على بعض نتيجة وسبب ونتيجة لسبب وهو تفاضلهم في الإيمان، فالرسل منهم أولوا العزم وهم أعظم الرسل مقاما وأرفع الرسل مكانة ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف:35]، فالرسل ليسوا في منزلة واحدة عند الله جل وعلا، والتفاضل هنا يكون بالإيمان بإيمان القلب ويكون بإيمان الجوارح بفعلها، وهنا جعل الطحاوي التفاضل بالأمور الظاهرة قال (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ولكن هذا التفاضل هو بعض التفاضل؛ لكن القلب يكون بين هذا وهذا من التفاضل في أعمال القلوب وبتصديق القلب ما ليس بمحدود.
ولهذا خصّ الله جل وعلا أبا بكر الصديق  خصه بأنه صدق من بين سائر الصحابة، فقال جل وعلا ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ﴾[الزمر:33]، خصه بالتصديق لأن عنده تصديقا زائدا عن غيره، كذلك قوله جل وعلا في سورة الليل ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى(17)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18)وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19)إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾[الليل:17-20] فهذا الابتغاء الذي هو أصل الدخول في الدين الذي هو ابتغاء ما عند الله جل وعلا خص به أبو بكر؛ لأن له في ذلك مزيدا ليس لغيره، لهذا قال عليه الصلاة والسلام «لو وُزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرَجَح إيمان أبي بكر» وقال أيضا التابعي الجليل أبو بكر شعبة القارئ المعروف: ما سبقهم أبو بكر لكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه. هذا الشَّيء الذي وَقَر في القلب الذي هو التصديق الناس يعرفون أن فلانا وفلانا من جهة تصديقهم للخبر يختلفون -أي خبر-، يأتيك ثقة فيقول لك هذا حاصل، فهذا مصدّق وهذا مصدّق؛ لكن تصديق فلان تصديق الأول يختلف عن تصديق الثاني من حيث قوته من حيث الجزم به بقوة وثبات ويقين، ولهذا أبو بكر  حصل له من المقامات كما هو معروف في السيرة ما ليس لغيره.
هذا التصديق أيضا فيه أشياء تؤثر فيه من جهة التفاضل كما سيأتي بيانه.
إذن كلام الطحاوي فيما سمعت جعل التفاضل لأمور خارجة عن تصديق القلب عن اعتقاد القلب، جعلها، الخشية الظاهرة والتقوى الظاهرة ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
إذا تبين هذا فنذكر على هذا عدة مسائل ربما ثلاث:
الأولى: أن قوله (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) يُرَدُّ عليه بأن أصل الإيمان:
• إما أن يكون لغويا.
• وإما أن يكون شرعيا.
فإذا كان المراد الشرعي -يعني الإيمان الشرعي-، فإنّ الإيمان يصدق على ما به يدخل المرء فيه، وأيضا يكون أصله فيما بعد ذلك من الزيادات، بمعنى أنه يدخل في الإيمان بتصديق وبكلمة، ثم بعد ذلك يكون تصديقه غير تصديقه الأول، وتكون كلمته غير كلمته الأولى، فلهذا أصله كلمة (أَصْله) فيها إجمال وعدم وضوح، هل المقصود بالأصل الأصل الشرعي حين دخل في الإسلام؟ أو المقصود الأصل الشرعي الذي يتابعه ويمشي معه؟ يعني يلازم الإنسان دائما وأنه أصل واحد لا يزيد دائما، هذا فيه إجمال، وأيضا لا يتفق هذا وذاك، لا يتفق أصل إيمانه أول ما دخل وأصل إيمانه الذي يصاحبه، وكل أحد يعرف من نفسه الفرق ما بين أصل الإيمان حين أسلم وأصل إيمانه حين رسخت قدمه وحَسُن إسلامه.
فإذن كلمة (أَصْله)، أصل الإيمان ما هو؟ هذه كلمة مجملة غير واضحة مرجعها غير واضح ولا دليل من الكتاب أو السنة على هذه الكلمة؛ يعني التعبير بأصل الإيمان وعدم التفريق فيما بين الإيمان اللغوي والشرعي.
المسألة الثانية: أن أصل الإيمان إذا قلنا هو التصديق، فإن التصديق يتفاوت، التّصديق نفسه الذي هو حد الإيمان -لأنهم عرفوا الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان- هذا التصديق الذي هو في تعريف الإيمان يتفاوت الناس فيه، وأيضا يزيد بالمعين وينقص.
وأسباب زيادة التصديق ونقصان التصديق أمور:
الأول: أنّ مسائل الشّرع مسائل الكتاب والسنة كثيرة، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العملية، وهذه كلها يجب الإيمان بها على الإجمال والتفصيل، فإيمان وتصديق من كان مقتصرا على الإجماليات من جهّال المسلمين ليس كإيمان وتصديق ما صدّق بكل ما علمه؛ فالعالم تصديقُه مجمل وتصديقه مفصّل بكل ما علمه، وأمّا الجاهل فتصديقه مجمل وما علمه من الشريعة قليل صدّق به لكنه تصديق ببعض الأمور، فمن صدق بكل الفروع -سواء فروع العقيدة أو فروع الشريعة- من صدق بها جميعا فتصديقه أعلى ممن صدق تصديقا إجماليا لا تفصيل فيه.
فإذن نفس التصديق من جهة أوامر الشريعة والإيمان بالنصوص يختلف من جهة الإجمال والتفصيل.
الثاني: الأعمال الظاهرة أيضا امتثالا للأوامر واجتنابا للنواهي تؤثر في التصديق ويؤثر فيها التصديق، ويدل على ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع إليه فيها الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» كما في الصحيح، وفي مسند الإمام أحمد قال «إذا زنى العبد ارتفع الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا ترك عاود» فإذن هو حينما يفعل هذه الكبيرة كبيرة الزنا أو كبيرة شرب الخمر أو كبيرة السرقة أو ما شابهها، حين يفعل، قال «فلا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»؛ لكن هنا هل زال تصديقه بالكلية؟ لا، لكن التصديق القوي المستحضر بالله جل وعلا وبالدّار الآخرة وبعقابه والحساب والعذاب وما يكون بعد ذلك ومن العقوبات في الدنيا، هذا التصديق المتجزّئ الكبير هذا التصديق غاب عنه حين واقع المحظور، لذلك قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».
فإذن الأعمال الظاهرة امتثالا للواجب وانتهاء عن المحرم هذه تزيد في التصديق، قال جل وعلا ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا﴾[الأنفال:2]، وزيادة الإيمان ترجع إلى أركان الإيمان، إذْ تخصيص بعض الأركان دون بعض ليس عليه دليل، زياد في التصديق وزياد في العمل وزاد في الإقرار، وكذلك قوله جل وعلا ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾[الفتح:4]، ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾، ﴿إِيمَانًا﴾ هنا نكرة تفيد الإطلاق في هذا المقام يعني إيمانا من جهة العمل وإيمانا من جهة الإقرار وإيمانا من جهة التصديق والاعتقاد.
الوجه الثالث من أن التصديق يزيد: أعمال القلوب مختلفة، الإنابة إلى الله جل وعلا محبة الرب سبحانه والخضوع له والتلذذ بمناجاته والأنس بتلاوة كتابه والتعرض لنفحاته في الأوقات الفاضلة، هذه أمور تزيد من اعتقاد القلب، وكل أحد يعلم من نفسه أنّ حاله من وجود هذه الأمور ومجاهدة النفس فيها ليس كحاله بدونها، وإيقانه بالجنة والنار وبالنعيم وبالعذاب والتوكل على الله جل وعلا ويقينه وقوّته في الإيمان تختلف فيما إذا تعاطى هذه العبادات وفيما إذا تهاون بها.
فإذن إيقانه وتصديقه متصل بعبادات القلوب، وعبادات القلوب تزيد في التصديق والتصديق زيادته يؤثر فيها، فعمل القلب واحد، وإذا قلنا عمل القلب نسميه كذا ونسميه كذا فباعتبار التَّجْزِيء باعتبار الإيضاح؛ لكن الحقيقة القلب شيء واحد، إذا جاءه التوكل قوي التصديق، إذا قوي التصديق قويت محبة الله جل وعلا، إذا قويت محبة الله سبحانه وتعالى قويت الإنابة إليه وامتثال أوامره والرغبة فيما عنده، فالقلب -إذن- تفريق أعماله إنما هو للإيضاح والبيان، وإلا فكل عمل قلبي مؤثر على العمل الآخر صدقا في الاعتقاد وإنابة وخضوع وامتثال ظاهر وامتثال باطن وإقرار وإيقان.
ولهذا تجد أنّ أعظم المؤمنين إيمانا أكثرهم خضوعا وذلا لله جل وعلا وعدم ترفع على الخلق؛ لأن هذا الذي في القلب بعضه يؤثر على بعض، الصلاة يؤثر على الثواب فيها وعلى حُسنها تصديق القلب وخشية القلب وإنابته وحضوره إلى آخره، وكذلك هي تؤثر في هذه الأعمال.
إذن في التفريق ما بين أعمال القلوب هذا تصديق وهذا توكل وهذه خشية وهذه إنابة بأنه تفريق منطقي صحيح يعني يمكن أن ترى هذه بلا هذه ولا صلة بينهما هذا بحث نظري لا حقيقة له، فالإيمان إيمان القلب وأعمال القلوب مترابطة بعضها آخذ ببعض فإذا زاد التوكل زاد التصديق، وإذا قوي التصديق واليقين بأسباب الأعمال الظاهرة قوي التوكل قويت الخشية قويت المحبة قوي الرجاء ونحو ذلك.
فإذن من أوجه زيادة التصديق وزيادة أصل الإيمان -إذا صح التعبير موافقة لأولئك- فإنه ينظر فيه إلى تفاوت الأعمال؛ أعمال القلوب.
هذه بعض أسباب تفاوت الناس في تصديق القلب، وهناك أوجه أخرى ذكرها أهل العلم في مواطنها وخاصة ابن تيمية في كتاب الإيمان؛ فإنه ذكر سبعة أوجه أو أكثر في تفاوت الناس في أصل الإيمان أو في التصديق أو في الاعتقاد. ( )... يتعلّق باعتقاد الناس.
المسألة الثالثة والأخيرة: قوله (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) هذا صحيح؛ لكنه وجه تفاضل وليس كل أوجه التفاضل.
 فالتفاضل قد يكون مِنّة من الله جل وعلا وتكرما أن يمنّ على أحد بأن يكون أفضل من أحد، والله جل وعلا يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
 ويكون التفاضل أيضا بأمور زمانية مثل صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه زائدة عن الأمور التي ذكرها وهي (الْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى)، وقد جاء في الحديث لمقام أحدهم ساعة مع رسول الله  خير من عبادة أحدكم ستين سنة أو كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، قد قال عليه الصلاة والسلام أيضا في الحديث الذي في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي -لما نِيلَ من عبد الرحمن بن عوف وهو من السابقين- فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» يعني ولا نصف المد، وذلك فضل خاص زماني لأنهم اتّصلوا وصبحوا رسول الله .
 الوجه الثالث: التفاضل يكون بأعمال القلوب دون الأعمال الظاهرة، فقد تكون الأعمال الظاهرة قليلة؛ لكن أعمال القلوب عظيمة، وأعمال القلوب يؤجر عليها العبد في الواجبات، ويؤجر على المنهيات -منهيات أعمال القلوب من الكبر والبطر ورؤية النفس ونحو ذلك وسوء الظن بالله أو سوء الظن بالخلق أي بالمسلمين-، ومنها أعمال يؤجر على فعلها ويأثم على فعلها؛ يعني يؤجر على فعل بعض الأعمال ويأثم على فعل بعض الأعمال.
فإذا كان كذلك كان فعل القلب ميدانا للتفاضل، عمل القلب ميدانا للتفاضل.
لهذا يروى عن الحسن البصري رحمه الله أنه سئل: لماذا سبق الصحابة وفُضِّلوا مع أنّ عبادة من بعدهم يعني التابعين أكثر من عبادتهم؟ فقال الحسن: كانوا يتعبدون -يعني الصحابة- والآخرة في قلوبهم، وهؤلاء يتعبدون والدنيا في قلوبهم. العمل الظاهر واحد؛ بل ربما يكون أكثر، لهذا صار الابتلاء بحسن العمل، وحسن العمل فيه الإخلاص وفيه المتابعة، وإذا اتّفق هذا وهذا في المتابعة، فهل يتّفقان في عمل القلب؟ وهل يتّفقان في الإخلاص؟ وهل يتّفقان في حسن العمل الباطن وفي الخشية وفي الإنابة؟ لا يتفقوا هذا وهذا يصلون جنب بعض وهذا وهذا يختلفون تماما.
هذه بعض المسائل المتعلقة بذلك فتحصّل من هذا أن قوله (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس صوابا بل غلط، وليس إيمان الرسل كإيمان عامة أتباعهم، وليس إيمان الناس كإيمان الصحابة، وليس إيمان الصالحين كإيمان الفاسقين، وليس إيمان المقرَّبين كإيمان سائر خلق الله من المكلَّفين، هذا فيه اختلاف فهم يختلفون أعظم الاختلاف في إيمانهم بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته وما في قلوبهم من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي وما في قلوبهم من الأعمال الصّالحة وكذلك ما علموه ظاهرا من الأعمال الصّالحة وانتهوا عما نهاهم الله جل وعلا عنه، فهم يختلفون في ذلك أعظم الاختلاف.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل المقامات العالية في الإيمان، وأن يغفر لنا ذنوبنا الكثيرة وزللنا وتقصيرنا، وأن يبارك لنا في قليل أعمالنا، وأن يُصلح لنا نياتنا وذريّاتنا وأهلينا، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.