## فَصْلٌ ##
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قَالَ " سِتّ " وَالْأَيَّام مُذَكَّرَة , فَالْأَصْل أَنْ يُقَال " سِتَّة " كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام } وَهَلْ لِشَوَّال بِخُصُوصِهِ مَزِيَّة عَلَى غَيْره فِي ذَلِكَ , أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلسِّتِّ خُصُوصِيَّة عَلَى مَا دُونهَا وَأَكْثَر مِنْهَا , أَمْ لَا ؟ وَكَيْف شَبَّهَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِصِيَامِ الدَّهْر , فَيَكُون الْعَمَل الْيَسِير مُشَبَّهًا بِالْعَمَلِ الْكَثِير وَمِنْ جِنْسه ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا وَعَمِلَ الْآخَر بِقَدْرِهِ مَرَّتَيْنِ لَا يَسْتَوِيَانِ فَكَيْف يَكُون بِقَدْرِهِ عَشْر مَرَّات ؟ وَهَلْ فَرْقٌ بَيْن قَوْله " فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر " وَبَيْن أَنْ يُقَال : فَكَأَنَّهُ قَدْ صَامَ الدَّهْر ؟ وَهَلْ يَدُلّ الْحَدِيث عَلَى اِسْتِحْبَاب صِيَام الدَّهْر , لِأَجْلِ هَذَا التَّشْبِيه , أَمْ لَا ؟
فَالْجَوَاب : أَمَّا قَوْله " سِتّ " وَلَمْ يَقُلْ " سِتَّة " فَالْعَرَب إِذَا عَدَّتْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّام فَإِنَّهَا تُغَلِّب اللَّيَالِي إِذَا لَمْ تُضِفْ الْعَدَد إِلَى الْأَيَّام , فَمَتَى أَرَادُوا عَدَّ الْأَيَّام عَدُّوا اللَّيَالِي , وَمُرَادهمْ الْأَيَّام . قَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَلَوْ قِيلَ " وَعَشْرَة " لَكَانَ لَحْنًا . وَقَالَ تَعَالَى : { يَتَخَافَتُونَ بَيْنهمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا } فَهَذِهِ أَيَّام , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى بَعْدهَا { إِذْ يَقُول أَمْثَلهمْ طَرِيقَة إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا } فَدَلَّ الْكَلَام الْأَخِير عَلَى أَنَّ الْمَعْدُود الْأَوَّل أَيَّام , وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام } فَلَا تَغْلِيب هُنَاكَ , لِذِكْرِ النَّوْعَيْنِ وَإِضَافَة كُلّ عَدَد إِلَى نَوْعه .
وَأَمَّا السُّؤَال الثَّانِي , وَهُوَ اِخْتِصَاص شَوَّال فَفِيهِ طَرِيقَانِ .
أَحَدهمَا : أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الرِّفْق بِالْمُكَلَّفِ , لِأَنَّهُ حَدِيث عَهْد بِالصَّوْمِ , فَيَكُون أَسْهَلَ عَلَيْهِ فَفِي ذِكْر شَوَّال تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ صَوْمهَا فِي غَيْره أَفْضَل , هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْقَرَافِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة , وَهُوَ غَرِيب عَجِيب . الطَّرِيق الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُود بِهِ الْمُبَادَرَة بِالْعَمَلِ , وَانْتِهَاز الْفُرْصَة , خَشْيَة الْفَوَات . قَالَ تَعَالَى { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات } وَقَالَ { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبّكُمْ } وَهَذَا تَعْلِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ .
قَالُوا : وَلَا يَلْزَم أَنْ يُعْطِيَ هَذَا الْفَضْل لِمَنْ صَامَهَا فِي غَيْره , لِفَوَاتِ مَصْلَحَة الْمُبَادَرَة وَالْمُسَارَعَة الْمَحْبُوبَة لِلَّهِ .
قَالُوا : وَظَاهِر الْحَدِيث مَعَ هَذَا الْقَوْل . وَمَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ فَقَوْلُهُ أَوْلَى . وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلْغَاء خُصُوصِيَّة شَوَّال , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَة .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَمَّا كَانَ صَوْم رَمَضَان لَا بُدّ أَنْ يَقَع فِيهِ نَوْع تَقْصِير وَتَفْرِيط , وَهَضْم مِنْ حَقِّهِ وَوَاجِبِهِ نَدَبَ إِلَى صَوْم سِتَّة أَيَّام مِنْ شَوَّال , جَابِرَةٍ لَهُ , وَمُسَدِّدَة لِخَلَلِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَقَع فِيهِ . فَجَرَتْ هَذِهِ الْأَيَّام مَجْرَى سُنَن الصَّلَوَات الَّتِي يُتَنَفَّل بِهَا بَعْدهَا جَابِرَة وَمُكَمِّلَة , وَعَلَى هَذَا : تَظْهَر فَائِدَة اِخْتِصَاصهَا بِشَوَّال , وَاَللَّه أَعْلَم .
فَهَذِهِ ثَلَاث مَآخِذ .
وَسِوَى هَذَا جَوَاب السُّؤَال الثَّالِث : وَهُوَ اِخْتِصَاصهَا بِهَذَا الْعَدَد , دُون مَا هُوَ أَقَلّ وَأَكْثَر فَقَدْ أَشَارَ فِي الْحَدِيث إِلَى حِكْمَته , فَقَالَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا فَثَلَاثِينَ بِثَلَاثِمِائَةٍ , وَسِتَّة بِسِتِّينَ , وَقَدْ صَامَ السَّنَة " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث ثَوْبَان وَلَفْظه " مَنْ صَامَ سِتَّة أَيَّام بَعْد الْفِطْر كَانَ تَمَام السَّنَة , مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا " لَفْظ اِبْن مَاجَةَ . وَأَخْرَجَهُ صَاحِب الْمُخْتَارَة . وَلَفْظ النَّسَائِيّ فِيهِ " صِيَام رَمَضَان بِعَشْرَةِ أَشْهُر , وَصِيَام سِتَّة أَيَّام بِشَهْرَيْنِ . فَذَلِكَ صِيَام سَنَة " يَعْنِي صِيَام رَمَضَان وَسِتَّة أَيَّام بَعْده , فَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَة فِي كَوْنهَا سَنَة .
وَأَمَّا مَا ذَكَره بَعْضهمْ مِنْ أَنَّ السِّتَّة عَدَدٌ تَامٌّ , فَإِنَّهَا إِذَا جُمِعَتْ أَجْزَاؤُهَا قَامَ مِنْهَا عَدَد السَّنَة . فَإِنَّ أَجْزَاءَهَا النِّصْف وَالثُّلُث وَالسُّدُس , وَيُكْمِل بِهَا , بِخِلَافِ الْأَرْبَعَة وَالِاثْنَيْ عَشْر وَغَيْرهمَا , فَهَذَا لَا يَحْسُن , وَلَا يَلِيق أَنْ يُذْكَر فِي أَحْكَام اللَّه وَرَسُوله . وَيَنْبَغِي أَنْ يُصَان الدِّين عَنْ التَّعْلِيل بِأَمْثَالِهِ .
وَأَمَّا السُّؤَال الرَّابِع : وَهُوَ تَشْبِيه هَذَا الصِّيَام بِصِيَامِ الدَّهْر , مَعَ كَوْنه بِقَدْرِهِ عَشْر مَرَّات : فَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِير مِنْ النَّاس .
وَقِيلَ فِي جَوَابه : إِنَّ مَنْ صَامَ رَمَصَانِ وَسِتَّة مِنْ شَوَّال مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فَهُوَ كَمَنْ صَامَ السَّنَة مِنْ الْأُمَم الْمُتَقَدِّمَة .
وَقَالُوا : لِأَنَّ تَضْعِيف الْحَسَنَات إِلَى عَشْر أَمْثَالهَا مِنْ خَصَائِص هَذِهِ الْأُمَّة .
وَأَحْسَن مِنْ هَذَا أَنْ يُقَال : الْعَمَل لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَزَاء اِعْتِبَارَانِ : اِعْتِبَار الْمُقَابَلَة وَالْمُسَاوَاة وَهُوَ الْوَاحِد بِمِثْلِهِ , وَاعْتِبَار الزِّيَادَة وَالْفَضْل , وَهُوَ الْمُضَاعَفَة إِلَى الْعَشْر , فَالتَّشْبِيه وَقَعَ بَيْن الْعَمَل الْمُضَاعَف ثَوَابه , وَبَيْن الْعَمَل الَّذِي يُسْتَحَقّ بِهِ مِثْله , وَنَظِير هَذَا : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ صَلَّى عِشَاء الْآخِرَة فِي جَمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْف لَيْلَة , وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاء وَالْفَجْر فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَة " .
أَمَّا السُّؤَال الْخَامِس , وَهُوَ الْفَرْق بَيْن أَنْ يَقُول " فَكَأَنَّمَا قَدْ صَامَ الدَّهْر " وَبَيْن قَوْله " فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر " هُوَ أَنَّ الْمَقْصُود تَشْبِيه الصِّيَام بِالصِّيَامِ . وَلَوْ قَالَ : فَكَأَنَّهُ قَدْ صَامَ الدَّهْر , لَكَانَ بَعِيدًا عَنْ الْمَقْصُود , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُون تَشْبِيهًا لِلصَّائِمِ بِالصَّائِمِ . فَمَحَلّ التَّشْبِيه هُوَ الصَّوْم , لَا الصَّائِم , وَيَجِيء الْفَاعِل لُزُومًا , وَلَوْ شَبَّهَ الصَّائِم لَكَانَ هُوَ مَحَلّ التَّشْبِيه , وَيَكُون مَجِيء الصَّوْم لُزُومًا , وَإِنَّمَا كَانَ قَصْد تَشْبِيه الصَّوْم أَبْلَغ وَأَحْسَن لِتَضَمُّنِهِ تَنْبِيه السَّامِع عَلَى قَدْر الْفِعْل وَعِظَمِهِ وَكَثْرَةِ ثَوَابِهِ , فَتَتَوَفَّرُ رَغْبَته فِيهِ .
وَأَمَّا السُّؤَال السَّادِس - وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى اِسْتِحْبَاب صِيَام الدَّهْر - فَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهِ طَائِفَة مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ .
قَالُوا وَلَوْ كَانَ صَوْم الدَّهْر مَكْرُوهًا لَمَا وَقَعَ التَّشْبِيه بِهِ , بَلْ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل الصِّيَام وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسِد جِدًّا مِنْ وُجُوه .
أَحَدهَا : أَنَّ فِي الْحَدِيث نَفْسه أَنَّ وَجْه التَّشْبِيه هُوَ أَنَّ الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا , فَسِتَّة وَثَلَاثُونَ يَوْمًا بِسَنَةٍ كَامِلَةٍ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ صَوْم السَّنَة الْكَامِلَة حَرَام بِلَا رَيْب وَالتَّشْبِيه لَا يَتِمّ إِلَّا بِدُخُولِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّام التَّشْرِيق فِي السَّنَة وَصَوْمهَا حَرَام فَعُلِمَ أَنَّ التَّشْبِيه الْمَذْكُور لَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز وُقُوع الْمُشَبَّه بِهِ فَضْلًا عَنْ اِسْتِحْبَابه فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُون أَفْضَل مِنْ غَيْره . نَظِير هَذَا : قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَاد ؟ فَقَالَ " لَا تَسْتَطِيعهُ . هَلْ تَسْتَطِيع إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِد أَنْ تَقُوم فَلَا تَفْتُر , وَتَصُوم فَلَا تُفْطِر ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَذَلِكَ مِثْل الْمُجَاهِد " وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا الْمُشَبَّه بِهِ غَيْر مَقْدُور وَلَا مَشْرُوع .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْمَل قَوْله " فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر " عَلَى مَا عَدَا الْأَيَّام الْمَنْهِيّ عَنْ صَوْمهَا .
قِيلَ : تَعْلِيلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكْمَة هَذِهِ الْمُقَابَلَة , وَذِكْره الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا , وَتَوْزِيع السِّتَّة وَالثَّلَاثِينَ يَوْمًا عَلَى أَيَّام السَّنَة : يُبْطِل هَذَا الْحَمْل .
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ صَامَ الدَّهْر , فَقَالَ " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ , وَفِي لَفْظ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد " فَإِذَا كَانَ هَذَا حَال صِيَام الدَّهْر فَكَيْف يَكُون أَفْضَل الصِّيَام ؟
الثَّالِث : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ " أَفْضَل الصِّيَام صِيَام دَاوُدَ " وَفِي لَفْظ " لَا أَفْضَل مِنْ صَوْم دَاوُدَ : كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيُفْطِر يَوْمًا " فَهَذَا النَّصّ الصَّحِيح الصَّرِيح الرَّافِع لِكُلِّ إِشْكَال , يُبَيِّن أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَل مِنْ سَرْد الصَّوْم . مَعَ أَنَّهُ أَكْثَر عَمَلًا . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفِطْر أَفْضَل مِنْهُ لَمْ يُمْكِن أَنْ يُقَال بِإِبَاحَتِهِ وَاسْتِوَاء طَرَفَيْهِ . فَإِنَّ الْعِبَارَة لَا تَكُون لَهُ بِالْإِبْطَالِ , فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُون مَرْجُوحًا , وَهَذَا بَيِّنٌ لِكُلِّ مُنْصِفٍ . وَلِلَّهِ الْحَمْد .
عون المعبود من صـ61 إلى صـ70 الجزء7