قاسم علي
12-11-2005, 06:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
إِثبات الحمد كله لله عَزَّ وجَلَّ
ويجمع هذين الأَصلين العظيمين أَصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإِثباته على وجهه يتم بناءُ هذين
الأَصلين وهو إِثبات الحمد كله لله رب العالمين فإِنه المحمود على ما خلقه وأَمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإِيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأَبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأَعدائهم، وهو المحمود على عدله فى أَعدائه كما هو المحمود على فضله وإِنعامه على أَوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأَرض ومن فيهن: {وَإِن مِن شَيءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}* [الإسراء: 44]، وكان فى قول النبى صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد، مِلْءَ ـ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بَعْد))، فله سبحانه الحمد حمداً يملأْ المخلوقات والفضاء الذى بين السماوات والأرض، ويملأُ ما يقدر بعد ذلك مما يشاءُ أَن يملأَ بحمده. وذاك يحتمل أَمرين: أحدهما أَن يملأَ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، والمعنى أَن الحمد ملءُ ما خلقته وملءُ ما تخلقه بعد ذلك. الثانى أَن يكون المعنى ملءُ ما شئت من شيء [بعد] يملأه حمدك، أَى يقدَّر مملوءاً بحمدك وإِن لم يكن موجوداً. ولكن [قد] يقال: المعنى الأَول أَقوى لأَن قوله: ((مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بعد)) يقتضى أَنه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له. فتأَمله لكنه إذَا شاَءَ كونه فله الحمد ملأه، فالمشيئة راجعة إِلى المملوءِ بالحمد، فلا بد أَن يكون شيئاً موجوداً يملأه حمده وأَيضاً فإِن قوله: ((من شيء بعد)) يقتضى أَنه [شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات كما يخلقه] بعد ذلك من مخلوقاته ومن القيامة وما بعدها. ولو أُريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مع ذلك لأن المقدر يكون مع المحقق. وأَيضاً فإِنه لم يقل: ملء ما شئت أن يملأه الحمد، بل قال: ما شئت. والعبد قد حمد حمداً أَخبر به، وإِن ثناءَه ووصفه بأَنه يملأُ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاءُ بعد ذلك، وأَيضاً قوله ((وملءُ ما شئت من شيء بعد)) يقتضى إِثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثانى قد تتعلق المشيئة بملء المقدر، وقد لا تتعلق وأَيضاً فإِذا قيل: ((ما شئت من شيء بعد ذلك)) كان الحمد مالئاً لما هو موجود يشاؤه الرب دائماً، ولا ريب أَن له الحمد دائماً فى الأُولى والآخرة، وأَما إِذا قدر ما يملأه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها، وما من شيء منها إِلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأَعداد، ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل: ((ملء ما لا يتناهى)) فأَما ما يشاؤه الرب [تعالى] فلا يكون إِلا موجوداً مقدراً، وإِن كان لا آخر لنوع الحوادث أَو بقاءِ ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد وأَيضاً فالحمد هو الإِخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته وإما ظاهرة فى مخلوقاته، فأَما المعدوم المحض الذى لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة فالحمد لله [الذى] يملأُ المخلوقات ما وجد منها ويوجد هو حمد يتضمن الثناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة فى مخلوقاته، وأما ما لا وجود له فلا محامد منه ولا مذام، فجعل الحمد مالئاً له لما لا حقيقة له.
وقد اختلف الناس فى معنى كون حمده يملأُ السموات والأَرض وما بينهما، فقالت طائفة على جهة التمثيل: أَى لو كان أَجساماً لملأَ السموات والأَرض وما بينهما قالوا: فإِن الحمد من قبيل المعانى والأَعراض التى لا تملأُ بها الأجسام، ولا تملأُ الأجسام [إلا بالأجسام] والصواب أَنه لا يحتاج إِلى [هذا التكلف البارد فإن من كل شيء يكون بحسب] الماليء والمملوءِ، فإِذا قيل امتلأَ الإِناءُ ماءً وامتلأَت الجفنة طعاماً فهذا الامتلاءُ نوع، وإِذا قيل: امتلأَت الدار رجالاً وامتلأَت المدينة خيلاً ورجالاً فهذا نوع آخر. وإِذا قيل: امتلأَ الكتاب سطوراً فهذا نوع آخر، وإِذا قيل: امتلأَت مسامع الناسِ حمداً أَو ذماً لفلان فهذا نوع آخر فى أثر معروف: أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناءِ الناس عليه، وأَهل النار من امتلأَت مسامعه من ذم الناس له)) . وقال عمر بن الخطاب فى عبد الله بن مسعود كنيف مليء علماً، ويقال: فلان علمه قد ملأَ الدنيا. وكان يقال: ملأ ابن أبى الدنيا الدنيا علماً. ويقال: صيت فلان قد ملأ الدنيا وضيق الآفاق وحبه قد ملأَ القلوب، وبغض فلان قد ملأَ القلوب، وامتلأَ قلبه رعباً، وهذا أَكثر من أَن تستوعب شواهده، وهو حقيقة فى بابه وجعل الملء والامتلاءِ حقيقة للأَجسام خاصة تحكم باطل ودعوى لا دليل عليها البتة، والأَصل الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوى هو الغالب على اللغة والأَفهام والاستعمال، فالمصير إِليه أَولى من المجاز والاشتراك [اللفظى] وليس هذا موضع تقرير [هذه المسأَلة].
فإذا قيل: ((الحمد كله لله)) فهذا له معنيان: أحدهما أَنه محمود على كل شيء [وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضاً كما] يحمد رسله وأنبياؤه وأَتباعهم- فذلك من حمده تبارك وتعالى بل هو المحمود بالقصد الأَول [وبالذت وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده] فهو المحمود أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وهذا كما أَنه بكل شيء عليم، وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه، وفى الدعاء المأْثور: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُهُ، ولَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كله وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ))، وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أن ملك المخلوق داخل فى ملكه، فحمده أَيضاً داخل فى حمده، فما من محمود يحمد على شيء مما دق أَو جل إِلا والله المحمود عليه بالذات [والأَولوية] أَيضاً، وإِذا قال [الحامد]: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْد))، فالمراد به أَنت المستحق لكل حمد، ليس المراد به الحمد الخارجى فقط.
المعنى الثانى أَن يقال: ((لَكَ الْحَمْد كلُّه)) أى الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله عز وجل ليس لغيره فيه شركة. والتحقيق أَن له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمد وأَعظمه، كما أَن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إِلا هو وليس الملك التام الكامل إِلا له وأَتباع الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإِنهم يقولون: إِنه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة فله الملك كله. والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أَفعال العباد، فيخرجون [طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمتقين من ملكه كما يخرجون] سائر حركات الملائكة والجن والإِنس عن ملكه. وأَتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلاً [تحت] ملكه وقدرته، ويثبتون كمال الحمد أَيضاً، وأَنه المحمود على جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل. وأَما نفاة الحكمة والأَسباب من مثبتى القدر فهم فى الحقيقة لا يثبتون له حمداً كما لا يثبتون له الحكمة فإن الحمد من لوازم الحكمة والحكمة إِنما تكون فى حق من يفعل شيئاً لشيء فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله فأما من لا يفعل شيئاً لشيء البتة فلا يتصور فى حقه الحكمة. وهؤلاءِ يقولون: ليس فى أَفعاله وأَحكامه لام التعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإِنما اقترنت بها اقتراناً عادياً، لا أَن هذا كان لأَجل هذا، ولا نشأَ السبب لأَجل المسبب، بل لا سبب عندهم ولا مسبب البتة، إِن هو إِلا محض المشيئة وصرف الإِرادة التى ترجح مثلاً على مثل، بل لا مرجح أَصلاً، وليس عندهم فى الأَجسام وطبائع وقوى تكون أَسباباً لحركاتها، ولا فى العين قوة امتازت بها على الرِّجل يبصر بها، ولا فى القلب قوة يعقل بها امتاز بها [على] الظهر، بل خص سبحانه أَحد الجسمين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصاً لمثل على مثل بلا سبب أَصلاً ولا حكمة، فهؤلاءِ لم يثبتوا له كمال الحمد، كما لم يثبت له أُولئك كمال الملك، وكلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأُمة.
ولهذا كان منكرو الأَسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية كما قال القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفراءِ وأَتباعهما. وقد نص أَحمد على أَنه غريزة، وكذلك الحارث المحاسبى وغيرهما، فأولئك لا يثبتون غريزة ولا قوة ولا طبيعة ولا سبباً، وأبطلوا مسميات هذه الأَسماءِ جملة وقالوا: إِن ما فى الشريعة من المصالح والحكم لم يشرع الرب سبحانه ما شرع من الأَحكام لأَجلها بل اتفق اقترانها بها أَمراً اتفاقياً، كما قالوا نظير ذلك فى المخلوقات سواء، والعلل عندهم أَمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقى.
. وهم فريقان: أَحدهما لا يعرجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإِنما يعتمدون على تأْثير العلة بنص أَو إِجماع، فإِن فقدوا فزعوا إِلى الأَقيسة الشبهية.
والفريق الثانى أَصلحوا المذهب بعض الإِصلاح وقربوه بعض الشيء وأَزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأَحكام بالعلل والعلل بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم الكلام فى الفقه إلا بذلك، ولكم جعلوا اقتران أَحكام تلك العلل والمناسبات بها اقتراناً عادياً غير مقصود فى نفسه العلل والمناسبات أَمارات ذلك الاقتران، وهؤلاءِ يستدلون على إثبت علم الرب تعالى بما فى مخلوقاته من الأحكام والإِتقان والمصالح، وهذا تناقض بين منهم، فإِن ذلك إِنما يدل إِذا كان الفاعل يقصد أَن يفعل الفعل على وجه مخصوص لأَجل الحكمة المطلوبة منه، وأَما من لم يفعل لأَجل ذلك الإحكام والإِتقان وإِنما اتفق اقترانه بمفعولاته عادة فإِن ذلك الفعل لا يدل على العلم، ففى أَفعال الحيوانات من الإِحكام والإِتقان والحكم ما هو معروف لمن تأمله، ولكن لما لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودة لها لم تدل على علمها. والمقصود أَن هؤلاءِ إِذا قالوا: إِنه تعالى لا يفعل لحكمة امتنع عندهم أَن يكون الإِحكام دليلاً على العلم وأَيضاً فعلى قولهم يمتنع أَن يحمد على ما فعله لأَمر ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنما أَراد مجرد وجوده لا لأَجل كذا ولا لنفع أَحد ولا لضره، فكيف يتصور فى حق من يكون فعله ذلك حمد؟ فلا يحمد على فعل عدل، ولا على ترك ظلم، لأَن الظلم- عندهم- والممتنع الذى لا يدخل فى المقدور، وذلك لا يمدح أَحد على تركه وكل ما أَمكن وجوده فهو عندهم عدل فالظلم مستحيل عندهم إِذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الذى لا يدخل تحت المقدور ولا يتصور فيه ترك اختيارى فلا يتعلق به حمد، وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقة عندهم مجرد كونه فاعلاً لا أَن هناك شيئاً هو قسط فى نفسه يمكن وجود ضده، وكذلك قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}* [فصلت: 46] نفى عندهم لما هو مستحيل فى نفسه لا حقيقة له، كجعل الجسم فى مكانين فى آن واحد، وجعله موجوداً معدوماً فى آن واحد، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الذى تنزه عنه، وكذلك قوله: ((يَا عِبَادِى، إِنِّى حَرَّمْتُ الْظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّماً بَيْنَكُمْ، فَلا تَظَالَمُوا))، فالذى حرمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين وليس هناك ممكن يكون ظلماً فى نفسه وقد حرمه على نفسه، ومعلوم أَنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أَراده لم يقدر عليه. وأَيضاً فإِنه قال: ((وَجَعَلْتُهُ مُحُرَّماً بَيْنَكُمْ)) فالذى حرمه على نفسه هو الذى جعله محرماً بين عباده وهو الظلم المقدور الذى يستحق تاركه الحمد والثناءَ. والذى أوجب لهم هذا مناقضة القدرية المجوسية ورد أُصولهم وهدم قواعدهم، ولكن ردوا باطلاً بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم بما التزموه من الباطل فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سجالاً مرة يغلبون ومرة يغلبون لم يستقر لهم نصرة، وإِنما النصرة الثابتة لأَهل السنة المحضة الذين لم يتحيزوا إِلى فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا غير ما جاءَ به، ولم يؤصلوا أَصلاً ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلهم ما دل عليه كتاب الله وكلام رسوله وشهدت به الفطر والعقول.
منقول من كتاب {طريق الهجرتين و باب السعادتين}
إِثبات الحمد كله لله عَزَّ وجَلَّ
ويجمع هذين الأَصلين العظيمين أَصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإِثباته على وجهه يتم بناءُ هذين
الأَصلين وهو إِثبات الحمد كله لله رب العالمين فإِنه المحمود على ما خلقه وأَمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإِيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأَبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأَعدائهم، وهو المحمود على عدله فى أَعدائه كما هو المحمود على فضله وإِنعامه على أَوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأَرض ومن فيهن: {وَإِن مِن شَيءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}* [الإسراء: 44]، وكان فى قول النبى صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد، مِلْءَ ـ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بَعْد))، فله سبحانه الحمد حمداً يملأْ المخلوقات والفضاء الذى بين السماوات والأرض، ويملأُ ما يقدر بعد ذلك مما يشاءُ أَن يملأَ بحمده. وذاك يحتمل أَمرين: أحدهما أَن يملأَ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، والمعنى أَن الحمد ملءُ ما خلقته وملءُ ما تخلقه بعد ذلك. الثانى أَن يكون المعنى ملءُ ما شئت من شيء [بعد] يملأه حمدك، أَى يقدَّر مملوءاً بحمدك وإِن لم يكن موجوداً. ولكن [قد] يقال: المعنى الأَول أَقوى لأَن قوله: ((مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بعد)) يقتضى أَنه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له. فتأَمله لكنه إذَا شاَءَ كونه فله الحمد ملأه، فالمشيئة راجعة إِلى المملوءِ بالحمد، فلا بد أَن يكون شيئاً موجوداً يملأه حمده وأَيضاً فإِن قوله: ((من شيء بعد)) يقتضى أَنه [شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات كما يخلقه] بعد ذلك من مخلوقاته ومن القيامة وما بعدها. ولو أُريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مع ذلك لأن المقدر يكون مع المحقق. وأَيضاً فإِنه لم يقل: ملء ما شئت أن يملأه الحمد، بل قال: ما شئت. والعبد قد حمد حمداً أَخبر به، وإِن ثناءَه ووصفه بأَنه يملأُ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاءُ بعد ذلك، وأَيضاً قوله ((وملءُ ما شئت من شيء بعد)) يقتضى إِثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثانى قد تتعلق المشيئة بملء المقدر، وقد لا تتعلق وأَيضاً فإِذا قيل: ((ما شئت من شيء بعد ذلك)) كان الحمد مالئاً لما هو موجود يشاؤه الرب دائماً، ولا ريب أَن له الحمد دائماً فى الأُولى والآخرة، وأَما إِذا قدر ما يملأه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها، وما من شيء منها إِلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأَعداد، ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل: ((ملء ما لا يتناهى)) فأَما ما يشاؤه الرب [تعالى] فلا يكون إِلا موجوداً مقدراً، وإِن كان لا آخر لنوع الحوادث أَو بقاءِ ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد وأَيضاً فالحمد هو الإِخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته وإما ظاهرة فى مخلوقاته، فأَما المعدوم المحض الذى لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة فالحمد لله [الذى] يملأُ المخلوقات ما وجد منها ويوجد هو حمد يتضمن الثناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة فى مخلوقاته، وأما ما لا وجود له فلا محامد منه ولا مذام، فجعل الحمد مالئاً له لما لا حقيقة له.
وقد اختلف الناس فى معنى كون حمده يملأُ السموات والأَرض وما بينهما، فقالت طائفة على جهة التمثيل: أَى لو كان أَجساماً لملأَ السموات والأَرض وما بينهما قالوا: فإِن الحمد من قبيل المعانى والأَعراض التى لا تملأُ بها الأجسام، ولا تملأُ الأجسام [إلا بالأجسام] والصواب أَنه لا يحتاج إِلى [هذا التكلف البارد فإن من كل شيء يكون بحسب] الماليء والمملوءِ، فإِذا قيل امتلأَ الإِناءُ ماءً وامتلأَت الجفنة طعاماً فهذا الامتلاءُ نوع، وإِذا قيل: امتلأَت الدار رجالاً وامتلأَت المدينة خيلاً ورجالاً فهذا نوع آخر. وإِذا قيل: امتلأَ الكتاب سطوراً فهذا نوع آخر، وإِذا قيل: امتلأَت مسامع الناسِ حمداً أَو ذماً لفلان فهذا نوع آخر فى أثر معروف: أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناءِ الناس عليه، وأَهل النار من امتلأَت مسامعه من ذم الناس له)) . وقال عمر بن الخطاب فى عبد الله بن مسعود كنيف مليء علماً، ويقال: فلان علمه قد ملأَ الدنيا. وكان يقال: ملأ ابن أبى الدنيا الدنيا علماً. ويقال: صيت فلان قد ملأ الدنيا وضيق الآفاق وحبه قد ملأَ القلوب، وبغض فلان قد ملأَ القلوب، وامتلأَ قلبه رعباً، وهذا أَكثر من أَن تستوعب شواهده، وهو حقيقة فى بابه وجعل الملء والامتلاءِ حقيقة للأَجسام خاصة تحكم باطل ودعوى لا دليل عليها البتة، والأَصل الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوى هو الغالب على اللغة والأَفهام والاستعمال، فالمصير إِليه أَولى من المجاز والاشتراك [اللفظى] وليس هذا موضع تقرير [هذه المسأَلة].
فإذا قيل: ((الحمد كله لله)) فهذا له معنيان: أحدهما أَنه محمود على كل شيء [وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضاً كما] يحمد رسله وأنبياؤه وأَتباعهم- فذلك من حمده تبارك وتعالى بل هو المحمود بالقصد الأَول [وبالذت وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده] فهو المحمود أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وهذا كما أَنه بكل شيء عليم، وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه، وفى الدعاء المأْثور: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُهُ، ولَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كله وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ))، وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أن ملك المخلوق داخل فى ملكه، فحمده أَيضاً داخل فى حمده، فما من محمود يحمد على شيء مما دق أَو جل إِلا والله المحمود عليه بالذات [والأَولوية] أَيضاً، وإِذا قال [الحامد]: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْد))، فالمراد به أَنت المستحق لكل حمد، ليس المراد به الحمد الخارجى فقط.
المعنى الثانى أَن يقال: ((لَكَ الْحَمْد كلُّه)) أى الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله عز وجل ليس لغيره فيه شركة. والتحقيق أَن له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمد وأَعظمه، كما أَن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إِلا هو وليس الملك التام الكامل إِلا له وأَتباع الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإِنهم يقولون: إِنه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة فله الملك كله. والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أَفعال العباد، فيخرجون [طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمتقين من ملكه كما يخرجون] سائر حركات الملائكة والجن والإِنس عن ملكه. وأَتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلاً [تحت] ملكه وقدرته، ويثبتون كمال الحمد أَيضاً، وأَنه المحمود على جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل. وأَما نفاة الحكمة والأَسباب من مثبتى القدر فهم فى الحقيقة لا يثبتون له حمداً كما لا يثبتون له الحكمة فإن الحمد من لوازم الحكمة والحكمة إِنما تكون فى حق من يفعل شيئاً لشيء فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله فأما من لا يفعل شيئاً لشيء البتة فلا يتصور فى حقه الحكمة. وهؤلاءِ يقولون: ليس فى أَفعاله وأَحكامه لام التعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإِنما اقترنت بها اقتراناً عادياً، لا أَن هذا كان لأَجل هذا، ولا نشأَ السبب لأَجل المسبب، بل لا سبب عندهم ولا مسبب البتة، إِن هو إِلا محض المشيئة وصرف الإِرادة التى ترجح مثلاً على مثل، بل لا مرجح أَصلاً، وليس عندهم فى الأَجسام وطبائع وقوى تكون أَسباباً لحركاتها، ولا فى العين قوة امتازت بها على الرِّجل يبصر بها، ولا فى القلب قوة يعقل بها امتاز بها [على] الظهر، بل خص سبحانه أَحد الجسمين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصاً لمثل على مثل بلا سبب أَصلاً ولا حكمة، فهؤلاءِ لم يثبتوا له كمال الحمد، كما لم يثبت له أُولئك كمال الملك، وكلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأُمة.
ولهذا كان منكرو الأَسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية كما قال القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفراءِ وأَتباعهما. وقد نص أَحمد على أَنه غريزة، وكذلك الحارث المحاسبى وغيرهما، فأولئك لا يثبتون غريزة ولا قوة ولا طبيعة ولا سبباً، وأبطلوا مسميات هذه الأَسماءِ جملة وقالوا: إِن ما فى الشريعة من المصالح والحكم لم يشرع الرب سبحانه ما شرع من الأَحكام لأَجلها بل اتفق اقترانها بها أَمراً اتفاقياً، كما قالوا نظير ذلك فى المخلوقات سواء، والعلل عندهم أَمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقى.
. وهم فريقان: أَحدهما لا يعرجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإِنما يعتمدون على تأْثير العلة بنص أَو إِجماع، فإِن فقدوا فزعوا إِلى الأَقيسة الشبهية.
والفريق الثانى أَصلحوا المذهب بعض الإِصلاح وقربوه بعض الشيء وأَزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأَحكام بالعلل والعلل بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم الكلام فى الفقه إلا بذلك، ولكم جعلوا اقتران أَحكام تلك العلل والمناسبات بها اقتراناً عادياً غير مقصود فى نفسه العلل والمناسبات أَمارات ذلك الاقتران، وهؤلاءِ يستدلون على إثبت علم الرب تعالى بما فى مخلوقاته من الأحكام والإِتقان والمصالح، وهذا تناقض بين منهم، فإِن ذلك إِنما يدل إِذا كان الفاعل يقصد أَن يفعل الفعل على وجه مخصوص لأَجل الحكمة المطلوبة منه، وأَما من لم يفعل لأَجل ذلك الإحكام والإِتقان وإِنما اتفق اقترانه بمفعولاته عادة فإِن ذلك الفعل لا يدل على العلم، ففى أَفعال الحيوانات من الإِحكام والإِتقان والحكم ما هو معروف لمن تأمله، ولكن لما لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودة لها لم تدل على علمها. والمقصود أَن هؤلاءِ إِذا قالوا: إِنه تعالى لا يفعل لحكمة امتنع عندهم أَن يكون الإِحكام دليلاً على العلم وأَيضاً فعلى قولهم يمتنع أَن يحمد على ما فعله لأَمر ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنما أَراد مجرد وجوده لا لأَجل كذا ولا لنفع أَحد ولا لضره، فكيف يتصور فى حق من يكون فعله ذلك حمد؟ فلا يحمد على فعل عدل، ولا على ترك ظلم، لأَن الظلم- عندهم- والممتنع الذى لا يدخل فى المقدور، وذلك لا يمدح أَحد على تركه وكل ما أَمكن وجوده فهو عندهم عدل فالظلم مستحيل عندهم إِذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الذى لا يدخل تحت المقدور ولا يتصور فيه ترك اختيارى فلا يتعلق به حمد، وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقة عندهم مجرد كونه فاعلاً لا أَن هناك شيئاً هو قسط فى نفسه يمكن وجود ضده، وكذلك قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}* [فصلت: 46] نفى عندهم لما هو مستحيل فى نفسه لا حقيقة له، كجعل الجسم فى مكانين فى آن واحد، وجعله موجوداً معدوماً فى آن واحد، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الذى تنزه عنه، وكذلك قوله: ((يَا عِبَادِى، إِنِّى حَرَّمْتُ الْظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّماً بَيْنَكُمْ، فَلا تَظَالَمُوا))، فالذى حرمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين وليس هناك ممكن يكون ظلماً فى نفسه وقد حرمه على نفسه، ومعلوم أَنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أَراده لم يقدر عليه. وأَيضاً فإِنه قال: ((وَجَعَلْتُهُ مُحُرَّماً بَيْنَكُمْ)) فالذى حرمه على نفسه هو الذى جعله محرماً بين عباده وهو الظلم المقدور الذى يستحق تاركه الحمد والثناءَ. والذى أوجب لهم هذا مناقضة القدرية المجوسية ورد أُصولهم وهدم قواعدهم، ولكن ردوا باطلاً بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم بما التزموه من الباطل فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سجالاً مرة يغلبون ومرة يغلبون لم يستقر لهم نصرة، وإِنما النصرة الثابتة لأَهل السنة المحضة الذين لم يتحيزوا إِلى فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا غير ما جاءَ به، ولم يؤصلوا أَصلاً ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلهم ما دل عليه كتاب الله وكلام رسوله وشهدت به الفطر والعقول.
منقول من كتاب {طريق الهجرتين و باب السعادتين}