بسم الله الرحمن الرحيم
فنحمد الله الذي هدانا للإسلام وماكنا لنهتدي لولا أن هدنا الله ونسأله تبارك وتعالى أن يثبتنا على الإسلام والسنة وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن يتوفانا وهو راض عنا غير غضبان رضا الله سبحانه وتعالى عن العبد يكون إذا تمسك العبد بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول {أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بليل وناس نيام تدخل جنت ربكم بسلام}.أخرجه الترمذي ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشآ ولا متفحشا ولا صخاب في الأسواق ولا يجزئ بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ويقول{ خياركم أحسنكم أخلاقا}وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها {أن شر الناس من تركه الناس إتقاء فحشه } ونهى عن اللعن وقال{لا ينبغي لصديق أن يكون لعانآ} وقال عليه الصلاة والسلام{لا يكونوا اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة } ولما قيل له ادعوا على المشركين قال{ إني لم ابعث لعانآ وإنما بعثت رحمه }صلى الله عليه وسلم التيسير والرفق وهو يقول {يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا}و قال أبو هريرة رضي الله عنه{ أن اعرابي بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا فيه, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: { دعوه وأهريقوا على بوله ذنوب من الماء أو سجل من الماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين}وقال عليه الصلاة والسلام في الرفق{ من يحرم الرفق يحرم الخير } وقال أيض{أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه} وبين صلى الله عليه وسلم{ أن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه ولا ينزع في شئ إلا شانه } ومن ذلك الحذر من الغضب قال جل وعلا في بيان بعض أوصاف المؤمنين{وإذا ما غضبوا هم يغفرون}وقال صلى الله عليه وسلم{ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ولما قال له رجل أوصني قال{ لا تغضب فرددها مرارآ قال لا تغضب}قال الشيخ العلامة الإمام عبدالرحمن السعدي في كتابه ((تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام)){إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء : 24] والأمر بالإحسان إلى الوالدين وإطلاقه يدخل فيه كل ما عده الناس إحسانا ، وذلك يختلف باختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص وفيه النهي عن ضد الإحسان إليهما ، وهو أمران الإساءة والعقوق الذي هو إيصال الأذى القولي والفعلي إليهما ، وترك القيام ببعض حقوقهما الواجبة ، والأمر الثاني : ترك الإحسان وترك الإساءة ، فإن ذلك داخل في العقوق ، فلا يسع الولد أن يقول إذا قمت بواجب والدي وتركت معصيتهما فقد قمت بحقهما ، فيقال : بل عليك أن تبذل لهما من الإحسان الذي تقدر عليه ما يجعلك في مرتبة الأبرار البارين بوالديهم .
وقوله {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} بيان لبعض الأسباب الموجبة للبر ، وأن الوالدين اشتركا في تربية بدنك وروحك بالتغذية والكسوة والحضانة والقيام بكل المؤن ، وبالتعليم والإرشاد والإلزام بطاعة الله والآداب والأخلاق الجميلة ، وفي هذا دليل على أن كل من له عليك حق تربية - بقيام بمؤنة نفقة وكسوة وغيرها - أن له حقا عليك بالإحسان والبر والدعاء ; وأعلى من ذلك من له حق عليك بتربية عقلك وروحك تربية علمية تهذيبية أن له الحق الأكبر عليك ; وهذا من جملة فضائل أهل العلم المعلمين العاملين ، ومن حقوقهم على الناس ، فإنهم ربما فاقوا في هذه التربية تربية الوالدين بأضعاف مضاعفة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وقوله {وَبِذِي الْقُرْبَى} أي أحسنوا إلى أقاربكم القريب منهم والبعيد بالقول والفعل ، وأوصلوا لهم من الهدايا والصدقات والبر والإحسان المتنوع ما يشرح صدورهم ، وتتيسر به أمورهم ، وتكونوا بذلك واصلين ، وللأجر من الله حائزين .
{ وَالْيَتَامَى } هم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ، فمن رحمة أرحم الراحمين أمر الناس برحمتهم والحنو عليهم والإحسان إليهم ، وكفالتهم وجبر خواطرهم وتأديبهم ، وأن يربوهم أحسن تربية كما يربون أولادهم ، سواء كان اليتيم ذكرا أو أنثى ، قريبا أو غير قريب .
{ وَالْمَسَاكِينِ } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر فلم يحصلوا على كفايتهم ولا كفاية من يمونون ، فأمر تعالى بسد خلتهم ، ودفع فاقتهم ، والحض على ذلك ، وقيام العبد بما أمكنه من ذلك من غير ضرر عليه .
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي : الجار القريب الذي له حق الجوار وحق القرابة .
{ وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الذي ليس بقريب ، فعلى العبد القيام بحق جاره مطلقا ، مسلما كان أو كافرا ، قريبا أو بعيدا ، بكف أذاه عنه ، وتحمل أذاه ، وبذل ما يهون عليه ويستطيعه من الإحسان ، وتمكينه من الانتفاع بجداره ، أو طريق ماء على وجه لا يضر الجار ، وتقديم الإحسان إليه على الإحسان على من ليس بجار ، وكلما كان الجار أقرب بابا كان آكد لحقه ، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره : بالصدقة والهدية والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال ؛ تقربا إلى الله وإحسانا إلى أخيه صاحب الحق .
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل : هو الرفيق في السفر ، وقيل : هو الزوجة ، وقيل : هو الرفيق مطلقا في الحضر والسفر ، وهذا أشمل ، فإنه يشمل القولين الأولين ، فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه من مساعدته على أمور دينه ودنياه ، والنصح له والوفاء معه في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ; وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد .
{وَابْنِ السَّبِيلِ} : وهو الغريب في غير بلده ، سواء كان محتاجا أو غير محتاج ، فحث الله على الإحسان إلى الغرباء ، لكونهم في مظنة الوحشة والحاجة ، وتعذر ما يتمكنون عليه في أوطانهم ، فيتصدق على محتاجهم ، ويجبر خاطر غير المحتاج بالإكرام والهدية والدعوة والمعاونة على سفره .
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من الرقيق والبهائم بالقيام بكفايتهم ، وأن لا يحملوا ما لا يطيقون ، وأن يعاونوا على مهماتهم ، وأن يقام بتقويمهم وتأديبهم النافع ; فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه المتواضع لعباد الله المنقاد لأمر الله وشرعه ، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل ; ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ، عات على الله ، متكبر على عباد الله ، معجب بنفسه ، فخور بأقواله على وجه الكبر والعجب واحتقار الخلق ، وهو في الحقيقة السافل المحتقر .
ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} فهؤلاء ما بهم من الأوصاف القبيحة تحملهم على البخل بالحقوق الواجبة ، ويأمرون الناس بأقوالهم وأفعالهم بالبخل ، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء : 37] ، أي : من العلم الذي يهتدي به الضالون ، ويسترشد به الجاهلون ، فيكتمونه عنهم ، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق ; فهؤلاء جمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم ، وبين السعي في خسارة أنفسهم والسعي في خسارة غيرهم ، وهذه هي صفات الكافرين ، ولهذا قال : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء : 37] أي : كما استهانوا بالحق ، وتكبروا على الخلق ، واستهانوا بالقيام بالحقوق ، أهانهم الله بالعذاب الأليم والخزي الدائم .