النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    106

    تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران

    لما رأيت بعض المعترضين على ردود أهل الأثر على من حاد عن الجادة، وطالبوهم بالذهاب لأماكن تجمعهم ومناقشتهم، أحببت نقل هذه الرسالة:

    تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران

    للشيخ حمود بن عبد الله التويجري

    بسم لله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي منّ على أوليائه بالتأييد والإسعاد ، وقضى على أعدائه بالخذلان والإبعاد ، ونهى عباده عن التقرب إليهم بالموالاة والوداد ، وشدد في ذلك وأبدى فيه وأعاد ، أحمده تعالى على نعمه التي لا يحصى لها تعداد ، وأشكره وكلما شكر زاد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أَدّخرها ليوم التناد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صفوة العباد ، أرسله الله رحمة للعالمين وحجة على أهل الشقاق والعناد ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وبالغ في البيان والإرشاد ، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأمجاد ، الذين جاهدوا في الله حـق الجهاد ، وصارموا أعداء الله وجالدوهم غاية الجلاد ، حتى ملأ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها رباها والوهاد ، وعلى من تبعهم بإحسان من حاضر وباد ، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :

    فهذه نبذة وجيزة في بيان تحريم مـوالاة أعـداء الله من المرتدين والمنافقين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أصناف المشركين ، والتحذير من موادتهم وتعظيمهم وبداءتهم بالسلام ، وتقديمهم في المجالس وغير ذلك مما فيه تعظيم لهـم ، بالقول أو بالفعل .

    دعاني إلى جمعها ما وقع فيه كثير من المسلمين في زماننا من تعظيم أعداء الله تعالى وموادتهم واتباع سننهم حذو النعل بالنعل ، والمقصود من ذلك النصيحة للمسلمين وتحذيرهم من سوء عاقبة التذلل لأعداء الله تعالى وموالاتهم وموادتهم .

    والله المسؤول أن يصلح حالي وأحوال المسلمين ، وأن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال ، وأن يجنبنا طريق أهل الغي والضلال ، إنه قريب مجيب .

    فصل

    وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن موالاة أعدائه في مواضع كثيرة من القرآن ، وأخبر أن موالاتهم تنافي الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وأنها سبب للفتنة والفساد في الأرض ، وأن من والاهم ووادهم فليس من الله في شيء وأنه من الظالمين الضالين عن سواء السبيل ، وأنه مستوجب لسخط الله وأليم عقابه في الآخرة ، والآيات في هذا كثيرة .

    الأولى منها : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمــــودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } إلى قوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } ثم حث تبارك وتعالى عباده المؤمنين على متابعة خليله إبراهيم والتأسي به وبمن آمن معه في مصارمتهم لأعداء الله تعالى والتبري منهم ومما يعبدون من دون الله تعالى وإظهار العداوة لهم والبغضاء ما داموا على الكفر بالله ، فقال الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننـا وبينكم العداوة والبغضـاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } ومن لم يتأسى بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في مصارمة أعداء الله تعالى وإظهار العداوة والبغضاء لهم ، فله من سفه النفس بقدر ما ترك من ملة إبراهيم الخليل ، كما قال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } .

    الآية الثانية : قوله تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } .

    الآية الثالثة : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخـرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .

    الآية الرابعة : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ثم حذر تبارك وتعالى من موالاتهم بأبلغ التحذير وتوعد على ذلك بأشد الوعيد فقال تعالى : { ومن يتولـهم منكم فإنّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظـالميـن } قال بعض المفسرين : فيه زجر شديد عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة .

    قلت : وأقل الأحوال في هذه الآية أنها تقضي تحريم موالاة أعداء الله تعالى وإن كان ظاهرها يقتضي كفر من تولاهم ، ولهذا روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر وتلا هذه الآية . وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال : قال عبدالله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر . قال : فظنناه يريد هذه الآية .

    وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصـرانيا قال : مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ألا اتخذت حنيفا . قال : قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه . قال : لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله .

    وورد على عمر رضي الله عنه كتاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : أما بعد يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبا نصرانيا لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك . فكتب إليه : عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني ، أما بعد فإن النصراني قد مات ، والسلام . يعني يقدر موت هذا النصراني فما كان معاوية صانعا بعد موته فليصنعه الآن ، وهذا أمر من عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن أعداء الله ولو كانوا في الحذق والضبط ما كانوا .

    وفي قول عمر رضي الله عنه دليل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يولوا في أعمالهم أحدا من أعداء الله تعالى لأن في ذلك إكراما لهم وإعزازا وإدناءا وهو خلاف ما شرعه الله من إهانتهم وإذلالهم وإقصائهم .

    ثم قال تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } قال ابن كثير رحمه الله تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض } أي شك وريب ونفاق { يسارعون فيهم } أي يبادرون في مولاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك ، قال الله تعالى : { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } .

    الآية الخامسة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وهذا نهي من الله تبارك وتعالى عن موالاة أعدائه من أهل الكتابين وغيرهم من سائر الكفار وإخبارا منه تعالى بأن موالاتهـم تنافي الإيمـان ، ولهذا قال تعالى : { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } قال أبو جعفر بن جرير في تفسير هذه الآية : لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفاء فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة اهـ .

    الآية السادسة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره : ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم , وقوله : { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } أي حجة عليكم في عقوبته إياكم اهـ . وقال أبو جعفر بن جرير يقول : لا تعرّضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به اهـ .

    الآية السابعة : قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } وهذا زجر بليغ وتهديد شديد عن موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم ، فينبغي للمسلم أن يحذر أشد الحذر من أن يكون من الذين يحسبون أنهم على شيء وهو من الخاسرين الذين ليسوا من الله في شيء عياذا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه . قال المناوي في شرح الجامع الصغير : الإقبال على عدو الله وموالاته توجب إعراضه عن الله ومن أعرض عنه تولاه الشيطان ونقله إلى الكفر اهـ . قال الزمخشري : وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان اهـ .

    ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث في الكافية الشافية يقول : أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمكان وكذا تعادي جاهدا أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان

    وقال يزيد بن الحكم الثقفي :

    تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس الفعل منك بمستوي

    وقال غيره :

    تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك* عنك بعازب

    ثم قال تبارك وتعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره معنى الآية : أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم ، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما أو يظهر الكفار على عورة المسلمين . والتقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل وسلامة النية ، قال الله تعالى : { إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم اهـ . وروى أبو نعيم في الحلية عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قيل له ما التقاة ؟ ، قال : أن يخاف جبارا عنيدا أن يفرط عليه أو أن يطغى .

    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى معلوم : أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم ، والبراءة منهم ، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم اهـ .

    وقوله : ( ويحذركم الله نفسه ) أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة أعدائه وارتكاب نهيه ومخالفة أمره . قال أبو جعفر بن جرير يعني بذلك متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نالكم من عقاب ربكم مالا قبل لكم به يقول فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه فإنه شديد العقاب اهـ . الآية الثامنة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } وهذا أمر من الله تعالى بمصارمة أعدائه ولو كانوا أقرب قريب كالآباء والأبناء والإخوان والعشيرة ، وفي النص على الأقارب دليل على أن مصارمة من سواهم من الكفار مطلوبة بطريق الأولى والأحرى .

    الآية التاسعة : قوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } قال البغوي رحمه الله تعالى : أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار وأنّ من كان مؤمنا لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته اهـ . وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى : أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا فمن واد الكفار فليس بمؤمن اهـ .

    ثم أثنى الله تبارك وتعالى على الذين يصارمون أعداءه ويتقربون إليه ببغضهم ومبايبنتهم وأثبت لهم الإيمان والتأييد منه ووعدهم الثواب الجزيل في الـدار الآخـرة مـع الرضى عنهم فقال تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } وقد أورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية ما رواه نعيم بن حماد حدثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيته إليَّ : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله } ) .

    الآية العاشرة : قوله تعالى : { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } وهذا إخبار من الله تبارك تعالى بأن موالاة الكفار تنافي الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، وتوجب سخط الله وأليم عقابه ، وفي هذا أبلغ زجر وتحذير من موالاتهم وموادتهم .

    قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى : بيّن سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم اهـ .

    الآية الحادية عشرة : قوله تعالى : { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } وروى عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن المسيب قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من اعتز بالعبد أذله الله ) .

    الآيـة الثانية عشرة : قوله تعالى : { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخــذوهــم واقتلوهــم حيث وجــدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } .

    الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آوو ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } إلى قوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } قال البغوي : قال ابن اسحاق : جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ، ثم قال : { إلا تفعلوه } وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن : { تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } فالفتنة في الأرض قوة الكفر ، والفساد الكبير ضعف الإسلام اهـ .

    وقال ابن كثير : أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلاّ وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل اهـ . الآيـة الرابعة عشـرة : قوله تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } وهذا نهي من الله تبارك وتعالى عن الركون إلى الظالمين من الكفار والمنافقين والفساق والفجار ، وإخبار منه تعالى بأن الركون إليهم موجب للعذاب في الدار الآخرة . قال الجوهري والهروي وغيرهما من أهل اللغة : الركون السكون إلى الشيء والميل إليه . وقال البغوي : هو المحبة والميل بالقلب .

    قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تميلوا إلى الذين ظلموا . وعنه : هو الركون إلى الشرك . وعنه : لا تداهنوا . وقال السدي : لا تداهنوا الظلمة . وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم . وعن عكرمة : هو أن تطيعوهم أو تودوهم أو تصطنعوهم . قال بعض العلماء : معنى تصطنعوهم تولّوهم الأعمال كمن يولي الفساق والفجار . وقال ابن الأثير : الاصطناع افتعال من الصنيعة وهي العطية والكرامة والإحسان . وقال الزمخشري : النهي متناول للإنخراط في هواهم والإنقطاع إليهم ومصاحبتهم والرضى بأعمالهم والنسبة إليهم والتزيي بزيهم . قال بعض العلماء : وكذلك مجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ومدلين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم .

    الآية الخامسة عشرة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبـالا ودوا ما عنتم } قال الجوهري : بطانة الرجل وليجته . وقال ابن الأثير : بطانة الرجل صاحب سره وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله . وقال البغوي في قوله تعالى { لا تتخذوا بطانة من دونكم } : أي أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم وبطانة الرجل خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطّلعون منه على مالا يطلع عليه غيرهم ، ثم بين العلّة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد اهـ .

    وقال القرطبي في تفسيره : نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكافرين واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولائج يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم . وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدهقانة قال : قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنّ ها هنا غلام من أهل الحيرة حافظا كاتبا فلو اتخذته كاتبا ، فقال : قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب .

    الآية السادسة عشرة : قوله تعالى : { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون } قال الجوهري وغيره من أهل اللغة : وليجة الرجل خاصته وبطانته . وقال البغوي : وليجة بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم ، قال : وقال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة ، فوليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره دون الناس ، يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع . وقال الراغب الأصفهاني : الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه وليس من أهله ، من قولهم فلان وليجة في القوم إذا لحق بهم وليس منهم إنسانا كان أو غيره . قال : { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } وذلك مثل قوله : { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } .


    فصل

    إذا علم تحريم موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم ، فليعلم أيضا أن الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم كثيرة جدا ، ومن أقربها وسيلة مساكنتهم في الديار ، ولاسيما في ديارهم الخاصة بهم ، ومخالطتهم في الأعمال ومجالستهم في المجالس ومصاحبتهم وزيارتهم واستزارتهم وتولي أعمالهم وتوليتهم في أعمال المسلمين والتزيي بزيِّهم والتأدب بآدابهم وتعظيمهم بالقول أو بالفعل . وكثير من المسلمين واقعون في بعض هذه الأفعال الذميمة ، وبعضهم واقع في كثير منها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

    وكما أن الله سبحانه وتعالى قد كرر النهي لعباده المؤمنين عن موالاة أعدائه وشدد عليهم في ذلك وحذرهم مما يترتب على موالاتهم من الفتنة والفساد في الأرض وسخط الله وأليم عقابه في الدار الآخرة ، فقد أمر تبارك وتعالى مع ذلك بالغلظة على أعدائه والشدة عليهم ومعاملتهم بما فيه إذلال لهم وتصغير وتحقير لشأنهم وكل ذلك بضد موالاتهم وموادتهم قال الله تعالى : { ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } وقال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقـال تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } إلى قولـه تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } وقال تعالى : { ولا يطأُون موطئا يغيظ الكفـار ولا ينالون من عدو نيلا إلاّ كتب لهم به عمل صـالح إن الله لايضيع أجر المحسنين } وقال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } .

    فصل

    وقد وردت أحاديث كثيرة بالنهي عما فيه تعظيم لأعداء الله تعالى ولو بأدنى شيء من التعظيم ، والمقصود من ذلك والله أعلم سد الذريعة إلى موالاتهم وموادتهم فمن ذلك بداءتهم بالسلام ومصافحتهم والترحيب بهم والقيام لهم وتصديرهم في المجالس والتوسيع لهم في الطريق ، لما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه ) رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه . وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد : ( إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها ) . ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه .

    وفي المسند أيضا عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّي راكب غدا إلى يهود فلا تبدءوهم بالسلام فإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم ) ورواه ابن ماجة في سننه عن أبي عبدالرحمن الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ، وقد قيل أن أبا عبد الرحمن هذا هو عقبة بن عامر . قال الحافظ ابن حجر : قرأت بخط الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه قيل هو عقبة بن عامر الصحابي المشهور . وقد يكون غيره فقد ذكر ابن عبد البر في كنية عقبة بن عامر ثمانية أقوال ولم يذكر فيها أبا عبد الرحمن . وذكر النووي فيها تسعة أقوال ولم يذكر فيها أبا عبد الرحمن والله أعلم .

    وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحافظ الضياء في المختارة عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث عقبة .

    وروى أبو نعيم في الحلية عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تساووهم في المجلس وألجئوهم إلى أضيق الطرق فإن سبّوكم فاضربوهم وإن ضربوكم فاقتلوهم ) . وفي رواية قال : سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( صغروا بهـم كما صغر الله بهم ) . قال أبو داود : قلت لأبي عبدالله يعني أحمد بن حنبل : تكره أن يقال للرجل الذمي كيف أصبحت أو كيف حالك أو كيف أنت أو نحو هذا ؟ قال : نعم ، هذا عندي أكثر من السلام . وقال أبو عبد الله : إذا لقيته في الطريق فلا توسع له .

    وقال أبو داود أيضا سمعت أحمد سئل : أيبتدأ الذمي بالسلام إذا كانت له إليه حاجة ؟ قال : لا يعجبني . وذكر غير أبي داود أن أحمد رحمه الله تعالى سئل عن مصافحة أهل الذمة ، فكرهه . وروى أبو نعيم في الحلية من طريق اسحاق ابن راهويه حدثنا بقية حدثني محمد القشيري عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصافح المشركون أو يكنّوا أو يرحب بهم .

    ومما يجب النهي عنه ما يفعله كثير من الجهال في زماننا إذا لقي أحدهم عدوّ الله سلم عليه ووضع يده على صدره إشارة إلى أنه يحبه محبة ثابتة في قلبه أو يشير بيده إلى رأسه إشارة إلى أن منزلته عنده على الرأس . وهذا الفعل المحرم يخشى على فاعله أن يكون مرتدا عن الإسلام لأن هذا من أبلغ الموالاة والموادة والتعظيم لأعداء الله تعالى وقد قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } . فصل

    قال ابن مفلح في الفروع : وتحرم العيادة والتهنئة والتعزية لهم كالتصدير والقيام والبداءة بالسلام وكمبتدع يجب هجره . وعنه : يجوز وفاقا لأبي حنيفة والشافعي . وعنه : لمصلحة راجحة كرجاء الإسلام اختاره شيخنا . ومعناه قول الآجري وأنه قول العلماء أنه يعاد ويعرض عليه الإسلام وقد نقل عنه أبو داود أنه كان يريد أن يدعوه للإسلام فنعم اهـ .

    قلت : أمّا عيادة المشرك والكتابي لعرض الإسلام عليه إذا رجى إسلامه فالصحيح جواز ذلك ، والدليل عليه ما في الصحيحين وغيرهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بهـا عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة . الحديث . وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له : أطع أبا القاسم . فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه من النار ) . وأما تهنأتهم وتعزيتهم فالأصح تحريم ذلك كما جزم به كثير من العلماء وعللوا ذلك بأنه يحصل الموالاة ويثبت المودّة ولما فيه من تعظيم أعداء الله تعالى فيحرم لذلك كما تحرم بداءتهم بالسلام والتوسيع لهم في الطريق .

    ومما لا ريب فيه أنه من موالاة أعداء الله وموادتهم ما يفعله بعض الناس من الذهاب إلى أعداء الله تعالى في أيام عيدهم فيدخلون عليهم في بيوتهم وكنائسهم ويهنئونهم بأعيادهم الباطلة وما هم فيه من السرور بها ، ولقد ذكر لنا أن هذا يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم فضلا عن العامة . وقد قيل في تفسير قوله تعالى : { والذين لا يشهدون الزور } أن المراد به أعياد المشركين حكاه البغوي عن مجاهد ، وحكاه ابن كثير عن أبي العالية وطاووس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم . وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن عطاء بن يسار قال : قال عمر رضي الله عنه : إياكم ورطانة الأعاجـم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم . وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عطاء بن دينار قال : قال عمر رضي الله عنه : لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم .

    وروى أيضا بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال : قال لي إبن أبي مريم : أنبأنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد بن سلمة سمع أباه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اجتنبوا أعداء الله في عيدهم .

    قال عبد الملك بن حبيب : سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم ، فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه . قال : وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي للنصراني شيئا في عيدهم مكافأة له ورآه من تعظيم عيده وعونا له على كفره ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم ، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره لم أعلم اختلف فيه . وأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهته بل هو عندي أشد . هذا كله كلام ابن حبيب المالكي نقله عنه شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ونقل كلاما كثيرا لأئمة السلف في هذا المعنى فليراجع فإنه مهم مفيد لكل من كان الحق ضالته .

    وإذا كان الخليفة الراشد الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به قد نهى عن مجرد الدخول على أعداء الله تعالى في يوم عيدهم فكيف يقال في العصاة الذين يدخلون عليهم ويهنئونهم بأعيادهم الباطلة ولعلهم مع ذلك يتطلقون في وجوه أعداء الله تعالى ويظهرون الفرح والسرور بما فرح به أعداء الله وسروا به من أعيادهم الباطلة .

    الجواب أن يقال : لا يشك مسلم عاقل شم أدنى رائحة من العلم أن هـذا من الموالاة والموادة لأعـداء الله تعالى ومـن المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنـين ، وقـد قال الله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونصله جهنَّم وساءت مصيرا } ومن هذا الباب ما أحدثه بعض المنتسبين إلى الإسلام في زماننا من الأعياد الباطلة كعيد الثورة ، وعيد الجلاء ، وعيد الاستقلال وغير ذلك من أعيادهم الباطلة فلا يجوز للمسلم حضور شيء من هذه الأعياد المبتدعة ولا التهنئة بها فضلا عن السرور بها . وكذلك عيد الجلوس الذي أحدثه بعض المسلمين فلا تجوز التهنئة به ولا السرور به .

    وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في أحكام الذمة :

    ( فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك ) وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد فأباحها مرة ومنعها أخرى والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا فرق بينهما ، ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهّال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه كما يقول : أحدهم متّعك الله بدينك أو يقول : له أعزك الله أو أكرمك ، إلاّ أن يقول : أكرمك الله بالإسلام وأعـزّك به ونحو ذلك ، فهذا في التهنئة بالأقوال المشتركة .

    وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة التهنئة بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر و قتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحـوه ، وكثير ممن لا قدْر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدرك قبح ما فعل ، فمن هنّأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه .

    وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنّبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والافتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه اهـ .

    فانظر إلى حكايته الاتفاق على تحريم تهنئة أعداء الله تعالى بأعيادهم الباطلة وانظر إلى ما وقع فيه كثير من المسلمين في زماننا لتعرف غربة الدين والله المستعان .

    فصل

    ومما ورد النهي عنه أيضا مصاحبة أعداء الله تعالى ودعوتهم إلى طعام كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ) رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والترمذي والدارمي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه .

    قال الخطابي : إنما جاء هذا في طعام الدعوة دون طعام الحاجة وذلك أن الله سبحانه قال : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارا غير مؤمنين ولا أتقياء . وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته لأن المطاعمة توقع الألفة والمودّة في القلوب ، يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا تتخذه جليسا تطاعمه وتنادمه اهـ .

    وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) . وفي رواية لأحمد : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالط ) . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وقال الحاكم : صحيح إن شاء الله تعالى ووافقه الذهبي في تلخيصه وصححه أيضا النووي .


    فصل

    ومما ورد النهي عنه أيضا مكاتبة أعداء الله تعالى وتكنيتهم بكنى المسلمين كأبي عبد الله وأبي القاسم ، وكذلك تلقيبهم بألقاب المسلمين كعز الدين ونحوه . وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده أن عمر رضي الله عنه كتب : ألاّ تكاتبوا أهل الذمة فتجري بينكم وبينهم المودة ولا تكنّوهم وأذلوهم ولا تظلموهم ، وفي الشروط التي التزم بها أهل الذمة وأمضاها عليهم عمر رضي الله عنه فمن بعده أنهم لا يكتنون بكنى المسلمين .

    وقد تقدم قريبا حديث جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصافح المشركون أو يكنّوا ويرحب بهم . رواه أبو نعيم في الحلية .


    فصل

    ولا يجوز مدح أعداء الله تعالى لما رواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مدح الفاسق غضب الرب واهتز لذلك العرش ) .


    فصل

    ولا يجوز وصف أعداء الله تعالى بصفات الإجلال والتعظيم كالسيد ، والعبقري ، والسامي ونحو ذلك ، لما رواه أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل ) ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان بنحوه . ولفظ الحاكم : ( إذا قال الرجل للمنافق يا سيد فقد أغضب ربه تبارك وتعالى ) . ولفظ البيهقي : ( إذا قال الرجـل للمنافق ياسيد فقد باء بغضب ربه ) . قال الطيبي : ومولانا داخل في هذا الوعيد بل أشد وكذا قوله أستاذي اهـ .

    وقد قلت المبالاة بشأن هذا الحديث الشريف حتى صار إطلاق إسم السيد ونحوه على كبراء الكفار والمنافقين مألوفا عند كثير من المسلمين في هذه الأزمان ، ومثل السيد ( المستر ) باللغة الإفرنجية . وأشد الناس مخالفة لهذا الحديث أهل الإذاعات ، لأنهم يجعلون كل من يستمع إلى إذاعاتهم من أصناف الكفار والمنافقين سادة ، وسواء عندهم في ذلك الكبير والصغير والشريف والوضيع والذكـر والأنثى ، بل الإناث هن المقدمات عندهم في المخاطبة بالسيادة ، وفي الكثير من الأمور خلافا لما شرعه الله من تأخيرهن . وبعض أهل الأمصار يسمون جميع نسائهم سيدات ، وسواء عندهم في ذلك المسلمة والكافرة والمنافقة والصالحة والطالحة .

    ويلي أهل الإذاعات في شدة المخالفة لحديث بريدة رضي الله عنه أهل الجرائد والمجلات وما شابهها من الكتب العصرية لأنهم لا يرون بموالاة أعداء الله وموادتهم وتعظيمهم بأسا ، ولا يرون للحب في الله والبغض في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه قدرا وشأنا .


    فصل

    وقد ورد النهي عن مجامعة المشركين ومساكنتهم في ديارهم والتغليظ في ذلك لأن مجامعتهم ومساكنتهم من أعظم الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم ، والأحاديث في ذلك كثيرة :

    الحديث الأول : منها عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : أمـا بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) رواه أبو داود ، ورواه الترمذي معلقا بصيغة الجزم فقال : وروى سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جـامعهم فهو مثلهم ) . ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا ) قال الحاكم : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه . وقال الذهبي في تلخيصه على شرط الشيخين : وظاهر هذا الحديث العموم لكل من جامع المشركين وساكنهم اختيارا منه لذلك لا اضطرارا وعجزا اهـ .

    الحديث الثاني : عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) قالوا يا رسول الله : ِلم ؟ قال : ( لا تراءى ناراهما ) رواه أبو داود والترمذي بهذا اللفظ ، ورواه الطبراني في الكبير والبيهقي في سننه ولفظهما : ( من أقام مع المشركين فقد برأت منه الذمة ) . قال الفضل بن زياد : سمعت أحمد رحمه الله تعالى يُسأل عن معنى لا تراءى ناراهما فقال : لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدت رأوا فيه نارك وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم ولكن تباعد عنهم اهـ . وقال ابن الأثير في النهاية : أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة . وإسناد الترائي إلى النارين مجاز من قولهم : داري تنظر إلى دار فلان . أي تقابلها يقول : ناراهما مختلفتان ، هذه تدعو إلى الله وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف يتفقان اهـ .

    وفي هذين الحديثين وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارا ، فليحذر المسلمون المقيمون بين الوثنين والمرتدين والنصارى والمجوس وغيرهم من أعداء الله تعالى أن يلحقهم هـذا الوعيد الشديد .

    الحديث الثالث : عن أنس رضي الله عنه عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تستضيئوا بنار المشركين ) رواه الإمام أحمد والنسائي والبخاري في تاريخه وابن جرير وأبو يعلى . قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره : معناه لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم واختار هذا القول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى اهـ . قال ابن الأثير : معناه لا تستشيروهم ولا تأخذوا بآرائهم ، جعل الضوء مثلا للرأي عند الحيرة اهـ .

    قلت : وهذا القول مروي عن الحسن البصري رواه عنه أبو يعلى وابن جرير في تفسير قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } قال الحسن : وأما قوله ولا تستضيئوا بنار المشركين فإنه يقول لا تستشيروهم في شيء من أموركم قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ثم تلا هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } . قال ابن كثير : وهذا التفسير فيه نظر .

    قلت : والظاهر أن النهي شامل للأمرين كليهما فلا يجوز لمسلم مساكنة المشركين اختيارا ولا مشاورتهم وأخذ آرائهم ، والقول الأول أظهر يدل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تراءى ناراهما ) . وقوله في حديث الزهري الذي سيأتي ذكره قريبا : ( وأنك لا ترى نار مشرك إلاّ وأنت له حرب ) والله أعلم .

    الحديث الرابع : عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقبل الله من مشرك بعدما يسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين ) رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم في مستدركه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .

    الحديث الخامس : عن يزيد بن الشخّير قال : بينا أنا مع مطرف بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أدم ، قال : كتب لي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل أحد منكم يقرأ ؟ قال : قلت أنا أقـرأ ، فإذا فيها : ( من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لبني زهير بن أُقَيْش أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وفارقوا المشركين وأقروا بالخمس في غنائمهم وسهم النبي وصَفيِّه أنهم آمنون بأمان الله ورسوله ) رواه النسائي .

    الحديث السادس : عن جرير رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم وعلى فراق المشركين . رواه النسائي . وفي رواية له قال جرير : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم ، قال : ( أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين ) .

    الحديث السابع : عن أبي اليسر كعب بن عمرو رضي الله عنه قال : أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس فقلت : يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم بالشرط ، قال : ( أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلم وتفارق المشرك ) رواه الحاكم في مستدركه .

    الحديث الثامن : عن الزهري مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال : ( تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب ) رواه ابن جرير .

    فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله تعالى هذه الأحاديث وليعطوها حقّها من العمل فقد قال الله تعالى : { فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } .

    فصل

    والحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله من أهم أمور الدين وأوثق عرى الإيمان كما قيل :

    وما الدين إلا الحب والبغض والولا كذاك البرا من كل غاو ومعتد

    وروى الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كنّا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أيّ عرى الإسلام أوثق ؟ ) قالوا : الصلاة . قال : ( حسنة وما هي بها ) قالوا : صيام رمضان ، قال : ( حسن وما هو به ) قالوا : الجهاد . قال : ( حسن ومـا هو به ) قال : ( إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله ) . ورواه أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان بنحوه . وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أوثق عرى الإيمان ، الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ) . وروى أبو داود الطيالسي في مسنده والطبراني في الصغير والحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يابن مسعود ، أي عرى الإيمان أوثق ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( أوثق عرى الإسلام الولاية في الله والحب في الله والبغض في الله ) .

    وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الأعمال الحـب في الله والبغض في الله ) . وروى الإمام أحمد والطبراني في الكبير عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان قال : ( أن تحب لله وتبغض لله وتُعمل لسانك في ذكر الله ) قال : وماذا يا رسول الله ؟ ، قال : ( وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ) .

    وروى الإمام أحمد والطبراني أيضا عن عمرو بن الجموح رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله تبارك وتعالى وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله ) . وروى أبو داود في سننه والبيهقي في شعب الإيمان والحافظ الضياء المقدسي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ) . وروى الإمام أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل الإيمان ) قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .

    وروى أبو داود الطيالسي والنسائي واللفظ له عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وطعمه ، أن يكون الله عز وجل ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب في الله وأن يبغض في الله وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا ) . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما بغير هذا اللفظ .

    وروى الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : ( الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء مـن العدل ، وهل الدّين إلاّ الحـب في الله والبغض في الله ، قـال الله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }) .

    وروى أبو نعيم أيضا من طرق عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : أحب في الله وأبغض في الله ووال في الله وعاد في الله فإنك لن تنال ولاية الله إلاّ بذلك ، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك . وصارت موالاة الناس في أمر الدنيا وأن ذلك لا يجزئ عن أهله شيئا .

    وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعاد في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا . قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى : فإذا كانت البلوى قـد عمت بهـذا في زمن ابن عباس رضي الله عنهما خير القرون فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان اهـ .

    قلت : والأمر بعد زمن الشيخ عبد الرحمن أعظم وأعظم ، ولا سيما في زماننا هذا الذي قد اشتدت فيه غربة الدين وانعكست فيه الحقائق عند الأكثرين حتى عاد المعروف عندهم منكرا والمنكر معروفا ، ومن ذلك موالاة الكفار والمنافقين وموادتهم ومصاحبتهم ومجالستهم ومواكلتهم ومشاربتهم والأنس بهم والإنبساط معهم وكذلك موادة أهل البدع والفسوق والعصيان ومصاحبتهم ومجالستهم ومواكلتهم ومشاربتهم والأنس بهم والإنبساط معهم كل ذلك قد صار من قبيل المعروف عند أكثر الناس بل عند كثير ممن ينتسب إلى العلم والدين .

    وأما الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله وهجر أهل المعاصي لله والإكفهرار في وجوههم من أجل ما ارتكبوه من المعاصي فكل ذلك قد صار عند كثير من الناس من قبيل المنكرات .

    حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى العلم قد صاروا يدندنون حول انكار هذه الأعمال الفاضلة المحبوبة إلى الله تعالى ويعدونها من مساوئ الأخلاق ، ويعيبون على من يعمل بها ويذمونهم ويعدونهم لذلك أهل تجبر وتكبر وتعنت وشذوذ وتشديد وغلو في الدين ، وقد سمعت هذا أو بعضه من بعض الخطباء والقصاص الثرثارين المتشدقين الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون ، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون .

    وسمعت بعضهم يصرح على رؤوس الأشهاد بانكار الحب في الله والبغض في الله ، وسمعتهم أيضا يحثون الناس في خطبهم وقصصهم على حسن السلوك مع الناس كلهم واستجلاب مودتهم ومحبتهم ويرغبونهم في إظهار البشاشة لكل أحد وسواء على ظاهر كلامهم الصالح والطالح من الناس , وربما صرح بعضهم أن هذه الأفعال الذميمة من حسن الخلق ومن مقتضيات العقل . فيقال لهؤلاء الحيارى المغرورين ، العقل في باب الحب والبغض والموالاة والمعاداة عقلان :

    أحدهما : عقل مسدد موفق قاهر للهوى والنفس الأمارة بالسوء قد استنار بنور الإيمان وصار الحاكم عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا العقل يقتضي من أصحابه أن لا يقدموا على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ويقتضي من أصحابه أن يحبوا في الله ويبغضوا في الله ويوالوا في الله ويعادوا في الله ويعطوا لله ويمنعوا لله ويسارعوا إلى كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال سواء رضي الناس أو سخطوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وما أقل أهل هذا العقل في هذه الأزمان المظلمة .

    والعقل الآخر : عقل معيشي نفاقي مخذول قد قهرته النفس الأمارة بالسوء وأسرته الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية وصار الحاكم عليه الهوى فمحبته لهواه وبغضه لهواه وموالاته لهواه ومعاداته لهواه وبذله لهواه ومنعه لهواه . فهذا العقل يقتضي من أربابه أن يتملقوا لسائر أصناف الناس بألسنتهم ويحسنوا السلوك مع الصالح والطالح ، وهذا العقل هو الغالب على أكثر الناس في زماننا عامتهم وخاصتهم وما أكثره في المنتسبين إلى العلم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

    وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله أبي تغترون أم علي تجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا ) . وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما عـن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تبارك وتعالى قال : لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا فبي يغترون أم علي يجترئون ) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .

    وفي هذين الحديثين إشارة إلى أهل العقل المعيشي النفاقي وما هم عليه من المنافقة باللسان والتكلف والتصنع في الظاهر يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . قال ابن القيم رحمه الله تعالى في وصف أهل هذا العقل : يظن أربابه أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ، فإنهم يرون العقل أن يرضوا الناس على طبقاتهم ويسالموهم ويستجلبوا مودتهم ومحبتهم وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للراحة والدعة على مؤنة الأذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه وهو وإن كان أسلم عاجلة فهو الهلك في الآجلة فإنه ما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعاد فيه فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضا الله ورسوله والله الموفق اهـ .

    وفي حديث مرفوع ذكره ابن عبد البر وغيره : ( أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لفلان العابد : أما زهدك في الدنيا ، فقد تعجلت به الراحة ، وأما انقطاعك إلي ، فقد اكتسبت به العز فما عملت فيما لي عليك ، قال : وما لك علي ، قال هل واليت في وليا ، أو عاديت في عدوا ) . قلت : وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن محمد بن أبي الورد قال : حدثني سعيد بن منصور حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه . وذكر ابن عبد البر أيضا : ( أن الله تعالى أوحى إلى جبريل أن اخسف بقرية كذا وكذا قال : يارب إن فيهم فلانا العابد ، قال : به فابدأ ، إنه لم يتمعر وجهه فيّ يوما قط ) وقد رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه .

    وروى أبو نعيم في الحلية من حديث مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعا ، قال : ( يؤتى بعبد محسن في نفسه لا يرى أن له ذنبا فيقول له : هل كنت توالي أوليائي ، قال : كنت من الناس سلما ، قال : فهل كنت تعادي أعدائي ، قال : رب لم يكن بيني وبين أحد شيء ، فيقول الله عز وجل : لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي ) .

    إذا علم هذا فأهل العقل المعيشي لا يرون بمداهنة البدع والفسوق والعصيان بأسا ، وكثير منهم لا يرون بمداهنة الكفار والمنافقين بأسا . وبعض أهل الجهل المركب منهم ينكرون على من يهجر أهل البدع والفسوق والعصيان ويكفهر في وجوههم ويعدون ذلك من الهجر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا تهاجروا ) وقوله : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) . وقد سمعت هذا من بعض الخطباء والقصاص منهم والحامل لهم على التسوية بين الهجر الديني وهو ما كان لله وبين الهجر الدنيوي وهو ما كان لحظ النفس لا يخلو من أحد أمرين : إما الجهل بالفرق بين هذا وهذا . وإما قصد لبس الحق بالباطل عنادا ومكابرة وتمويها على الأغبياء الذين لا علم لهم بمدارك الأحكام ، وهذا الأخير هو الظاهر من حال المتلبسين منهم ببعض المعاصي ليدفعوا عن أنفسهم الشنعة وليوهموا الجهال أن هجرهم إياهم من أجل المعصية لا يجوز وأن الذين يهجرونهم من طلبة العلم وغيرهم ليسوا مصيبين .

    فيقال لهؤلاء المذبذبين المدلسين : أن الذي جاءت الأحاديث بالنهي عنه فيما زاد على الثلاث هو التهاجر الدنيوي كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .

    وقد جاءت السنة بهجر أهل المعاصي حتى يتوبوا كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه خمسين يوما ولم يكلمهم حتى تاب الله عليهم . وهجر زينب بنت جحش رضي الله عنها قريبا من شهرين لما قالت : أنا أعطي تلك اليهودية ـ تعني صفية ـ . وهجر الذي بنى فوق الحاجة حتى هدم بناءه وسواه بالأرض وهجر رجلا رآه متخلقا بزعفران حتى غسله وأزال عنه أثره . وهجر رجلا رأى عليه جبة من حرير حتى طرحها . وهجر رجلا رأى في يده خاتما من ذهب حتى طرحه .

    وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم هجر رجلا رأى عليه ثوبين أحمرين . وكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يهجرون من أظهر المعصية حتى يتوب وتظهر توبته وقد قال ابن عبد القوي :

    وهجران من أبدى المعاصي سنة وقيل إذا يردعه أوجب وأوكد وقيل على الإطلاق ما دام معلنا ولاقه بوجه مكفهر معربد

    فلم يذكر خلافا في سنية هجر العاصي المجاهر بالمعصية سواء ارتدع بالهجر أو لم يرتدع ، وإنما الخلاف في الوجوب هل هو على الإطلاق أم إذا كان العاصي يرتدع به فأين هذا مما يراه المتهوكون من إبطال الهجر الديني بالكلية ومعاملة الناس كلهم صالحهم وطالحهم باللطف واللين والمودة .

    قال الحافظ بن حجر في فتح الباري : ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع . قال النووي : فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يُسلِّم سَلَّم . وكذا قال ابن العربي وزاد : وينوي أن السلام إسم من أسماء الله تعالى فكأنَّه قال : الله رقيب عليكم .

    وقال المهلب : ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح واللهو وفحش القول والجلوس في الأسـواق لرؤيـة من يمـر من النساء ونحو ذلك اهـ . وحكى ابن رشد قال : قال مالك : لا يسلم على أهل الأهواء . قال ابن دقيق العيد : ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم .

    وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه ( باب الهجر ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) ثم ساق في الباب ثلاثة أحاديث في تحريم الهجر فوق ثلاث ثم قال : ( باب ما يجوز من الهجران لمن عصى ) وقال كعب حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم : ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا وذكر خمسين ليلة .

    ثم قال بعد ذلك في كتاب الإستئذان : ( باب من لم يسلم على من اقترف ذنبا ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي ) وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : لا تسلموا على شربة الخمر . ثم ذكر طرفا من حديث كعب بن مالك قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا حتى كملت خمسون ليلة .

    قال الطبري : قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي .

    قلت : وقد أجاد البخاري رحمه الله تعالى وأفاد فيما سلكه من التفريق بين الهجر الدنيوي والهجر الديني فإنه ذكر في الترجمة الأولى حكم الهجر الدنيوي وأنه يحرم فوق ثلاث ثم ذكر في الترجمة الثانية والترجمة الثالثة حكم الهجر الديني وهو هجر أهل المعاصي لله و أبان أنه لا حد له إلا بالتوبة الصادقة .

    وقد سلك أبو داود رحمه الله تعالى نحو هذا المسلك فقال في كتاب الأدب من سننه : ( باب فيمن يهجر أخاه المسلم ) وساق في الباب عدة أحاديث في تحريم الهجر فوق ثلاث . ثم قال في آخر الباب : النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوما . وابن عمر رضي الله عنهما هجر ابناً له إلى أن مات . قال أبو داود : إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا بشيء . وعمر بن عبد العزيز غطى وجهه عن رجل . وقال الخطابي في الكلام على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه : فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عتب أو موجدة أو لتقصير يقع في حقوق العشرة ونحوها دون ما كان من ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق اهـ .

    وقد روى مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تمنعوا نسائكم المساجد ، إذا استأذنَّكم إليها ) قال : فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن ، قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن . وفي رواية له عن مجاهد أنه ضرب في صدره . وقد روى البخاري المرفوع منه فقط ورواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي وغيرهم بنحو رواية مسلم .

    وروى أبو داود الطيالسي رواية مجاهد وقال : فرفع يده فلطمه فقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا . وفي رواية لأحمد : فما كلمه عبد الله حتى مات . قال النووي : فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه ، وفيه تعزير الوالد ولده وإن كان كبيرا اهـ . وفيه أيضا جواز التأديب بالهجران قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى .

    وفي مستدرك الحاكم عن عمرو بن مسلم قال : خذف رجل عند ابن عمر رضي الله عنهما فقال : لا تخذف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم رآه ابن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك يخذف فقال : أنبأتك أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم خذفت ، والله لا أكلمك أبدا . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية محمد بن أبي موسى وقد سأله رجل خراساني أن عندنا قوما يأمرون برفع اليدين في الصلاة وقوما ينهون عنه ، قال : لا ينهاك إلا مبتدع ، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن مفلح في النكت على المحرر : وهل يهجر من تركه مع العلم ؟ روي عن الإمام أحمد فيمن تركه يخبر به فإن لم ينته يهجر ، ذكره الخلال . وهذا الهجر على سبيل الجواز والاستحباب لعدم وجوب المتروك وينبغي أن يكون هذا النص بالهجر والنص بأنه مبتدع بناء على النص بأنه تارك للسنة اهـ .

    وفي سنن ابن ماجة أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه غزا مع معاوية رضي الله عنه أرض الروم فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر الفضة بالدراهم فقال : يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل لا زيادة بينهما ولا نظرة ) فقال له معاوية : يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ماكان من نظرة ، فقال عبادة : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك ، لئن أخرجني الله ، لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة . فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أقدمك يا أبا الوليد فقص عليه القصة ، وما قال من مساكنته فقال ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك وكتب إلى معاوية : لا إمرة لك عليه ، واحمل الناس على ما قال فإنه هو الأمر .

    ورواه الدارمي في سننه مختصرا ولفظه عند أبي المخارق قال : ذكر عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن درهمين بدرهم ) فقال فلان : ما أرى بهذا بأسا يدا بيد فقال عبادة رضي الله عنه : أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لا أرى به بأسا والله لا يظلني وإياك سقف أبدا . وفي هذا الحديث جواز هجران من خالف السنة وعارضها برأيه .

    وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا إلا مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما أرى بمثل هذا بأسا ، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها . ثم قدم أبو الدرداء رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له فكتب عمر رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن .

    قوله : فقال أبو الدرداء رضي الله عنه مـن يعذرني من معاوية ...إلخ . قال ابن عبد البر : كان ذلك منه أنفة من أن يرد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه . وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي ، قال : وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه وليس هذا من الهجرة المكروهة ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك . قال : وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه ، وقد رأى ابن مسعود رضي الله عنه رجـلا يضحك في جنازة ، فقال : والله لا أكلمك أبدا . انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى .

    وهذا الأثر الذي ذكره عن ابن مسعود رضي الله عنه قد رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد فقال : حدثنا سفيان حدثنا عبد الرحمن بن حميد سمعه من شيخ من بني عبس : أبصر عبد الله رضي الله عنه رجلا يضحك في جنازة فقال : تضحك في جنازة ، لا أكلمك أبدا .

    وفي الصحيحين عن عبد الله بن بريدة قال : رأى عبد الله بن المغفل رضي الله عنه رجلا من أصحابه يخذف فقال له : لا تخذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو قال ينهى عن الخذف فإنه لا يصاد به الصيد ولا ينكأ به العدو ولكنه يكسر السن ويفقأ العين . ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له : أخبرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكره أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف ، لا أكلمك كلمة كذا وكذا هذا لفظ مسلم وقد رواه الدارمي في سننه بنحوه وقال فيه : والله لا أكلمك أبدا . ورواه الإمام أحمد وأبو داود مختصرا .

    ورواه مسلم أيضا وابن ماجة من حديث سعيد بن جبير أن قريبا لعبد الله بن المغفل رضي الله عنه خذف قال : فنهاه ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال : ( إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ) قال : فعاد فقال : أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، ثم تخذف ، لا أكلمك أبدا . هذا لفظ مسلم . وفي رواية ابن ماجة أن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه كان جالسا إلى جنب ابن أخ له فخذف ، فنهاه . وذكر تمام الحديث بنحو رواية مسلم وفيه ، لا أكلمك أبدا . وروى الدارمي في سننه عن خراش بن جبير قال : رأيت في المسجد فتى يخذف ، فقال له شيخ : لا تخذف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ، فغفل الفتى ، فظن أن الشيخ لا يفطن له فخذف فقال له الشيخ : أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ، ثم تخذف ، والله لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا .

    وروى الدارمي أيضا عن أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : نهى رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف وقال : ( إنها لا تصطاد صيدا ولا تنكي عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ) فرفع رجـل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال : هذه وما تكون هذه فقال سعيد : ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تهاون به لا أكلمك أبدا .

    وروى الدارمي أيضا عن قتادة قال : حدث ابن سيرين رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : قال فلان كذا وكذا ، فقال ابن سيرين أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول قال فلان وفلان كذا وكذا ، لا أكلمك أبدا .

    قال النووي في الكلام عن حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه : فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائما ، وأن النهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائما وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعب بن مالك وغيره اهـ . وقال الحافظ ابن حجر : في الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه اهـ .

    وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : الهجر الشرعي نوعان :

    أحدهما : بمعنى الترك للمنكرات .

    والثاني : بمعنى العقوبة عليها .

    فالنوع الأول : هو المذكور في قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } وقوله : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر لا يجلس عندهم ، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك ، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضـر بغير اختياره ، ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله .

    وفي الحديث : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر ) وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم : ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) . ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى : { والرجز فاهجر } .

    النوع الثاني : الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات ، يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم ، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر . ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا ، فهنا الهجرة بمنزلة التعزير ، والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كترك الصلاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة أن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا . ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية ، لأن الدعاة أظهروا المنكرات فاستحقوا العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل مع علمه بحال كثير منهم . ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) . فإن المنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة .

    وهذا الهجر يختلف بإختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فأن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا ، وإن كان المهجور وغيره لا يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر ، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف .

    ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر قوما آخرين ، وقد تكون المؤلفة قلوبهم أشر حالا في الدين من المهجورين ، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم ولكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم . وهؤلاء كانوا مؤمنين ، والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم تأييد الدين وتطهيرهم من ذنوبهم ، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة ، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح .

    وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع وبين ما ليس كذلك ويفرق بن الأئمة المطاعين وغيرهم . وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه ، وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي الأعمال التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره ، فتكون خالصة لله صوابا ، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا عن هذا وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله .

    والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان يصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) . فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا ) . فهذا الهجر لحق الإنسان حرام ، وإنما رخص في بعضه ، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق لله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمـور به والثاني منهي عنه لأن المؤمنين إخوة ، وهذا لأن الهجر من العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله .

    والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ، قال الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة } فجعلهم اخوة مع وجود القتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهم .

    فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر ، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه ، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وتقى وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته . هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة . انتهى كلامه رحمه الله تعالى ملخصا وفيه فوائد جليلة ليست في كلام غيره من العلماء الذين تقدم ذكرهم فليتأمل من أوله إلى آخره فما أحسنه وأنفعه في هذا الباب .

    فصل

    وقد جاء في هجر أهل المعاصي أحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم وأنا أذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى وبه الثقة .

    فأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأول : منها حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلّي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال : الله ورسوله أعلم قال : ففاضت عيناي . وذكر تمام الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي مطولا ومختصرا .

    الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي رضي الله عنها وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب : ( أعطيها بعيرا ) فقالت : أنا أعطي تلك اليهودية ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحـرم وبعض صفر . رواه أبو داود .

    الحديث الثالث : عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قبة مشرفه فقال : ( ما هذا ) قال له أصحابه : هذه لفلان رجل من الأنصار قال : فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليه في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه فشكى ذلك إلى أصحابه فقال : والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا خرج فرأى قبتك قال فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سوّاها بالأرض فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها قال : ( ما فعلت القبة ) قالوا : شكى إلينا صاحبها إعراضك عنه ، فأخبرناه فهدمها فقال : ( أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلاّ مالا إلاّ مالا ) يعني مالا بد منه رواه أبو داود .

    الحديث الرابع : عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : قدمت على أهلي ليلا وقد تشققت يداي فخلّقوني بزعفران فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي ولم يرحب بي فقال : ( اذهب فاغسل هذا عنك ) فذهبت فغسلته ثم جئت وقد بقي عليّ منه ردع فسلمت فلم يرد عليّ ولم يرحب بي وقال : ( اذهب فاغسل أثر هذا عنك ) فذهبت فغسلته ثم جئت فسلّمت عليه فرد علي ورحب بي وقال : ( إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمخ بالزعفران ولا الجنب ) رواه أبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني وهذا لفظه .

    الحديث الخامس : عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم فيهم رجل متخلق بخلوق فنظر إليهم وسلم عليهم وأعرض عن الرجل فقال الرجل : أعرضت عني قال : ( بين عينيك جمرة ) رواه البخاري في الأدب المفرد .

    الحديث السادس : عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه فلما رأى الرجل كراهيته ذهب فألقى الخاتم وأخذ خاتما من حديد فلبسه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا شر ، هذا حلية أهل النار ) فرجع فطرحه ولبس خاتما من ورق فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد .

    الحديث السابع : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : أقبل رجل من البحرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فلم يرد وفي يده خاتم من ذهب وعليه جبة حرير ، فانطلق الرجل محزونا فشكى إلى إمرأته فقالت : لعل برسول الله صلى الله عليه وسلم جبتك وخاتمك فألقهما ثم عاد ، ففعل فرد السلام وقال : جئتك آنفاً فأعرضت عني قال : ( كان في يدك جمر من نار ) رواه النسائي والبخاري في الأدب المفرد وهذا لفظه . وقد ترجم على هذا الحديث والحديثين قبله بقوله : ( باب من ترك السلام على المتخلق وأصحاب المعاصي ) . الحديث الثامن : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .

    الحديث التاسع : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ) رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والترمذي والدارمي وابن حبان ، والحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي في تلخيصه .

    الحديث العاشر : عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين . رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في شعب الإيمان .

    الحديث الحادي عشر : عـن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، والقوهم بوجوه مكفهره والتمسوا رضا الله بسخطهم وتقربوا إلى الله بالبعد منهم . رواه ابن شاهين وفي رفعه نظر والأشبه أنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه ، وقد روي نحو هذا من كلام عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام .

    قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الزهد : حدثنا سيار حدثنا جعفر أبو غالب قال : بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم عليهما السلام : يا معشر الحواريين تحببوا إلى الله عز وجل ببغض أهل المعاصي وتقربوا إليه بالمقت لهـم والتمسوا رضاه بسخطهم قالوا : يا نبي الله فمن نجالس . قال : جالسوا من يزيد في أعمالكم منطقه ومن تذكركم بالله رؤيته ويزهدكم في دنياكم عمله .

    الحديث الثاني عشر : عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للجهاد أربعة شعب ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين . أي بغضهم وعداوتهم . رواه أبو نعيم في الحلية وفي رفعه نظر والأشبه أنه من قول علي رضي الله عنه . الحديث الثالث عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام ، النرد والشطرنج وما كان من اللهو فلا تسلموا عليهم ) رواه أبو بكر الآجري وفي رفعه نظر .


    فصل

    وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم فقد تقدم طرف منها وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه هجر ابنه لما عارض السنة برأيه . وما روي عنه أيضا أنه هجر الرجل الذي خذف بعدما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الخذف .

    وما روي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء رضي الله عنهما من هجر معاوية رضي الله عنه لما عارض السنة برأيه ، وما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه هجر الرجل الذي ضحك في الجنازة .

    وما روي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه هجر الرجل الذي خذف بعدما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الخذف ، وما رواه الدارمي عن خراش بن جبير أن شيخا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هجر الفتى الذي خذف بعدما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الخذف ، وما رواه الدارمي أيضا عن سعيد بن جبير أنه هجر الذي ظهر منه التهاون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما رواه الدارمي أيضا عن ابن سيرين أنه هجر الرجل الذي عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول غيره .

    وما ذكره أبو داود عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه غطى وجهه عن رجل ، وما ذكره ابن مفلح عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيمن ترك السنة مع العلم بها أنه يهجر .

    وروى البخاري في الأدب المفرد عن الحسن أنه قال : ليس بينك وبين الفاسق حرمة . وقال البخـاري أيضا في الأدب المفرد : ( باب : لا يسلم على فاسق ) وساق عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لا تسلموا على شراب الخمر . وقد أورد البخاري رحمه الله تعالى هذا الأثر معلقا بصيغة الجزم .

    وروى سعيد بن منصـور عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : لا تسلموا على من شرب الخمر ولا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا . وقال البخاري في الأدب المفرد : باب عيادة الفاسق ثم ساق بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا . ويدخل في شراب الخمر شراب الدخان الخبيث المسمى بالتتن والجراك لأنه قد ثبت إسكاره وتفتيره فلا يسلم على من يشربه ولا يعاد إذا مرض . وقد قال المروذي : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل رجل له والد بين يديه مسكر فيدعو ولده ترى له أن يجيب ، قال : لا يدخل عليه .

    وقال المروذي أيضا : سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون له الأخ يشرب المسكر ترسله والدته يدعو لها من الموضع الذي هو فيه ترى أن يذهب قال : نعم ، لا يدعه يتزيد ولكن لا يدخل ، يقوم خارجا .

    وقال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد : ( باب من لم يسلم على أصحاب النرد ) ثم ساق عن الفضيل بن مسلم عن أبيه قال : كان علي رضي الله عنه إذا خرج من باب القصر فرأى أصحاب النرد انطلق بهم فعقلهم من غدوة إلى الليل ، ومنهم من يعقل إلى نصف النهار قال : وكان الذي يعقل إلى الليل الذين يعاملون بالورق وكان الذي يعقل إلى نصف النهار الذين يلهون بها وكان يأمر أن لا يسلموا عليهم . وقال أبو داود في كتاب المسائل قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن أسلم المنقري قال : كان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم .

    وقال أيضا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن زياد بن حدير أنه مر على قوم يلعبون بالنرد فسلم عليهم وهو لا يعلم ثم رجع فقال : ردوا علي سلامي .

    وقال أيضا : حدثنا وهب بن بيان قال حدثنا ابن وهب . وحدثنا ابن سرح قال : حدثنا ابن وهب عن عبد الله بن المسيب عن يزيد بن يوسف أنه سأل يزيد بن أبي حبيب عن الشطرنج فقال : لو مررت على قوم يلعبون بالشطرنج ما سلمت عليهم .

    قلت ومثل اللاعبين بالنرد والشطرنج اللاعبون في زماننا بالجنجفة والكيرم وما أشبه ذلك مما يلهي ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة فلا يسلم عليهم ولا يسلم أيضا على اللاعبين بالكرة لأنها من أعظم ما يلهي ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وفيها من المفاسد نحو مافي النرد والشطرنج أو أعظم .

    وقال أبو داود أيضا : قلت لأحمد أمر بالقوم يتقاذفون أسلم عليهم , قال : هؤلاء قوم سفهاء والسلام اسم من أسماء الله تعالى . وقال أبو داود أيضا : قلت لأحمد أسلّم على المخنث قال : لا أدري السلام اسم من أسماء الله تعالى .

    قلت : ظاهر هاتين الروايتين كراهة السلام على المخنث وعلى الذين يتقاذفون لأن ترك السلام عليهم فيه تعظيم لأسماء الله تعالى وصيانة لها عن الابتذال , والمخنث هو المؤنث الذي يتشبه بالنساء . ومن هذا الباب حلق اللحى فمن حلق لحيته فهو من المخنثين لأنه قد رغب عن مشابهة الرجال وآثر مشابهة النساء في نعومة الخدود وعـدم الشعر في الوجه , وفاعل ذلك لا ينبغي السلام عليه لمجاهرته بالمعصية .

    وقد روى أبو نعيم في الحلية بإسناد جيد عن زياد بن حدير قال : قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليّ طيلسان وشاربي عاف فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إليّ ولم يرد علي السلام فانصرفت عنه فأتيت ابنه عاصما فقلت له : لقد رميت من أمير المؤمنين في الرأس فقال : سأكفيك ذلك , فلقي أباه فقال : يا أمير المؤمنين أخوك زياد بن حدير يسلم عليك فلم ترد عليه السلام ، فقال : إني قد رأيت عليه طيلسانا ورأيت شاربه عافيا , قال : فرجع إلي فأخبرني فانطلقت فقصصت شاربي وكان معي برد شققته فجعلته إزار ورداء ثم أقبلت إلى عمر رضي الله عنه فسلمت عليه فقال : وعليك السلام هذا أحسن مما كنت فيه يا زياد .

    وإذا كان عمر رضي الله عنه قد هجر زياد بن حدير على إعفائه لشاربه فكذلك ينبغي هجر من حلق لحيته لأن كل من الأمرين معصية ظاهره لما فيهما من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى , ولما فيهما أيضا من التشبه بالمجوس ومن يحذو حذوهم من أصناف المشركين .

    وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . والهجر على حلق اللحية أولى من الهجر على إعفاء الشارب لما في حلق اللحية من مزيد التشبه بالنساء والدخـول في عداد المخنثين , وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال . رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية حنبل : إذا علم من رجل أنه مقيم على معصية لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكرا عليه ولا جفوة من صديق .

    ونقل حنبل أيضا عن احمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال : ليس لمن قارف شيئا من الفواحش حرمة ولا وصلة إذا كان معلنا . وقال الخلال في كتاب المجانبة : أبو عبد الله يهجر أهل المعاصي ومن قارف الأعمال الرديئة أو تعدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من سكر أو شرب أو فعل فعلا من هذه الأشياء المحظورة ثم لم يكاشف بها ولم يلق فيها جلباب الحياء فالكف عن أعراضهم وعن المسلمين والإمساك عن أعراضهم وعن المسلمين أسلم . نقله عنه ابن مفلح في الآداب الشرعية . وروى عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن الحسن البصري أنه قال : ثلاثة لا غيبة لهم ، الإمام الخائن وصاحب الهوى الذي يدعو إلى هواه والفاسق المعلن فسقه . قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى المصرية : من أظهر المنكر وجب الإنكار عليه وأن يهجر ويذم على ذلك فهذا معنى قولهم من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا فإن هذا يستر عليه لكن ينصح سرا ويهجره من عرف حاله حتى يتوب ويذكر أمره على وجه النصيحة .

    وقال الشيخ أيضا في موضع آخر : من فعل شيئا من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمـان ) فإن كان الرجل متسترا بذلك وليس معلنا له أنكر عليه سرا وستر عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من ستر عبدا ستره الله في الدنيا والآخرة ) إلا أن يتعدى ضرره والمتعدي لابد من كف عدوانه وإذا نهاه المرء سرا فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين ، وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبقى له غيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة .

    وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتا كما هجروه حيا إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم , وكما قيل لسمرة بن جندب رضي الله عنه : إن ابنك لم ينم البارحـة بشما فقال : لو مات لم أصل عليه . لأنه أعان على قتل نفسه فيكون كقاتل نفسه ، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه , وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم ، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير اهـ .

    وحديث سمرة الذي ذكره الشيخ رحمه الله تعالى رواه الإمام أحمد في الزهد من طريق الحسن قال : قيل لسمرة رضي الله عنه فذكره ، فإن قيل فما الفرق بين المستتر الذي لا يجوز هجره وبين المعلن الذي يسن هجره ؟ .

    فالجواب ما قاله ابن عبد القوي : أن المستتر بالمنكر هو من فعله بموضع لا يعلم به غالبا غير من حضره إما لبعده أو نحوه ، وأما من فعله بموضع يعلم به جيرانه ولو في داره فإن هذا معلن مجاهر غير مستتر اهـ .

    وهذا تفريق حسن ينبغي اعتباره وعلى هذا فإذا كانت الدار يسمع منها الغناء وأصوات الملاهي فصاحبها معلن مجاهر يسن هجره أو يجب . وكذلك إذا كانت آلات اللهو أو أواني الخمر أو أوعية الدخان الخبيث أو آلات شربه ترى في الدار لا يخفيها صاحب الدار عن الداخلين أو كانت رائحة الدخان الخبيث أو غيره من المسكرات توجد من فيِّ أحد أو من بيته فصاحب ذلك معلن مجاهر يسن هجره أو يجب ، وكذلك إذا كان الرجل يسلم على أهل البدع أو يماشيهم أو يجالسهم ويأنس بهم أو يدخل عليهم في بيوتهم أو يدخلون عليه في بيته وهو عالم بحالهم فإنه معلن مجاهر بالمعصية يسن هجره أو يجب .

    قال أبو داود : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدع أترك كلامه قال : لا أو تعلمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه وإلا فألحقه به . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : المرء بخدنه . وقال عبدالله بن محمد بن الفضل الصيداوي : قال لي أحمد إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أدلكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم ) .


    فصل في ذكر الأحاديث الواردة في هجر أهل البدع

    قال أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر أحمد بن سليمان بن الحسن الفقيه حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث فذكره ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجه . ووافقه الذهبي في تلخيصه . وقال المنذري هذا منقطع ، أبو حازم سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر . وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت . انتهى .

    وقد رواه أبو بكر الآجري من طريقين عن أبي حازم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ولكن قال أبو داود : أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنكره من حديث أبي حازم عن نافع . ورواه الآجري أيضا من طريق الجعيد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنه يكون في آخر الزمان قوم يكذبون بالقدر ألا وأولئك مجوس هذه الأمة فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) ورواه الطبراني في الصغير من حديث الجعيد به .

    وقال أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمرو بن محمد عن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوهم وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال ) . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال : حدثنا أبو عتبة قال : حدثنا عمر مولى غفرة من أهل المدينة عن رجل من الأنصار من بني عبد الأشهل عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( سيكون في آخر الزمان قوم يقولون لا قدر ، فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم فإنهم شيغة الدجال وحق على الله أن يلحقهم به ) ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة عن أبيه عن مؤمل عن عمر مولى غفرة بنحوه . قال المنذري : عمر مولى غفرة لا يحتج بحديثه ورجل من الأنصار مجهول وقد روي من طريق آخر عن حذيفة ولا يثبت اهـ . وقال ابن ماجة في سننه حدثنا محمد بن المصفى الحمصي حدثنا بقية بن الوليد عن الأوزاعي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله ، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ) . ورواه الطبراني في الصغير عن عبد الله بن الصقر السكري عن محمد بن المصفى . ورواه الآجري في كتاب الشريعة عن الفريابي عن محمد بن المصفى ، وقد أعل هذا الحديث بأن بقية بن الوليد عنعنه مع كثرة تدليسه .

    وروى الآجري من طريقين عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه نحـو حديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم وأعل بالإنقطاع . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : لم يسمع مكحول من أبي هريرة رضي الله عنه ، قال وأجود ما في الباب حديث حيوة بن شريح أخبرني أبو صخر حدثني نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما جاءه رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام ، فقال : إنه قد بلغني أنه قد أحدث فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .

    قلت وقد رواه ابن ماجة في سننه من حديث حيوة بن شريح عن أبي صخر وعنده بالواو في قوله مسخ وخسف وقـذف فأفاد أن ( أو ) في رواية الترمذي بمعنى ( الواو ) وليست للشك .

    ورواه الدارمي في سننه فقال : أخبرنا أبو عاصم أخبرنا حيوة بن شريح حدثني أبو صخر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام ، قال : بلغني أنه قد أحدث ، فإن كان أحدث فلا تقرأ عليه السلام . ورواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا هارون بن معروف أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني أبو صخر عن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قعودا إذ جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام لرجل من أهل الشام فقال : عبد الله رضي الله عنه بلغني أنه أحدث حدثا فإن كان كذلك فلا تقرأنَّ عليه مني السلام سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنه سيكون في أمتي مسخ وقذف وهو في الزندقية والقدرية ) . وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو عبد الرحمن بن يزيد حدثنا سعيد يعني ابن أبي أيوب حدثني أبو صخر عن نافع قال : كان لابن عمر رضي الله عنهما صديق من أهل الشام فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر ) ورواه أبو داود في سننه وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة كلاهما عن أبي عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى . ورواه الحاكم في مستدركه من طريق عبدالله بن الإمام أحمد عن أبيه ، ومن طريق السري بن خزيمة كلاهما عن عبدالله بن يزيد المقري به ، ثم قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه .

    وروى الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود وعبد الله بن الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن عمر قال : سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ) .

    وروى ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح قال : أتيت ابن عباس رضي الله عنهما وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له : قد تكلم في القدر ، فقال : أوقد فعلوها ، قلت : نعم ، قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : { ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر } أولئك شرار هذه الأمة فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين .

    وقد كان سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر السلف يهجرون المرجئة ويجانبوهم روى ذلك عنهم الإمام أحمد وابنه عبد الله في كتاب السنة . وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي : سمعت أحمد رحمه الله تعالى يقول : تقربوا إلى الله ببغض أهل الإرجاء فإنه من أوثق الأعمال عندنا . وقال الخلال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه ، قال : لا ، وإذا سلم عليه لا يرد عليه .

    وقال أبو داود رأيت أحمد سلم عليه رجل من أهل بغداد ممن وقف فيما بلغني فقال : أغرب لا أرينك تجيء إلى بابي . في كلام غليظ ولم يرد عليه السلام وقال له : ما أحوجك أن يصنع بك ما صنع عمر بصبيغ .

    وقال أبو داود أيضا حدثنا حمزة بن سعيد المروزي قال : قال أبو بكر بن عياش من زعـم لك أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق عدو لله لا تجالسه ولا تكلمه .

    وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق الوراق في كتاب الورع سألت عبد الوهاب يعني الوراق : يجالس من لا يكفر الجهمية قال : لا يجالسون ولا يكلمون المرء على دين خليله . وروى أبو نعيم في الحلية عن اسماعيل الطوسي قال : قال ابن المبارك : إياك أن تجلس مع صاحب بدعة . وروى أبو نعيم أيضا عن عبد الله بن عمر السرخسي قال : إن الحارث قال : أكلت عند صاحب بدعة أكلة فبلغ ذلك ابن المبارك فقال : لا كلمتك ثلاثين يوما .

    وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية عبدوس بن مالك العطار : أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء ، وذكر تمام الرسالة .

    وقال أبو داود في سننه : ( باب مجانبة أهل الأهواء ) وساق في الباب ثلاثة أحاديث :

    الحديث الأول : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } إلى قوله تعالى : { أولوا الألباب } قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) وقد رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن حبان وغيرهم .

    الحديث الثاني : حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله ) وقد رواه الإمام أحمد وتقدم ذكره . الحديث الثالث : طرف من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه المخرج في الصحيحين وغيرهما في قصة تخلفه عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال : ونهى رسـول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة .

    ثم قال أبو داود : ( باب ترك السلام على أهل الأهواء ) وساق في الباب حديثين :

    الحديث الأول : حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه في قصة الخلوق بالزعفران وقد تقدم ذكره مع الأحاديث في هجر أهل المعاصي .

    الحديث الثاني : حديث عائشة رضي الله عنها في هجر النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش رضي الله عنها وتقدم أيضا مع الأحاديث في هجر أهل المعاصي .

    والاستدلال بهذين الحديثين على ترك السلام على أهل الأهواء وبحديث كعب على مجانبتهم في غاية القوة والمناسبة لأن الجميع مشتركون في اسم المعصية إلا أن معصية هؤلاء المذكورين في هذه الأحاديث خفيفة بالنسبة لمعصية أهل الأهواء .

    وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هجر كعبا وصاحبيه وجانبهم وأمر أصحابه بهجرهم ومجانبتهم من أجل تخلفهم عن الجهاد الواجب عليهم وهجر زينب وجانبها من أجـل القول الذي قالته في حق صفية .

    ولم يرد السلام على عمار من أجـل الخلوق الذي كان في يديه ، فهجر أهل البدع ومجانبتهم مطلوبة بطريق الأولى والأحرى لأن ضررهم على الاسلام والمسلمين أعظم من ضرر أهل المعاصي والله أعلم .

    وقد روى أبو بكر الآجري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا تجالس أهل الأهـواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب . وروى أيضا بإسناده عن أبي قلابة أنه قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم . وقد رواه الدارمي في سننه بنحوه .

    وروى محمد بن وضاح بإسناده عن الحسن أنه قال : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك . وروى الدارمي في سننه عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولاتسمعوا منهم . وروى الدارمي أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي وقال : لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله . وروى محمد بن وضاح بإسناده عن ابراهيم أنه قال : لا تجالسوا أصحاب البدع ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم . وروى بإسناده أيضا عن سفيان الثوري أنه قال : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموه وإني واثق بنفسي فمن أَمِـن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه .

    وروى أبو نعيم في الحلية من طريق فرات بن سليمان عن ميمون بن مهران قال : ثلاث لا تبلون نفسك بهن لا تدخل على السلطان وإن قلت آمره بطاعة الله ، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله ، ولا تصغين بسمعك لذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه .

    وروى محمد بن وضاح بإسناده عن الأوزاعي قال : كانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحذرون الناس بدعتهم . وروى أيضا قال : أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : إياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة فقد مشى في هدم الإسلام وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما زادوا اجتهادا وصوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا ، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده . وقال الإمام الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري رحمه الله تعالى في شرح السنة : قال سفيان الثوري من أصغى بإذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمة الله تعالى ووكل إليها يعني البدع . وقال داود بن أبي هند أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام أن لا تجالس أهل البدع فإن جالستهم فحاك في صدرك شيء مما يقولون لأكبنك في نار جهنم .

    وقال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يؤت الحكمة . وقال أيضا : من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم ومن زوج كريمته بمبتدع فقد قطع رحمها ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع . انتهى ما ذكره البربهاري .

    وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الصمد بن يزيد قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه . وروى أيضا عن عبد الصمد قال : سمعت الفضيل يقول : إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخـر . وروى أيضا عن عبد الصمد قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : من أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام . قال وسمعت رجلا قال للفضيل : من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها . قال سمعت فضيلا يقول : نظر الرجل إلى صاحب البدعة يورث العمى . قال سمعت الفضيل يقول : من أتاه رجل فشاوره فقصر علمه فدله على مبتدع فقد غش الإسلام .

    وروى أبو نعيم أيضا عن عبد الصمد قال : سمعت الفضيل يقول : لإن آكل عند اليهودي والنصراني أحب إليَّ من أن آكل عند صاحب بدعة فإني إذا أكلت عندهما لا يقتدى بي وإذا أكلت عند صاحب بدعة اقتدى بي الناس ، أحب أن يكون بيني وبين صاحب البدعة حصن من حديد ، وعمل قليل في سنة خير من عمل صاحب بدعة ، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة ، ومن جلس إلى صاحب بدعة فاحذره ، وصاحب بدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره في أمرك ولا تجلس إليه فمن جلس إليه ورثه الله عز وجل العمى وإذا علم من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له وإن قل عمله فإني أرجو له لأن صاحب السنة يعرض كل خير وصاحب البدعة لا يرتفع له إلى الله عمل وإن كثر عمله . قال : وسمعت الفضيل يقول : أن لله عز وجل ملائكة يطلبون حلق الذكر ، فانظر مع من يكون مجلسك لا يكون مع صاحب بدعة فإن الله تعالى لا ينظر إليهم وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة , وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وهم ينهون عن أصحاب البدعة . وروى أبو نعيم أيضا عن عبد الصمد قال : سمعت الفضيل يقول : من علامة البلاء أن يكون الرجل صاحب بدعة .

    وروى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال : من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة . وروى أيضا بإسناده إلى الفضيل بن عياض أنه قال : من جلس إلى صاحب بدعة فاحذره . وروى أيضا بإسناده إلى الفضيل أنه قال : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه . وروى أيضا بإسناده إلى الفضيل أنه قال : إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر ولا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عز وجل عمل ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له سيئاته . قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى وقد روي بعض هذا الكلام مرفوعا . قال وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ) .

    وقال محمد بن النضر الحارثي : من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه . وقال يونس بن عبدالأعلى : قال الليث بن سعد لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته . فقال الشافعي : إنه ما قصر لو رأيته يمشي على الهواء ما قبلته .

    قال ابن الجوزي وحدثت عن أبي بكر الخلال عن المروذي عن محمد بن سهل البخاري قال : كنا عند الفريابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل : لو حدثنا كان أعجب إلينا فغضب ، وقال : كلامي في أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة . انتهى ما ذكره ابن الجوزي رحمه الله تعالى .

    وقد جمع الشيخ الإمام اسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني نبذة حسنة في عقيدة أهل السنة والجماعة قال فيها : ويجانبون أهل البدع والضلالات ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان ووقرت في القلوب ضرت وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة ـ إلى أن قال ـ واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم واخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم اهـ .

    وكلام السلف ومن بعدهم من أئمة الخلف في هجر أهل البدع ومن يميل إليهم كثير جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية إن شاء الله تعالى ، ومع هذا فقد أبى أهل العقل المعيشي إلا أن يخالفوا ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها فتراهم يبالغون في توقير أهل البدع وتعظيمهم ويحرصون على مؤاخاتهم مصاحبتهم ودعوتهم إلى منازلهم والدخول عليهم في بيوتهم ومواكلتهم ومشاربتهم والأنس بهم والإنبساط معهم وتوليتهم في الأعمال من تعليم وغيره لا فرق عندهم بينهم وبين أهل السنة نعوذ بالله من الخذلان وعمى البصيرة .

    وقد صار تقريب أهل البدع وتوليتهم في وظائف التعليم والوثوق بهم في ذلك سببا في إفساد عقائد كثير من المتعلمين وأخلاقهم فتراهم لا يبالون بترك المأمورات ولا بارتكاب المنهيات فلا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .

    وقد روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما بأسانيد فيها مقال عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه مرفوعا : ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ) . وذكر ابن الجوزي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا مثله وتقدم ذكره قريبا .

    وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري أنه قال لبعض أصحابه : إياك ومجالسة أهل الجفاء ولا تصحب إلا مؤمنا وألا يأكل طعامك إلا تقي ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه ولا تؤاكله ولا تؤاكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه ولا تفش إليه سرك ولا تبسَّم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت شيئا من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام .

    والله المسئول أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم ، وأن يجعلنا جميعا ممن يحب في الله ويبغض في الله ويوالي في الله ويعادي في الله ويهجر أهل البدع والفسوق والعصيان لله إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .

    وهذا آخر ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا .

    وقد كان الفراغ من تسويد هذه النبذة في يوم السبت ثالث عشر شهر ربيع الأول من سنة 1383 هـ ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر المذكور من السنة المذكورة على يد جامعها الفقير إلى الله تعالى

    حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2006
    الدولة
    ////////////////
    المشاركات
    1,254
    جزاك الله خيرا يا عبدالرحمن
    رحم الله العلامة سماحة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •