النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: الْفَوَائِدُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ قِصّةِ الْمُتَخَلّفِينَ الثّلَاثَةِ (زاد المعـاد)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2006
    الدولة
    وطني
    المشاركات
    291

    الْفَوَائِدُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ قِصّةِ الْمُتَخَلّفِينَ الثّلَاثَةِ (زاد المعـاد)

    [ الْفَوَائِدُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ قِصّةِ الْمُتَخَلّفِينَ الثّلَاثَةِ ]


    وَمِنْهَا : مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قِصّةُ الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا مِنْ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الْجَمّةِ فَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا :

    [ جَوَازُ إخْبَارِ الرّجُلِ عَنْ تَفْرِيطِهِ ]


    فَمِنْهَا : جَوَازُ إخْبَارِ الرّجُلِ عَنْ تَفْرِيطِهِ وَتَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَعَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَمَا آلَ إلَيْهِ أَمْرُهُ وَفِي ذَلِكَ مِنْ التّحْذِيرِ وَالنّصِيحَةِ وَبَيَانِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشّرّ وَمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهَا مَا هُوَ مِنْ أَهَمّ الْأُمُورِ .

    [ جَوَازُ مَدْحِ الرّجُلِ نَفْسَهُ ]


    وَمِنْهَا : جَوَازُ مَدْحِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ وَالتّرَفّعِ . وَمِنْهَا : تَسْلِيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَمّا لَمْ يُقَدّرْ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ بِمَا قُدّرَ لَهُ مِنْ نَظِيرِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ .

    [ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ مِنْ أَفْضَلِ مَشَاهِدِ الصّحَابَةِ ]


    وَمِنْهَا : أَنّ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ مَشَاهِدِ الصّحَابَةِ حَتّى إنّ كَعْبًا كَانَ لَا يَرَاهَا دُونَ مَشْهَدِ بَدْرٍ .

    [ لَمْ يَكُنْ دِيوَانٌ لِلْجَيْشِ ]


    وَمِنْهَا : أَنّ الْإِمَامَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يَسْتُرَ عَنْ رَعِيّتِهِ بَعْضَ مَا يَهُمّ بِهِ وَيَقْصِدُهُ مِنْ الْعَدُوّ وَيُوَرّي بِهِ عَنْهُ اُسْتُحِبّ لَهُ ذَلِكَ أَوْ يَتَعَيّنُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ .

    [ الْمُبَادَرَةُ إلَى انْتِهَازِ فُرْصَةِ الطّاعَةِ ]


    وَمِنْهَا : أَنّ السّتْرَ وَالْكِتْمَانَ إذَا تَضَمّنَ مَفْسَدَةً لَمْ يَجُزْ .

    وَمِنْهَا : أَنّ الْجَيْشَ فِي حَيَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دِيوَانٌ وَأَوّلُ مَنْ دَوّنَ الدّيوَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهَذَا مِنْ سُنّتِهِ الّتِي أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاتّبَاعِهَا وَظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهَا وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهَا .

    وَمِنْهَا : أَنّ الرّجْلَ إذَا حَضَرَتْ لَهُ فُرْصَةُ الْقُرْبَةِ وَالطّاعَةِ فَالْحَزْمُ كُلّ الْحَزْمِ فِي انْتِهَازِهَا وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا وَالْعَجْزِ فِي تَأْخِيرِهَا وَالتّسْوِيفِ بِهَا وَلَا سِيّمَا إذَا لَمْ يَثِقْ بِقُدْرَتِهِ وَتَمَكّنِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهَا فَإِنّ الْعَزَائِمَ وَالْهِمَمَ سَرِيعَةُ الِانْتِقَاضِ قَلّمَا ثَبَتَتْ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ يُعَاقِبُ مَنْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنْ الْخَيْرِ فَلَمْ يَنْتَهِزْهُ بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ بَعْدُ مِنْ إرَادَتِهِ عُقُوبَةً لَهُ فَمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ إذَا دَعَاهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِجَابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [ الْأَنْفَالُ 24 ] وَقَدْ صَرّحَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ [ الْأَنْعَامُ 110 ] وَقَالَ تَعَالَى : فَلَمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ [ الصّفّ 5 ] . وَقَالَ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ لَهُمْ مَا يَتّقُونَ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ التّوْبَةُ 115 ] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .

    [ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلّفُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا مُنَافِقٌ أَوْ مَعْذُورٌ
    أَوْ مَنْ خَلّفَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]

    وَمِنْهَا : أَنّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلّفُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَحَدُ رِجَالٍ ثَلَاثَةٍ إمّا مَغْمُوصٌ عَلَيْهِ فِي النّفَاقِ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ أَوْ مَنْ خَلّفَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَوْ خَلّفَهُ لِمَصْلَحَةٍ .

    وَمِنْهَا : أَنّ الْإِمَامَ وَالْمُطَاعَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُهْمِلَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بَلْ يُذَكّرُهُ لِيُرَاجِعَ الطّاعَةَ وَيَتُوبَ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ بِتَبُوكَ : مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ مِنْ الْمُخَلّفِينَ اسْتِصْلَاحًا لَهُ وَمُرَاعَاةً وَإِهْمَالًا لِلْقَوْمِ الْمُنَافِقِينَ .

    [ تَذْكِيرُ الْإِمَامِ وَالْمُطَاعِ الْمُتَخَلّفِينَ بِالتّوْبَةِ ]


    وَمِنْهَا : جَوَازُ الطّعْنِ فِي الرّجُلِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى اجْتِهَادِ الطّاعِنِ حَمِيّةً أَوْ ذَبّا عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَمِنْ هَذَا طَعْنُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِيمَنْ طَعَنُوا فِيهِ مِنْ الرّوَاةِ وَمِنْ هَذَا طَعْنُ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ السّنّةِ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ لِلّهِ لَا لِحُظُوظِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ .

    [ جَوَازُ الطّعْنِ اجْتِهَادًا ]


    وَمِنْهَا : جَوَازُ الرّدّ عَلَى الطّاعِنِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنّ الرّادّ أَنّهُ وَهِمَ وَغَلِطَ كَمَا قَالَ مُعَاذٌ لِلّذِي طَعَنَ فِي كَعْبٍ بِئْسَ مَا قُلْت وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا وَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

    وَمِنْهَا : أَنّ السّنّةَ لِلْقَادِمِ مِنْ السّفَرِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ عَلَى وُضُوءٍ وَأَنْ يَبْدَأَ بِبَيْتِ اللّهِ قَبْلَ بَيْتِهِ فَيُصَلّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ يَجْلِسُ لِلْمُسَلّمِينَ عَلَيْهِ ثُمّ يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِهِ .

    [ الْحُكْمُ بِالظّاهِرِ ]


    وَمِنْهَا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْبَلُ عَلَانِيَةً مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَيَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلَى اللّهِ وَيُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمَ الظّاهِرِ وَلَا يُعَاقِبُهُ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ سِرّهِ .

    [ تَرْكُ رَدّ السّلَامِ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ]


    وَمِنْهَا : تَرْكُ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ رَدّ السّلَامِ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُنْقَلْ أَنّهُ رَدّ عَلَى كَعْبٍ بَلْ قَابَلَ سَلَامَهُ بِتَبَسّمِ الْمُغْضَبِ .

    [ تَبَسّمُ الْغَضَبِ ]


    وَمِنْهَا : أَنّ التّبَسّمَ قَدْ يَكُونُ عَنْ الْغَضَبِ كَمَا يَكُونُ عَنْ التّعَجّبِ وَالسّرُورِ فَإِنّ كُلّا مِنْهُمَا يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ وَثَوَرَانِهِ وَلِهَذَا تَظْهَرُ حُمْرَةُ الْوَجْهِ لِسُرْعَةِ ثَوَرَانِ الدّمِ فِيهِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السّرُورُ وَالْغَضَبُ تَعَجّبٌ يَتْبَعُهُ ضَحِكٌ وَتَبَسّمٌ فَلَا يَغْتَرّ الْمُغْتَرّ بِضَحِكِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا سِيّمَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ كَمَا قِيلَ

    إذَا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بَارِزَةً

    فَلَا تَظُنّنّ أَنّ اللّيْثَ مُبْتَسِمُ


    [ جَوَازُ مُعَاتَبَةِ الْإِمَامِ وَالْمُطَاعِ أَصْحَابَهُ ]


    وَمِنْهَا : مُعَاتَبَةُ الْإِمَامِ وَالْمُطَاعِ أَصْحَابَهُ وَمَنْ يَعِزّ عَلَيْهِ وَيَكْرُمُ عَلَيْهِ فَإِنّهُ عَاتَبَ الثّلَاثَةَ دُونَ سَائِرِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ وَقَدْ أَكْثَرَ النّاسُ مِنْ مَدْحِ عِتَابِ الْأَحِبّةِ وَاسْتِلْذَاذِهِ وَالسّرُورِ بِهِ فَكَيْفَ بِعِتَابِ أَحَبّ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَى الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ وَلِلّهِ مَا كَانَ أَحْلَى ذَلِكَ الْعِتَابَ وَمَا أَعْظَمَ ثَمَرَتَهُ وَأَجَلّ فَائِدَتَهُ وَلِلّهِ مَا نَالَ بِهِ الثّلَاثَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَسَرّاتِ وَحَلَاوَةِ الرّضَى وَخُلَعِ الْقَبُولِ .

    [ تَوْفِيقُ اللّهِ لِكَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ ]


    وَمِنْهَا : تَوْفِيقُ اللّهِ لِكَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الصّدْقِ وَلَمْ يَخْذُلْهُمْ حَتّى كَذَبُوا وَاعْتَذَرُوا بِغَيْرِ الْحَقّ فَصَلُحَتْ عَاجِلَتُهُمْ وَفَسَدَتْ عَاقِبَتُهُمْ كُلّ الْفَسَادِ وَالصّادِقُونَ تَعِبُوا فِي الْعَاجِلَةِ بَعْضَ التّعَبِ فَأَعْقَبَهُمْ صَلَاحُ الْعَاقِبَةِ وَالْفَلَاحِ كُلّ الْفَلَاحِ وَعَلَى هَذَا قَامَتْ الدّنْيَا وَالْآخِرَةُ فَمَرَارَاتُ الْمُبَادِي حَلَاوَاتٌ فِي الْعَوَاقِبِ وَحَلَاوَاتِ الْمُبَادِي مَرَارَاتُ فِي الْعَوَاقِبِ . وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَعْبٍ أَمّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِي التّمَسّكِ بِمَفْهُومِ اللّقَبِ عِنْدَ قِيَامِ قَرِينَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَذْكُورِ بِالْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [ الْأَنْبِيَاءُ 78 و 79 ] وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمّا هَذَا فَقَدْ صَدَق وَهَذَا مِمّا لَا يَشُكّ السّامِعُ أَنّ الْمُتَكَلّمَ قَصَدَ تَخْصِيصَهُ بِالْحُكْمِ .

    [ يَنْبَغِي لِلرّجُلِ أَنْ يَرِدَ حَرّ الْمُصِيبَةِ بِرُوحِ التّأَسّي بِمَنْ لَقِيَ مِثْلَ مَا لَقِي ]

    [ وَهُمْ الزّهْرِيّ فِي جَعْلِهِ صَاحِبَيْ كَعْبٍ مِمّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَلَمْ يَغْلَطْ إلّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ]

    وَقَوْلُ كَعْبٍ : هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيع وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ فِيهِ أَنّ الرّجُلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرِدَ حَرّ الْمُصِيبَةِ بِرُوحِ التّأَسّي بِمَنْ لَقِيَ مِثْلَ مَا لَقِيَ وَقَدْ أَرْشَدَ سُبْحَانَهُ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [ النّسَاءُ 104 ] وَهَذَا هُوَ الرّوحُ الّذِي مَنَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ النّارِ فِيهَا بِقَوْلِهِ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ الزّخْرُفُ 39 ] . وَقَوْلُهُ " فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ " هَذَا الْمَوْضِعُ مِمّا عُدّ مِنْ أَوْهَامِ الزّهْرِيّ فَإِنّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسّيَرِ الْبَتّةَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ فِي أَهْلِ بَدْرٍ لَا ابْنُ إسْحَاقَ وَلَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَا الْأُمَوِيّ وَلَا الْوَاقِدِيّ وَلَا أَحَدٌ مِمّنْ عَدّ أَهْلَ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَلّا يَكُونَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَهْجُرْ حَاطِبًا وَلَا عَاقَبَهُ وَقَدْ جَسّ عَلَيْهِ وَقَالَ لِعُمَرَ لَمّا هَمّ بِقَتْلِهِ وَمَا يُدْرِيكَ أَنّ اللّهَ اطّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم وَأَيْنَ ذَنْبُ التّخَلّفِ مِنْ ذَنْبِ الْجَسّ .

    قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيّ : وَلَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى كَشْفِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ الْأَثْرَمَ قَدْ ذَكَرَ الزّهْرِيّ وَذَكَرَ فَضْلَهُ وَحِفْظَهُ وَإِتْقَانَهُ وَأَنّهُ لَا يَكَادُ يُحْفَظُ عَلَيْهِ غَلَطٌ إلّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنّهُ قَالَ إنّ مُرَارَةَ بْنَ الرّبِيعِ وَهِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ شَهِدَا بَدْرًا وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَالْغَلَطُ لَا يُعْصَمُ مِنْهُ إنْسَانٌ .

    فَصْلٌ

    [ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ لِتَأْدِيبِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِمْ ]


    وَفِي نَهْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَكَذِبِ الْبَاقِينَ فَأَرَادَ هَجْرَ الصّادِقِينَ وَتَأْدِيبَهُمْ عَلَى هَذَا الذّنْبِ وَأَمّا الْمُنَافِقُونَ فَجُرْمُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِالْهَجْرِ فَدَوَاءُ هَذَا الْمَرَضِ لَا يُعْمَلُ فِي مَرَضِ النّفَاقِ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ فِي عُقُوبَاتِ جَرَائِمِهِمْ فَيُؤَدّبُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الّذِي يُحِبّهُ وَهُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ بِأَدْنَى زَلّةٍ وَهَفْوَةٍ فَلَا يَزَالُ مُسْتَيْقِظًا حَذَرًا وَأَمّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَهَانَ عَلَيْهِ فَإِنّهُ يُخَلّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ وَكُلّمَا أَحْدَثَ ذَنْبًا أَحْدَث لَهُ نِعْمَةً وَالْمَغْرُورُ يَظُنّ أَنّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنّ ذَلِكَ عَيْنُ الْإِهَانَةِ وَأَنّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَذَابَ الشّدِيدَ وَالْعُقُوبَةَ الّتِي لَا عَاقِبَةَ مَعَهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ إذَا أَرَادَ اللّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّا أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدّنْيَا فَيَرِدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذُنُوبِهِ

    [ جَوَازُ الْهَجْرِ لِلتّأْدِيبِ ]


    وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى هِجْرَانِ الْإِمَامِ وَالْعَالِمِ وَالْمُطَاعِ لِمَنْ فَعَلَ مَا يَسْتَوْجِبُ الْعَتَبُ وَيَكُونُ هِجْرَانُهُ دَوَاءً لَهُ بِحَيْثُ لَا يَضْعُفُ عَنْ حُصُولِ الشّفَاءِ بِهِ وَلَا يَزِيدَ فِي الْكَمّيّةِ وَالْكَيْفِيّةِ عَلَيْهِ فَيُهْلِكُهُ إذْ الْمُرَادُ تَأْدِيبُهُ لَا إتْلَافُهُ .

    [ التّنَكّرُ وَالْوَحْشَةُ دَلِيلٌ عَلَى حَيَاةِ الْقَلْبِ ]


    وَقَوْلِهِ حَتّى تَنَكّرَتْ لِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بَالَتِي أَعْرِف هَذَا التّنَكّرُ يَجِدُهُ الْخَائِفُ وَالْحَزِينُ وَالْمَهْمُومُ فِي الْأَرْضِ وَفِي الشّجَرِ وَالنّبَاتِ حَتّى يَجِدَهُ فِيمَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ مِنْ النّاسِ وَيَجِدُهُ أَيْضًا الْمُذْنِبُ الْعَاصِي بِحَسَبِ جُرْمِهِ حَتّى فِي خُلُقِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ وَدَابّتِهِ وَيَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا فَتَتَنَكّرُ لَهُ نَفْسُهُ حَتّى مَا كَأَنّهُ هُوَ وَلَا كَأَنّ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَمَنْ يُشْفِقُ عَلَيْهِ بِاَلّذِينَ يَعْرِفُهُمْ وَهَذَا سِرّ مِنْ اللّهِ لَا يَخْفَى إلّا عَلَى مَنْ هُوَ مَيّتُ الْقَلْبِ وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ إدْرَاكُ هَذَا التّنَكّرِ وَالْوَحْشَةِ .

    وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيّتٍ إيلَامُ


    وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ هَذَا التّنَكّرَ وَالْوَحْشَةَ كَانَا لِأَهْلِ النّفَاقِ أَعْظَمَ وَلَكِنْ لِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِهِ وَهَكَذَا الْقَلْبُ إذَا اسْتَحْكَمَ مَرَضُهُ وَاشْتَدّ أَلَمُهُ بِالذّنُوبِ وَالْإِجْرَامِ لَمْ يَجِدْ هَذِهِ الْوَحْشَةَ وَالتّنَكّرَ وَلَمْ يَحُسّ بِهَا وَهَذِهِ عَلَامَةُ الشّقَاوَةِ وَأَنّهُ قَدْ أَيسَ مِنْ عَافِيَةِ هَذَا الْمَرَضِ وَأَعْيَا الْأَطِبّاءَ شِفَاؤُهُ وَالْخَوْفُ وَالْهَمّ مَعَ الرّيبَةِ وَالْأَمْنِ وَالسّرُورُ مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ الذّنْبِ .

    فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِيءٍ

    وَلَا فِي الْأَرْضِ أَخْوَفُ مِنْ مُرِيبٍ


    وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الْبَصِيرُ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ ثُمّ رَاجَعَ فَإِنّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ نَفْعًا عَظِيمًا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ تُفَوّتُ الْحَصْرَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إلّا اسْتِثْمَارُهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْلَامَ النّبُوّةِ وَذَوْقُهُ نَفْسَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرّسُولُ فَيَصِيرُ تَصْدِيقُهُ ضَرُورِيّا عِنْدَهُ وَيَصِيرُ مَا نَالَهُ مِنْ الشّرّ بِمَعَاصِيهِ وَمِنْ الْخَيْرِ بِطَاعَاتِهِ مِنْ أَدِلّةِ صِدْقِ النّبُوّةِ الذّوْقِيّةِ الّتِي لَا تَتَطَرّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالَاتُ وَهَذَا كَمَنْ أَخْبَرَك أَنّ فِي هَذِهِ الطّرِيقِ مِنْ الْمَعَاطِبِ وَالْمَخَاوِفِ كَيْتَ وَكَيْتَ عَلَى التّفْصِيلِ فَخَالَفَتْهُ وَسَلَكَتْهَا فَرَأَيْتَ عَيْنَ مَا أَخْبَرَك بِهِ فَإِنّك تَشْهَدُ صِدْقَهُ فِي نَفْسِ خِلَافِك لَهُ وَأَمّا إذَا سَلَكَتْ طَرِيقَ الْأَمْنِ وَحْدَهَا وَلَمْ تَجِدْ مِنْ تِلْكَ الْمَخَاوِفِ شَيْئًا فَإِنّهُ وَإِنْ شَهِدَ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِمَا نَالَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالظّفَرِ مُفَصّلًا فَإِنّ عِلْمَهُ بِتِلْكَ يَكُونُ مُجْمَلًا .

    فَصْلٌ
    [ عِلّةُ تَخَلّفِ صَدِيقَيْ كَعْبٍ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ]


    وَمِنْهَا : أَنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ وَمُرَارَةَ قَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا وَكَانَا يُصَلّيَانِ فِي بُيُوتِهِمَا وَلَا يَحْضُرَانِ الْجَمَاعَةَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِينَ لِلرّجُلِ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ التّخَلّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ أَوْ يُقَالُ مِنْ تَمَامِ هِجْرَانِهِ أَنْ لَا يَحْضُرَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ يُقَالُ فَكَعْبٌ كَانَ يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِمَا عَلَى التّخَلّفِ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ لَمّا أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهَجْرِهِمْ تَرَكُوا : لَمْ يُؤْمَرُوا وَلَمْ يَنْهَوْا وَلَمْ يُكَلّمُوا فَكَانَ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُمْنَعْ وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يُكَلّمْ أَوْ يُقَالُ لَعَلّهُمَا ضَعَفَا وَعَجَزَا عَنْ الْخُرُوجِ وَلِهَذَا قَالَ كَعْبٌ وَكُنْت أَنَا أَجْلَدَ الْقَوْمِ وَأَشْبَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ .

    [ رَدّ السّلَامِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقّ الْهَجْرَ غَيْرَ وَاجِبٍ ]


    وَقَوْلُهُ وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلَاةِ فَأَقُولُ هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيّ أَمْ لَا ؟ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الرّدّ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقّ الْهَجْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ إذْ لَوْ وَجَبَ الرّدّ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ إسْمَاعِهِ .

    [ دُخُولُ دَارِ الصّاحِبِ مِنْ غَيْرِ إذْن ]
    وَقَوْلُهُ حَتّى إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ تَسَوّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ الْإِنْسَانِ دَارَ صَاحِبِهِ وَجَارِهِ إذَا عَلِمَ رِضَاهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ .

    [ قَوْلُ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ لَيْسَ بِخِطَابٍ ]


    وَفِي قَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ لَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ هَذَا لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلَا كَلَامٍ لَهُ فَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلّمُهُ فَقَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَا سِيّمَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ مُكَالَمَتَهُ وَهُوَ الظّاهِرُ مِنْ حَالِ أَبِي قَتَادَةَ .

    [ إشَارَةُ النّاسِ إلَى النّبَطِيّ عَلَى كَعْبٍ دُونَ نُطْقِهِمْ تَحْقِيقٌ لِمَقْصُودِ الْهِجْرَانِ ]


    وَفِي إشَارَةِ النّاس إلَى النّبَطِيّ الّذِي كَانَ يَقُولُ مَنْ يَدُلّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ دُونَ نُطْقِهِمْ لَهُ تَحْقِيقٌ لِمَقْصُودِ الْهَجْرِ وَإِلّا فَلَوْ قَالُوا لَهُ صَرِيحًا : ذَاكَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا لَهُ فَلَا يَكُونُونَ بِهِ مُخَالِفِينَ لِلنّهْيِ وَلَكِنْ لِفَرْطِ تَحَرّيهِمْ وَتَمَسّكِهِمْ بِالْأَمْرِ لَمْ يَذْكُرُوهُ لَهُ بِصَرِيحِ اسْمِهِ . وَقَدْ يُقَالُ إنّ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ نَوْعَ مُكَالَمَةٍ لَهُ وَلَا سِيّمَا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامِهِ وَهِيَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَنْعِ الْحِيَلِ وَسَدّ الذّرَائِعِ وَهَذَا أَفْقَهُ وَأَحْسَنُ .

    [ ابْتِلَاءُ اللّهِ لِكَعْبٍ بِمُكَاتَبَةِ مَلِكِ غَسّانَ لَهُ ]


    وَفِي مُكَاتَبَةِ مَلِكِ غَسّانَ لَهُ بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٌ لِإِيمَانِهِ وَمَحَبّتِهِ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَإِظْهَارٌ لِلصّحَابَةِ أَنّهُ لَيْسَ مِمّنْ ضَعُفَ إيمَانُهُ بِهَجْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لَهُ وَلَا هُوَ مِمّنْ تَحْمِلُهُ الرّغْبَةُ فِي الْجَاهِ وَالْمُلْكِ مَعَ هِجْرَانِ الرّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِ فَهَذَا فِيهِ مِنْ تَبْرِئَةِ اللّهِ لَهُ مِنْ النّفَاقِ وَإِظْهَارِ قُوّةِ إيمَانِهِ وَصِدْقِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَيْهِ وَلُطْفِهِ بِهِ وَجَبْرِهِ لِكَسْرِهِ وَهَذَا الْبَلَاءُ يُظْهِرُ لُبّ الرّجُلِ وَسِرّهُ وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْكِيرِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنْ الطّيّبِ .

    [ إتْلَافُ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَضَرّةُ فِي الدّينِ ]


    وَقَوْلُهُ فَتَيَمّمْت بِالصّحِيفَةِ التّنّورَ فِيهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى إتْلَافِ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْمَضَرّةُ فِي الدّينِ وَأَنّ الْحَازِمَ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ وَلَا يُؤَخّرُهُ وَهَذَا كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمّرَ وَكَالْكِتَابِ الّذِي يُخْشَى مِنْهُ الضّرَرُ وَالشّرّ فَالْحَزْمُ الْمُبَادَرَةُ إلَى إتْلَافِهِ وَإِعْدَامِهِ .

    [ عَدَاوَةُ غَسّانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكِتَابُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ ]


    وَكَانَتْ غَسّانُ إذْ ذَاكَ - وَهُمْ مُلُوكُ عَرَبِ الشّامِ - حَرْبًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا يُنْعِلُونَ خُيُولَهُمْ لِمُحَارَبَتِهِ وَكَانَ هَذَا لَمّا بَعَثَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ الْأَسَدِيّ إلَى مَلِكِهِمْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسّانِيّ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَتَبَ مَعَهُ إلَيْهِ قَالَ شُجَاعٌ فَانْتَهَيْتُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي غَوْطَةِ دِمَشْقَ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِتَهْيِئَةِ الْأَنْزَالِ وَالْأَلْطَافِ لِقَيْصَرَ وَهُوَ جَاءٍ مِنْ حِمْصَ إلَى إيلِيَاءَ فَأَقَمْتُ عَلَى بَابِهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقُلْتُ لِحَاجِبِهِ إنّي رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ فَقَالَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ حَتّى يَخْرُجَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَجَعَلَ حَاجِبُهُ - وَكَانَ رُومِيّا اسْمُهُ مُرّيّ - يَسْأَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُنْتُ أُحَدّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ فَيَرِقّ حَتّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ وَيَقُولَ إنّي قَرَأْتُ الْإِنْجِيلَ فَأَجِدُ صِفَةَ هَذَا النّبِيّ بِعَيْنِهِ فَأَنَا أُؤْمِنُ بِهِ وَأُصَدّقُهُ فَأَخَافُ مِنْ الْحَارِثِ أَنْ يَقْتُلَنِي وَكَانَ يُكْرِمُنِي وَيُحْسِنُ ضِيَافَتِي .

    وَخَرَجَ الْحَارِثُ يَوْمًا فَجَلَسَ فَوَضَعَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذِنَ لِي عَلَيْهِ فَدَفَعْت إلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَرَأَهُ ثُمّ رَمَى بِهِ قَالَ مَنْ يَنْتَزِعُ مِنّي مُلْكِي وَقَالَ أَنَا سَائِرٌ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ بِالْيَمَنِ جِئْته عَلَيّ بِالنّاسِ فَلَمْ تَزَلْ تُعْرَضُ حَتّى قَامَ وَأَمَرَ بِالْخُيُولِ تُنْعَلُ ثُمّ قَالَ أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا تَرَى وَكَتَبَ إلَى قَيْصَرَ يُخْبِرُهُ خَبَرِي وَمَا عَزَمَ عَلَيْهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ قَيْصَرُ أَنْ لَا تَسِرْ وَلَا تَعْبُرْ إلَيْهِ وَالْهُ عَنْهُ وَوَافِنِي بِإِيلِيَاءَ فَلَمّا جَاءَهُ جَوَابُ كِتَابِهِ دَعَانِي فَقَالَ مَتَى تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ إلَى صَاحِبِك ؟ فَقُلْت : غَدًا فَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا وَوَصَلَنِي حَاجِبُهُ بِنَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ وَقَالَ اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنّي السّلَامَ فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ " بَادَ مُلْكُهُ " وَأَقْرَأْتُهُ مِنْ حَاجِبِهِ السّلَامَ وَأَخْبَرْته بِمَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " صَدَقَ " وَمَاتَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ عَامَ الْفَتْحِ فَفِي هَذِهِ الْمُدّةِ أَرْسَلَ مَلِكُ غَسّانَ يَدْعُو كَعْبًا إلَى اللّحَاقِ بِهِ فَأَبَتْ لَهُ سَابِقَةُ الْحُسْنَى أَنْ يَرْغَبَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدِينِهِ .

    فَصْلٌ

    [ أَمْرُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِهَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ بِاعْتِزَالِ نِسَائِهِمْ كَالْبِشَارَةِ بِمُقَدّمَاتِ الْفَرَجِ مِنْ حَيْثُ إرْسَالُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ وَالْجِدّ فِي الْعِبَادَةِ بِاعْتِزَالِ النّسَاءِ ]


    فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِهَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ أَنْ يَعْتَزِلُوا نِسَاءَهُمْ لِمَا مَضَى لَهُمْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً كَالْبِشَارَةِ بِمُقَدّمَاتِ الْفَرَجِ وَالْفَتْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ

    أَحَدُهُمَا : كَلَامُهُ لَهُمْ وَإِرْسَالُهُ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُكَلّمُهُمْ بِنَفْسِهِ وَلَا بِرَسُولِهِ .

    الثّانِي : مِنْ خُصُوصِيّةِ أَمْرِهِمْ بِاعْتِزَالِ النّسَاءِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ لَهُمْ إلَى الْجِدّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَشَدّ الْمِئْزَرِ وَاعْتِزَالِ مَحَلّ اللّهْوِ وَاللّذّةِ وَالتّعَوّضِ عَنْهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَفِي هَذَا إيذَانٌ بِقُرْبِ الْفَرَجِ وَأَنّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ الْعَتَبِ أَمْرٌ يَسِيرٌ .

    وَفِقْهُ هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّ زَمَنَ الْعِبَادَاتِ يَنْبَغِي فِيهِ تَجَنّبُ النّسَاءِ كَزَمَنِ الْإِحْرَامِ وَزَمَنِ الِاعْتِكَافِ وَزَمَنِ الصّيَامِ فَأَرَادَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ هَذِهِ الْمُدّةِ فِي حَقّ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ أَيّامِ الْإِحْرَامِ وَالصّيَامِ فِي تَوَفّرِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَوّلِ الْمُدّةِ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ إذْ لَعَلّهُمْ يَضْعُفُ صَبْرُهُمْ عَنْ نِسَائِهِمْ فِي جَمِيعِهَا فَكَانَ مِنْ اللّطْفِ بِهِمْ وَالرّحْمَةِ أَنْ أُمِرُوا بِذَلِكَ فِي آخِرِ الْمُدّةِ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْحَاجّ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ لَا مِنْ حِينِ يَعْزِمُ عَلَى الْحَجّ .

    [ لَفْظُ الطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَقَعُ إذَا لَمْ يَرُدّهُ ]


    وَقَوْلُ كَعْبٍ لِامْرَأَتِهِ الْحَقِي بِأَهْلِك دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَقَعْ بِهَذِهِ اللّفْظَةِ وَأَمْثَالِهَا طَلَاقٌ مَا لَمْ يَنْوِهِ . وَالصّحِيحُ إنّ لَفْظَ الطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحُرّيّةِ كَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ تَسْيِيبِ الزّوْجَةِ وَإِخْرَاجِ الرّقِيقِ عَنْ مُلْكِهِ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ هَذَا هُوَ الصّوَابُ الّذِي نَدِينُ اللّهَ بِهِ وَلَا نَرْتَابُ فِيهِ الْبَتّةَ . فَإِذَا قِيلَ لَهُ إنّ غُلَامَك فَاجِرٌ أَوْ جَارِيَتُك تَزْنِي فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ غُلَامٌ عَفِيفٌ حُرّ وَجَارِيَةٌ عَفِيفَةٌ حُرّةٌ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ حُرّيّةَ الْعِتْقِ وَإِنّمَا أَرَادَ حُرّيّةَ الْعِفّةِ فَإِنّ جَارِيَتَهُ وَعَبْدَهُ لَا يُعْتَقَانِ بِهَذَا أَبَدًا وَكَذَا إذَا قِيلَ لَهُ كَمْ لِغُلَامِك عِنْدَك سَنَةً ؟ فَقَالَ هُوَ عَتِيقٌ عِنْدِي وَأَرَادَ قِدَمَ مُلْكِهِ لَهُ لَمْ يُعْتِقْ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ الطّلْقُ فَسُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ وَلَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ إيقَاعُ الطّلَاقِ وَإِنّمَا أَرَادَ أَنّهَا فِي طَلْقِ الْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ بِهَذَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ صَرِيحَةٌ إلّا فِيمَا أُرِيدَ بِهَا وَدَلّ السّيَاقُ عَلَيْهَا فَدَعْوَى أَنّهَا صَرِيحَةٌ فِي الْعَتَاقِ وَالطّلَاقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ مُكَابَرَةٌ وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ قَطْعًا .

    فَصْلٌ

    [ كَانَ سُجُودُ الشّكْرِ مِنْ عَادَةِ الصّحَابَةِ ]


    وَفِي سُجُودِ كَعْبٍ حِينَ سَمِعَ صَوْتَ الْمُبَشّرِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنّ تِلْكَ كَانَتْ عَادَةُ الصّحَابَةِ وَهِيَ سُجُودُ الشّكْرِ عِنْدَ النّعَمِ الْمُتَجَدّدَةِ وَالنّقَمِ الْمُنْدَفِعَةِ وَقَدْ سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ لَمّا جَاءَهُ قَتْلُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ

    وَسَجَدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمّا وَجَدَ ذَا الثّدَيّةِ مَقْتُولًا فِي الْخَوَارِج

    وَسَجَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَشّرَهُ جِبْرِيلُ أَنّهُ مَنْ صَلّى عَلَيْهِ مَرّةً صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا

    وَسَجَدَ حِينَ شَفَعَ لِأُمّتِهِ فَشَفّعَهُ اللّهُ فِيهِمْ ثَلَاثَ مَرّاتٍ

    وَأَتَاهُ بَشِيرٌ فَبَشّرَهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلَى عَدُوّهِمْ وَرَأْسِهِ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ فَقَامَ فَخَرّ سَاجِدًا

    وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرّهُ خَرّ لِلّهِ سَاجِدًا وَهِيَ آثَارٌ صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا .

    [ حِرْصُ الصّحَابَةِ عَلَى الْخَيْرِ ]


    وَفِي اسْتِبَاقِ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالرّاقِي عَلَى سِلَعٍ لِيُبَشّرَا كَعْبًا دَلِيلٌ عَلَى حِرْصِ الْقَوْمِ عَلَى الْخَيْرِ وَاسْتِبَاقِهِمْ إلَيْهِ وَتَنَافُسِهِمْ فِي مَسَرّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا .

    [ إعْطَاءُ الْبَشِيرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ]


    وَفِي نَزْعِ كَعْبٍ ثَوْبَيْهِ وَإِعْطَائِهِمَا لِلْبَشِيرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ إعْطَاءَ الْمُبَشّرِينَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمِ وَعَادَةِ الْأَشْرَافِ وَقَدْ أَعْتَقَ الْعَبّاسُ غُلَامَهُ لَمّا بَشّرَهُ أَنّ عِنْدَ ا لْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يَسُرّهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ الْبَشِيرِ جَمِيعَ ثِيَابِهِ .

    [ اسْتِحْبَابُ تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيّةٌ ]

    وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيّةٌ وَالْقِيَامُ إلَيْهِ إذَا أَقْبَلَ وَمُصَافَحَتُهُ فَهَذِهِ سُنّةٌ مُسْتَحَبّةٌ وَهُوَ جَائِزٌ لِمَنْ تَجَدّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيّةٌ وَأَنّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَهُ لِيَهْنِكَ مَا أَعْطَاك اللّهُ وَمَا مِنْ اللّهِ بِهِ عَلَيْك وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنّ فِيهِ تَوْلِيَةَ النّعْمَةِ رَبّهَا وَالدّعَاءَ لِمَنْ نَالَهَا بِالتّهَنّي بِهَا .

    [ يَوْمُ تَوْبَةِ الْمُسْلِمِ خَيْرُ الْأَيّامِ ]


    وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ خَيْرَ أَيّامِ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَفْضَلَهَا يَوْمَ تَوْبَتِهِ إلَى اللّهِ وَقَبُولِ اللّهِ تَوْبَتَهُ لِقَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمّكَ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ خَيْرًا مِنْ يَوْمِ إسْلَامِهِ ؟

    قِيلَ هُوَ مُكَمّلٌ لِيَوْمِ إسْلَامِهِ وَمِنْ تَمَامِهِ فَيَوْمُ إسْلَامِهِ بِدَايَةُ سَعَادَتِهِ وَيَوْمُ تَوْبَتِهِ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .

    [ سُرُورُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَى الْمُخَلّفِينَ دَلِيلٌ عَلَى شَفَقَتِهِ عَلَى أُمّتِهِ ]


    وَفِي سُرُورِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ وَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا جَعَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ كَمَالِ الشّفَقَةِ عَلَى الْأُمّةِ وَالرّحْمَةِ بِهِمْ وَالرّأْفَةِ حَتّى لَعَلّ فَرَحَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ .

    [ اسْتِحْبَابُ الصّدَقَةِ عِنْدَ التّوْبَةِ ]


    وَقَوْلُ كَعْبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي . دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصّدَقَةِ عِنْدَ التّوْبَةِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ .

    [ مَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِكُلّ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ ]


    وَقَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِكُلّ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إخْرَاجُ جَمِيعِهِ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْقِيَ لَهُ مِنْهُ بَقِيّةٌ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِي ذَلِكَ فَفِي " الصّحِيحَيْن ِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك وَلَمْ يُعَيّنْ لَهُ قَدْرًا بَلْ أَطْلَقَ وَوَكَلَهُ إلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ الْكِفَايَةِ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ فَإِنّ مَا نَقَصَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ أَهْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التّصَدّقُ بِهِ فَنَذْرُهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِ وَحَاجَتِهِ فَإِخْرَاجُهُ وَالصّدَقَةُ بِهِ أَفْضَلُ فَيَجِبُ إخْرَاجُهُ إذَا نَذَرَهُ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ وَلِهَذَا تَقَدّمَ كِفَايَةُ الرّجُلِ وَكِفَايَةُ أَهْلِهِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًا لِلّهِ كَالْكَفّارَاتِ وَالْحَجّ أَوْ حَقًا لِلْآدَمِيّينَ كَأَدَاءِ الدّيُونِ فَإِنّا نَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ مَا لَا بُدّ مِنْهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَكُسْوَةٍ وَآلَةِ حِرْفَةٍ أَوْ مَا يَتّجِرُ بِهِ لِمُؤْنَتِهِ إنْ فُقِدَتْ الْحِرْفَةُ وَيَكُونُ حَقّ الْغُرَمَاءِ فِيمَا بَقِيَ .

    وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنّ مَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَجْزَاهُ ثُلُثُهُ وَاحْتَجّ لَهُ أَصْحَابُهُ بِمَا رُوِيَ فِي قِصّةِ كَعْبٍ هَذِهِ أَنّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلّهِ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً قَالَ " لَا " قُلْت : فَنَصِفُهُ ؟ قَالَ " لَا " قُلْت : فَثُلُثُهُ قَالَ " نَعَمْ " قُلْت : فَإِنّي أُمْسِكُ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَر

    رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي ثُبُوتِ هَذَا مَا فِيهِ فَإِنّ الصّحِيحَ فِي قِصّةِ كَعْبٍ هَذِهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ وَلَدِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِقَدْرِهِ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْقِصّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنّهُمْ وَلَدُهُ وَعَنْهُ نَقَلُوهَا .

    [ مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ]


    فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " أَنّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ لَمّا تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي وَأُسَاكِنَك وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلِرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يُجْزِئُ - عَنْكَ الثّلُثُ

    قِيلَ هَذَا هُوَ الّذِي احْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ لَا بِحَدِيثِ كَعْبٍ فَإِنّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللّهِ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدّقَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِمّا يَمْلِكُهُ فَاَلّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَبَا لُبَابَةَ بِالثّلُثِ وَأَحْمَدُ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ أَنْ يَحْتَجّ بِحَدِيثِ كَعْبٍ هَذَا الّذِي فِيهِ ذِكْرُ الثّلُثِ إذْ الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك وَكَأَنّ أَحْمَدَ رَأَى تَقْيِيدَ إطْلَاقِ حَدِيثِ كَعْبٍ هَذَا بِحَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ .

    وَقَوْلُهُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدّقَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهُ إنّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ نَذْرِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ ثُمّ إذَا قَضَى الدّيْنَ أَخْرَجَ مِقْدَارَ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ النّذْرِ وَهَكَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللّهِ : إذَا وَهَبَ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ وَاسْتَفَادَ غَيْرُهُ فَإِنّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ حِنْثِهِ يُرِيدُ بِيَوْمِ حِنْثِهِ يَوْمَ نَذْرِهِ فَيَنْظُرُ قَدْرَ الثّلُثِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيُخْرِجُهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ .

    وَقَوْلُهُ أَوْ بِبَعْضِهِ . يُرِيدُ أَنّهُ إذَا نَذَرَ الصّدَقَةَ بِمُعَيّنٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِمِقْدَارٍ كَأَلْفٍ وَنَحْوِهَا فَيُجْزِئُهُ ثُلُثُهُ كَنَذْرِ الصّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَالصّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ لُزُومُ الصّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمُعَيّنِ .

    وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنّ الْمُعَيّنَ إنْ كَانَ ثُلُثَ مَالِهِ فَمَا دُونَهُ لَزِمَهُ الصّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى الثّلُثِ لَزِمَهُ مِنْهُ بِقِدْرِ الثّلُثِ وَهِيَ أَصَحّ عِنْدَ أَبِي الْبَرَكَاتِ .

    وَبَعْدُ فَإِنّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ كَعْبًا وَأَبَا لُبَابَةَ نَذَرَا نَذْرًا مُنَجّزًا وَإِنّمَا قَالَا : إنّ مِنْ تَوْبَتِنَا أَنْ نَنْخَلِعَ مِنْ أَمْوَالِنَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي النّذْرِ وَإِنّمَا فِيهِ الْعَزْمُ عَلَى الصّدَقَةِ بِأَمْوَالِهِمَا شُكْرًا لِلّهِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِمَا فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بَعْضَ الْمَالِ يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى إخْرَاجِهِ كُلّهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ لِسَعْدٍ وَقَدْ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلّهِ فَأَذِنَ لَهُ فِي قَدْرِ الثّلُثِ .

    فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدْفَعُهُ أَمْرَانِ . أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ " يُجْزِئُك " وَالْإِجْزَاءُ إنّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ

    وَالثّانِي : أَنّ مَنْعَهُ مِنْ الصّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثّلُثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ إذْ الشّارِعُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقُرْبِ وَنَذْرُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ .

    قِيلَ أَمّا قَوْلُهُ " يُجْزِئُك " فَهُوَ بِمَعْنَى يَكْفِيك فَهُوَ مِنْ الرّبَاعِيّ وَلَيْسَ مِنْ " جَزَى عَنْهُ " إذَا قَضَى عَنْهُ يُقَالُ أَجْزَأَنِي : إذَا كَفَانِي وَجَزَى عَنّي : إذَا قَضَى عَنّي وَهَذَا هُوَ الّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي الْأُضْحِيّةِ تَجْزِي عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك وَالْكِفَايَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبّ .

    وَأَمّا مَنْعُهُ مِنْ الصّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثّلُثِ فَهُوَ إشَارَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْأَرْفَقِ بِهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَنْفَعَةُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَإِنّهُ لَوْ مَكّنَهُ مِنْ إخْرَاجِ مَالِهِ كُلّهِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْفَقْرِ وَالْعَدَمُ كَمَا فَعَلَ بِاَلّذِي جَاءَهُ بِالصّرّةِ لِيَتَصَدّقَ بِهَا فَضَرَبَهُ بِهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ الْفَقْرِ وَعَدَمِ الصّبْرِ .

    وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ أَرْجَحُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَلَ كُلّ وَاحِدٍ مِمّنْ أَرَادَ الصّدَقَةَ بِمَالِهِ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ فَمَكّنَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ مِنْ إخْرَاجِ مَالِهِ كُلّهِ وَقَالَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ " فَقَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَأَقَرّ عُمَر ُ عَلَى الصّدَقَةِ بِشَطْرِ مَالِه

    وَمَنَعَ صَاحِبَ الصّرّةِ مِنْ التّصَدّقِ بِهَا وَقَالَ لِكَعْبٍ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْمُخْرَجِ بِأَنّهُ الثّلُثُ وَيَبْعُدُ جِدّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُمْسَكُ ضِعْفَيْ الْمُخْرَجِ فِي هَذَا اللّفْظِ وَقَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ يُجْزِئُك الثّلُثُ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ نَذَرَ الصّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَمْسَكَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى سُؤَالِ النّاسِ مُدّةَ حَيَاتِهِمْ مِنْ رَأْسِ مَالٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ أَرْضٍ يَقُومُ مُغِلّهَا بِكِفَايَتِهِمْ وَتَصَدّقَ بِالْبَاقِي . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

    وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ : يَتَصَدّقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الزّكَاةِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ . وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ : إنْ كَانَ أَلْفَيْنِ فَأَكْثَرَ أَخْرَجَ عُشُرَهُ وَإِنْ كَانَ أَلْفًا فَمَا دُونَ فَسُبُعَهُ وَإِنْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ فَخُمُسَهُ .

    وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ يَتَصَدّقُ بِكُلّ مَالِهِ الّذِي تَجِبُ فِيهِ الزّكَاةُ وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزّكَاةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا : يُخْرِجُهُ وَالثّانِيَةُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ .

    وَقَالَ الشّافِعِيّ : تَلْزَمُهُ الصّدَقَةُ بِمَالِهِ كُلّهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالزّهْرِيّ وَأَحْمَدُ يَتَصَدّقُ بِثُلُثِهِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ .

    فَصْلٌ

    [ عَظَمَةُ الصّدْقِ ]


    وَمِنْهَا : عِظَمُ مِقْدَارِ الصّدْقِ وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالنّجَاةِ مِنْ شَرّهِمَا بِهِ فَمَا أَنْجَى اللّهُ مَنْ أَنْجَاهُ إلّا بِالصّدْقِ وَلَا أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَهُ إلّا بِالْكَذِبِ وَقَدْ أَمَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ فَقَالَ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ [ التّوْبَةُ 119 ] .

    وَقَدْ قَسّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إلَى قِسْمَيْنِ سُعَدَاءُ وَأَشْقِيَاءُ فَجَعَلَ السّعَدَاءَ هُمْ أَهْلَ الصّدْقِ وَالتّصْدِيقِ وَالْأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتّكْذِيبِ وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطّرِدٌ مُنْعَكِسٌ . فَالسّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصّدْقِ وَالتّصْدِيقِ وَالشّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتّكْذِيبِ .

    وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : أَنّهُ لَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلّا صِدْقُهُمْ . وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُنَافِقِينَ الّذِي تَمَيّزُوا بِهِ هُوَ الْكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَجَمِيعُ مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ أَصْلُهُ الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَالصّدْقُ بَرِيدُ الْإِيمَانِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ بَلْ هُوَ لُبّهُ وَرُوحُهُ . وَالْكَذِبُ بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالنّفَاقِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقه وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ وَلُبّهُ فَمُضَادّةُ الْكَذِبِ لِلْإِيمَانِ كَمُضَادّةِ الشّرْكِ لِلتّوْحِيدِ فَلَا يَجْتَمِعُ الْكَذِبُ وَالْإِيمَانُ إلّا وَيَطّرِدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَيَسْتَقِرّ مَوْضِعُهُ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ أَنْجَى الثّلَاثَةَ بِصِدْقِهِمْ وَأَهْلَكَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْمُخَلّفِينَ بِكَذِبِهِمْ فَمَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَبْدٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنْ الصّدْقِ الّذِي هُوَ غِذَاءُ الْإِسْلَامِ وَحَيَاتِهِ وَلَا ابْتَلَاهُ بِبَلِيّةٍ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ الّذِي هُوَ مَرَضُ الْإِسْلَامِ وَفَسَادُهُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .

    [ فَضْلُ التّوْبَةِ ]


    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ التّوْبَةُ 117 ] هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَعْرِفُ الْعَبْدُ قَدْرَ التّوْبَةِ وَفَضْلِهَا عِنْدَ اللّهِ وَأَنّهَا غَايَةُ كَمَالِ الْمُؤْمِنِ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمْ هَذَا الْكَمَالَ بَعْدَ آخِرِ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ لِلّهِ وَكَانَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا جَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْهِ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمّهُ إلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَعْرِفُ هَذَا حَقّ مَعْرِفَتِهِ إلّا مَنْ عَرَفَ اللّهَ وَعَرَفَ حُقُوقَهُ عَلَيْهِ وَعَرَفَ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ عُبُودِيّتِهِ وَعَرَفَ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا وَأَنّ الّذِي قَامَ بِهِ مِنْ الْعُبُودِيّةِ بِالنّسْبَةِ إلَى حَقّ رَبّهِ عَلَيْهِ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ الْآفَاتِ الظّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسَعُ عِبَادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَتَغَمّدِهِ لَهُمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَيْسَ إلّا ذَلِكَ أَوْ الْهَلَاكُ فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ عَذّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَإِنْ رَحِمَهُمْ فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يُنْجِي أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُهُ .

    فَصْلٌ

    [ مَعْنَى تَكْرِيرِ اللّهِ لِلَفْظِ التّوْبَةِ فِي الْآيَةِ ]


    وَتَأَمّلْ تَكْرِيرَهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ مَرّتَيْنِ فِي أَوّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا فَإِنّهُ تَابَ عَلَيْهِمْ أَوّلًا بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتّوْبَةِ فَلَمّا تَابُوا تَابَ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ وَهُوَ الّذِي وَفّقَهُمْ لِفِعْلِهَا وَتَفَضّلَ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا فَالْخَيْرُ كُلّهُ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ وَفِي يَدَيْهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ إحْسَانًا وَفَضْلًا وَيَحْرِمُهُ مَنْ يَشَاءُ حِكْمَةً وَعَدْلًا .

    فَصْلٌ

    [ مَعْنَى كَلِمَةِ خُلّفُوا فِي الْآيَةِ ]


    وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا [ التّوْبَةُ 118 ] قَدْ فَسّرَهَا كَعْبٌ بِالصّوَابِ وَهُوَ أَنّهُمْ خُلّفُوا مِنْ بَيْنِ حِلْفٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاعْتَذَرَ مِنْ الْمُتَخَلّفِينَ فَخَلّفَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةَ عَنْهُمْ وَأَرْجَأَ أَمْرَهُمْ دُونَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَخَلّفُهُمْ عَنْ الْغَزْوِ لِأَنّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ تَخَلّفُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ [ التّوْبَةُ 120 ] وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ تَخَلّفُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ تَخْلِيفِهِمْ عَنْ أَمْرِ الْمُتَخَلّفِينَ سِوَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي خَلّفَهُمْ عَنْهُمْ وَلَمْ يَتَخَلّفُوا عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .


    زاد المعـاد في هـدي خـير العـباد للإمام إبن قيم -رضي الله عنه-

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    1,656
    جزاك الله خيرا اخى سيف الله السنى وبارك فيك على هداالنقل ورحم الله العلامة ابن القيم واسكنه الفردوس الاعلى .امين.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2003
    الدولة
    الكويت
    المشاركات
    1,036

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2005
    الدولة
    وهران
    المشاركات
    204

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أمابعد ولله الحمد والمنة كلام إبن القيم رحمه الله تفند شبهة من تسلط بلسانه على الصحابة بقوله الصحابة ضرهم الهجر والعياد بالله ولكن الشيخ فوزي أمر بهجران هذا القائل إلم يتب وكذالك هجر كل من يدافع عنه وأيضا لشيخ فالح كلام نفيس في هذا الموضوع سوف ينزل على الشبكة في أقرب حين إنشاء الله تعالى
    قال محمد عبد الوهاب - رحمه الله - " وأهل السنة و الحديث في كل مكان وزمان هم محنة أهل الأرض يمتاز أهل السنة بمحبتهم و الثناء عليهم ويعرف أهل البدع بعيبهم وشتائمهم " اٍنتهى كلامه رحمه الله
    الدرر السنية 4 / 102 . ط جديدة

    ************************
    أخوكم ومحبكم عسلاوي عبد الكريم أبو تراب الأثري

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    الدولة
    الجزائر حرسها الله
    المشاركات
    344
    جزاكم الله كل خير وبارك فيكم.
    وفي الكرج الغراء أوحد عصره = أبو أحمد القصاب غير مغالب
    تصانيفه تبدي فنون علومه = فلست ترى علما له غيرشارب




    أحب اهل السنة وارجولهم ولي نفسي الجنان

    وأبغض اهل البدع وخاصة المبتدع السافل الجبان

    اذا أقبلت عليه بالحجة والدليل هرب هروب النسوان

    واذا أدبر من عندك أطلق لبدعه وأكاذيبه العنان

    والأمر في أمثاله جهاد بضرب وتقريع بقلم وسنان

    نصرة للسنة واهلها بتوفيق من الله العزيز المنان

    قال انتظرو فصل الخطاب ضحك من قولته الأهل والخلان

    مخذول مهزوم مبتدع رضى لنفسه الذل والهوان

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •