المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفصيل قصة آدم ، أبي البشر ، عليه الصلاة والسلام


كيف حالك ؟

البلوشي
03-05-2006, 09:47 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
تفصيل قصة آدم ، أبي البشر ، عليه الصلاة والسلام
لم يزل الله أولا ليس قبله شيء ، ولم يزل فعالا لما يريد ، ولا خلا وقت من الأوقات من أفعال وأقوال تصدر عن مشيئته وإرادته بحسب ما تقتضيه حكمة الله الذي هو حكيم في كل ما قدره وقضاه ، كما هو حكيم في كل ما شرعه لعباده ، فلما اقتضت الحكمة الشاملة والعلم المحيط من الله والرحمة السابغة خلق آدم أبي البشر الذين فضلهم الله على كثير ممن خلق تفضيلا ، أعلم الملائكة وقال :
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة : 30] .
يخلف من كان قبلهم من المخلوقات التي لا يعلمها إلا هو .
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [تابع : الآية] .
وهذا منهم تعظيم لربهم وإجلال له عن أنه ربما يخلق مخلوقا يشبه أخلاق المخلوقات الأول ، أو أن الله تعالى أخبرهم بخلق آدم ، وبما يكون من مجرمي ذريته ، قال الله لملائكته :
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [تابع : الآية] .
فإنه محيط علمه بكل شيء ، وبما يترتب على هذا المخلوق من المصالح والمنافع التي لا تعد ولا تحصى .
فعرفهم تعالى بنفسه بكمال علمه ، وأنه يجب الاعتراف لله بسعة العلم ، والحكمة التي من جملتها أنه لا يخلق شيئا عبثا ، ولا لغير حكمة ، ثم بين لهم على وجه التفصيل ، فخلقه بيده تشريفا له على جميع المخلوقات ، وقبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها ، وطيبها وخبيثها ، ليكون النسل على هذه الطبائع ، فكان ترابا أولا ، ثم ألقى عليه الماء فصار طينا ، ثم لما طالت مدة بقاء الماء على الطين تغير ذلك الطين فصار حمأ مسنونا ، طينا أسود ، ثم أيبسه بعدما صوره فصار كالفخار الذي له صلصلة . . وفي هذه الأطوار هو جسد بلا روح ، فلما تكامل خلق جسده ، نفخ فيه الروح فانقلب ذلك الجسد الذي كان جمادا حيوانا له عظام ولحم وأعصاب وعروق وروح هي حقيقة الإنسان ، وأعده الله لكل علم وخير ، ثم أتم عليه النعمة ، فعلمه أسماء الأشياء كلها .
والعلم التام يستدعي الكمال التام ، وكمال الأخلاق ، فأراد الله أن يري الملائكة كمال هذا المخلوق ، فعرض هذه المسميات على الملائكة وقال لهم :
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 31] .
في مضمون كلامكم الأول الذي مقتضاه أن ترك خلقه أَوْلَى ، هذا بحسب ما بدا لهم في تلك الحال ، فعجزت الملائكة عليهم السلام عن معرفة أسماء هذه المسميات ، وقالوا :
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة : 32] .
قال الله :
يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة : 33] .
شاهد الملائكة من كمال هذا المخلوق وعلمه ما لم يكن لهم في حساب ، وعرفوا بذلك على وجه التفصيل والمشاهدة كمال حكمة الله ، وعظموا آدم غاية التعظيم ; فأراد الله أن يظهر هذا التعظيم والاحترام لآدم من الملائكة ظاهرا وباطنا ، فقال للملائكة :
اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة : 34] .
احتراما له وتوقيرا وتبجيلا ، وعبادة منكم لربكم ، وطاعة ومحبة وذلا ; فبادروا كلهم أجمعون ، فسجدوا وكان إبليس بينهم ، وقد وجه إليه الأمر بالسجود معهم ، وكان من غير عنصر الملائكة ; كان من الجن المخلوقين من نار السموم ، وكان مبطنا للكفر بالله ، والحسد لهذا الإنسان الذي فضله الله هذا التفضيل ; فحمله كبره وكفره على الامتناع عن السجود لآدم كفرا بالله واستكبارا ، ولم يكفه الامتناع حتى باح بالاعتراض على ربه ، والقدح في حكمته ، فقال :
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف : 12] .
فقال الله له : يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص : 75] .
فكان هذا الكفر والاستكبار والإباء منه وشدة النفار هو السبب الوحيد أن يكون مطرودا ملعونا ، فقال الله له :
فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف : 13] .
فلم يخضع الخبيث لربه ، ولم يتب إليه ، بل بارزه بالعداوة ، وصمم التصميم التام على عداوة آدم وذريته ، ووطن نفسه لما علم أنه حتم عليه الشقاء الأبدي أن يدعو الذرية بقوله وفعله وجنوده إلى أن يكونوا من حزبه الذين كتبت لهم دار البوار ، فقال :
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر : 36] .
فيتفرغ لإعطاء العداوات حقها في آدم وذريته .
ولما كانت حكمة الله اقتضت أن يكون الآدمي مركبا من طبائع متباينة ، وأخلاق طيبة أو خبيثة ، وكان لا بد من تمييز هذه الأخلاق وتصفيتها بتقدير أسبابها من الابتلاء والامتحان الذي من أعظمه تمكين هذا العدو من دعوتهم إلى كل شر ، أجابه :
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر : 37 و 38] .
فقال لربه معلنا معصيته ، وعداوته آدم وذريته :
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف : 16 و 17] .
قال إبليس هذه المقالة ظنا منه ؛ لأنه عرف ما جبل عليه الآدمي .
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ : 20] .
فمكنه الله من الأمر الذي يريده إبليس في آدم وذريته ، فقال الله له :
اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ [الإسراء : 63 و 64] .
أي : إن قدرت فاجعلهم منحرفين في تربية أولادهم إلى التربية الضارة ، في صرف أموالهم المصارف الضارة ، وفي الكسب الضار ، وأيضا شارك منهم من إذ تناول طعاما أو شرابا أو نكاحا ، ولم يذكر اسم الله على ذلك في الأموال الأولاد ، وعدهم أي : مرهم أن يكذبوا بالبعث والجزاء ، وأن لا يقدموا على خير ، وخوفهم من أوليائك ، وخوفهم عند الإنفاق النافع بالفحشاء والبخل ، وهذا من الله لحكم عظيمة وأسرار ، وإنك أيها العدو المبين لا تبقي من مقدورك في إغوائهم شيئا ، فالخبيث منهم يظهر خبثه ، ويتضح شره ، والله لا يعبأ به ، ولا يبالي به .
وأما خواص الذرية من الأنبياء ، وأتباعهم من الصديقين والأصفياء ، وطبقات الأولياء والمؤمنين فإن الله تعالى لم يجعل لهذا العدو عليهم تسلطا ، بل أقام عليهم سورا منيعا ، وهو حمايته وكفايته ، وزودهم بسلاح لا يمكن لعدوهم مقاومتهم بكمال الإيمان بالله ، وقوة توكُّلهم عليه :
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل : 99] .
ومع ذلك فأعانهم على مقاومة هذا العدو المبين بأمور كثيرة : أنزل عليهم كتبه المحتوية على العلوم النافعة ، والمواعظ المؤثرة ، والترغيب إلى فعل الخيرات ، والترهيب من فعل الشرور ، وأرسل إليهم الرسل مبشرين من آمن بالله وأطاعه بالثواب العاجل ، ومنذرين من كفر وكذب وتولى بالعقوبات المتنوعة ، وضمن لمن اتبع هداه الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله أن لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، وأنه لا خوف عليه ، ولا حزن يعتريه ; وأرشدهم قي كتبه ، وعلى ألسنة رسله إلى الأمور التي بها يحتمون من هذا العدو المبين ، وبين لهم ما يدعو إليه هذا الشيطان ، وطرقه التي يصطاد بها الخليقة .
وكما بينها لهم ووضحها فقد أرشدهم إلى الطرق التي ينجون بها من شره وفتنته ، وأعانهم على ذلك إعانة قدرية خارجة عن قدرتهم ; لأنهم لما بذلوا المجهود ، واستعانوا بالمعبود ، سهل لهم كل طريق يوصل إلى المقصود .
ثم إن الله تعالى أتم نعمته على آدم ، فخلق منه زوجته حواء من جنسه وعلى شكله ؛ ليسكن إليها ، وتتم المقاصد المتعددة من الزواج والالتئام ، وتنبث الذرية بذلك ، وقال له ولزوجته : إن الشيطان عدو لكما ، فاحذراه غاية الحذر ، فلا يخرجنكما من الجنة التي أسكنكما الله إياها ، وأباحكما أن تأكلا من جميع ثمارها ، وأن تتمتعا بجميع لذاتها إلا شجرة معينة في هذه الجنة ، فحرمها عليهما ، فقال : فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف : 19] .
وقال الله لآدم في تمتيعه بهذه الجنة : إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [طه : 118 و 119] .
فمكثا في الجنة ما شاء الله على هذا الوصف الذي ذكره الله ، وعدوهما يراقبهما ويراصدهما ، وينظر الفرصة فيهما ، فلما رأى سرور آدم بهذه الجنة ، ورغبته العظيمة في دوامها ، جاءه بطريق لطيف في صورة الصديق الناصح ، فقال : يا آدم ، هل أدلك على شجرة إذا أكلت منها خلدت في هذه الجنة ودام لك الملك الذي لا يبلى ؟ فلم يزل يوسوس ويزين ويسول ويعد ويمني ويلقي عليهما من النصائح الظاهرة ، وهي أكبر الغش حتى غرهما ، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها وحرمها عليهما ، فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بعدما كانا مستورين ، وطفقا يخصفان على أنفسهما من أوراق تلك الجنة ، أي : يلزقان على أبدانهما العارية ؛ ليكون بدل اللباس ، وسقط في أيديهما ، وظهرت في الحال عقوبة معصيتهما ، وناداهما ربهما :
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف : 22] .
فأوقع الله في قلبيهما التوبة التامة ، والإنابة الصادقة .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة : 37] .
وقالا : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف : 23] .
فتاب الله عليهما ، ومحا الذنب الذي أصابا ، ولكن الأمر الذي حذرهما الله منه ، وهو الخروج من هذه الجنة إن تناولا منها تحتم ومضى ، فخرجا منها إلى الأرض التي حشي خيرها بشرها ، وسرورها بكدرها .
وأخبرهما الله أنه لا بد أن يبتليهما وذريتهما ، وأن من آمن وعمل صالحا كانت عاقبته خيرا من حالته الأولى ، ومن كذب وتولى فآخر أمره الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي ، وحذر الله الذرية منه فقال :
يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف : 27] .
وأبدلهم الله بذلك اللباس الذي نزعه الشيطان من الأبوين بلباس يواري السوآت ، ويحصل به الجمال الظاهر في الحياة ، ولباس أعلى من ذلك ، وهو لباس التقوى ، الذي هو لباس القلب والروح بالإيمان والإخلاص والإنابة ، والتحلي بكل خلق جميل ، والتخلي عن كل خلق رذيل ; ثم بث الله من آدم وزوجه رجالا كثيرا ونساء ، ونشرهم في الأرض ، واستخلفهم فيها ؛ لينظر كيف يعملون .
* فوائد مستنبطة من هذه القصة أصولية وفروعية وأخلاق وآداب :
فمنها أن هذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه في مواضع كثيرة صريحة لا ريب فيها ولا شك ، وهي من أعظم القصص التي اتفقت عليها الرسل ، ونزلت بها الكتب السماوية ، واعتقدها جميع أتباع الأنبياء من الأولين والآخرين ، حتى نبغت في هذه الأزمان المتأخرة فرقة خبيثة زنادقة أنكروا جميع ما جاءت به الرسل ، وأنكروا وجود الباري ، ولم يثبتوا من العلوم إلا العلوم الطبيعية التي وصلت إليها معارفهم القاصرة .
فبناء على هذا المذهب الذي هو أبعد المذاهب عن الحقيقة شرعا وعقلا أنكروا آدم وحواء ، وما ذكره الله ورسوله عنهما ، وزعموا أن هذا الإنسان كان حيوانا قردا ، أو شبيها بالقرد ، حتى ارتقى إلى هذه الحال الموجودة ، وهؤلاء اغتروا بنظرياتهم الخاطئة المبنية على ظنون عقول من أصلها فاسدة ، وتركوا لأجلها جميع العلوم الصحيحة ، خصوصا ما جاءتهم به الرسل ، وصدق عليهم قوله تعالى :
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [غافر : 83] .
وهؤلاء أمرهم ظاهر لجميع المسلمين ، ولجميع المثبتين وجود الباري ، يعلمون أنهم أضل الطوائف ، ولكن تسرب على بعض المسلمين من هذا المذهب الدهري بعض الآثار والفروع المبنية على هذا القول ، إذ فسر طائفة من العصريين سجود الملائكة لآدم أن معناه تسخير هذا العالم للآدميين ، وأن المواد الأرضية والمعدنية ونحوها قد سخرها الله للآدمي ، وأن هذا هو معنى سجود الملائكة ، ولا يستريب مؤمن بالله واليوم الآخر أن هذا مستمد من ذلك الرأي الأفن ، وأنه تحريف لكتاب الله ، لا فرق بينه وبين تحريف الباطنية والقرامطة ، وأنه إذا أولت هذه القصة إلى هذا التأويل توجه نظير هذا التحريف لغيرها من قصص القرآن ، وانقلب القرآن - بعدما كان تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة - رموزا يمكن كل عدو للإسلام أن يفعل بها هذا الفعل ، فيبطل بذلك القرآن ، وتعود هدايته إضلالا ، ورحمته نقمة ، سبحانك ، هذا بهتان عظيم .
والمؤمن في هذا الموضع يكفيه لإبطال هذا القول الخبيث أن يتلو ما قصه الله علينا من قصة آدم وسجود الملائكة ؛ فيعلم أن هذا مناف لما قصد الله ورسوله غاية المنافاة ، وإن زخرفه أصحابه ، ولووا له العبارات ، ونسبوه إلى بعض من يحسن بهم الظن ، فالمؤمن لا يترك إيمانه ، ولا كتاب ربه لمثل هذه الترويجات المغررة ، أو المغرور أصحابها .
ومنها فضيلة العلم ، وأن الملائكة لما تبين لهم فضل آدم بعلمه عرفوا بذلك كماله ، وأنه يستحق الإجلال والتوقير .
ومنها أن مَنْ مَنَّ الله عليه بالعلم عليه أن يعترف بنعمة الله عليه ، وأن يقول كما قالت الملائكة والرسل : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، وأن يتوقى التكلم بما لا يعلم ، فإن العلم أعظم المنن ، وشكر هذه النعمة الاعتراف لله بها ، والثناء عليه بتعليمها ، وتعليم الجهال ، والوقوف على ما علمه العبد ، والسكوت عما لم يعلمه .
ومنها أن الله جعل هذه القصة لنا معتبرا ، وأن الحسد والكبر والحرص من أخطر الأخلاق على العبد ، فكبر إبليس وحسده لآدم صيره إلى ما ترى ، وحرص آدم وزوجه حملهما على تناول الشجرة ، ولولا تدارك رحمة الله لهما لأودت بهما إلى الهلاك ، ولكن رحمة الله تكمل الناقص ، وتجبر الكسير ، وتنجي الهالك ، وترفع الساقط .
ومنها أنه ينبغي للعبد إذا وقع في ذنب أن يبادر إلى التوبة والاعتراف ، ويقول ما قاله الأبوان من قلب خالص ، وإنابة صادقة ; فما قص الله علينا صفة توبتهما إلا لنقتدي بهما ، فنفوز بالسعادة ، وننجو من الهلكة ; وكذلك ما أخبرنا بما قاله الشيطان من توعدنا وعزمه الأكيد على إغوائنا بكل طريق إلا لنستعد لهذا العدو الذي تظاهر بهذه العداوة البليغة المتأصلة ، والله يحب منا أن نقاومه بكل ما نقدر عليه من تجنب طرقه وخطواته ، وفعل الأسباب التي يخشى منها الوقوع في شباكه ، ومن عمل الحصون من الأوراد الصحيحة ، والأذكار القلبية ، والتعوذات المتنوعة ، ومن السلاح المهلك له من صدق الإيمان ، وقوة التوكل على الله ، ومراغمته في أعمال الخير ، ومقاومة وساوسه والأفكار الرديئة التي يدفع بها إلى القلب كل وقت بما يضادها ، ويبطلها من العلوم النافعة والحقائق الصادقة .
ومنها أن فيها دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات كلها ، لا فرق بين صفات الذات ، ولا بين صفات الأفعال .
ومنها إثبات اليدين لله كما هو في قصة آدم صريحا : لما خلقت بيدي ، فله يدان حقيقة ، كما أن ذاته لا تشبهها الذوات ، فصفاته تعالى لا تشبهها الصفات .
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام

12d8c7a34f47c2e9d3==