قال أبو العتاهية رحمه الله :
قَطّعْتُ مِنْكِ حبَائِلَ الآمالِ *** وحططتُ عن ظهرِ المطيِّ رحالِي
وَيَئِسْتُ أنْ أبقَى لشيءٍ نِلتُ ممّا *** فيكِ يا دنيا وإن يبقَى لِي
فَوَجَدْتُ بَرْدَ اليَأسِ بَينَ جَوانحي *** وأرحْتُ من حَلِّي ومن ترحالِي
ولئنْ يئستُ لرُبَّ برقة ِ خُلَّبٍ *** بَرَقَتْ لذي طَمَعٍ، وَبَرْقة ِ آلِ
فالآنَ، يا دُنْيا، عَرَفْتُكِ فاذهَبي *** يا دارَ كُلّ تَشَتّتٍ وَزَوَالِ
والآنَ صارَ ليَ الزمانُ مؤدَّباً *** فَغَدَا عَليّ وَرَاحَ بالأمْثَالِ
والآن أبصرتُ السبيلَ إلى الهدَى*** وَتَفَرّغَتْ هِمَمي عَنِ الأشْغالِ
وَلَقَدْ أقامَ ليَ المَشيبُ نُعاتَهُ *** تُفضي إليَّ بمفرقٍ وقذالِ
وَلَقَدْ رَأيْتُ المَوْتَ يُبْرِقُ سَيْفَهُ *** بيَدِ المَنيّة ِ، حَيثُ كنتُ، حِيالي
وَلَقَدْ رَأيْتُ عُرَى الحَياة ِ تخَرّمَتْ *** وَلَقَدْ تَصَدّى الوَارِثُونَ لمَالي
وَلَقَدْ رَأيْتُ على الفَنَاءِ أدِلّة ً *** فيما تَنَكّرَ مِنْ تَصَرّفِ حالي
وَإذا اعتَبرْتُ رَأيتُ خَطبَ حوادِثٍ *** يَجرينَ بالأرْزاقِ، وَالآجالِ
وإذا تَنَاسَبَتِ الرّجالُ، فما أرَى *** نَسَباً يُقاسُ بصالِحِ الأعْمالِ
وَإذا بحَثْتُ عَنِ التّقيّ وَجَدْتُهُ *** رَجُلاً، يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بفِعَالِ
وَإذا اتَقَى الله امْرُؤٌ، وَأطاعَهُ *** فَيَداهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعَالِ
وعلى التَّقِيِّ إذا ترسَّخَ في التُّقى *** تاجان تاج سكينة ٍ وجلالِ
وَاللّيْلُ يَذْهَبُ وَالنّهارُ، تَعاوُراً *** بالخلقِ في الإدبارِ والإقبالِ
وَبحَسْبِ مَنْ تُنْعَى إلَيْهِ نَفْسُهُ *** منهُ بأيامٍ خلَتْ ولَيالِ
إضرِبْ بطَرْفِكَ حيثُ شئتَ، فأنتَ في*** عبرٍ لهنَّ تداركٌ وتوالِ
يبكي الجديدُ وأنتَ في تجديدهِ *** وَجَميعُ ما جَدّدْتَ منهُ، فبَالِ
يا أيّها البَطِرُ الذي هوَ في غَدٍ *** في قَبرِهِ، مُتَفَرّقُ الأوْصالِ
وَلَقَلّ ما تَلْقَى أغَرّ لنَفسِهِ *** مِنْ لاعِبٍ مَرِحٍ بها، مُختالِ
يا تاجِرَ الغَيّ المُضِرَّ بِرُشْدِهِ *** حتى متَى بالْغِيِّ أنت تُغالِي
الحَمْدُ للّهِ الحَميدِ بِمَنّهِ *** خسرتْ ولمْ تربحْ يدُ البطَّالِ
للّهِ يَوْمٌ تَقْشَعِرّ جُلُودُهُمْ *** وَتَشيبُ مِنْهُ ذَوَائِبُ الأطْفالِ
يَوْمُ النّوازِلِ والزّلازِلِ، وَالحَوا *** ملِ فيهِ إذْ يقذفنَ بالأحمالِ
يومُ التَّغابُنِ والتبايُنِ والتنا *** زُلِ والأمورِ عظيمة ِ الأهوالِ
يومٌ ينادَى فيه كُلُّ مُضللٍ *** بمقطَّعاتِ النارِ وألأغلالِ
للمتقينَ هناكَ نزلُ كرامة ٍ *** عَلَتِ الوُجُوهَ بنَضرَة ٍ، وَجَمالِ
زُمرٌ اضاءتْ للحسابِ وجوهُهَا *** فَلَهَا بَرِيقٌ عِندَها وَتَلالي
وسوابقٌ غرٌّ محجَّلة ٌ جرتْ *** خُمْصَ البطونِ خفيفة َ الأثقالِ
مِنْ كُلّ أشعَثَ كانَ أغبرَ ناحِلاً *** خلقَ الرداء مرقَّعَ السربالِ
حِيَلُ ابنِ آدَمَ في الأُمورِ كَثيرَة ٌ*** والموت يقطع حيلة المحتال
نزلُو بأكرمِ سيدٍ فأظلُّهُمْ *** في دارِ مُلْكِ جَلالَة ٍ، وَظِلالِ
وَمِنَ النعاة ِ إلى ابنِ آدَمَ نَفْسَهُ *** حَرَكُ الخُطى ، وَطلوعُ كلّ هِلالِ
ما لي أرَاكَ لحُرّ وَجْهِكَ مُخْلِقاً *** أخْلَقْتِ، يا دُنْيا، وُجُوهَ رِجالِ
كُنْ بالسّؤالِ أشَدّ عَقْدِ ضَنَانَة ٍ *** ممنْ يضنُّ عليكَ بالأموالِ
وَصُنِ المَحامِدَ ما استَطَعتَ فإنّها*** في الوَزْنِ تَرْجُحُ بذلَ كلّ نَوَالِ
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ المُشمِّرِ مالَه *** نسيَ المشمِّرُ زينة َ الإقلالِ
وإذا امرؤٌ لبسَ الشكوكَ بعزمِهِ *** سَلَكَ الطّريقَ على عُقودِ ضَلالِ
وَإذا ادّعَتْ خُدَعُ الحَوادِثِ قَسوَة ً *** شَهِدَتْ لَهُنّ مَصارِعُ الأبْطالِ