البلوشي
12-14-2005, 06:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شُكر العبدِ لربِّه أمرٌ مطلوب منه شرعًا، فالله الذي تفضَّل بالنِّعَم، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. فقابلوا نِعمَ الله بشُكرها بالثناء على من أنعَم بها، بمعرفة النعمةِ ثم بمعرفة قدرِ من أنعمَ بها وتفضَّل بها وهو ربُّنا جلّ وعلا. أنعَمَ بعظيم النّعَم، ورضي منّا اليسيرَ أن نَشكُرَه على نعمته ونحمدَه على آلائه وإحسانه، فله الحمدُ في الأولى والآخرة، له الحمد أوّلاً وآخرًا، له الحمدُ كما نقول وخيرًا مما نقول.
الحمد لله، يسَّر للحاجّ أداءَ حجِّهم، يسَّر لهم أداءَ حجِّهم وأمْنَ سُبُلهم، الحمد لله قضى الحاجّ تَفَثَهم، وأدَّوا نُسُكهم، وتعرَّضوا لرحمة ربِّهم، والله لا يخلِف الميعاد.
أيّها المسلم، وإنَّ المسلمَ إذا ألقى نظرةً على مواكِب الحجيج الذين أتَوا إلى بيتِ الله الحرام مِن أقطار الدنيا شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، جوًّا وبرًّا وبحرًا، أتَوا آمنين من المخاوف، مشقَّةٌ يسيرةٌ وقد لا تكون تلك المشقة، صار بيتُ الله كما أراد الله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]. ثَاب إليه المسلمون من أقطارِ الدنيا صِغارًا وكبارًا، شبابًا وكهولاً وشيبًا، أتوا وهم في غايةٍ من الأمن والاطمئنان والاستقرار، فاشكروا الله على سهولة الطريق وعلى يُسر السبيل وأمن الطريق وأداءِ الشعائر والتردُّد بين تلك المشاعر، فللّه الفضلُ والمنَّة أوّلاً وآخرًا.
أخي المسلم، يا مَن وفَّقه الله فأدَّى حجَّه، فاشكُرِ الله على هذه النعمة، واعلم أنَّ تيسيرَ أدائك للنسك نعمة من الله عليك، أن هيَّأ الله لك أداءَ نُسُكك، وأعانك على ذلك، ويسَّر لك الأمور، فالحمد لله ربِّ العالمين. قابِلها بشكر الله، وتدبَّر قولَ النبيِّ : ((مَن حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه))[1]، وقوله : ((والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))[2]، أوّلُ الحديث: ((تابِعوا بين الحج والعُمرة، فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خَبثَ الحديد والذهبِ والفضة، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))[3].
أخي، وقد أدَّيتَ هذا النسكَ، وعدتَ بسلامةٍ وعافية، فحافِظ على هذه الفضائل، وحافظ على هذه المزايا. لقد كان سلفُنا الصالح يطلبون من الحاجِّ أن يستغفرَ لهم، ويقول: استغفر لكم قبل أن يتدنَّسوا بالمعاصي. إذًا فالحاجّ المخلِص لله في حجِّه تعرَّض لأسبابِ مغفرةِ الذنوب وتكفير الخطايا، فماذا حالُه بعد ذلك؟ هل تستقيم على هذا العملِ الصالح وتثبُت على هذا الخير والفضلِ أم تهدِم أعمالك الصالحةَ بسيئات أقوالك وأعمالك؟
أخي، أنت وقد تعرَّضت لسبب قويٍّ من أسبابِ المغفرة والفضل من ربّك جلّ وعلا، فأدِّ أسبابَ القبول، حافظ على طاعة ربِّك، حافظ على هذه الصلواتِ الخمس في أوقاتها جماعةً، وإياك والتهاونَ بها والاستخفاف بشأنها، حافظ عليها عن إيمان وقناعة، فهي خيرُ عونٍ لك على كلِّ طاعة، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]. اهتمَّ بشأنها، فإنَّ محافظتَك عليها سببٌ لقَبول عملك، وإنَّ تهاوُنَك بها واستخفافَك بشأنها من أسباب ردِّ عملك والعياذ بالله.
أدِّ زكاةَ مالك طيِّبةً بها نفسُك، مُر بالمعروف وأنهَ عن المنكر، برّ بالوالدين وصلِ الأرحام، كن سليمَ القلب صادقَ اللّهجة عفيفَ اللسان والفرج طيِّبَ المكسَب، تضرَّع إلى الله وقابل نعمتَه بشكرها والثناءِ عليه بما هو أهله، فإنه جلَّ وعلا يحبُّ من عبادِه أن يثنوا عليه، ولا أحدَ أحبّ إليه الثناء [عليه من] الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه.
أيها المسلم، إنَّ أداءَ الحجِّ نعمةٌ عُظمى ومنّةٌ كبرى من الله عليك؛ أن يسَّر لك أداءَ هذا النسك، فاعرف قدرَ هذه النعمة، واشكُر الله عليها.
أخي المسلم، تذكَّر سلَفًا لك مَضَوا، كان الحجُّ إلى بيت الله أحيانًا يكون شِبهَ المستحيل، لا يحجُّ إلاَّ القليل منَ الناس، لماذا؟ لشدَّة الخَوف، طولِ السّفر واشتداد الخوف وقلَّة العناية، إن أمِنوا قبلَ الوصول إليه لم يأمَنوا إذا دخلوه، وهكذا أحوالُ الناس، فلا يحجّ إلاّ النزرُ القليل من الناس، والمؤلِّفون في رحالاتِ الحجّ الذين هُيِّئَت لهم فرصةُ الحجّ تحدَّثوا عن كثير ممَّا عانت الأمّةُ من المخاوف والمتاعِب والمشاقّ في كلّ المرافق والأحوال، ولكنَّ اللهَ بدَّل هذا الخوفَ أمنًا، وبدَّل البُؤسَ والفاقةَ رغَدًا وخيْرًا، فالحمدُ لله على إفضاله وإنعامه.
أيّها المسلم، إنَّ كثيرًا من أهلِ الإسلام في القرونِ الخاليةِ كانوا يتمنَّون الحجّ، وكم كثيرٌ منهم لم يتيسَّر له ذلك، وحيل بينه وبين ذلك، لا قدرةَ ولا استطاعة، الخوف الشديد والفقرُ والبؤس، ولكنَّ اللهَ جلّ وعلا غيَّر الأحوال فله الفضل والمنة علينا أبدًا دائمًا.
لقد مرَّ بسلفكم الماضون في القرون الماضية أنَّ الحجَّ قد يَقع فيه المشاكلُ في أداء المشاعر وقتالٌ وسَلب ونَهب ومخاوف شديدة مِن قتلٍ وحملٍ للسلاح، ولكنّ اللهَ بدَّل هذا بنعمةِ الأمن والاستقرار، فله الفضل والمنة علينا أوّلاً وآخرًا.
أصبح الحرمُ العظيم آمنًا، آمنًا من الخوف، فيه أمنٌ من الخوف ورغَدٌ ونِعمة سابغة، فللّه الفضلُ والمنَّة على المسلمين، فكثرت أعدادُ الحجيج، وزادوا على الملايين، ولكن ولله الحمد رغمَ هذه الكثرةِ والأعداد المختلفة إلاَّ أنَّ الله جلّ وعلا ذَلَّلَ الصعابَ وسهّل الأمور، فله الفضل والمنة علينا جميعًا.
أيها المسلمون، إنَّ شكرَ الله مطلوبٌ على نِعَمه، ثم شكر من جعلهم الله سببًا لهذه الأمور أمرٌ أيضًا مطلوب من المسلمين، ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافئُوه، فإن لم تجِدُوا ما تكفئونه فادعوا له حتى تَروا أنكم كافأتموه.
أيّها المسلمون، شكرُ الله على نعمتِه بتيسير أمرِ المناسك، ثمّ شكره جلّ وعلا أن هيَّأ لهذا البيت رجالاً بذلوا كلَّ طاقتِهم في سبيل تيسير أمر الحجيج والإنفاقِ على ذلك والقيام بالواجب وبذلِ الجهود في سبيل راحةِ الحجيج وأدائهم فريضةَ حجِّهم على ما يُرضي الله جلّ وعلا، سخَّروا كلَّ الإمكانيات، سعَوا في تَوسِعة بيت الله الحرام حتى اتَّسع لمئاتِ الآلاف من الحجيج، سَعَوا في تسهيل الطّرق وشقِّ الأنفاق وتيسير أمر المشاعِر وإعدادِ كلِّ ما فيه راحة لهم، فالحمد لله على نعمته، وجزى الله القائمين عليه خيرَ قيام، ووفَّقهم للعمل الصالح في الحاضر والمستقبل، وأدام عليهم توفيقه وعونَه وتأييده.
إنها نعمٌ من الله، لو قارنَ المسلم بين هذه الأحوال وبين ما مضى من قرونٍ لرأى العَجَب العجاب، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105].
هذه النعمُ التي يشاهدها الحاجّ ويرَونها عَيانا ما بين توسِعةٍ وتسهيل وتذليل للصعاب وتوفير لكلّ الحاجيات، هذه النِعَم التي تُرى بالعيان بلا دعاية مُضَلِّلة ولا أكاذيب، ولكنها الحقائقُ الواقعة، لم تُخرِس هذه الأمور، لم تكن سببًا في إخراس الألسِنة الكاذبة الفاجِرة التي تعرَّضت أحيانًا بعضُ وسائل الإعلام الجائرة الكاذبة التي لا تقول الحقَّ، بل تخفي الحقائق، أن تتَّخذ اللّمزَ والهمز والطّعن في هذه البلاد وما تقوم به من واجبٍ، مدَّعين تقصيرًا في المهمّة أو عدمَ قيام بالواجب لبعض حدثٍ ما، تجاهلوا النعمَ والفضائل، وغمَّضوا أعيُنَهم عن كلِّ الفضائل، ولكن يبحثون عمَّا يظنّون أنه وسيلةٌ للطَّعن والتشهير، وكلُّ هذه يُثيرها حِقدٌ دفين في قلوبهم ومرضٌ مستكنُّ في قلوبهم، حِقدًا على الإسلام قبلَ كلّ شيء وأهله، ثمّ كراهيةً لنِعمَ الله التي أنعم الله بها على هذا البلد ومنَّ عليهم بهذا الخير العظيم، فتفوَّهت ألسنتُهم بالكذب والافتراء، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
إنّ هذا العدَدَ العظيم الذي يؤمّ بيتَ الله الحرام، ملايين من البشر في بُقعة محصورة، وفي أوقاتٍ محدودة، وفي مشاعرَ معيَّنة، لا تتعدّى أوقاتها، كلُّ هذه الأمور تجتمع في ساعات معيَّنة، ويؤمّ كثير من المسلمين ولديهم جهلٌ عظيم، جهلٌ بالنسك وأداء النسك، وجهلٌ في الأوقات الموسَّعة، وجهلٌ في كيفية أداءِ الشعائر، وربَّما يكون عند بعضهم تصوُّر خاطئ؛ محبّتُه أن يموتَ في هذه البلاد المقدَّسة أو يحصُلَ عليه كارثة يراها قربةً إلى الله لجهله وقِلَّة علمه، فيحدُث من هذه التجمُّعات المتكاثِرة بعضُ الأشياء التي يحدُث في غيرها أضعافُ مضاعفاتها، حوادثُ المرور التي يسمعها الناسُ من قريبٍ وبعيد، إمّا لخطأ السائقين أو تهوُّر المصابين، وما يحصُل من حوادثَ في ملاعب الكرة وغيرها في الأنفاق وغيرها من الحوادث العظيمة التي يروح ضحيّتَها المئاتُ من الناس، ولكن هؤلاء يتجاهلون هذه الأمور، ويتغافلون عنها، وحينما يقع شيءٌ يسير يظنُّون أنه وسيلةٌ لهم للطَّعن والتشهير، وكلُّ هذا من الحِقد والبغض للإسلام وأهله، ليشوِّهوا مناسكَ الحجّ، ويقولوا فيها ما يقولون بأفواههم الكاذبة.
وإنَّ شعائرَ الحج ولله الحمد لا تزال في قوَّةٍ وأمان، وكلُّ عامٍ يأتي فإنّه يُتدارك ما سبقه، والحرص جمعيًا على أمن الحجيج وسلامتهم.
إنَّ نفوسَ الحاج ليست رَخيصةً على المسلمين في شرق الأرض وغَربها، كيف في بلاد الحرام؟! ولكنّ الأمور بيدِ الله، والقضاءُ والقدَر نافذ مهما أراد البشَر صدَّه ومَنعَه، ولكن على المسلمِ أن لا يتغاضَى عن الفضائل، ولا يتناسى المحاسِن، ولا يجعل أيَّ شيء وسيلةً للتشهير والطعنِ والقيل والقال، أغراضٌ سياسيّة، ومطامع شخصيّة وأحقادٌ دفينة، يبديها الحِقد والكراهيةُ للإسلام وأهله وتشويه مناسك الحج، والحمد لله لن يستطيعوا أن يجدُوا ما يقولون، فالمسلمون الذين أمُّوا بيتَ الله الحرام رأَوا بأعيُنهم ما رَأوا، وشاهدوا ما شاهدوا بأمورٍ ليست دِعايةً مضلِّلة، ولكنها حقائقُ ناطقة، وهذا من فضلِ الله على المسلمين، فنشكرُ الله ونثني عليه، ونسأله أن يديمَ علينا فضلَه ونعمتَه.
إنّ الله جلّ وعلا أرادَ لهذا البيتِ أن يكونَ حَرَمًا آمنًا، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، ثاب الناس إليه، فوجدوه كما أرادَ الله في أمنٍ واستقرار ونِعمة وعافية، كلُّ ذلك من فضلِ الله، ثم نتيجة التمسُّك بهذا الدين وتحكيم هذه الشريعة، والعمل بها والقيام بذلك، نسأل الله أن يثبِّت الجميعَ على صراطه المستقيم، وأن يمنحَ الجميعَ التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، وأن يُبقيَ على هذا البلدِ الأمين أمنَه وعِزَّه وكرامته، وأن يديمَ عليه ما حباه به من هذه النعمةِ التي هي نعمةٌ عظيمة سابغة لمن تدبَّر وتأمّل.
فهذا بيتُ الله الحرام، يزوره المسلم فيرَى التوسِعَة، ويرى ما يحدُث فيه من تطوُّر دائمًا وأبدًا، وحرصٍ على كلِّ ما فيه راحة الحجيج. كم بُذِل فيه من أموال، وكم استُعملت فيه من طاقة، وكم هُيِّئ فيه من أسباب، لمن رأى ذلك وتبصَّر، ولكن الحاسِدَ إنما يُفرحه زوالُ نعمةِ الله عن العباد؛ لأن الحاسدَ والحاقدَ لا يرضَى بالخير، يغيظه كلُّ خير، فهو مريض القلب، إنما يرضيه زوالُ نعمةِ الله عن عباده، ونقول لهؤلاء: موتوا بغيظكم، فالله جل وعلا حافظٌ حرَمَه صائن بيتَه، والله جلّ وعلا سيحفَظ بيتَه من كيد الكائدين وكذِب الكاذبين، نسأل الله أن يثبّت الجميع على قوله الثابتِ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فاحرصوا ـ عبادَ الله ـ على الاستقامة على طاعةِ الله. كان سلفُكم الصالح يعدُّون الحجَّ نُقلةً، وأن من حجّ ينبغي أن يكونَ له حالةٌ بعدَ حجِّه في حُسن تعامله مع ربِّه وفي تعامُله مع عباد الله، وتظهر آثارُ الحج عليه في سلوكه وأعماله، نسأل الله لنا ولكم الثابتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يا مَنْ مَنَّ الله عليه باستكمال أركانِ دينه سَل اللهَ الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، أكثِر ـ أخي ـ من نوافلِ الطاعة من صلاةٍ وصيام وعُمرةٍ وأعمال صالحة، فإنّك إذا تقرَّبتَ إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض نِلتَ الأجرَ العظيم، ففي الحديث القدسي: ((يقول الله: ولا يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصَرَه الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يَمشي بها، ولئن سألني لأعطيَنّه، ولئن استعاذني لأعِيذنّه))[1].
فأكثِر ـ يا أخي ـ من نوافل الطاعة، وتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، واختِم عُمرك بخاتمة خير، واجعل لك عملاً صالحًا تلازمهُ وتستقيم عليه، فإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام عليه صاحبُه وإن قلَّ، فاجعَل لك نصيبًا من الطاعة تلازمُها وتحافظ عليها وتستقيم عليها، لتكونَ أُنسًا لك في لحدِك، وشافعةً لك يومَ قدومك على الله، وسببًا لرُجحان ميزان أعمالك، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد امتثالاً لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز آل الشيخ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شُكر العبدِ لربِّه أمرٌ مطلوب منه شرعًا، فالله الذي تفضَّل بالنِّعَم، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. فقابلوا نِعمَ الله بشُكرها بالثناء على من أنعَم بها، بمعرفة النعمةِ ثم بمعرفة قدرِ من أنعمَ بها وتفضَّل بها وهو ربُّنا جلّ وعلا. أنعَمَ بعظيم النّعَم، ورضي منّا اليسيرَ أن نَشكُرَه على نعمته ونحمدَه على آلائه وإحسانه، فله الحمدُ في الأولى والآخرة، له الحمد أوّلاً وآخرًا، له الحمدُ كما نقول وخيرًا مما نقول.
الحمد لله، يسَّر للحاجّ أداءَ حجِّهم، يسَّر لهم أداءَ حجِّهم وأمْنَ سُبُلهم، الحمد لله قضى الحاجّ تَفَثَهم، وأدَّوا نُسُكهم، وتعرَّضوا لرحمة ربِّهم، والله لا يخلِف الميعاد.
أيّها المسلم، وإنَّ المسلمَ إذا ألقى نظرةً على مواكِب الحجيج الذين أتَوا إلى بيتِ الله الحرام مِن أقطار الدنيا شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، جوًّا وبرًّا وبحرًا، أتَوا آمنين من المخاوف، مشقَّةٌ يسيرةٌ وقد لا تكون تلك المشقة، صار بيتُ الله كما أراد الله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]. ثَاب إليه المسلمون من أقطارِ الدنيا صِغارًا وكبارًا، شبابًا وكهولاً وشيبًا، أتوا وهم في غايةٍ من الأمن والاطمئنان والاستقرار، فاشكروا الله على سهولة الطريق وعلى يُسر السبيل وأمن الطريق وأداءِ الشعائر والتردُّد بين تلك المشاعر، فللّه الفضلُ والمنَّة أوّلاً وآخرًا.
أخي المسلم، يا مَن وفَّقه الله فأدَّى حجَّه، فاشكُرِ الله على هذه النعمة، واعلم أنَّ تيسيرَ أدائك للنسك نعمة من الله عليك، أن هيَّأ الله لك أداءَ نُسُكك، وأعانك على ذلك، ويسَّر لك الأمور، فالحمد لله ربِّ العالمين. قابِلها بشكر الله، وتدبَّر قولَ النبيِّ : ((مَن حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه))[1]، وقوله : ((والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))[2]، أوّلُ الحديث: ((تابِعوا بين الحج والعُمرة، فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خَبثَ الحديد والذهبِ والفضة، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))[3].
أخي، وقد أدَّيتَ هذا النسكَ، وعدتَ بسلامةٍ وعافية، فحافِظ على هذه الفضائل، وحافظ على هذه المزايا. لقد كان سلفُنا الصالح يطلبون من الحاجِّ أن يستغفرَ لهم، ويقول: استغفر لكم قبل أن يتدنَّسوا بالمعاصي. إذًا فالحاجّ المخلِص لله في حجِّه تعرَّض لأسبابِ مغفرةِ الذنوب وتكفير الخطايا، فماذا حالُه بعد ذلك؟ هل تستقيم على هذا العملِ الصالح وتثبُت على هذا الخير والفضلِ أم تهدِم أعمالك الصالحةَ بسيئات أقوالك وأعمالك؟
أخي، أنت وقد تعرَّضت لسبب قويٍّ من أسبابِ المغفرة والفضل من ربّك جلّ وعلا، فأدِّ أسبابَ القبول، حافظ على طاعة ربِّك، حافظ على هذه الصلواتِ الخمس في أوقاتها جماعةً، وإياك والتهاونَ بها والاستخفاف بشأنها، حافظ عليها عن إيمان وقناعة، فهي خيرُ عونٍ لك على كلِّ طاعة، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]. اهتمَّ بشأنها، فإنَّ محافظتَك عليها سببٌ لقَبول عملك، وإنَّ تهاوُنَك بها واستخفافَك بشأنها من أسباب ردِّ عملك والعياذ بالله.
أدِّ زكاةَ مالك طيِّبةً بها نفسُك، مُر بالمعروف وأنهَ عن المنكر، برّ بالوالدين وصلِ الأرحام، كن سليمَ القلب صادقَ اللّهجة عفيفَ اللسان والفرج طيِّبَ المكسَب، تضرَّع إلى الله وقابل نعمتَه بشكرها والثناءِ عليه بما هو أهله، فإنه جلَّ وعلا يحبُّ من عبادِه أن يثنوا عليه، ولا أحدَ أحبّ إليه الثناء [عليه من] الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه.
أيها المسلم، إنَّ أداءَ الحجِّ نعمةٌ عُظمى ومنّةٌ كبرى من الله عليك؛ أن يسَّر لك أداءَ هذا النسك، فاعرف قدرَ هذه النعمة، واشكُر الله عليها.
أخي المسلم، تذكَّر سلَفًا لك مَضَوا، كان الحجُّ إلى بيت الله أحيانًا يكون شِبهَ المستحيل، لا يحجُّ إلاَّ القليل منَ الناس، لماذا؟ لشدَّة الخَوف، طولِ السّفر واشتداد الخوف وقلَّة العناية، إن أمِنوا قبلَ الوصول إليه لم يأمَنوا إذا دخلوه، وهكذا أحوالُ الناس، فلا يحجّ إلاّ النزرُ القليل من الناس، والمؤلِّفون في رحالاتِ الحجّ الذين هُيِّئَت لهم فرصةُ الحجّ تحدَّثوا عن كثير ممَّا عانت الأمّةُ من المخاوف والمتاعِب والمشاقّ في كلّ المرافق والأحوال، ولكنَّ اللهَ بدَّل هذا الخوفَ أمنًا، وبدَّل البُؤسَ والفاقةَ رغَدًا وخيْرًا، فالحمدُ لله على إفضاله وإنعامه.
أيّها المسلم، إنَّ كثيرًا من أهلِ الإسلام في القرونِ الخاليةِ كانوا يتمنَّون الحجّ، وكم كثيرٌ منهم لم يتيسَّر له ذلك، وحيل بينه وبين ذلك، لا قدرةَ ولا استطاعة، الخوف الشديد والفقرُ والبؤس، ولكنَّ اللهَ جلّ وعلا غيَّر الأحوال فله الفضل والمنة علينا أبدًا دائمًا.
لقد مرَّ بسلفكم الماضون في القرون الماضية أنَّ الحجَّ قد يَقع فيه المشاكلُ في أداء المشاعر وقتالٌ وسَلب ونَهب ومخاوف شديدة مِن قتلٍ وحملٍ للسلاح، ولكنّ اللهَ بدَّل هذا بنعمةِ الأمن والاستقرار، فله الفضل والمنة علينا أوّلاً وآخرًا.
أصبح الحرمُ العظيم آمنًا، آمنًا من الخوف، فيه أمنٌ من الخوف ورغَدٌ ونِعمة سابغة، فللّه الفضلُ والمنَّة على المسلمين، فكثرت أعدادُ الحجيج، وزادوا على الملايين، ولكن ولله الحمد رغمَ هذه الكثرةِ والأعداد المختلفة إلاَّ أنَّ الله جلّ وعلا ذَلَّلَ الصعابَ وسهّل الأمور، فله الفضل والمنة علينا جميعًا.
أيها المسلمون، إنَّ شكرَ الله مطلوبٌ على نِعَمه، ثم شكر من جعلهم الله سببًا لهذه الأمور أمرٌ أيضًا مطلوب من المسلمين، ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافئُوه، فإن لم تجِدُوا ما تكفئونه فادعوا له حتى تَروا أنكم كافأتموه.
أيّها المسلمون، شكرُ الله على نعمتِه بتيسير أمرِ المناسك، ثمّ شكره جلّ وعلا أن هيَّأ لهذا البيت رجالاً بذلوا كلَّ طاقتِهم في سبيل تيسير أمر الحجيج والإنفاقِ على ذلك والقيام بالواجب وبذلِ الجهود في سبيل راحةِ الحجيج وأدائهم فريضةَ حجِّهم على ما يُرضي الله جلّ وعلا، سخَّروا كلَّ الإمكانيات، سعَوا في تَوسِعة بيت الله الحرام حتى اتَّسع لمئاتِ الآلاف من الحجيج، سَعَوا في تسهيل الطّرق وشقِّ الأنفاق وتيسير أمر المشاعِر وإعدادِ كلِّ ما فيه راحة لهم، فالحمد لله على نعمته، وجزى الله القائمين عليه خيرَ قيام، ووفَّقهم للعمل الصالح في الحاضر والمستقبل، وأدام عليهم توفيقه وعونَه وتأييده.
إنها نعمٌ من الله، لو قارنَ المسلم بين هذه الأحوال وبين ما مضى من قرونٍ لرأى العَجَب العجاب، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105].
هذه النعمُ التي يشاهدها الحاجّ ويرَونها عَيانا ما بين توسِعةٍ وتسهيل وتذليل للصعاب وتوفير لكلّ الحاجيات، هذه النِعَم التي تُرى بالعيان بلا دعاية مُضَلِّلة ولا أكاذيب، ولكنها الحقائقُ الواقعة، لم تُخرِس هذه الأمور، لم تكن سببًا في إخراس الألسِنة الكاذبة الفاجِرة التي تعرَّضت أحيانًا بعضُ وسائل الإعلام الجائرة الكاذبة التي لا تقول الحقَّ، بل تخفي الحقائق، أن تتَّخذ اللّمزَ والهمز والطّعن في هذه البلاد وما تقوم به من واجبٍ، مدَّعين تقصيرًا في المهمّة أو عدمَ قيام بالواجب لبعض حدثٍ ما، تجاهلوا النعمَ والفضائل، وغمَّضوا أعيُنَهم عن كلِّ الفضائل، ولكن يبحثون عمَّا يظنّون أنه وسيلةٌ للطَّعن والتشهير، وكلُّ هذه يُثيرها حِقدٌ دفين في قلوبهم ومرضٌ مستكنُّ في قلوبهم، حِقدًا على الإسلام قبلَ كلّ شيء وأهله، ثمّ كراهيةً لنِعمَ الله التي أنعم الله بها على هذا البلد ومنَّ عليهم بهذا الخير العظيم، فتفوَّهت ألسنتُهم بالكذب والافتراء، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
إنّ هذا العدَدَ العظيم الذي يؤمّ بيتَ الله الحرام، ملايين من البشر في بُقعة محصورة، وفي أوقاتٍ محدودة، وفي مشاعرَ معيَّنة، لا تتعدّى أوقاتها، كلُّ هذه الأمور تجتمع في ساعات معيَّنة، ويؤمّ كثير من المسلمين ولديهم جهلٌ عظيم، جهلٌ بالنسك وأداء النسك، وجهلٌ في الأوقات الموسَّعة، وجهلٌ في كيفية أداءِ الشعائر، وربَّما يكون عند بعضهم تصوُّر خاطئ؛ محبّتُه أن يموتَ في هذه البلاد المقدَّسة أو يحصُلَ عليه كارثة يراها قربةً إلى الله لجهله وقِلَّة علمه، فيحدُث من هذه التجمُّعات المتكاثِرة بعضُ الأشياء التي يحدُث في غيرها أضعافُ مضاعفاتها، حوادثُ المرور التي يسمعها الناسُ من قريبٍ وبعيد، إمّا لخطأ السائقين أو تهوُّر المصابين، وما يحصُل من حوادثَ في ملاعب الكرة وغيرها في الأنفاق وغيرها من الحوادث العظيمة التي يروح ضحيّتَها المئاتُ من الناس، ولكن هؤلاء يتجاهلون هذه الأمور، ويتغافلون عنها، وحينما يقع شيءٌ يسير يظنُّون أنه وسيلةٌ لهم للطَّعن والتشهير، وكلُّ هذا من الحِقد والبغض للإسلام وأهله، ليشوِّهوا مناسكَ الحجّ، ويقولوا فيها ما يقولون بأفواههم الكاذبة.
وإنَّ شعائرَ الحج ولله الحمد لا تزال في قوَّةٍ وأمان، وكلُّ عامٍ يأتي فإنّه يُتدارك ما سبقه، والحرص جمعيًا على أمن الحجيج وسلامتهم.
إنَّ نفوسَ الحاج ليست رَخيصةً على المسلمين في شرق الأرض وغَربها، كيف في بلاد الحرام؟! ولكنّ الأمور بيدِ الله، والقضاءُ والقدَر نافذ مهما أراد البشَر صدَّه ومَنعَه، ولكن على المسلمِ أن لا يتغاضَى عن الفضائل، ولا يتناسى المحاسِن، ولا يجعل أيَّ شيء وسيلةً للتشهير والطعنِ والقيل والقال، أغراضٌ سياسيّة، ومطامع شخصيّة وأحقادٌ دفينة، يبديها الحِقد والكراهيةُ للإسلام وأهله وتشويه مناسك الحج، والحمد لله لن يستطيعوا أن يجدُوا ما يقولون، فالمسلمون الذين أمُّوا بيتَ الله الحرام رأَوا بأعيُنهم ما رَأوا، وشاهدوا ما شاهدوا بأمورٍ ليست دِعايةً مضلِّلة، ولكنها حقائقُ ناطقة، وهذا من فضلِ الله على المسلمين، فنشكرُ الله ونثني عليه، ونسأله أن يديمَ علينا فضلَه ونعمتَه.
إنّ الله جلّ وعلا أرادَ لهذا البيتِ أن يكونَ حَرَمًا آمنًا، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، ثاب الناس إليه، فوجدوه كما أرادَ الله في أمنٍ واستقرار ونِعمة وعافية، كلُّ ذلك من فضلِ الله، ثم نتيجة التمسُّك بهذا الدين وتحكيم هذه الشريعة، والعمل بها والقيام بذلك، نسأل الله أن يثبِّت الجميعَ على صراطه المستقيم، وأن يمنحَ الجميعَ التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، وأن يُبقيَ على هذا البلدِ الأمين أمنَه وعِزَّه وكرامته، وأن يديمَ عليه ما حباه به من هذه النعمةِ التي هي نعمةٌ عظيمة سابغة لمن تدبَّر وتأمّل.
فهذا بيتُ الله الحرام، يزوره المسلم فيرَى التوسِعَة، ويرى ما يحدُث فيه من تطوُّر دائمًا وأبدًا، وحرصٍ على كلِّ ما فيه راحة الحجيج. كم بُذِل فيه من أموال، وكم استُعملت فيه من طاقة، وكم هُيِّئ فيه من أسباب، لمن رأى ذلك وتبصَّر، ولكن الحاسِدَ إنما يُفرحه زوالُ نعمةِ الله عن العباد؛ لأن الحاسدَ والحاقدَ لا يرضَى بالخير، يغيظه كلُّ خير، فهو مريض القلب، إنما يرضيه زوالُ نعمةِ الله عن عباده، ونقول لهؤلاء: موتوا بغيظكم، فالله جل وعلا حافظٌ حرَمَه صائن بيتَه، والله جلّ وعلا سيحفَظ بيتَه من كيد الكائدين وكذِب الكاذبين، نسأل الله أن يثبّت الجميع على قوله الثابتِ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فاحرصوا ـ عبادَ الله ـ على الاستقامة على طاعةِ الله. كان سلفُكم الصالح يعدُّون الحجَّ نُقلةً، وأن من حجّ ينبغي أن يكونَ له حالةٌ بعدَ حجِّه في حُسن تعامله مع ربِّه وفي تعامُله مع عباد الله، وتظهر آثارُ الحج عليه في سلوكه وأعماله، نسأل الله لنا ولكم الثابتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يا مَنْ مَنَّ الله عليه باستكمال أركانِ دينه سَل اللهَ الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، أكثِر ـ أخي ـ من نوافلِ الطاعة من صلاةٍ وصيام وعُمرةٍ وأعمال صالحة، فإنّك إذا تقرَّبتَ إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض نِلتَ الأجرَ العظيم، ففي الحديث القدسي: ((يقول الله: ولا يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصَرَه الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يَمشي بها، ولئن سألني لأعطيَنّه، ولئن استعاذني لأعِيذنّه))[1].
فأكثِر ـ يا أخي ـ من نوافل الطاعة، وتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، واختِم عُمرك بخاتمة خير، واجعل لك عملاً صالحًا تلازمهُ وتستقيم عليه، فإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام عليه صاحبُه وإن قلَّ، فاجعَل لك نصيبًا من الطاعة تلازمُها وتحافظ عليها وتستقيم عليها، لتكونَ أُنسًا لك في لحدِك، وشافعةً لك يومَ قدومك على الله، وسببًا لرُجحان ميزان أعمالك، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد امتثالاً لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز آل الشيخ