مسألة توجيه المحتضر نحو القبلة.
الحمد الواحد القهار،العزيز الغفار،المتكبر الجبار،والصلاة والسلام على سيد الأخيا،وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار ما تعاقب الليل على النهار،قال سبحانه عز وجل:(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)وقال الشافعي رحمه الله تعالى:ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه سلم وتعزب عنه ،فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي.(رواه الحاكم وابن عساكر في تاريخ دمشق وابن القيم في الإعلام)وقال الإمام أحمد:رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار.(ذكره ابن عبد البر في الجامع).إن تقرر هذا أقول وبالله التوفيق:لقد كتب الأخ الناصر حفظه الله وبارك فيه موضوعا مهما جدا وهو مسألة توجيه المحتضر نحو القبلة،وأجاد وأفاد ولكن الذي ندين الله به هو أن الحق واحد لا يتعدد، ولذلك كتبت ردا على ما كتبه أبين فيه ما أعتقد أنه الحق وأبين بطلان استدلالالته بكل أدب واحترام له انشاء الله بالطرق العلمية القائمة على أصول أهل العلم لتعم الفائدة ويحصل المقصود ويوصل إلى المبتغى عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا"(رواه مسلم عن أبي هريرة وأبو داود وابن ماجة)،وباختصار شديد سأذكر علل الآثار التي اعتمد عليها الأخ الناصرولكن أريد أن أبين للإخوة الأفاضل أنه إن فرضنا أن بعض السلف ثبت عنه أنه يرى استحباب توجيه المحتضر للقبلة فلا يمكن أن نتخذ ذلك حجة نستدل به لأمرين: الاول:أن الاستحباب حكم شرعي يتطلب الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله،ثانيا:أنه ينظر إلى ما استدل به هؤلاء العلماء،وأجزم أنهم اتبعوا في ذلك آثارا عن النبي صلى الله عليه وسلم و عن أصحابه رأوها صحيحة فجعلوها عمدة قولهم،فإن تبين ضعفها يصبح الفرع فاسدا لفساد الأصل إذ ما بني على فاسد فهو فاسد، وهذا حقيقة الرد إلى الله ورسوله الذي أمر الله به.فأقول بعد هذه المقدمة مناقشا أدلة الأخ الناصر حفظه الله:
1/قصة احتضار عمر عند ابن ابي شيبة من كرة ففيها أبو أسامة قال القبطي وابن سعد:كثير التدليس وقال أحمد:لكنه صالح الكتاب،وقد عنعن هنا إذن هذه علة،والعلة الثانية هي عبد الرحمن بن يزيد قال الفلاس:ضعيف يروي عن أهل الكوفة مناكير،وقال أحمد : ليس به بأس،وعلى قول أحمد يعتبر به في المتابعات ،والأشبه أن يكون انقطاع بين يحيى ابن ابي راشد وراوي المتن وقد نقلها بصيغة الإحتمال،وزد على هذه العلل القادحة أن هذه الرواية ورواية ابي يوسف الفسوي كما سيأتي في قصة احتضار عمر رضي الله عنه تخالف ما رواه البخاري في صحيحه عن عمرو ابن ميمون وليس فيها ذكر التوجه نحو القبلة البتة،ولهذا لم يذكرها ابن الجوزي في كتابه الثبات واكتفى بما رواه البخاري.
2/ما رواه ابن ابي شيبة عن ابراهيم أنهم كانوا يستحبون أن يوجه المحتضر نحو القبلة،ففيها سفيان قال البخاري:ما أقل تدليسه،وضعفه النسائي بالتدليس،وهنا قد عنعن عن مغيرة وهو بن مقسم صاحب ابراهيم وقد ضعفه أحمد في ابراهيم،
3/ما رواه ابن ابي شيبة عن الحسن أنه يستحب ذلك،ففيها أشعث وهو ابن سوار الكندي ضعيف وزد على ذلك أن قصة وفاة الحسن معروفة وليس فيها ذكر التوجه البتة،ولو كانت سنة لكان أولى الناس بها.
4/ما رواه ابن ابي شيبة عن عطاء في استحباب الحروف للمحتضر نحو القبلة،فيها عمر بن هارون وقد كذبه ابم معين.
5/ما رواه ابن ابي شيبة عن عامر قال: إن شئت وجهه وإن شئت ال توجهه،فيه عنعنة سفيان وفيه أيضا جابر وهو صدوق لكنه يخطئ.
6/ما رواه عبد الرزاق عن ابراهيم قال:استقبل بالميت القبلة قال سفيان:على يمينه كما يوضع في اللحد، فيها مغيرة ابن مقسم الضبي وقد تقدم الكلام ذكر تضعيف أحمد له في ابراهيم،وأما قول سفيان فهو قوله وقول غيره كالبغوي كما سيأتي .
7/ما رواه عبد الرزاق عن الشعبي فيه عنعنتان عنعنة عبد الرزاق بن الهمام وهو قليل التدليس عن سفيان وهو مثله،عن جابر وهو صدوق كثير الخطأ.
8/ما رواه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن أن الملائكة وجهوا آدمحين حضره الموت ثو أغمضوه...ففيها هشام هذا وقد ضعفه ابو حاتم وابن المديني في الحسن وضعفه يحيى بن سعيد في عطاء،وقال ابن حجر:صدوق لكنه ذو أوهام،وأيضا هذه الرواية تخالف ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والطبراني في الاوسط و ابن سعد في الطبقات وابن جرير في تاريخ الامم والملوك ،وابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابي بن كعب بأسانيد صحيحة ورواه الحاكم مرفوعا بسند صحيح ولا تعارض بين الرفع والوقف فهوموقوف ولكنه مرفوع حكما،إذلا المجال للإجتهاد فيهوهو قصة وفاة آدم عليه السلام وفيه عن قبض الملائكة له وغسلهم له وتكفينه وتحنيطه والحفر له ولحده والصلاة عليه وحثو التراب عليه ثم قالوا:هذه سنتكم يا بني آدم ،وليس فيها ذكر توجيهه إلى القبلة البتة.
9/ما رواه ابو يوسف الفسوي في قصة احتضار عمر فيها المغيرة بن حكيم وهو صدوق لكنه ذو أوهام،وفيها ابن عثمان وهو لا يعرف،وايضا هذه القصة مخالفة لما رواه البخاري في صحيحه عن عمرو ابن ميمونكما سبق التنبيه على ذلك.
10/ما رواه ابن الاعرابي والبيهقي عن حيان ابو النضر قفي قصة واثلة ابن الأسقع مع يزيد بن الاسود فمدار إسنادهما على شبابة بن سوار وهو ذو أوهام، بالإضافة إلى عباس في سند ابن الأعرابي قال عنه ابن حجر:مقبول،فيصح في المتابعات،وأيضا هتان الروايتان مخالفتان للأثر الصحيح الذي رواه وكيع ابن حيان من حديث محمد ابن لبيد عن هشام بن الغار عن حيان ابو النضر قال : دخلت مع واثلة ابن الاسقع على يزيد ابن الاسود فقال واثلة:سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول:"يقول الله تعالى:أنا عند ظن عبدي بي".فلا ذكر للتوجه في هذه الرواية ولو كانت صحيحة لذكرت هاهنا،فدل أنه لا يثبت البتة.
11/ما رواه ابو نعيم عن عبد الله بن شوذب في قصة مقتل سعيد ابن جبيرفيها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد ضعفه الدارقطني ولكن الصحيح أنه إن صرح بالتحديث فهو مقبول،وهنا قد صرح بالتحديث لكن عن عبد الله بن سعد الزهري وهو صدوق لكنه ذو أوهام، وفيه أيضا ضمرة وهو مجهول ،وزد علة هذا أن ابو نعيم نفسه روى هذه القصة فقال:ثنا ابو حامد ثنا ابن اسحاق ثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ثنا شعبان عن سالم بن أبي حفصة فذكر القصة وفيها أن الحجاج هو القائل :اضربوا عنقه،فقال سعيد:دعوني أصلي ركعتين، فقال الحجاج:وجهوه إلى قبلة النصارى،فقال:(أينا تولوا فثم وجه الله )وفي رواية قال:الحجاج: وجهوه إلى قبلة النصارى، فقال سعيد:(فأينما تولوا فثم وجه الله)،فقال الحجاج:اجلدوا به الأرض فقال:(منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) ،قال الحافظ ابن كثير بعد إيراده هتان الروايتان:وقد ذكر ابو نعيم هنا كلاما كثيرا في مقتل سعيد أحسنه هذا والله أعلم ،وقد ذكرنا صفة قتله إياه وقد رويت آثار غريبة في صفة قتله أكثرها لا تصح.انتهى كلامه رحمه الله وقد تبين نكارة الزيادة التي في رواية عبد الله بن سعد الزهري أن سعيد استقبل القبة لما أمر الحجاج بقتله.
***قال العلامة الالباني في شرح المشكاة عند قوله:قال حذيفة:... وجهوني...فقال رحمه الله: لم أجده عن حذيفة وإنما روي عن البراء بن معرور من طريق نعيم بن حماد ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادةعن أبيه...الخ،ثو قال :وفيه علتان نعيم بن حماد ضعيف ولم يحتج به البخاري كما زعم الحاكم وإنما أخرج له مقرونا بغيره كما قال الذهبي في الميزان،الثانية الإرسال فإن عبد الله ليس صحابيا بل هو تابعي ابن صحابي،وقد وهم في هذا الإسناد جماعة،فذكر رحمه الله الحاكم والذهبي والزيلعي وابن حجر والشوكاني ومحمد صديق حسن خان والصنعاني وأحمد شاكر ثم قال:وهذا أغرب ما وقفت عليه من الأوهام حتى اليوم.أقول :لعل العلامة الالباني لم يقف على ما رواه ابن ابي الدنيا كما أخبرعن نفسه،وفي ههههذه الرواية عباد بن العوام وهوثقة لكنه ربما اضطرب أحيانا كما قال عنه الإمام أحمد ولعله اضطرب هاهنا بدلالة أنه خلاف ما روي بالسند الصحيح عن أسد بن وداعة في قصة وفاة حذيفة وليس فيه التوجه نحو القبلة البتة و لهذا اعتمد ابن الجوزي في كتابه الثبات على ما ذكرناه،وأيضا في رواية ابن ابي الدنيا داود ابن رشيد وهو يخطئ.
***حديث عبيد بن عميرعن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع في حديث طويل:"البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا"رواه ابو داود والحاكم والبيهقي.فيه حميد بن سنان قال الذهبي:لا يعرف وقد وثقه ابن حبان قال البخاري:روى عن عبيد بن عمير وفيه نظر.قلت:حديثه عن ابيه :"...فذكره.انتهى من الميزان.وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه البيهقي والبغوي من طريق ايوب بن عتبة وهو ضعيف وقد حسنه الالباني في تحقيق المشكاة.قال البغوي :قوله:"قبلتكم أحياء وأمواتا"دليل على توجيه المحتضر نحو القبلة.ورد عليه العلامة القنوجي في الروضة قائلا:وفيه نظرلأن المراد بقوله أحياء :عند الصلاة،وامواتا في القبر،والمحتضر حي غير مصل فلا يتناوله الحديث وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي وعدم خصوصيته بحال الصلاة وهو خلاف الإجماع.انتهى كلامه.وأعظم الأدلة على عدم مشروعية ذلكأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو يحتضرفقال:"كيف تجدك، قال:والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف الله فقال رسول الله:لا يجتمعان في قلب عبد في مثل ا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف"رواه الترمذي وابن ماجة وعبدالله بن احمد وابن ابي الدنيا ،ودخل على عمه العباس كما روت أم الفضل لما اشتد المرض بالعباس وتمنى الموت فنهاه عن ذلك والحديث
أخرجه احمد وابو يعلى والحاكم وصححه ووافقه الذهبيوهو على شرط البخاري كما قال الالباني،ولما مرض سعد ابن ابي وقاص مرضا اشفى منه على الموت،وعاده النبي صلى الله عليه وسلموجرى بينهما كلام وقد أخرجه احمد والشيخان وأصحاب السننولم ينقل عنه أنه وجه محتضرا نحو القبلة فدل دلالة واضحة على عدم مشروعية ذلك ، ومن جعل النبي أسوته كفاه ما كفاه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان ،ومن ترك هذه النقولات الجليات وارتبط بتلك الآثار المظلمة السقيمة فما علينا أن نعزيه أو نكبر عليه أربعا.