تخريج حديث مايجتنبه من أراد الأضحية وبيان فقهه

الحمد لله وحده ،والصلاة والسلام على من لانبي بعده ..وبعد:
فهذا بحث في تخريج حديث أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ في بيان مايجتنبه من أراد أن يضحي رواية ودراية ،والله أسأل أن ينفع به وهو الموفق والمعين.


متن الحديث وألفاظه:

عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا)).
وفي لفظ عند مسلم وغيره:((من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي)).
وفي لفظ عند مسلم وغيره:((فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفراً )).


تخريج الحديث:

أخرجه الشافعي في "المسند"(1/160ـ ترتيب السندي)،والحميدي (293)،وأحمد(6/289،301،311)،والدارمي(1953)،ومسلم (1977)وأبوداود(2791)،والترمذي(1523)،والنسائي في "الكبرى"(3/52)و"المجتبى"(7/211،212)،وابن ماجه(3149)و(3150)،وأبويعلى(6910)،والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/181)،وفي"شرح مشكل الآثار"(5506)و(5510)و(5512)و(5513)،وابن حبان(5897)و(5916)،والطبراني في "الكبير"(23/رقم:563و565)،والدارقطني(4/278)،وأبوعوانة(5/59)،والحاكم(4/220)،والبيهقي في "الكبرى"(9/266)و"فضائل الأوقات"(214)و"الشعب"(479-480)،والبغوي في"شرح السنة"(1127) جميعهم من طرق عن سعيد بن المسيب ،عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ به.

فقه الحديث :

ظاهر الحديث يفيد النهي عن أخذ شيء من الشعر أو الظفر أو البشرة ممن أراد أن يضحي من دخول شهر ذي الحجة حتى يضحي ،فإن دخل العشر وهولايريد الأضحية ثم أرادها في أثناء العشر أمسك عن أخذ ذلك منذإرادته ولايضره ماأخذ قبل إرادته.
وقد اختلف العلماء في هذا النهي على ثلاثة أقوال :

الأول : انه يحرم عليه ذلك ، حكاه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق ، وهو قول بعض أصحاب الشافعي وأحمد ونصره ابن قدامة ،واستدلوا بهذا الحديث ،وقالوا : إن مقتضى هذا النهي هو التحريم(1).
قال البهوتي ـ رحمه الله ـ في "كشاف القناع":
"(ومن أراد التضحية) أي: ذبح الأضحية (فدخل العشر، حرم عليه وعلى من يضحى عنه أخذ شيء من شعره وظفره وبشرته إلى الذبح. لحديث أم سلمة مرفوعاً: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي" رواه مسلم.
وفي رواية له: "ولا من بشره".. " .
إلى أن قال: "(فإن فعل) أي: أخذ شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته (تاب) إلى الله تعالى، لوجوب التوبة من كل ذنب. قلت: وهذا إذا كان لغير ضرورة، وإلا فلا إثم " اهـ(2).

القول الثاني : انه مكروه كراهة تنزيه ، وهو قول الشافعي وهو المذهب عند الشافعية كما حكاه النووي ، ومالك في رواية ، وهو قول بعض أصحاب أحمد

وقد استدلوا على ذلك بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت :
((كنت افتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده ، ثم يبعث بها ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي)) أخرجه البخاري(1703)،ومسلم(1321).

قال الإمام الشافعي: "البعث بالهدي اكثر من إرادة التضحية فدل أنه لا يحرم ذلك وحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه"(3).


القول الثالث : انه لا يكره ، وهو قول أبي حنيفة ومالك في رواية

قال الإمام أبو حنيفة :" لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي" (4).


المناقشة والترجيح:

وقد أجاب أصحاب القول الأول عن الاستلال بحديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قائلين :
إن حديث أم سلمة في الأضحية ، وحديث عائشة في الهدي فلا تعارض بينهما ولاحتمال خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، لان عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة تخبر عن قوله والقول مقدم على الفعل.
ويمكن أن يقال :إن حديث عائشة عام ، وحديث أم سلمة خاص ، والخاص مقدم على العام(5).

وأما القول الثالث فظاهر الضعف ، إذ هو مبني على قياس في مقابلة النص ، وهذا القياس فاسد الاعتبار .
قال ابن قدامة في "المغني":
"ولنا الحديث المذكور وظاهره التحريم وهذا يرد القياس وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه وتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص، ولأنه يجب حمل حديثهم على غير ما تناوله له محل النزاع لوجوه منها:
أن أقل أحوال النهي الكراهة ،والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروها قال الله تعالى: اخباراً عن شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}.
ومنها أن عائشة إنما تعلم ظاهراً ما يباشرها، به من المباشرة أو ما يفعله دائماً كاللباس والطيب، أما قص الشعر وتقليم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لا ترده بخبرها، فإن احتمل إرادته فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص .
ولأن عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة تخبر عن قوله والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له .
إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار، فإن فعل استغفر الله ولا فدية عليه إجماعاً سواء فعله عمداً أو ناسياً " اهـ .

قلت: وبذلك يكون القول الأول – وهو التحريم – هو القول الراجح لا سيما وصيغة النهي مؤكدة بالنون في رواية مسلم وغيرها كما تقدم بيانه.


وهاهنا تتمات يجدر بيانها ،وهي كما يلي:

1) في بيان الحكمة من النهي المذكور في الحديث:
قال العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ:
"والحكمة في هذا النهي ـ والله أعلم ـ أنه لما كان المضحي مشاركا للمحرم في بعض أعمال النسك ،وهوالتقرب إلى الله بذبح القربان كان من الحكمة أن يعطى بعض أحكامه ،وقد قال الله في المحرمين :{ولاتحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله}.
وقيل:الحكمة أن يبقى المضحي كامل الأجزاء للعتق من النار،ولعل قائل ذلك استند إلى ماورد :"أن الله يعتق من النار بكل عضو من الأضحية عضواً من المضحي "،لكن هذا الحديث قال ابن الصلاح: غيرمعروف ولم نجد له سندا يثبت به(6)،ثم هو منقوض بما في الصحيحين وغيرهما(7)من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما رجل مسلم أعتق امرءاً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " ولم ينه من أراد العتق عن أخذ شيء من شعره وظفره وبشرته حتى يعتق.
وقيل:الحكمة التشبه بالمحرم .وفيه نظر،فإن المضحي لايحرم عليه الطيب والنكاح والصيد واللباس المحرم على المحرم فهو مخالف للمحرم في أكثر الأحكام .
ثم رأيت ابن القيم أشار إلى أن الحكمة: توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله وكمال التعبد بها. والله تعالى أعلم " اهـ (8).

2) ظاهر الحديث وكلام أهل العلم أن نهي المضحي عن أخذ الشعر والظفر والبشرة يشمل ما إذا نوى الأضحية عن نفسه أو تبرع بها عن غيره وهو كذلك ،وأما من ضحى عن غيره بوكالة أو وصية فلا يشمله النهي بلا ريب (9).

3) من يضحى عنه ؛ظاهر الحديث وكلام كثير من أهل العلم أن النهي لايشمله ،فيجوز له الأخذ من شعره وظفره وبشرته ،ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل أنه كان ينهاهم عن ذلك ،والله أعلم(10).

4) يتوهم بعض العامة أن من أراد الأضحية ثم أخذ من شعره أو أظفره أوبشرته شيئاً في أيام العشر لم تقبل أضحيته ،وهذا خطأ بيّن فلا علاقة بين قبول الأضحية والأخذ مما ذكر، لكن من أخذ بدون عذر فقد خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك ووقع فيما نهى عنه من الأخذ فعليه أن يستغفر الله ويتوب ولايعود وأما أضحيته فلايمنع قبولها أخذه من ذلك.

5) من احتاج إلى أخذالشعر والظفر والبشرة فأخذها فلا حرج عليه ،مثل أن يكون به جرح فيحتاج إلى قص الشعر عنه ،أو ينكسر ظفره فتؤذيه فيقص ما يتأذى به ،أو يتدلى قشرة من جلده فتؤذيه فيقصها فلا حرج عليه في ذلك كله(11).

وفي الختام أسأل الله التوفيق والسداد ،وهو حسبنا ونعم الوكيل .


وكتبه:
راجي عفو ربه العلـــي
أبو ياسرخالدالــــردادي
المدرس في الجامعة الإسلامية
بالمدينة النبوية




.................................................. ..........

(1)"المغني مع الشرح الكبير"( 7/96 )،" شرح الزركشي على مختصر الخرقي"( 7/8-9 )،"شرح منتهى الإرادات"(2/623)،"كشاف القناع"(3/23).

(2)"كشاف القناع"(3/23).

(3)"المجموع شرح المهذب" للنووي( 8/399 )،"المغني مع الشرح الكبير"( 7/96 ).


(4)"المجموع شرح المهذب" للنووي( 8/399 )،"المغني مع الشرح الكبير"( 7/96 ).

(5)"المغني مع الشرح الكبير"( 7/96 )،"شرح منتهى الإرادات"(2/623).

(6)انظر:"التلخيص الحبير"لابن حجر(4/138).

(7)أخرجه البخاري (2517)،ومسلم (1509).

(8)"رسالة في أحكام الأضحية" لابن عثيمين(ص77)،وانظر "فيض القدير"للمناوي(1/339).

(9) "رسالة في أحكام الأضحية"(ص78).

(10) المصدر السابق (ص78).

(11)السابق (ص79).