شرح كتاب مسائل الجاهلية للشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب شرح العلامة الفوزان
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في مقدمة رسالته: مسائل الجاهلية:
هذه مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها.
فالضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ ** وبِضِدِّها تتبيّنُ الأشياءُ
فأهم ما فيها وأشدها خطرًا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [سورة العنكبوت: 52]]. _______________________________________________
الشـرح
هذه رسالة من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، اسمها: " مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية " تشتمل على مائة وثمان وعشرين مسألة، استخلصها - رحمه الله - من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، والغرض من ذلك: تنبيه المسلمين؛ من أجل أن يتجنبوا هذه المسائل؛ لأنها خطيرة جدًا.
وبيّن - رحمه الله - أن هذه المسائل مما خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، من الكتابيين والأميين.
والكتابيون المراد بهم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود عندهم كتاب التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، والنصارى عندهم كتاب الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، فلذلك سموا بأهل الكتاب، وهم الآن يطلقون على التوراة: العهد القديم، أو: الأسفار القديمة، ويطلقون على الإنجيل: أسفار العهد الجديد، هذا في اصطلاحهم.
وهما كتابان عظيمان أنزلهما الله على نبيين كريمين، هما: موسى وعيسى عليهما السلام، لا سيما التوراة، فإنها كتاب عظيم. والإنجيل مكمل لها ومصدق لها.
ولذلك سموا بأهل الكتاب؛ فرقًا بينهم وبين غيرهم ممن ليس لهم كتاب.
وأما الأُمِّيُّون: فالمراد بهم: العرب الذين لا يدينون بالديانتين، سموا بالأميين، جمع أُمّي، نسبة إلى الأم (والأمي هو: الذي لا يقرأ ولا يكتب) فإنهم قوم لا يقرؤون ولا يكتبون في الغالب، وليس عندهم كتاب قبل نزول القرآن؛ فلذلك سموا بالأميين، كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [الجمعة: 2]، وكما قال تعالى: { وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } [سبأ: 44]، وقال تعالى: { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس: 6]، فهذا معنى الأميين. ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي، قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [الأعراف: 157].
فكونه أُمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب العظيم دليل على صدق رسالته وفي ذلك معجزة له.
فالعرب أميّون، ونبيهم صلى الله عليه وسلم أمّي.
أما الجاهلية، فالمراد بها النسبة إلى الجهل، والجهل عدم العلم، والجاهلية هي التي ليس فيها رسول وليس فيها كتاب. والمراد بها: ما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } [الأحزاب: 33] يعني: التي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان العالم كله يموج في ضلال وكفر وإلحاد؛ لأن الرسالات السابقة اندرست، فاليهود حرفوا كتابهم التوراة، وأدخلوا فيه كثيرًا من الكفريات والضلال، والشنائع التي أدخلوها في التوراة، وكذلك النصارى حرفوا كتابهم الإنجيل عما كان عليه وقت نزوله على المسيح عليه الصلاة والسلام، وذلك أن رجلاً يُقال له: بلس، أو شاول، كان يهوديًا حاقدًا على رسول الله عيسى عليه السلام، فهذا الرجل لجأ إلى المكر والخديعة، في إفساد دين المسيح عليه السلام، حيث أظهر الإيمان بالمسيح، وأنه ندم على ما كان من قبل من عداوة المسيح، وأنه رأى رؤيا - بزعمه - فآمن بالمسيح، وصدقه النصارى فيما قال، ثم إنه تناول الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، فأدخل فيه الوثنيات والشركيات والكفريات، حيث أدخل فيه عقيدة التثليث، أي أن الله ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله، أو هو الله. وأدخل فيه الأمر بعبادة الصليب، وأدخل كفريات شنيعة، وصدقوه في ذلك على أنه عالم، وعلى أنه مؤمن ولقبوه بالرسول بلس أي رسول المسيح بزعمهم وقصده إفساد دين المسيح، وحصل له ما أراد، فقد أفسد دين المسيح وأدخل فيه الوثنيات والتثليث، واعتقاد أن عيسى ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، وأدخل فيه وثنيات كثيرة فاتبعوه على ذلك.
هذه حالة أهل الكتاب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا بقايا منهم كانوا على الدين الصحيح (1)، لكن الأكثرية منهم على الكفر والانحراف عن دين الله.
وأما العرب فكانوا على قسمين: قسم اتبع الديانات السابقة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. وقسم كانوا على الحنيفية، دين إبراهيم وإسماعيل، لا سيما في الحجاز في أرض مكة المكرمة.
إلى أن ظهر فيهم رجل يُقال له: عمرو بن لحي الخزاعي، كان ملكًا على الحجاز، وكان يظهر التنسك والعبادة والصلاح، وذهب إلى الشام للعلاج، فوجد أهل الشام يعبدون الأصنام، فاستحسن ذلك، وجاء من الشام بأصنام معه، ونقب عن الأصنام التي كانت مدفونة تحت الأرض بعد قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها، كان الطوفان قد طمسها ودفنها، وجاء الشيطان فأرشده إلى أمكنتها، فنبشها وأخرجها، ووزعها على قبائل العرب وأمر بعبادتها؛ وقبلوا منه ذلك، ودخل الشرك في أرض الحجاز وفي غيرها من بلاد العرب، وغيّر دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسيَّب السوايب للأصنام من بهيمة الأنعام؛ ولذلك رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، يعني: يجر أمعاءه في النار [(2) أخرجه البخاري (رقم 3521) ومسلم (رقم 2856).]
فكانت حالة العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال مبين، الكتابيون والأميون وغيرهم، سائر أهل الأرض، إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على الدين الحق، لكنهم انقرضوا قبل البعثة، فأصبح الظلام حالكًا في الأرض، وجاء في الحديث: أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، يعني: أبغضهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.
في هذا الظلام الحالك، وهذه الجاهلية المستحكمة، وانطماس السبل، ودروس آثار الرسالات السماوية، بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [آل عمران: 164] وإن كانوا من قبل: أي قبل بعثته صلى الله عليه وسلم .
والجاهلية - كما قلنا - منسوبة إلى الجهل وهو عدم العلم، وكل أمر منسوب إلى الجاهلية فإنه مذموم، ولهذا قال تعالى: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } [الأحزاب: 33]، نهى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج، وهو إظهار الزينة في الأسواق، وأمام الناس؛ لأن أهل الجاهلية كانت نساؤهم تتبرج، بل تكشف عن عوراتها، كما في الطواف عندهم، يرون أن هذا من المفاخر.
وقال تعالى: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } [الفتح: 26] وهذا من باب الذم، فحمية الجاهلية مذمومة، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار حصل بينه وبين رجل من المهاجرين في بعض الغزوات، اقتتال ونزاع، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، كل واحد منهم دعا قومه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة" [أخرجه البخاري (رقم 3518، 4905، 4907) ومسلم (رقم 2584).] يعني الاعتزاء بالقبيلة؛ لأن المؤمنين كلهم إخوة، لا فرق بين أنصاري ومهاجري، ولا بين قبيلة كذا وكذا، هم إخوة في الإيمان، كالجسد الواحد، والبنيان يشد بعضه بعضًا، هذا الواجب على المسلمين، أنهم لا يميزون بين عربي وعجمي، وأسود وأبيض، إلا بالتقوى، كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] فالاعتزاء بالأنساب والاعتزاء بالقبائل من أمور الجاهلية.
وقال صلى الله عليه وسلم : "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" [أخرجه مسلم (رقم 1850).] ؛ لأن أهل الجاهلية هم أهل الفوضى، الذين لا يخضعون لسلطان ولا لأمير. هذه حالة الجاهلية.
فالحاصل: أن أمور الجاهلية كلها مذمومة، ونهينا عن التشبه بأهل الجاهلية في كل الأمور، والجاهلية انتهت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعد بعثته زالت الجاهلية العامة، وجاء العلم والإيمان، ونزل القرآن والسنة، وانتشر العلم وزال الجهل، وما دام القرآن موجودًا، والسنة النبوية موجودة، وكلام أهل العلم موجودًا، فإنه لا جاهلية حينئذٍ، أعني الجاهلية العامة، أما أنه يبقى بعض الجاهلية في بعض الناس، أو في بعض القبائل، أو في بعض البلدان، فالجاهلية الجزئية تكون موجودة.
ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعيّر أخاه بقوله: يا ابن السوداء، قال له: "أعيّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية" [أخرجه البخاري (رقم 30، 2545، 6050) ومسلم (رقم 1661).]، وقال صلى الله عليه وسلم : "أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم" [أخرجه البخاري مختصرًا (رقم 3850) ومسلم واللفظ له (رقم 934).] فدلّ على أنه تبقى أشياء من أمور الجاهلية في بعض الناس، وهي مذمومة، لكنه لا يكفر بها لكن الجاهلية العامة زالت ولله الحمد.
ولهذا لا يجوز أن يقال: الناس في جاهلية، أو: العالم في جاهلية؛ لأن هذا جحود لوجود الرسالة، وجحود للقرآن والسنة. هذا الإطلاق لا يجوز، أما أن يقال: في بعض الناس جاهلية، أو: في بعض الأشخاص جاهلية، أو: هناك خصال من خصال الجاهلية، فهذا موجود، ففيه فرق بين ما كان قبل البعثة وما بعد البعثة.
قد يقول بعض الناس: ما الداعي إلى ذكر مسائل الجاهلية، ما دامت الجاهلية قد انتهت؟ نحن مسلمون ولله الحمد.
نقول: الداعي لذلك: الحذر منها، فإنه إذا عرفها طالب العلم فإنه يحذر منها، أما إذا جهلها ولم يعرفها، فإنه قد يقع فيها، فذكرها ومدارستها من أجل أن تعرف حتى تجتنب، وحتى يحذر منها، قال الشاعر:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشّرّ ولكن لتوقِّيهِ ** ومن لا يعرف الشّرَّ يَقَع فيهِ
هذا من ناحية، والناحية الثانية، أنك إذا عرفت الجاهلية عرفت فضل الإسلام، كما قال الشاعر:
الضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ ** وبِضِدِّها تتبيّنُ الأشياءُ
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية "، فإذا كان الإنسان يجهل أمور الجاهلية فإنه حري أن يقع فيها؛ لأن الشيطان ما نسيها ولا نام عنها، يدعو إليها.
فالشيطان وأتباعه من دعاة الضلال لا يزالون يدعون إلى الجاهلية، وإلى إحياء أمور الجاهلية، إلى الشركيات والبدع، وإلى الخرافات، وإلى إحياء الآثار، وكل هذا القصد منه: طمس الإسلام، وعودة الناس إلى الجاهلية، فلابد من دراسة أمور الجاهلية من أجل أن نتجنبها ونبتعد عنها.
قال الشّيخ: " وأعظم مسائل الجاهلية وأخطرها: عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم "؛ لأن أهل الجاهلية كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، قال رحمه الله: " فإذا انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة "، أي حصل فساد في الظاهر والباطن، فساد في الباطن وهو عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفساد في الظاهر وهو استحسان أمور الجاهلية، فإذا فسد الظاهر والباطن تمت الخسارة، والعياذ بالله. وهذا نتيجة الجهل وعدم معرفة أمور الجاهلية، فلا يجوز استحسان ما عليه أهل الجاهلية، بل يجب إنكاره واستبشاعه، أما من استحسنه فإنه يكون من أهل الجاهلية، واستدل الشيخ بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [العنكبوت: 52].
{ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ } يعني: صدقوا الباطل، والباطل ضد الحق، فما خالف الحق فهذا باطل، والباطل هو: الذاهب الزائل الذي لا فائدة فيه، قال تعالى: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [يونس: 32].
كتاب{ شرح مسائل الجاهلية }للشيخ العلامة صالح الفوزان
ويتبع أن شاء الله