توضيح ما اشتبه عليهم من كلام شيخ الإسلام


يستطيع الباحث المطلع أن يقول : إن مسألة ترك عمل الجوارح لم يجلها أحد كما جلاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد تناولها في مواضع عدة من مؤلفاته ، وبعبارة واضحة ظاهرة ، وقد سبق ذكر جملة صالحة من كلامه رحمه الله.
ومع هذا تجد المخالف معرضا عن صريح كلامه ، متعلقا ببعض العبارات التي يمكن أن يقال : إنها مجملة أو مشتبهة. والواقع أن أكثر هذه العبارات واضح وظاهر ، لمن تدبر وتأمل.
ولو أن المخالف سلك المنهج العلمي المتعارف عليه بين الباحثين ، من جمع أقوال العالم ، ورد المتشابه إلى المحكم ، والمجمل إلى المبين ، لاتضح له مذهب شيخ الإسلام ، ولنأى بنفسه عن أن ينسب له مذهبا باطلا ، لطالما رأيناه ينكره ، ويحذر منه ، ويشنع على أهله.
وسأحاول أن أعرض جملة ما نقله المخالف عن شيخ الإسلام في هذه المسألة ، والإجابة عنه ؛ لأبرهن على صحة مذهبه ، ووضوح رأيه ، وسلامة كلامه من الاضطراب والتناقض.

وقبل الشروع في المقصود أذكّر بأمرين :
الأول : أن شيخ الإسلام عبر عن رأيه في تكفير تارك عمل الجوارح بعبارات متنوعة ، وألفاظ مختلفة ، فمن ذلك قوله :
(فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا. )
وقوله : ( فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ، و من لا دين له فهو كافر)
وقوله : (وهذه المسألة لها طرفان : أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر . والثاني : في إثبات الكفر الباطن . فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الايمان قولا وعملا كما تقدم ، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا ايمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدي لله زكاة ، ولا يحج الى بيته ، فهذا ممتنع ، ولا يصدر هذا الا مع نفاق في القلب وزندقة ، لا مع إيمان صحيح ).
وقوله: (وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من الواجبات، )
وقوله : (فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد. )
وقوله : (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب).
وقوله : (لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين )
وقوله : (العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)
وقوله : (ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن )
وقوله : (فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر . وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ).
وإقراره قول أبي طالب المكي (فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد)
وغير ذلك من كلامه الصريح الواضح ، وقد مضى ذكره أول البحث.
الأمر الثاني : أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى كفر تارك الصلاة ، وهذا يبطل كل محاولة يسلكها المخالف للزعم بأنه لا يكفر تارك عمل الجوارح بالكلية !
فكن على ذكر من هذا ، فإنه مهم جدا .

أما المواضع التي اعتمد عليها المخالف ، فإليك بيانها على التفصيل:

الموضع الأول :


جاء في مناظرة شيخ الإسلام مع ابن المرحل :
(11/137،138)
(والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة ، لا الكفر بالله فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله .
قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله ، فمن ترك الأعمال شاكرا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله، والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد، ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة التي هي ذات شعب وأجزاء زوال اسمها كالإنسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها).
هذا الموضع استشهد به عدنان عبد القادر في كتابه " حقيقة الإيمان " في ص
33، 64 ، 79 ، 91 ، تارة يبدأ النقل من قوله : فمن ترك الأعمال شاكرا ... وتارة يبدأ من قوله : والكفر إنما يثبت ... ومرة من قوله : قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان ...
وهو في جميع ذلك يقول : قال شيخ الإسلام.
والجواب من وجوه :
الأول : أن هذا ليس من كلام شيخ الإسلام !
فما بعد " قلت " هو من كلام أحد أصحاب شيخ الإسلام ، ولم أقف على اسمه.
قال الحافظ بن عبد الهادي في " العقود الدرية " ص 95 - 116( ت : محمد حامد الفقي ، ط. مكتبة المؤيد)
(وقد رأيت بخط بعض أصحابه ما صورته: تلخيص مبحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل .
كان الكلام في الحمد والشكر وأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان ... ) إلى قوله ( حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل).
وهذا بعينه هو المثبت في مجموع الفتاوى 11/135-155
وجاء في العقود الدرية عقب هذا (فلتتأمل هذه الأبحاث الثلاثة وكل ما فيها. قلت فإنه من كلام الشيخ تقي الدين قرره بعد المناظرة).
فهذا الصاحب " المجهول " قام بتدوين ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله بعد المناظرة ، وميز كلام شيخ الإسلام عن كلامه ، فتراه يقول : قال الشيخ تقي الدين ، وإذا أراد أن يضيف شيئا قال : قلت ، وقد وقع هذا في ستة مواضع.
وأيضا : فمن قرأ هذه المناظرة ، وتأمل سياقها أدرك أن ما يأتي بعد " قلت " ليس من كلام شيخ الإسلام ولا من كلام ابن المرحل ، وسأذكر شاهدين فقط :
الأول : قال شيخ الإسلام - 11/137- ( ... فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر.
قلت : كما أن كثيرا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة.
قال : وهذا خطأ ، لأن التكفير نوعان : أحدهما : كفر النعمة ، والثاني الكفر بالله . والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله ، فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله.
قلت : على أنه لو كان ضد الكفر بالله ، فمن ترك الأعمال شاكرا ...
قال الصدر ابن المرحل ...
قال الشيخ تقي الدين ... )
فأول الكلام المنقول هنا ، لشيخ الإسلام ، وكذلك قوله : وهذا خطأ ...
وحين أراد الكاتب أن يعلق ، قال : قلت ...
وهذا واضح جدا.

الشاهد الثاني : ما جاء في ( 11/139-141) :
( ثم عاد ابن المرحل فقال ...
قال الشيخ تقي الدين ...
فخرج ابن المرحل إلى شيئ غير هذا ...
قال الشيخ تقي الدين له ...
قال له ابن المرحل ...
قال ابن المرحل ...
قال الشيخ تقي الدين له
قلت : ...)
فانظر قوله : قال الشيخ تقي الدين له ، وقال له ابن المرحل ، فلا يشك القارئ في أن شخصا ثالثا يحكي هذه المناظرة ، وهو - لا غيره - أحق الناس بأن يقدم لكلامه بقوله : قلت.
فاعجب ممن نقل هذا الكلام وكرره وأعاده ثم لم ينتبه لهذا !

وقول شيخ الإسلام : ( والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله )
جواب كاف شاف ، لا يحتاج معه إلى جواب " صاحبه " المبني على الافتراض والتقدير.
الوجه الثاني : أن قول هذا " الصاحب " : (كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد)
إن أراد بالاعتقاد قول القلب وعمله - كما هو مذهب شيخ الإسلام في هذا الإطلاق - فتقدير وجود عمل القلب ، من دون عمل الجوارح ممتنع ، ولو وجد إيمان القلب لانفعل البدن بالممكن من عمل الجوارح ، كما سبق النقل عن شيخ الإسلام.
الوجه الثالث: أنه ينبغي حمل قوله " فروع الإيمان " على بعض العمل لا كله ، لأمرين:
الأول : قوله " كالإنسان إذا قطعت يده ، أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها "
فهذا يبين أنه أراد ترك بعض الأعمال لا جميعها.
الثاني : أن نسبة القول بإسلام من ترك عمل الجوارح كلية إلى أهل السنة ، خطأ ظاهر ، لا سيما والصحابة مجمعون على كفر تارك الصلاة ، في رأي شيخ الإسلام (شرح العمدة 75) ، وهو قول أكثر السلف (28/308 ،360) وهو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين (20/97)
فكيف يقال إن " أهل السنة " لا يكفرون من ترك جميع أعمال الجوارح.


وحسب الباحث هنا أن يكتفي بالوجه الأول ، وأن لا يعول على نقل لم يعرف قائله ، ولم يطلع على حاله ، فكيف إذا كان النقل خطأ على أهل السنة ، مخالفا لتقرير "الشيخ " رحمه الله!
تنبيه1 : ابن المرحل هو صدر الدين ابن الوكيل محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد شيخ الشافعية في زمانه .
انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 9/253 ، البداية والنهاية 14/492 ( وفيات سنة 717 هـ ).
تنبيه2 : ثم رأيت الحلبي أورد النقل السابق في كتابه " التعريف والتنبئة " ص 27 قائلا : " وقال أيضا 11/138 : " من ترك الأعمال شاكرا …"
والذي في الفتاوى " فمن ترك …" كما سبق.
وعلق في الهامش بقوله : " ونقله عنه تلميذه ابن عبد الهادي في " العقود الدرية " ص 98 ، وهذا النص من أوضح الكلام وأبين القول وافصح العبارة " .!!!
وأورده في هامش ص 84 من " التعريف والتنبئة " هكذا : ( ورحم الله شيخ الإسلام القائل … ويقول … ويقول 11/138 " من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد ، ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة زوال اسمها".
فحذف الحلبي من أوله : " كما قال أهل السنة: إن "
وآثر أن يكون الكلام لشيخ الإسلام ، لا لأهل السنة !!







الموضع الثاني



قال شيخ الإسلام : (7/644) :
( فأصل الإيمان في القلب ، وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح .
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه .
ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح ، كما قال أبوهريرة رضي الله عنه : إن القلب ملك والأعضاء جنوده ، فإذا طاب الملك طابت جنوده ، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب").

هذا النقل عن شيخ الإسلام أورده علي الحلبي في " كلمة سواء " ص 28،29 ، وفي " مجمل مسائل الإيمان العلمية " التي كتبها هو مع رفاقه : مشهور حسن سلمان ، وسليم الهلالي ، ومحمد موسى نصر ، وحسين العوايشة .
قالوا ( ص 4) :
( الحق في مسألة الإيمان والعمل - وصلة بعضهما ببعض ؛ نقصا أو زيادة ، ثبوتا أو انتفاء – هو ما تضمنه كلام شيخ الإسلام رحمه الله ؛ وهو قوله :
" وأصل الإيمان في القلب ؛ وهو قول القلب وعمله ؛ وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد .
وما كان في القلب (فلا بد ) أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح .
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه ؛ (دل على عدمه أو ضعفه ).
ولهذا كانت (الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ) ؛ وهي تصديق لما في القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع (الإيمان المطلق) وبعض له ، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح"
قلنا : وانتفاء الإيمان المطلق – وهو كماله – لا يلزم منه انتفاء ( مطلق الإيمان ) – وهو أصله – ؛ كما قرره شيخ الإسلام – رحمه الله – في مواضع-.
وقال الحلبي في التعريف والتنبئة ص 33
(أقول : فهذا أصل أصول أهل السنة – التي بها فارقوا المرجئة – في مسألة الإيمان - ، التي منها ضلوا ، وعنها انحرفوا ، وهي حقيقة التلازم بين الظاهر – قولا وعملا - ، والباطن – تصديقا وإذعانا - ، ونابذوا أقوالهم – حقيقة ولفظا- .
ولكن لجهل ( البعض ) بحقيقة قاعدة ( التلازم ) بين شعب الإيمان – بأنواعها – قوة وضعفا ، وجودا وانتفاء – وعدم استيعابها - ، أوقعهم في الخلط والخبط في هذه المسألة الدقيقة ، وعدم الضبط لها ، أو معرفة ما ينبني عليها !!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كلام عظيم في تأصيل هذه القاعدة في "مجموع الفتاوى " ( 7/642-644) : ذكره - رحمه الله – بعد بيانه أنه ( لا شيئ أفضل من : لا إله إلا الله ) ، وأن ( أحسن الحسنات التوحيد ) ؛ فقال – رحمه الله – ما نصه :
" فأصل الإيمان في القلب - وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد -؛ وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح .
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه (دل على عدمه أو ضعفه ).
ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح".
أقول : هذا هو الكلام الفصل ، الذي يُرد له كل فرع وفصل ، فالواجب تأمله ، وتفهمه ، وضبطه .
من أجل هذا وصف الإمام ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين 1/101 ( عمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه … و … و … وغير ذلك من أعمال القلوب ) بأنها " أفرض من أعمال الجوارح ، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها…".
وهذا الكلام – وذاك – مبنيان على أصل قويم راسخ ، وهو أن " شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف …" ؛ كما قال شيخ الإسلام في " المجموع " ( 7/522). انتهى كلام الحلبي .
قلت : سيأتي التعليق على هذا النقل الأخير " شعب الإيمان قد تتلازم … الخ" إن شاء الله.
وعلق الحلبي على قول شيخ الإسلام – السابق – " وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له " بقوله :
( فالأعمال الظاهرة – طاعات ومعاص – وجودا وعدما – متعلقة بالإيمان المطلق ، لا مطلق الإيمان ؛ فتنبه …).
واستشهد به عدنان عبد القادر في " حقيقة الإيمان " مرتين ، ص 69 ، 79
مع تسويد الخط عند قوله : أو ضعفه !
وقد وضع ذلك تحت عنوانين : الأول : هؤلاء قطعا ليسوا بمؤمنين ولكنهم مسلمون مفرطون ومن قال إنهم مؤمنون فهو مرجئ ولا بد.
والثاني : ترك عمل الجوارح بالكلية لا يقتضي تكفيره.
والجواب من وجوه :
الأول : أن هذا يؤكد ما ذكرته آنفا من أنهم يتركون صريح كلام شيخ الإسلام رحمه الله ، ويتعلقون بمثل هذه العبارات ، ويزعمون أنها : " الكلام الفصل ، الذي يُرد له كل فرع وفصل ، فالواجب تأمله ، وتفهمه ، وضبطه " !!!
الثاني : أن المخالف رغم استشهاده بهذا الكلام مرارا ، لم يحاول الإجابة عن قول شيخ الإسلام : " دل على عدمه ".
بل اتكأ – أعني الحلبي – على قول شيخ الإسلام " وهي شعبة من مجموع (الإيمان المطلق) وبعض له "
وقرر أن " انتفاء الإيمان المطلق – وهو كماله – لا يلزم منه انتفاء ( مطلق الإيمان ) – وهو أصله – ".
وهذا يعني أنه لا توجد حالة يدل فيها ترك العمل على " عدم " الإيمان الذي في القلب.
وهذه مخالفة صريحة لكلام شيخ الإسلام .
فانظر كيف يزعم أنه كلام فصل ، ثم يؤمن ببعضه ، ويدع بعضه .
وأما المخالف الآخر –أعني عدنان عبدالقادر- فقد اتكأ على عبارة (ضعفه) ولم يلتفت إلى عبارة (عدمه) وكأنها ليست من كلام شيخ الإسلام.
الثالث : أن هذا النقل يقرر وجود حالة ينعدم فيها الإيمان القلبي عند ترك العمل بموجبه ومقتضاه ، وهذا ما لا يسلم به المخالف.
الرابع : أنه لا ينبغي حمل هذا الكلام على الشك أو التردد ، فالمسلك العلمي الصحيح يقضي برد هذا الموضع إلى غيره من المواضع التي يصرح فيها شيخ الإسلام بانتفاء الإيمان القلبي عند انتفاء العمل الظاهر " بالكلية ".
فيكون قوله رحمه الله : " وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح . وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه" مفيدا وجود حالتين :
حالة ينعدم فيها الإيمان القلبي ، وهذه تكون عند ترك العمل بموجبه ومقتضاه بالكلية.
وحالة يضعف فيها الإيمان القلبي ، وتكون عند ترك العمل بموجبه ومقتضاه ، جزئيا. ( وتذكر أن شيخ الإسلام يكفر تارك الصلاة ) !
وقد أشرت إلى هذه المواضع الصريحة في أول هذا المبحث ، ومنها قوله :
( فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ، و من لا دين له فهو كافر)
وقوله : (وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، )
وقوله : (فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد. )
وقوله : (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب).
وقد رأيت من حمل كلام شيخ الإسلام على : ترك القول والعمل الظاهر معا .
وهذا الحمل لا يصح ، فإن شيخ الإسلام يصرح في مواضع بانتفاء الإيمان ، عند عدم القول ، ويصرح في مواضع أخر بانتفاء الإيمان عند عدم العمل الظاهر ، والواجبات الظاهرة ، ويمثل لها بالصلاة والزكاة والصيام .
ولو كان المؤثر في الحكم هو ذهاب القول وحده ، لكان ذكر هذه الأمور عبثا ولغوا ، ولما ساغ له أن يعلق انتفاء الإيمان على ذهاب العمل الظاهر وحده في مواضع.
الخامس : أن قول الحلبي : " فالأعمال الظاهرة – طاعات ومعاص – وجودا وعدما – متعلقة بالإيمان المطلق ، لا مطلق الإيمان ؛ فتنبه …".
خطأ ظاهر ، بناه على قول شيخ الإسلام : " ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ؛ وهي تصديق لما في القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ".
والحق أنه لم يفهم كلام شيخ الإسلام ، فإن قول اللسان – أيضا – شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ، كما في حديث شعب الإيمان !!
وهكذا القول في " التصديق " و " عمل القلب " فكلاهما من شعب الإيمان المطلق … الخ. فانتبه !
السادس : أن قول الحلبي عن التلازم بين الظاهر والباطن أنه أصل أصول أهل السنة التي بها فارقوا المرجئة ، وأنه " لجهل ( البعض ) بحقيقة قاعدة ( التلازم ) بين شعب الإيمان – بأنواعها – قوة وضعفا ، وجودا وانتفاء – وعدم استيعابها - ، أوقعهم في الخلط والخبط في هذه المسألة الدقيقة ، وعدم الضبط لها ، أو معرفة ما ينبني عليها !!"
حق وصدق ، وهو ما نبهت عليه في بداية هذا البحث ، وأعيد بعضه هنا ليظهر جليا أن " الحلبي " لم يفهم هذا " التلازم " ولم " يستوعبه " فأقر به " اسما " وأنكره حقيقة .
قلت :
" ينبغي أن يعلم أن الاعتراف بهذا التلازم وفهمه والقول بموجبه ، هو ما يميز السني من المرجيء ، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ، وبين أن المرجئة يرون العمل ثمرة ، لا لازما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم على وجوه غلط المرجئة في الإيمان كما الفتاوى ج 7 ص 204 :
( الثالث : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ، ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا : رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان ، يقولون : هذا مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار . )
فتأمل قول شيخ الإسلام : (( ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له)) .
فهذا فرقان ما بين المرجئة والسنة . وسيأتي بيان المراد بإيمان القلب التام.

وقال شيخ الإسلام في بيان هذا التلازم :
مجموع الفتاوى ( 7 / 541)
( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما فى القلب ولازمه ودليله ومعلوله كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما فى القلب فكل منهما يؤثر فى الآخر لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله والأصل يثبت ويقوى بفرعه ).

والآن أسوق إليك مواضع مهمة من كلام شيخ الإسلام وغيره :


1- بيان شيخ الإسلام أن مقتضى التلازم انعدام الإيمان بانعدام هذه الأعمال :
قال شيخ الإسلام ( 7/577)

( وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ; فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل : حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك )).
فانظر قوله : كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم.
وقوله : فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن.
وقوله مبينا ما يترتب على القول بعدم التلازم : وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم .
فيا عجبا من إخواننا الذين يقرون بالتلازم ، ثم يقولون إن عدم الظاهر لا يدل على عدم الباطن ! ".

قول شيخ الإسلام ( 7/522)
(إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف)
استشهد به الحلبي في " التعريف والتنبئة " ص 34 ليؤكد فهمه الخاطيء لقاعدة التلازم بين الظاهر والباطن ، وقد سبق نقل كلامه.
واستشهد به العنبري في أصل كتابه (1/113، 114)
ومما قال : " فإذا لم يحصل اللازم – أعني أعمال الجوارح – دل على ضعف الملزوم لا على انتفائه ، إذ إن أعمال القلوب وأعمال الجوارح تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف".
والجواب من وجوه :
الأول : أنه يتعين معرفة مراد شيخ الإسلام ب " شعب الإيمان " ، فإن صنيع القوم يوهم أنه يتحدث عن الظاهر والباطن ، أو قول اللسان وقول القلب ، وعمل القلب وعمل الجوارح !
ومن ظن ذلك ، ورتب عليه اعتقاد أن عمل القلب – في حالة الضعف – يمكن أن يوجد بلا عمل جارحة ؛ فقد أخطأ.
بل عدم اللازم الظاهر يدل على انتفاء الملزوم الباطن – كما قرره شيخ الإسلام في مواضع.
وهذا الفهم نتج من اختزال " شعب الإيمان " التي هي بضع وسبعون شعبة ، إلى أربع شعب !
لقد كان شيخ الإسلام رحمه الله يرد على الخوارج والمعتزلة ، الذين قالوا ( الطاعات كلها من الإيمان ، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان ، فذهب سائره ، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان" ( 7/510).
وبين شيخ الإسلام أن جماع شبهتهم في ذلك ( أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها ، كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة ، وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا ).( 7/511).
فبين شيخ الإسلام أن الكلام في طرفين :
( أحدهما : أن شعب الإيمان هل هي متلازمة في الانتفاء ؟
والثاني : هل هي تلازمة في الثبوت ؟) ( 7/513).

قال رحمه الله (7/514)
(ما " الأول " فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها ، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها .
وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة بل قد تبقى التسعة فإذا زال أحد جزأي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر ، لكن أكثر ما يقولون: زالت الصورة المجتمعة وزالت الهيئة الاجتماعية وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين .
فيقال : أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقي على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد : إن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقي مجموعا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء ).
ثم قال :
( وأما زوال الاسم فيقال لهم هذا : " أولا " بحث لفظي إذا قدر أن الإيمان له أبعاد وشعب ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه :" الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب ، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء . فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت ).
ثم بين رحمه الله أن المركبات على وجهين : منها : ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم ، كالعشرة والسكنجبين.
ومنها : ما لا يكون كذلك ، بل يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء ، كالبحر والنهر والمدينة والقرية والمسجد ، فإنه ينقص كثير من أجزائها ، والاسم باق.
وكذلك ألفاظ : العبادة والطاعة والخير والحسنة والإحسان والصدقة والعلم ، والقرآن ، والقول ، والكلام والمنطق ، وأسماء الحيوان والنبات ، كلفظ الشجرة يقال على جملتها ، ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق.
ثم قال ( 5/517)
(وإذا كانت المركبات على نوعين بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم ، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي . ومعلوم أن اسم " الإيمان " من هذا الباب ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان ).
(قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان " فأخبر أنه يتبعض، ويبقى بعضه وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن والصلاة والحج ونحو ذلك.
أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل كرمي الجمار والمبيت بمنى ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب كرفع الصوت بالإهلال والرمل والاضطباع في الطواف الأول . وكذلك الصلاة …).
ومن هذا النقل الطويل يتضح أن شيخ الإسلام يتحدث عن شعب الإيمان بمعناها الشامل الواسع ، مبينا أنها لا تتلازم في الانتفاء ، فزوال إماطة الأذى عن الطريق ، لا يزيل اسم الإيمان ولا حقيقته.
ثم انتقل شيخ الإسلام للحديث عن الطرف الثاني : وهو : هل شعب الإيمان متلازمة في الثبوت ، أي هل يلزم من وجود بعض الشعب وجود سائرها ؟
قال ( 7/522)
( الأصل الثاني : أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف، فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله . كما قال تعالى : " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " وقال : " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه " . وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبا ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة "
وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك . فقال : لسعد بن معاذ : كذبت والله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله . قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ).
فلم يقل شيخ الإسلام إنه في حال القوة يتلازم وجود عمل الجوارح ، مع بقية الأركان ، بينما في حال الضعف قد توجد الأركان الثلاثة وينعدم عمل الجوارح بالكلية !
هذا ما يحاول أن يثبته المخالف ، وهو فهم لا صلة له بكلام شيخ الإسلام .
وتأمل قوله " أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة "
فلو كان الحديث عن " الأركان الأربعة السابقة " لما كان لقوله " قد" محل من الإعراب!
إذ عند القوة ، لابد أن يوجد قول اللسان .. والتصديق .. وعمل القلب .. وما شاء الله من أعمال الجوارح !
فالأمر على ما أوضحت آنفا ، أنه رحمه الله يتحدث عن شعب الإيمان العامة الشاملة .
وتأمل ما ذكره من المثال، فإنه لم يتحدث عن زوال عمل الجوارح ، لا بعضا ولا كلا ، ولم يتحدث عن زوال عمل القلب أيضا !
وإنما بين أن شعب الإيمان – في حال الضعف – لا تتلازم في الثبوت ، - كما أنها قد لا تتلازم عند القوة أيضا - فيوجد التصديق ، ومحبة الله ورسوله ، مع بغض أعداء الله ، لكنه بغض ناقص ، تجامعه " مودة " لأجل رحم أو حاجة .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا فهمهم ل " شعب الإيمان " وأن المراد بها الأجزاء الأربعة ، فنقول: ما وجه " الجناية " على عمل الجوارح خاصة ؟!
وهل جانب الصواب ، من قال : عند الضعف ، قد ينتفي عمل القلب ، وينجو المرء بالتصديق وقول اللسان ؟
أو قال : قد يضعف الإيمان إلى درجة لا يظهر معها قول اللسان ، مع استقرار الإيمان في القلب ؟
وحجة الجميع : إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف !!
الوجه الثالث : أن المخالف أعرض عما في هذا الفصل من كلام واضح بين ، يؤكد مسألة التلازم بين الظاهر والباطن .
قال شيخ الإسلام ( 7/518)
(وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق ، لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمدا رسولا إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت ولا حرم عليهم الخمر والربا ونحو ذلك ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك : كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه ولو اقتصر عليه كان كافرا).
وقال في ( 7/527)
(أما " الإرادة الجازمة " فلا بد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور ولو بنظرة أو حركة رأس أو لفظة أو خطوة أو تحريك بدن).
وقال في (7/540)
(فالإيمان لا بد فيه من هذين الأصلين : التصديق بالحق والمحبة له، فهذا أصل القول وهذا أصل العمل . ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر ، والعمل الظاهر ضرورة كما تقدم).
وانتبه ! إنه يستلزم – ضرورة – الأمرين معا : القول الظاهر ، والعمل الظاهر.
وقال في (7/541)
(وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة ، والأعمال الظاهرة.
فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ، ودليله ومعلوله ، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب. فكل منهما يؤثر في الآخر لكن القلب هو الأصل ، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه) .