بسم الله الرحمن الرحيم
[ مشروعية التطوع بالحج والعمرة وزيارة المسجدين ]
قال الشيخ سليمان بن سحمان: اعلم وفقني الله وإياك لمعرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل المؤمنين، أنه ليس مع من خالف في مسألة التطوع بالحج والعمرة، وزيارة المسجدين، وقال بالمنع من ذلك، إلا ما ورد من النهي العام عن مجامعة المشركين ومساكنتهم، والإقامة بين ظهرانيهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: ولِم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما " ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " ، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في المنع من الإقامة. وقد أجمع العلماء على ذلك إلا مع إظهار الدين، وهذا حق لا مرية فيه، وبه ندين الله؛ وقد خالف في ذلك من أعمى الله بصيرة قلبه، واتبع هواه. { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } [سورة القصص آية: 50].
ولكن قد ورد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخصص المساجد الثلاثة، ويخرجها عن عموم النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: " لا تشد
الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " الحديث. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال، وإعمال المطي إلى غير هذه المساجد الثلاثة نهياً عاماً، وأخبر أن الصلاة الواحدة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه. وأخبر صلى الله عليه وسلم " أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " ، وقال صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين العمرة والحج، فإنهما ينفيان الفقر " ، ولما قال سراقة بن مالك: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل لأبد الأبد " 4، فأطلق صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يخصص زماناً دون زمان، ولا وقتاً دون وقت، ولا حالاً دون حال، بل أطلق وعمم.
وقد علم الله أنه سيكون فيها كفر وشرك، ولكن لما كان لهذه المساجد الثلاثة من المزية والفضل ما خصها الله به من بين سائر مساجد الأرض وبقاعها، لأن ذلك الفضل والمزية وصف لازم لها لا ينفك عنها أبداً، كانت مستثناة من عموم النهي، بخلاف سائر المساجد والبقاع الفاضلة، كالثغور فإن ذلك الوصف عارض لها؛ فإن كون البقعة ثغراً للمسلمين، أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لا اللازمة لها، بمنْزلة كونها دار إسلام، أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم، أو دار جهل ونفاق، فكذلك تختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها لا يمكن إخراجها عن ذلك، كما ذكره شيخ الإسلام في بعض أجوبته.
إذا عرفت ذلك: فإنشاء السفر للحج والعمرة، وزيارة المسجدين للصلاة فيها، سفر مشروع مطلوب مندوب إليه، محبوب لله مرضي له، لعبادة الله فيها، وإقامة ما شرعه الله ورسوله فيها، ولما في ذلك من الفضل والأجر العظيم، والعبادات التي لا يصح الإتيان بها إلا فيها، ولا يمكن فعلها في غيرها، كالطواف بالبيت والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والوقوف بالمشعر الحرام، وإراقة الدماء في أيام منى، إلى غير ذلك من إقامة شعائر الله. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سورة الحج آية: 32]. فمن رام تعطيل ما شرعه الله ورسوله، وحرم على الناس الحج والعمرة، وزيارة المسجدين، بغير دليل شرعي يجب التسليم له، فقد ظلم نفسه؛ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [سورة البقرة آية: 114]، وهذا بخلاف إنشاء السفر للتجارة، فإن ذلك ليس مطلوباً شرعاً مندوباً إليه، مرغباً فيه محبوباً لله، بل مباحاً في الجملة; فإن أفضى إلى معصية، كان ذلك ممنوعاً شرعاً لمن لم يقدر على إظهار دينه.
وقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً، في مسألة الإقامة بين أظهر المشركين والسفر إلى ديارهم، فمنعوا منها إلا مع إظهار الدين، وبعضهم منع مطلقاً، ولم يمنع أحد من العلماء في قديم الدهر وحديثه، من التطوع بالحج والعمرة، وزيارة المسجدين للصلاة فيهما، إلا إذا أفضى إلى إسقاط فرائض الله، كترك الصلاة وإضاعتها، أو إضاعة أوقاتها
وجُمعها، على غير الوجه الشرعي؛ فقد ذكر بعض العلماء: أن ذلك حرام بالإجماع، ومن تحقق أن ذلك يصيبه في حجه، حرم عليه الحج، رجلاً كان أو امرأة. وأما كونه لا يقدر على إظهار دينه فيها، فهذا لا يمنع من إقامة ما شرعه الله ورسوله، من الحج والعمرة؛ ولا يمكن أحداً من الناس أن يحرم على الناس، ما لم يحرمه الله ورسوله، بمفهومه، من غير دليل شرعي يجب المصير إليه، والتسليم له، خصوصاً إذا عجز عن إظهار دينه. فمن حج أو اعتمر، فعليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يفعل ما أمكنه من إظهار دينه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ والقول بالمنع من التطوع بالحج والعمرة، قول مبتدع محدث، لم يقل به أحد فيما نعلم من علماء الأمة وأئمتها.
[ الاستنابة في الحج ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الاستنابة... إلخ؟
فأجاب: اعلم، وفقني الله وإياك لطاعته، أن من استكملت فيه شروط وجوب الحج لا يخلو، إما أن يكون صحيح البدن وهو الغالب، فيلزمه السعي إلى الحج فوراً إذا تمت شروطه، كأمن الطريق، وإما أن يكون مريضاً ونحوه، والمريض إما أن يرجى برؤه فلا يجوز له الاستنابة بحال، فإن برئ حج بنفسه، وإن مات أقيم من يحج عنه من رأس ماله. وإن كان المريض لا يرجى برؤه، كمرض السل في آخره، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه، كالكبير الذي يشق
عليه السفر مشقة غير محتملة؛ قال في الإنصاف: وإن عجز عن السعي لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه من بلده. انتهى.
قلت: وأصله: حديث ابن عباس: " أن امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً " الحديث، وهذا الحكم خاص بمن كان بعيداً عن الحرم، ولم يتلبس بالإحرام من الميقات; أما من أحرم منه، فليس له أن يستنيب من يحج عنه بحال، إذا أحصر بعدو، أو مرض ونحوه، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه أجاز لمن أحصر أن يستنيب، فيما أعلم؛ وحكم من حصره عدو، أو ضل عن الطريق: التحلل بهدي إن وجده، وإلا صام عشرة أيام، للآية الكريمة; هذا إذا لم يشترط في ابتداء إحرامه.
وهل يجوز له إذا لم يشترط، أن يتحلل بالمرض وذهاب النفقة؟ المذهب أنه لا يحل حتى يقدر على البيت؛ فإن فاته الحج تحلل بعمرة، وفيه احتمال يتحلل كمن حصره عدو؛ قال في الإنصاف: وهو رواية اختارها الشيخ تقي الدين. انتهى. وهذا فيمن إحرامه تام; أما من أحصر عن طواف الإفاضة فإنه لا يتحلل حتى يطوف؛ قال في المنتهى وشرحه: ومن أحصر عن طواف الإفاضة فقط، لم يتحلل حتى يطوف ويسعى إن لم يكن سعى، وكذا لو أحصر عن السعي فقط، لأن الشرع ورد بالتحلل بإحرام تام، يحرم
جميع المحظورات؛ وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به، ومتى زال الحصر أتى بالطواف والسعي إن لم يكن سعى وتم حجه.
إذا علمت ذلك، فالواجب على من ينتسب إلى معرفة شيء من أحكام الشرع، أن لا يأتي في مسألة حتى يعرف حكمها بالنص عليها في كلام العلماء، رحمهم الله. فعلى هذا، لا تصح الاستنابة عن طواف الإفاضة بحال، ويلزم من لم يطف للإفاضة بنفسه أن يعتزل النساء حتى يرجع، فيحرم من الميقات بعمرة، فإذا طاف طواف العمرة وسعى، طاف لحجه وسعى إن لم يكن سعى.
وأجاب أيضاً: وقع من بعض الحاج أنهم تركوا طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج الأربعة التي لا يتم الحج إلا بالإتيان بجميعها؛ وبعض من تركه للمرض أو خوفه، استأجر من يطوف عنه، وهذا لا يجزي عن أحد بكل حال، لوجوه منها: أن العلماء، رحمهم الله، نصوا على أنه لا يجوز الاستئجار على فعل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، كالصلاة والطواف ونحو ذلك; ومنها: أنه وإن جاز للمريض مرضاً لا يرجى برؤه، كمرض السل في آخره أن يقيم من يحج عنه، فمحله إذا كان في بلده، لأنه لا يحتمل مشقة طول السفر، بخلاف من أحرم من الميقات، فإنه لا يجوز له الاستنابة، سواء كان مرضه يرجى برؤه أم لا؛ ولو أن من وجب عليه الحج، وهو في بلده مرض بها، مثل هذا المرض
الذي وقع بمكة، فإنه لا يستنيب ما دام حياً، لأن مثل هذا المرض إن سلم صاحبه من الموت عوفي قريباً منه غالباً، فلا يجوز أن يستنيب داخل مكة، هذا لا يقوله أحد من العلماء فيما نعلم.
وإنما اختلف العلماء في مريض أحصر عن الحج بمرضه، فالأصح في مذهب أحمد: أنه لا يحل حتى يقدر على البيت، فإن فاته الحج تحلل بعمرة؛ هذا إذا كان إحرامه تاماً لم يتحلل التحلل الأول، أما من أحصر عن طواف الإفاضة، أو السعي، أو هما، فإنه لا يتحلل حتى يأتي بما بقي عليه من طواف أو سعي؛ نص عليه في المنتهى وشرحه; وهو الصحيح في مذهب الإمام أحمد.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن مرض فلم يطف طواف الإفاضة... إلخ؟
فأجاب: من مرض فلم يطف طواف الإفاضة، فمثل هذا يطاف به محمولاً، ولا يستنيب إن كان حجه فرضاً، فإن كان نفلاً جاز له أن يستنيب مطلقاً. والذي توفي وباق عليه بعض مناسك الحج، فإنها تفعل عنه بعد موته، ولا فرق بين الفرض والنفل، ولا كونه عن نفسه أو غيره.
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف: هل يصح التوكيل في طواف الوداع إذا كان الحج فريضة؟ مثل إذا أصاب إنساناً مرض ونحوه؟
فأجاب: لا يصح التوكيل في طواف الوداع إذا كان فريضة، بل يطاف به راكباً أو محمولاً، فإن لم يفعل فعليه دم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن السفر بالأجنبية... إلخ؟
فأجاب: الرجل الذي يسافر بامرأة أجنبية يؤدب، لأنه لا يجوز أن يسافر بها بلا محرم.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: ماذا على المرأة إذا سافرت مسافة قصر بغير محرم؟
فأجاب: إن تابت فالتوبة تجُبُّ ما قبلها، وإن لم تتب زجرت بما يردعها هي وأمثالها.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه عبد الله: عمن توفي ووجد بعده ثمانية حمران... إلخ؟
فأجابا: الرجل الذي مات عندكم وهو فقير ساقط عنه الحج في حياته، وعند موته حصل له ثمانية حمران، من ناس علمهم القرآن، وقال: اجعلوها في حجة، وله ورثة، فتكون الحمران بين الورثة.
وسئل: إذا مات الرجل وهو غني، ولم يحج ولم يوص بحجة، هل تؤخذ من المال ويحج عنه؟ أم تسقط؟
فأجاب: يؤخذ قدرها من ماله، وينظر في قرابته من يحج لوجه الله، ويعطى الدراهم يستعين بها.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عمن توفي وخلف قدر خمسة عشر أو عشرين ريالاً، وأوصى بحجة، وعمن لم يوص بشيء، هل تقدم الحجة على الميراث والحالة هذه، أم لا؟
فأجاب: لا يخفاك كلام أهل العلم، ولكن مشكل علي كون مثل هذا يؤخذ من ماله، وتصح الوصية به والحالة هذه؛ والذي ذكره أهل العلم: أن من شروط وجوب الحج، أن يملك زاداً وراحلة، وما يحتاج إليه في سفره، بشرط أن يكون ذلك فاضلاً عن قوته وقوت عياله، حتى قال بها أكثر الحنابلة على الدوام، وفاضلاً عن وفاء دينه، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، أو لله أو لغيره. وأتحرى أن مثل هذا الذي تذكر ما يوجد فيهم هذه الشروط، وعلى كل حال لا يؤخذ من مالهم شيء؛ ولو أوصى به أحد منهم ما صحت وصيته.
وأجاب أيضاً: الذي مات وعليه حج، يحج عنه من ماله.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما من مات ولم يحج، فإن كان قد وجب عليه الحج قبل موته، لاستكمال شروط الوجوب في حقه مع سعة الوقت، وجب أن يحج عنه من رأس ماله، أوصى به أو لا. وإن كان الميت لم يجب عليه الحج قبل موته، لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقه في حياته، لم يجب أن يحج عنه من ماله إن لم يوص به، فإن أوصى به فمن ثلثه؛ هكذا ذكره أصحابنا وغيرهم.
قال أصحابنا: من لزمه حج أو عمرة، فتوفي قبله، وجب قضاؤه، فرط أو لا، من رأس ماله، كالزكاة والدين، ولو لم يوص به؛ واحتجوا بحديث ابن عباس، رضي الله عنهما: " أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا الله، فالله أحق بالوفاء " 1، رواه البخاري.
وسئل: إذا مات وفي ذمته دين وحجة الإسلام، وماله لا يفي بهما؟
فأجاب: وأما من مات وعليه حجة الإسلام، بأن يكون قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه، حج عنه من ماله. فإن كان عليه دين وماله لا يفي، فالدين ونفقة الحج سواء، يقسم بالحصص. انتهى.
وأما مسألة أخذ الجعالة على الحج، فاختلف العلماء، رحمهم الله فيها، وأبطل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، منها ما أبطله السلف، وهو أنه لا يحج إلا لأن يعطى أجرة أو جعلاً على ذلك، فهذا عمله باطل ولا ثواب له في الآخرة، لأنه قصد بعمله الدنيا؛ ومن قصد بعمله الذي يبتغى به وجه الله الدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب. وصحح في الشرح الكبير والمغني: أنه لا يجوز الاستئجار للحج، قالا: وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق، لأنها عبادة يختص
فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة.
قال الشيخ تقي الدين: والمستحب أن يأخذ الحاج من غيره ليحج، لا أن يحج ليأخذ، ومثله: كرزق أخذ على عمل صالح، يفرق بين من قصد الدين، والدنيا وسيلة، والأشبه: أن عكسه ليس له في الآخرة من نصيب.
والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يجز الإجارة عليها، لأنها بالعوض تقع غير قربة؛ وإنما الأعمال بالنيات، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه; ومن جوز الإجارة، جوز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها، لما فيها من نفع المستأجر. انتهى. ذكره عنه في الاختيارات.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما المال الذي يجعل لمن ينوب في الحج، فإن أخذه ليحج صح، وأما إذا حج ليأخذ فلا يصح؛ كذلك ما يصح له أن يوكل غيره، لا في بلد الميت ولا في غيرها، فإن استأجر من يحج بدله من بلد هي أقرب إلى مكة من بلد الميت، فهذا لا يصح أيضاً. وقولك: من يأخذ ذلك لاشتياقه إلى البيت ومشاعر الحج، وللعمل الصالح، لما فيه من زيادة الفضل، فهذا هو الذي تصح نيابته كما تقدم، فإن كان قصده التوصل إلى البيت، فله
أجر لقصده ذلك، وما فعله غير المناسك التي هي أركان الحج، وواجبات، وسنن، فثوابه له، وأما الأركان والواجبات والسنن، فثواب ذلك يرجع للذي هو نائب عنه، وفضل الله واسع. وأما إذا أخذ مالاً من عمان لصاحب له في نجد، فلا يجوز، لأن الواجب الحج للميت من بلده التي هي أبعد من مكة.
وقال أيضاً: وقد نشرت لطلبة العلم، ولمن سألني من عوام المسلمين، أنها لا تصح النيابة في الحج، إذا أخذ ما أوصى به الموصي، إلا إذا أخذ ليحج، فيكون القصد أن يتوصل بما يأخذه إلى بيت الله، رغبة في رؤية البيت والطواف به، وكثرة ثواب العمل فيه، كما قال الخليل عليه السلام{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [سورة إبراهيم آية: 37]. وبعض الناس مولع بزيارة هذا البيت، فيطلب ما يتوصل به إليه، فتصح نيابته في الحج والعمرة على هذا الوجه، وأما إذا حج ليأخذ الأجرة فلا يصح حجه، وإن سماه بعض الفقهاء جعلاً، فهو استئجار بلا ريب؛ وقد نص الفقهاء، رحمهم الله، على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على عمل يكون قربة يتقرب به إلى الله، كالأذان والصلاة؛ وأظن أكثر من يسافر لأخذ الوصايا بالحج إنما قصدوا هذا الثاني، والله أعلم بما تنطوي عليه الضمائر من الإرادات والنيات والمقاصد. فهذا الذي ذكرت لك هو الذي نأخذ به، ونفتي به المستفتين، ونبينه للجاهلين بحسب القدرة والطاقة.
وسئل بعضهم: عن الحج عن الغير لوفاء دينه بما يحصل له من الجعل؟ فأجاب: قد اختلف العلماء أيهما أفضل، والأظهر أن الأفضل الترك؛ فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة ليس من أعمال السلف، حتى قال الإمام أحمد، رحمه الله: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحد بشيء، ولو كان هذا العمل صالحاً لكانوا إليه مبادرين. والارتزاق بأعمال البر ليس من أعمال الصالحين، أعني إذا كان مقصوده بالعمل اكتساب المال. وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي دينه به، خيراً له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه. ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين: إما رجل يحب الحج ويودّ رؤية المشاعر وهو عاجز، فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج، أو رجل يحب أن تبرأ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة كانت بينهما، أو لرحمة عامة المؤمنين، أو نحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك.
وجماع هذا: أن المستحب أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ، هكذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم أو يعلم أو ليجاهد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل الذين يُقرئون أمتي ويأخذون أجورهم، كمثل أم موسى في الإرضاع "، بخلاف المستأجرة على الرضاع، إذا كانت أجنبية; وأما من اشتغل بصورة العمل
الصالح لأن يرتزق، فهذا من أعمال الدنيا؛ ففرق بين أن يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصده والدين وسيلة، والأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها.
وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: وما ذكرت من أخذ النيابة من أناس من أهل الكويت، تعرفهم وتعرف عقائدهم، وأنهم على عقائد أهل السنة، وأنك ما أخذت إلا من أجل الحاجة، مستأنساً بكلام شيخ الإسلام في الاختيارات، بأن النيابة تجوز مع الحاجة، وأن بعض من لديك من الإخوان أنكر ذلك، وقال: ما في الكويت إلا مشرك، أو أخو المشرك، فاعلم: أن أخذ النيابة فيها ما فيها، وكلام أهل التحقيق فيها معروف، كما هو مبسوط في رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن سحيم، وجواب ابن غنام عن ذلك؛ لكن إذا كان المحجوج عنه مسلماً، تعرفون عقيدته وديانته، وأنه ليس بمشرك، فلا بأس بها على الوجه الذي أباحه العلماء.
فإن الذي عليه سائر العلماء من أهل السنة والجماعة، أن الإنسان إذا دخل في الإسلام، وحكم بإسلامه، لا يخرجه من الإسلام ما يفعله من الكبائر، كالسرقة والزنى وشرب المسكر، وأخذ الأموال ظلماً وعدواناً; وإنما يخرجه من الإسلام إلى الكفر: الشرك بالله، وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين، بعد معرفته لذلك، وإقامة الحجة
عليه؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [سورة النساء آية: 48]، فثبت بهذه الآية المحكمة: أن جميع الذنوب ما خلا الشرك بالله متعلقة بالمشيئة، وقد يغفرها الله لمن يشاء من عباده؛ وأما الشرك بالله فلا يغفره إلا بالتوبة، ومن مات عليه فهو من أهل النار المخلدين فيها، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، ولا ينفع مع الشرك بالله عمل البتة.
فإذا عرفت هذا، فهذا الرجل الذي من أهل الكويت، عاص لله بإقامته في هذا البلد الذي هو بلد كفر، لا يجوز للمسلم الإقامة فيه، لكنه بهذه الإقامة إنما يكون عاصياً، ولا يكفر بهذا الذنب إلا جنس الخوارج المكفرين بالذنوب. فقول القائل: إنه من إخوان المشركين بهذه الإقامة، خطأ محض، وأخاف أن يكون قد دخل في جملة من يكفِّر بالذنوب، نعوذ بالله من القول على الله بلا علم، ومن الجراءة على الأحكام الشرعية بلا دليل.
وأخذ النيابة عن المسلم الموحّد، المؤمن بالله ورسوله على الوجه الذي أباحه العلماء لا مانع منه ولا محذور فيه، وإن كان عاصياً أو فاسقاً، أو ظالماً أو مكّاساً أو غير ذلك من الذنوب التي لا تخرجه من الملة; ومعاداة من أخذها، ومقاطعته، والتفريق بين الإخوان واختلاف كلمتهم، مما يوجب التباغض والتشاحن والتدابر، لا يجوز، وهو مما يسخط الله ولا يحبه؛ ولا ينبغي هذا بين الإخوان، بل هذا
من دسائس الشيطان أخرجها في هذا القالب، والله المستعان.