الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد أخرج البخاري
[1] ومسلم
[2] : عن عمران بن حصين ‑رضي الله عنهما‑:
أن رسول الله ‑صلى الله عليه وسلم‑ قال له ‑أو لآخر‑: «أصمت مِن سرر شعبان»؟ قال: لا. قال: «فإذا أفطرتَ فصُم يومين».
وفي رواية
[3] لمسلم: «فإذا أفطرت مِن رمضان فصُمْ يومين مكانه».
غريب الحديث:
«السَّرَر»: بفتح السين والراء الأُولى؛ كذا للكافة. وعند بعضهم: بضم السين. قاله عياض
[4] . ويجوز كسر السين ‑كما حكاه النووي
[5] وابن حجر
[6] ‑.
ويقال أيضا: «سرَار» بفتح أوَّلِه وكسرِه، قال ابن السِكِّيت
[7] : «والفتح أجود».
قال الخطّابي
[8] : «فيه ثلاث لغات: يقال سر الشهر، وسَرر الشهر، وسَراره. وسُمِّي آخر الشهر سرا؛ لاستسرار القمر فيه».
قال أبو عبيد
[9] : «قال الكسائي وغيرُه: السَّرار آخر الشهر؛ ليلةَ يستسِرُّ الهلال».
وذكر ابنُ فارس
[10] أن مادة «سر»: يَجمع فروعَها أصلان: أحدهما: «إخفاءُ الشيء...».
قال ومِن ذلك: «السِّرّ: خلاف الإعلان. يقال أسْرَرتُ الشيءَ إسرارًا، خلاف أعلنته...
ومِن ذلك: السِّرَار والسَّرَار؛ وهو ليلةَ يستسرُّ الهلال؛ فربما كان ليلة، وربما كان ليلتين إذا تمّ الشهر، ومِن ذلك الحديث: "أنّه سأل رجلا هل صُمْتَ مِنْ سِرَارِ الشَّهر؟"...» اهـ كلامُ ابنِ فارس.
وهل سَرَر الشهر: أولُه؟ أو وسطُه؟ أو آخُره؟
فيه خلاف بين أهل العلم...
والذي عليه الجمهور مِن أهل العلم: أن سرر الشهر: آخره.
حكاه عنهم: القاضي عياض
[11] ، والنووي
[12]، وابنُ حجر
[13]، والسيوطي
[14].
وقال الخطَّابيّ[
15] : وهو الذي يعرفه الناس. ا ﻫ.
وقال أبو العباس القرطبي
[16] : «المعروف عند اللغويين وغيرهم: أن سرار الشهر آخره» اﻫ.
ويتأكّدُ حمل «السرر» على آخر الشهر: في هذا الحديث على وجه الخصوص.
فقد ترجم لهٰذا الحديث: البخاريُ
[17] بقوله: «باب الصَّوم مِن آخر الشَّهر».
وقال القاضي عياض
[18] : والأظهر في تفسير سرار الشهر: أنه آخره؛ بدليل قوله ‑عليه السلام‑: «فإذا أفطرتَ مِن رمضان فصُم يوما أو يومين»... قال: ولو كان السرر أول شعبان أو وسطه؛ لم يَفُتْه قضاؤها في بقيته، ولم يَحتَجْ أن ينتظر تمام صيام رمضان فالأظهر أنها آخر أيامه، على ما قال أبو عُبيد وأكثرهم. ا ﻫ.
فقه الحديث:
ظاهر هذا الحديث يُعارضُ حديثًا آخر ‑متفقًا عليه أيضًا‑؛ وهو ما أخرجه البخاري
[19] ومسلم
[20] : عن أبي هريرة ‑رضي الله عنه‑: عن النبيِّ ‑صلى الله عليه وسلم‑ قال: «لا يَتقدمَنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين، إلا أن يكون رجلٌ كان يصومُ صومَه؛ فلْيصُم ذلك اليوم».
وأخرجه أبو داود
[21] والترمذي
[22] والنسائي
[23] من حديث ابن عباس، بنحوه.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:
• قال أبو عبيد
[24] : «وفي الحديث من الفقه: أنه إنما سأله عن سرار شعبان؟ فلمَّا أخبره أنه لم يصمْه؛ أَمَرَه أن يقضي بعد الفطر يومين.
فوَجْه الحديث عندي ‑والله أعلم‑: أن هذا مِن نذرٍ كان على ذلك الرجل في ذلك الوقت، أو تطوع قد كان ألزمه نفسه؛ فلما فاته أَمَره بقضائه. لا أعرف للحديث وجها غيرَه.
وفيه أيضا: أنه لم يَرَ بأسا أن يصل رمضانَ بشعبانَ؛ إذا كان لا يُراد به رمضان ‑إنما يُراد به التطوع أو النذر يكون في ذلك الوقت‑. ومما يشبه هذا الحديث: حديثه الآخر «لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم» فهذا معناه التطوع أيضا، فأما إذا كان يُراد به رمضان فلا؛ لأنه خلاف الإمام والناس» اﻫ.
وقال الخطّابي في «معالم السنن»
[25] : «وجه الجمع بينهما: أن يكون الأول إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسِه بنذره؛ فأمره بالوفاء به، أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر؛ فاستحب له صلى اللّه عليه وسلم أن يقضيَه.
وأمّا المنهي عنه في حديث ابن عباس فهو أن يبتدئَ المرءُ متبرِّعا به ‑مِن غير إيجاب نذر ولا عادة قد تعودها فيما مضى‑. واللّه أعلم» ا ﻫ.
ونقلَه أبو محمد البغوي في «شرح السنة»
[26] مرتضيًا له.
• قال ابنُ حِبّان ‑رحمه الله‑ في «صحيحه»
[27] : «قوله: "أصمتَ من سرر هذا الشهر؟": لفظة استخبارٍ عَن فِعْل؛ مُرادُها الإعلام بنفي جواز استعمال ذلك الفعل المستخبَرِ عنه؛ كالمنكِر عليه لو فَعَله. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أتسترين الجدار؟" أراد به الإنكار عليها بلفظ الاستخبار».
قال الخطابي في «غريب الحديث»
[28] : «وقال بعض أهل العلم: «إن سؤاله
[29] : سؤالُ زجر وإنكار»؛ لأنه قد نَهَى أن يُستقبل الشهر بيوم أو يومين» اﻫ. ونقله عنه ابن حجر
[30] .
ثم قال
[31] : وتُعقِّب بأنه لو كان السؤال للإنكار؛ لَمَا أمره بقضاء ذلك من شوال.
وأجاب الخطَّابي
[32] بقوله: «ويشبه أن يكون هذا الرجل قد كان أوجبهما على نفسه؛ فاستَحَبَّ له الوفاء بِهما، وأن يجعل قضاءَهما في شوال».
فقال ابنُ حجر: «قال ابنُ المنير في الحاشية
[33] : قوله "سؤال إنكار": فيه تكلُّف، ويدفع في صدره قولُ المسؤول: "لا يا رسول الله"؛ فلو كان سؤال إنكار؛ لكان صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليه أنه صام؛ والفرض أن الرجل لم يصم؛ فكيف يُنكر عليه فعل ما لم يفعله.
ويحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر؛ فلما سمع نهيَه صَلَّى الله عليه وسلم أن يتقدم أحدٌ رمضان بصوم يوم أو يومين ‑ولم يبلغه الاستثناء‑؛ ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك؛ فأمره بقضائها لتستمر محافظته على ما وَظَّف على نفسه من العبادة؛ لأن أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه» اﻫ.
• قال المازري
[34] ‑في الجمع بين الحديثين‑: «ظاهر هذا: مخالف لقوله صل الله عليه وسلم: «لا تَقَدَّموا الشهر بيوم ولا يومين»؛ فيصح أن يُحمل هذا على أن الرجل كان مِمَّن اعتاد صيام السرر، أو نذر ذلك؛ وخشي أن يكون إذا صام آخر شعبان دخل في النهي.
فيكون فيما قال له صلى الله عليه وسلم: دليلٌ على أنه لا يدخل في ذٰلك الذي نَهى عنه مِن تَقَدُّم الشهر بالصوم، وأن المراد بالنهي: مَن هو على غير حالته» اﻫ كلام المازري.
وارتضى القاضي عياض
[35] كلامه، وكذا النوويُّ
[36].
وقال ابن التين
[37] : «يُحتمل أن يكون هذا كلاما جرى مِن النبي صلى الله عليه وسلم جوابا لكلام لم يُنقل إلينا».
قال ابن حجر
[38] : «ولا يخفى ضعف هذا المأخذ».
وقال أبو العباس القرطبي
[39] : «ويرتفع ما يُتوهم مِن المعارضة: بأن يُحمل النهي على مَن لم تكن له عادة بصوم شيء مِن شعبان ‑فيصومه لأجل رمضان‑. وأمَّا مَن كانت له عادة أن يصوم؛ فلْيستمر على عادته. وقد جاء هذا أيضًا في بقية الخبر، فإنه قال: "إلا أن يكون أحدُكم يصوم صومًا فليصمه" ‑كما تقدم‑.
وقوله: "فصُمْ يومين مكانه"، هذا مِنه صلى الله عليه وسلم: حَملٌ على ملازمة عادة الخير حتى لا تُقطع، وحَضٌ على أن لا يَمضي على المكلَّف مثلُ شعبان فلم يصم منه شيئًا؛ فلمَّا فاته صومُه؛ أمره أن يصوم مِن شوال يومين؛ ليحصل له أجرٌ مِن الجنس الذي فوَّته على نفسه» اﻫ.
وقال آخرون من أهل العلم
[40] : «فيه
[41] دليل على أن النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين: إنما هو لِمَن يقصد به التحرِّي لأجل رمضان، وأمَّا مَن لم يقصد ذلك؛ فلا يتناوله النهي ‑ولو لم يكن اعتاده‑.
فقال ابن حجر
[42] : «وهو خلاف ظاهر حديث النهى
[43] ؛ لأنه لم يستثن منه إلا مَن كانت له عادة».
وقال أبو العبَّاس القرطبي
[44] : «ويظهر لي أنه إنما أمره بصوم يومين؛ للمزية التي يختص بها شعبان. فلا بُعْد في أن يقال: إنَّ صومَ يومٍ منه كصوم يومين في غيره. ويشهد لهذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم منه أكثر مما كان يصوم من غيره؛ اغتنامًا لمزية فضيلته».
قال ابن حجر
[45] : «وهذا لا يتم إلا إن كانت عادة المخاطَب بذلك أن يصوم من شعبان يوما واحدا، وإلا فقولُه "هل صمت مِن سَرَرِ هذا الشهر شيئا"؟ أعَمُّ مِن أن يكون عادته صيام يوم منه أو أكثر.
نعم؛ وقع في "سنن أبي مسلم الكجّي": "فصُمْ مكان ذلك اليومِ يومين"...». اﻫ كلام ابن حجر.
أقول: وهذا الاعتراض غير وارد على القرطبي؛ فإن الحديث الذي يشرحُه عند مسلم
[46] فيه: «فإذا أفطرت مِن رمضان فصُمْ يومين مكانه» (يعني مكان ذٰلك اليوم)، وهي ظاهرة الدلالة على ما استدل له القرطبي.
وأيضًا فإن رواية أبي مسلم الكجّي ‑التي ذكرها ابن حجر‑: صحيحة؛ أخرجها الطبراني في «الكبير»
[47] وأبو نعيم في «المستخرج»
[48] كلاهما من طريق أبي مسلم، ورجال إسناده رجال البخاري؛ غير أبي مسلم؛ وقد قال عنه الدارقطني: «صدوق ثقة»
[49] ، وقال عبدالغني بن سعيد: «ثقة نبيل»
[50] .
قال ابن حجر
[51] : «وفي الحديث مشروعية قضاء التطوع.
وقد يُؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأَولى؛ خلافا لمن منع ذلك» اﻫ.
والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
إعداد القسم العلمي
بموقع الرئاسة العامة
لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر