المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حقيقة الصبر /الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله


كيف حالك ؟

البلوشي
04-02-2006, 07:25 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الصبر. قال أبو العباس: ((وهو من منازل العوام أيضاً، لأن الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته. وهذا فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحمل الأذى بالبلوى. وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى.
وقيل: إنه على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول: التصبر، وهو تحمل مشقة، وتجرع غصة، والثبات على ما يجرى من الحكم. وهذا هو التصبر لله وهو صبر العوام. والثانى: الصبر، وهو نوع سهولة تخفف عن المبتلى بعض الثقل، وتسهل عليه صعوبة المراد، وهو الصبر لله، وهو نوع سهولة، وهو صبر المريدين. والثالث: الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى، وهذا هو الصبر على الله، وهو صبر العارفين)). والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال الصبر نصف الدين، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}* [سبأ:19]، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((والذى نفسى بيده، لا يقضى الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له: إن أصابته سراءٌ شكر فكان خيراً له، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)). فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر، والذى يوضح هذا:
الوجه الثانى: وهو أن العبد لا يخلو قط من أَن يكون فى نعمة أَو بلية، فإن كان فى نعمة ففرضها الشكر والصبر. أما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها، وأما الصبر فعن مباشرة الأَسباب التى تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التى تحفظها فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى. ومن هنا يعلم سر مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر، وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنه قد يكون صبر الغنى أكمل من صبر الفقير. كما قد يكون شر الفقير أكمل، فأفضلهما أعظمهما شكراً وصبراً، فإن فضل أحدهما فى ذلك فضل صاحبه.
فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به، والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر، وإن كان فى بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً: أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه فى تلك البلية، فإن لله على العبد [عبودية فى البلاء كما له عليه عبودية فى النعماء وعليه] أن يقوم بعبوديته فى هذا وهذا. فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر، ما دام سائراً إلى الله.
الوجه الثالث: أن الصبر ثلاثة أقسام: إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة فالصبر لازم له أبداً لا خروج له البتة.
الوجه الرابع: أن الله سبحانه ذكر الصبر فى كتابه فى نحو تسعين موضعاً، فمرة أمر به، ومرة أثنى على أهله، ومرة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطاً فى حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله، وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيه أيوب: {إِنَا وَجَدْنَاهُ صَابِرَاً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب}* [سورة ص: 44]، وقال [تعالى] لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنِ الرُّسُلِ}* [الأحقاف: 35]، وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النمل: 127]، وقال يوسف الصديق، وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيَعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}* [يوسف:90]، وهذا يدل على أن الصبر من أجل مقامات الإيمان، وأن أخصّ الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأن الخاصة أحوج إليه من العامة.
الوجه الخامس: أن الصبر سبب فى حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص.فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا فى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه: ((اللَّهم إنى أسألك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد))، ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علم العبد الكنز الذى تحت هذه الأحرف الثلاثة أعنى اسم ((الصبر)) لما تخلف عنه.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ما أُعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر))، وقال عمر بن الخطاب [رضى الله عنه] حين غشى عليه: أدركناه بالصبر. وفى مثل هذا قال القائل:
نزه فؤادك عن سوانا والقنا فجنابنا حـــل لكل منزه
والصبر طلّسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلَّسم فاز بكنزه
فالصبر طلسم على كنز السعادة، من حله ظفر بالكنز.
الوجه السادس: قوله: ((الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته))، فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبر على البلاءِ. وأما الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه، بل [يتجلى] بها ويأْتى بها محبة ورضى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنه حبس النفس على مداومتها والقيام بها، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى}* [الكهف: 28]، وأما الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته.
وإذا كان ما ذكر من الأُمور الأربعة إِنما يعرض فى الصبر على البلية فقوله: ((إنه فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة)) ليس كذلك، وإنما فيه التجلد، فأين المناوأة [والجرأة] والمنازعة؟
وأما لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تعدم فلا يصح أن يقال: إن وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأَة ومنازعة، بل هو محض العبودية والاستكانة وامتثال الأَمر، وهو من عبودية الله المفروضة على عبده فى البلاءِ، فالقيام بها عين كمال العبد ولوازم الطبيعة لا بد منها، ومن رام أن لا يجد البرد والحر والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها فقد رام الممتنع.
وهل يكون الأَجر إلا على وجود تلك الآلام والمشاق والصبر عليها؟ وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أشد الناس بلاءَ الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل))، وقيل له فى مرضه: إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: ((أجل إن لى أجر رجلين منكم)) يعنى فى وعكة [صلى الله عليه وسلم].
ولا ريب أن ذلك الوعك مؤلم له صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فى مرض موته قال: ((وارأْساه))، وهذا إنما هو من وجود أَلم الصداع، وكان يقول فى غمرات الموت: ((اللَّهم أَعنِّى على سكرات الموت)) [ويدخل يده فى القدح ويمسح وجهه بالماء من كرب الموت]، وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته صلى الله عليه وسلم.
وهل كان ذلك إلا محض العبودية وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا فى ترك الصبر، وفى التسخط والشكوى؟
الوجه السابع: قوله: ((فإن حامله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحامل الأذى بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى))، فيقال: الذى يمكن الخروج عنه هو الشكوى، وأما أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجده أو يتلذذ بها، فهذا غير ممكن، ولا هو فى الطبيعة، وإنما الممكن أن يشاهد العبد فى تضاعيف البلاءِ لطف صنع الله به وحسن اختياره له وبره به فى حمله عنه [فيخفف عنه] مؤنة حمله، وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنع الله به وبره وحسن اختياره عن شهود حمله فيحصل له لذة بما شهده من ذلك، وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهى أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وإنه بمرأى منه ومسمع، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التى خلعها عليه ليرفل له فى أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله، فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هى موافقة المحبوب فى محابه فيحب ما يحبه محبوبه، فيحب العبد تلك الحال من حيث موافقته لمحبوبه وإن كرهها من حيث الطبع البشرى، فإن هذه الكراهة لا تنافى محبته لها كما يكره طبعه الدواءَ الكريه وهو يحبه من وجه آخر، وهذا لا ينكر فى المحبة المتعلقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها، كما قال القائل فى ذلك:
أهوى هواه وبعدى عنه يعجبه فالبعد قد صار لى فى حبه أَربا
وقال الآخر:
أريد وصاله ويريد هجـرى فـأترك ما أريد لما يـريـد
وقال الآخر:
وأَهنتنى فأَهتت نفسى جاهداً ما من يهون عليك ممن أُكرم
وإنه لتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه. فإذا شهد مراد محبوبه أَحبه، وإن كان كريهاً إليه. فهذا لا ينكر ولا ينافى التأَلم بمراد المحبوب المنافى للمحب وصبره عليه، بل يجتمع فى حقه الأَمران، وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة، فكلما قوى علمه بذلك وقويت محبته لمن ذكره بابتلائه ازداد تلذذه بها مع الكراهية الطبيعية التى هى من لوازم الخلقة ولا سيما إِذا علم المحب الذى أَحب الأشياءَ إليه أن يجرى ذكره على بال محبوبه أَن محبوبه قد ذكره بنوع من الامتحان، فإنه يفرح بذكره له وإن ساءه ما ذكره به كما قال القائل:
لئن ساءَنى أن نلتنى بمساءَة لقد سرنى أَنى خطرت ببالكا
الوجه الثامن: قوله: ((وهو على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول التصبر- إلى قوله- وهو صبر العوام))، فيقال: لا ريب أن التصبر مؤذن بتكلف وتحمل على كره، ولكن هذا لا بد منه فى الصبر. وهو سببه الذى ينال به، فالتصبر من العبد، والصبر ثمرته التى يفرعها الله إذا تعاطاه وتكلفه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((ومن يتصبر يصبره لله))، فمنزلة التصبر من الصبر منزلة التعلم والتفهم من العمل والفهم، فلا بد منه فى حصول الصبر.
الوجه التاسع: قوله: ((والثانى الصبر، وهو نوع سهولة يخفف عن المبتلى بعض الثقل، ويسهل عليه صعوبة المراد وهو الصبر للله، وهو صبر المريدين))، فقد تقدم أن الصبر ثمرة التصبر وكلاهما إنما يحمد إذا كان الله. وإنما يكون إذا كان بالله فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر، فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصوده إلا أن يكون بالله ولله. قال تعالى فى الصبر به: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}* [النحل: 127]، وقال فى الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}* [الطور: 48].
واختلف الناس أى [الله] الصبرين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحب [كتاب] ((منازل السائرين)): وأضعف الصبر الصبر لله وهو صبر العامة، وفوقه الصبر بالله، [وهو صبر المريد وفوقهما الصبر على الله ووجه هذا القول السالك ووجه هذا القول إن الصبر لله]هو صبر العابد الذى تصبر نفسه لأَمر الله طالباً لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل صابر عن المحرمات، وأما الصبر به فهو تبرؤ من الحول والقوة، وإضافة ذلك إلى الله [عز وجل] وهو صبر المريد.
وأما الصبر على الله فصبر السالك على ما يجيء به متعلق أقداره وأحكامه. والصواب أن الصبر لله أكمل من الصبر به، فإِن الصبر له متعلق بإلهيته ومحبته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته، وما هو له أكمل مما هو به، فإن ما هو له [هو] الغاية وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل.
وأيضاً فإن الصبر له متعلق بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}* [الفاتحة: 5]،وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين الله، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه و((إِيَّاك نعبد)) هى التى لله، و((إيَّاك نستعين)) هى التى للعبد، وما لله أكمل مما للعبد فما تعلق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد، وأيضاً فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة والمحبة أكمل من الاستعانة. وأما الصبر على الله [سبحانه] فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية، فهو يرجع إلى الصبر على أوامره والصبر على ابتلائه، فليس فى الحقيقة قسماً ثالثاً، والله أعلم.
فقد تبين أن الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل لكمال العبد الذى لا كمال له بدونه، ولا يذم منه إلا قسم واحد وهو الصبر عن الله [سبحانه] فإنه صبر المعرضين المحجوبين، فالصبر عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤُه، وهو الذى يسقط المحب من عين محبوبه، فإن المحب كلما كان أَكمل محبة كان صبره عن محبوبه متعذراً.
الوجه العاشر: قوله: ((الثالث الاصطبار، وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين)). فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر كالاكتساب والاتخاذ، وهو مشعر بزيادة المعنى على الصبر، كأَنه صار سجية وملكة: فإن هذا البناء مؤذن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِر} [القمر: 27] ، فالاصطبار أبلغ من الصبر كما أن الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان فى العمل الذى يكون على صاحبه، والكسب فيما له، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}* [البقرة: 286] تنبيهاً على أن الثواب يحصل لها بأَدنى سعى وكسب، وأن العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه.وإذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار الله سبحانه لا يخص الاصطبار، بل يكون مع الصبر ومع [التصبر]. ولكن لما كان الاصطبار أبلغ من الصبر وأقوى كان بهذا التلذذ والاستبشار أولى. والله أعلم
طريق الهجرتين و باب السعادتين
للإمام ابن قيم الجوزية

12d8c7a34f47c2e9d3==