المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح كتاب مسائل الجاهلية للشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب شرح العلامة الفوزان


كيف حالك ؟

قاسم علي
11-24-2005, 06:19 PM
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في مقدمة رسالته‏:‏ مسائل الجاهلية‏:‏

هذه مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها‏.‏

فالضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ ** وبِضِدِّها تتبيّنُ الأشياءُ

فأهم ما فيها وأشدها خطرًا‏:‏ عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 52‏]‏‏]‏‏.‏ _______________________________________________
الشـرح

هذه رسالة من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، اسمها‏:‏ ‏"‏ مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية ‏"‏ تشتمل على مائة وثمان وعشرين مسألة، استخلصها - رحمه الله - من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، والغرض من ذلك‏:‏ تنبيه المسلمين؛ من أجل أن يتجنبوا هذه المسائل؛ لأنها خطيرة جدًا‏.‏

وبيّن - رحمه الله - أن هذه المسائل مما خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، من الكتابيين والأميين‏.‏

والكتابيون المراد بهم‏:‏ أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود عندهم كتاب التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، والنصارى عندهم كتاب الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، فلذلك سموا بأهل الكتاب، وهم الآن يطلقون على التوراة‏:‏ العهد القديم، أو‏:‏ الأسفار القديمة، ويطلقون على الإنجيل‏:‏ أسفار العهد الجديد، هذا في اصطلاحهم‏.‏

وهما كتابان عظيمان أنزلهما الله على نبيين كريمين، هما‏:‏ موسى وعيسى عليهما السلام، لا سيما التوراة، فإنها كتاب عظيم‏.‏ والإنجيل مكمل لها ومصدق لها‏.‏

ولذلك سموا بأهل الكتاب؛ فرقًا بينهم وبين غيرهم ممن ليس لهم كتاب‏.‏

وأما الأُمِّيُّون‏:‏ فالمراد بهم‏:‏ العرب الذين لا يدينون بالديانتين، سموا بالأميين، جمع أُمّي، نسبة إلى الأم ‏(‏والأمي هو‏:‏ الذي لا يقرأ ولا يكتب‏)‏ فإنهم قوم لا يقرؤون ولا يكتبون في الغالب، وليس عندهم كتاب قبل نزول القرآن؛ فلذلك سموا بالأميين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 6‏]‏، فهذا معنى الأميين‏.‏ ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

فكونه أُمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب العظيم دليل على صدق رسالته وفي ذلك معجزة له‏.‏

فالعرب أميّون، ونبيهم صلى الله عليه وسلم أمّي‏.‏

أما الجاهلية، فالمراد بها النسبة إلى الجهل، والجهل عدم العلم، والجاهلية هي التي ليس فيها رسول وليس فيها كتاب‏.‏ والمراد بها‏:‏ ما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ يعني‏:‏ التي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان العالم كله يموج في ضلال وكفر وإلحاد؛ لأن الرسالات السابقة اندرست، فاليهود حرفوا كتابهم التوراة، وأدخلوا فيه كثيرًا من الكفريات والضلال، والشنائع التي أدخلوها في التوراة، وكذلك النصارى حرفوا كتابهم الإنجيل عما كان عليه وقت نزوله على المسيح عليه الصلاة والسلام، وذلك أن رجلاً يُقال له‏:‏ بلس، أو شاول، كان يهوديًا حاقدًا على رسول الله عيسى عليه السلام، فهذا الرجل لجأ إلى المكر والخديعة، في إفساد دين المسيح عليه السلام، حيث أظهر الإيمان بالمسيح، وأنه ندم على ما كان من قبل من عداوة المسيح، وأنه رأى رؤيا - بزعمه - فآمن بالمسيح، وصدقه النصارى فيما قال، ثم إنه تناول الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، فأدخل فيه الوثنيات والشركيات والكفريات، حيث أدخل فيه عقيدة التثليث، أي أن الله ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله، أو هو الله‏.‏ وأدخل فيه الأمر بعبادة الصليب، وأدخل كفريات شنيعة، وصدقوه في ذلك على أنه عالم، وعلى أنه مؤمن ولقبوه بالرسول بلس أي رسول المسيح بزعمهم وقصده إفساد دين المسيح، وحصل له ما أراد، فقد أفسد دين المسيح وأدخل فيه الوثنيات والتثليث، واعتقاد أن عيسى ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، وأدخل فيه وثنيات كثيرة فاتبعوه على ذلك‏.‏

هذه حالة أهل الكتاب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا بقايا منهم كانوا على الدين الصحيح ‏(1)، لكن الأكثرية منهم على الكفر والانحراف عن دين الله‏.‏

وأما العرب فكانوا على قسمين‏:‏ قسم اتبع الديانات السابقة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية‏.‏ وقسم كانوا على الحنيفية، دين إبراهيم وإسماعيل، لا سيما في الحجاز في أرض مكة المكرمة‏.‏

إلى أن ظهر فيهم رجل يُقال له‏:‏ عمرو بن لحي الخزاعي، كان ملكًا على الحجاز، وكان يظهر التنسك والعبادة والصلاح، وذهب إلى الشام للعلاج، فوجد أهل الشام يعبدون الأصنام، فاستحسن ذلك، وجاء من الشام بأصنام معه، ونقب عن الأصنام التي كانت مدفونة تحت الأرض بعد قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها، كان الطوفان قد طمسها ودفنها، وجاء الشيطان فأرشده إلى أمكنتها، فنبشها وأخرجها، ووزعها على قبائل العرب وأمر بعبادتها؛ وقبلوا منه ذلك، ودخل الشرك في أرض الحجاز وفي غيرها من بلاد العرب، وغيّر دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسيَّب السوايب للأصنام من بهيمة الأنعام؛ ولذلك رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، يعني‏:‏ يجر أمعاءه في النار ‏[‏(2) أخرجه البخاري ‏(‏رقم 3521‏)‏ ومسلم ‏(‏رقم 2856‏)‏‏.‏‏]‏‏ ‏

فكانت حالة العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال مبين، الكتابيون والأميون وغيرهم، سائر أهل الأرض، إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على الدين الحق، لكنهم انقرضوا قبل البعثة، فأصبح الظلام حالكًا في الأرض، وجاء في الحديث‏:‏ أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، يعني‏:‏ أبغضهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب‏.‏

في هذا الظلام الحالك، وهذه الجاهلية المستحكمة، وانطماس السبل، ودروس آثار الرسالات السماوية، بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏ وإن كانوا من قبل‏:‏ أي قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ‏.‏

والجاهلية - كما قلنا - منسوبة إلى الجهل وهو عدم العلم، وكل أمر منسوب إلى الجاهلية فإنه مذموم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، نهى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج، وهو إظهار الزينة في الأسواق، وأمام الناس؛ لأن أهل الجاهلية كانت نساؤهم تتبرج، بل تكشف عن عوراتها، كما في الطواف عندهم، يرون أن هذا من المفاخر‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏ وهذا من باب الذم، فحمية الجاهلية مذمومة، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار حصل بينه وبين رجل من المهاجرين في بعض الغزوات، اقتتال ونزاع، فقال الأنصاري‏:‏ يا للأنصار، وقال المهاجري‏:‏ يا للمهاجرين، كل واحد منهم دعا قومه، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم‏؟‏‏!‏ دعوها فإنها منتنة‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري ‏(‏رقم 3518، 4905، 4907‏)‏ ومسلم ‏(‏رقم 2584‏)‏‏.‏‏]‏ يعني الاعتزاء بالقبيلة؛ لأن المؤمنين كلهم إخوة، لا فرق بين أنصاري ومهاجري، ولا بين قبيلة كذا وكذا، هم إخوة في الإيمان، كالجسد الواحد، والبنيان يشد بعضه بعضًا، هذا الواجب على المسلمين، أنهم لا يميزون بين عربي وعجمي، وأسود وأبيض، إلا بالتقوى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ فالاعتزاء بالأنساب والاعتزاء بالقبائل من أمور الجاهلية‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 1850‏)‏‏.‏‏] ‏؛ لأن أهل الجاهلية هم أهل الفوضى، الذين لا يخضعون لسلطان ولا لأمير‏.‏ هذه حالة الجاهلية‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن أمور الجاهلية كلها مذمومة، ونهينا عن التشبه بأهل الجاهلية في كل الأمور، والجاهلية انتهت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعد بعثته زالت الجاهلية العامة، وجاء العلم والإيمان، ونزل القرآن والسنة، وانتشر العلم وزال الجهل، وما دام القرآن موجودًا، والسنة النبوية موجودة، وكلام أهل العلم موجودًا، فإنه لا جاهلية حينئذٍ، أعني الجاهلية العامة، أما أنه يبقى بعض الجاهلية في بعض الناس، أو في بعض القبائل، أو في بعض البلدان، فالجاهلية الجزئية تكون موجودة‏.‏

ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعيّر أخاه بقوله‏:‏ يا ابن السوداء، قال له‏:‏ ‏"‏أعيّرته بأمه‏؟‏‏!‏ إنك امرؤ فيك جاهلية‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري ‏(‏رقم 30، 2545، 6050‏)‏ ومسلم ‏(‏رقم 1661‏)‏‏.‏‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن‏:‏ الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري مختصرًا ‏(‏رقم 3850‏)‏ ومسلم واللفظ له ‏(‏رقم 934‏)‏‏.‏‏]‏ فدلّ على أنه تبقى أشياء من أمور الجاهلية في بعض الناس، وهي مذمومة، لكنه لا يكفر بها لكن الجاهلية العامة زالت ولله الحمد‏.‏

ولهذا لا يجوز أن يقال‏:‏ الناس في جاهلية، أو‏:‏ العالم في جاهلية؛ لأن هذا جحود لوجود الرسالة، وجحود للقرآن والسنة‏.‏ هذا الإطلاق لا يجوز، أما أن يقال‏:‏ في بعض الناس جاهلية، أو‏:‏ في بعض الأشخاص جاهلية، أو‏:‏ هناك خصال من خصال الجاهلية، فهذا موجود، ففيه فرق بين ما كان قبل البعثة وما بعد البعثة‏.‏

قد يقول بعض الناس‏:‏ ما الداعي إلى ذكر مسائل الجاهلية، ما دامت الجاهلية قد انتهت‏؟‏ نحن مسلمون ولله الحمد‏.‏

نقول‏:‏ الداعي لذلك‏:‏ الحذر منها، فإنه إذا عرفها طالب العلم فإنه يحذر منها، أما إذا جهلها ولم يعرفها، فإنه قد يقع فيها، فذكرها ومدارستها من أجل أن تعرف حتى تجتنب، وحتى يحذر منها، قال الشاعر‏:‏

عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشّرّ ولكن لتوقِّيهِ ** ومن لا يعرف الشّرَّ يَقَع فيهِ

هذا من ناحية، والناحية الثانية، أنك إذا عرفت الجاهلية عرفت فضل الإسلام، كما قال الشاعر‏:‏

الضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ ** وبِضِدِّها تتبيّنُ الأشياءُ

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ‏"‏، فإذا كان الإنسان يجهل أمور الجاهلية فإنه حري أن يقع فيها؛ لأن الشيطان ما نسيها ولا نام عنها، يدعو إليها‏.‏

فالشيطان وأتباعه من دعاة الضلال لا يزالون يدعون إلى الجاهلية، وإلى إحياء أمور الجاهلية، إلى الشركيات والبدع، وإلى الخرافات، وإلى إحياء الآثار، وكل هذا القصد منه‏:‏ طمس الإسلام، وعودة الناس إلى الجاهلية، فلابد من دراسة أمور الجاهلية من أجل أن نتجنبها ونبتعد عنها‏.‏

قال الشّيخ‏:‏ ‏"‏ وأعظم مسائل الجاهلية وأخطرها‏:‏ عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ‏"‏؛ لأن أهل الجاهلية كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏ فإذا انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة ‏"‏، أي حصل فساد في الظاهر والباطن، فساد في الباطن وهو عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفساد في الظاهر وهو استحسان أمور الجاهلية، فإذا فسد الظاهر والباطن تمت الخسارة، والعياذ بالله‏.‏ وهذا نتيجة الجهل وعدم معرفة أمور الجاهلية، فلا يجوز استحسان ما عليه أهل الجاهلية، بل يجب إنكاره واستبشاعه، أما من استحسنه فإنه يكون من أهل الجاهلية، واستدل الشيخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏‏.‏

‏{‏ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ ‏}‏ يعني‏:‏ صدقوا الباطل، والباطل ضد الحق، فما خالف الحق فهذا باطل، والباطل هو‏:‏ الذاهب الزائل الذي لا فائدة فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏‏.‏
كتاب{ شرح مسائل الجاهلية }للشيخ العلامة صالح الفوزان
ويتبع أن شاء الله

bilal
11-24-2005, 07:13 PM
جزاك الله خيرا

قاسم علي
11-24-2005, 07:19 PM
المسألة الأولى‏:‏ دعاء الأولياء والصالحين

‏[‏إنَّهُم يتعبَّدونَ بإشرَاكِ الصَّالحين في دُعاءِ الله وعبادته؛ يُريدُونَ شفاعتَهُم عند الله؛ لظنِّهم أنَّ الله يُحبُّ ذلك، وأنَّ الصَّالحينَ يُحبُّونه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنّه دين الله، الذي أرسل به جميع الرسل، وأن لا يُقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أن من فعل ما استحسنوا فقد حرّم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وهذه هي المسألة التي تفرّق الناس من أجلها بين مؤمن وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شُرِعَ الجهاد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏]‏‏.‏
__________________________________________________ _____
الشّـرح

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، فالعبادة حق لله جل وعلا، لا يجوز أن يُعبد معه غيره كائنًا من كان، فالجاهلية عكسوا هذا الأمر، فتركوا عبادة الله التي خُلقوا من أجلها، وعبدوا غير الله جل وعلا من الأصنام والأشجار والأحجار والجن والملائكة والأولياء والصالحين، فصرفوا العبادة لغير الله عز وجل، فمنهم من لا يعبد الله أصلاً، وهم الكفار، من الملاحدة والدهرية، ومنهم من يعبد الله ويعبد معه غيره‏.‏ والحكم واحد، فالذي يعبد مع الله غيره كالذي لا يعبد الله أصلاً؛ لأن عبادته باطلة، والله لا يرضى بالشرك، وأيضًا لابد أن يكون العمل موافقًا لما شرعه الله سبحانه وتعالى، فالله لا يقبل العمل الذي فيه بدعة، كما لا يقبل العمل الذي فيه شرك، فأعظم أمور الجاهلية‏:‏ الشرك بالله عز وجل والابتداع‏.‏

وبدأ الشيخ - رحمه الله - بهذه المسألة؛ لأنها أخطر مسائل الجاهلية، ولأنها هي المسألة التي بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إنكارها، ودعوة الناس إلى تركها، فالرسول أول ما بدأ - كغيره من الرسل - بالأمر بإخلاص العبادة لله عز وجل، وترك عبادة ما سواه، هذا فاتحة دعوة الرسل؛ لأن هذا هو الأساس الذي يبنى عليه غيره، فإذا فسد الأساس فلا فائدة من الأمور الأخرى، لا فائدة من الصلاة ولا من الصيام ولا من الحج ولا من الصدقات ولا من سائر العبادات؛ إذا كان الأصل فاسدًا والتوحيد معدومًا، فلا فائدة من الأعمال الأخرى؛ لأن الشرك يفسدها ويبطلها‏.‏

وكانوا في الجاهلية يعبدون الله، ويعبدون أشياء كثيرة، ومنها‏:‏ عبادة الأولياء والصالحين، كما حصل لقوم نوح لما غلوا في الصالحين‏:‏ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وعبدوا قبورهم من دون الله عز وجل، بحجة أنهم صالحون، وأنهم يقرّبون إلى الله، وأنهم شفعاء عند الله، كذلك درجت الجاهلية على هذا المنوال، فكانوا يعبدون الأولياء والصالحين والملائكة، ويقولون‏:‏ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون‏:‏ هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ولا يقولون‏:‏ هؤلاء شركاء لله، إنما يقولون‏:‏ إنما هم عباد الله يتوسطون لنا عند الله، ويشفعون لنا، ويقربوننا إلى الله زلفى، ولا يسمون عملهم هذا شركًا؛ لأن الشيطان زين لهم أن هذا ليس بشرك، وإنما هو توسل بالصالحين واستشفاع بالصالحين، والعبرة ليست بالأسماء، العبرة بالحقائق، فهذا شرك وإن سَمَّوه تشفعًا وتقربًا، فهو شرك؛ لأن الأسماء لا تغيّر الحقائق، والله لا يرضى أن يُشرك معه أحد في عبادته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏، العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

فهذه أعظم مسائل الجاهلية، وهي عبادة الأولياء والصالحين، من الأموات والغائبين والاستغاثة بهم، والاستعاذة بهم، وطلب الحوائج منهم، كما عليه عباد القبور اليوم تمامًا، فعبادة الأضرحة الآن، والتقرب إلى الأموات، ودعاؤهم من دون الله، والاستغاثة بهم، هذا هو ما كانت عليه الجاهلية، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

كذلك نفس الشيء الآن، هؤلاء القبوريون إذا نوقشوا ونُهوا عن عبادة القبور، قالوا‏:‏ نحن ما نعبد القبور؛ لأن العبادة لله، لكن هؤلاء وسائط بيننا وبين الله، وشفعاء لنا عنده‏.‏ هذا هو الذي أنكره الله على أهل الجاهلية تمامًا ‏{‏ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ ما عبدوهم لأنهم يرون أنهم يشاركون الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، هم يعترفون أن هذا الله، وإنما عبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى، فيقولون‏:‏ نحن عباد مذنبون، وهؤلاء رجال صالحون لهم جاهٌ عند الله، فنريد منهم أن يتوسطوا لنا عند الله في قبول توبتنا وعبادتنا‏.‏ هكذا زين لهم شياطين الإنس والجن هذا الأمر‏.‏ والعجيب أنهم يقرؤون القرآن ويمرون على هذه الآيات ولا ينتبهون لها، ومع هذا يستمرون على عبادة القبور، وهي من فعل الجاهلية، وهذا لأنهم لم يعرفوا ما كانت عليه الجاهلية؛ لم يعرفوا أن هذا من أمور الجاهلية، هذا نتيجة الجهل بأمور الجاهلية‏.‏

ثم قال الشيخ رحمه الله‏:‏ وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أن من فعل ما استحسنوا فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار‏.‏ وهذه هي المسألة التي تَفَرَّقَ لأجلها الناس بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏.‏

هل الله عز وجل بحاجة إلى أن يجعل بينه وبين العبد واسطة‏؟‏ الله جل وعلا قريب مجيب، يسمع ويرى، ويرحم ويقبل التوبة عن عباده، ولم يأمرنا باتخاذ الوسائط في الدعاء، بل أمرنا بدعائه مباشرة ‏{‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏، ‏{‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، أمرنا الله بدعائه مباشرة، ولم يأمرنا باتخاذ الوسائط بيننا وبينه‏.‏

وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مسألة الشرك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله وأرسله إلى الناس، أول ما بدأ، بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وإنكار الشرك، وكان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏قولوا‏:‏ لا إله إلا الله؛ تفلحوا‏"‏ ‏[‏أخرجه أحمد في مسنده ‏(‏3/492‏)‏ ‏(‏4/63، 341‏)‏، وابن حبان في صحيحه ‏(‏رقم 6528‏)‏ والطبراني في الكبير ‏(‏5/61 رقم 4582‏)‏ والدارقطني في السنن ‏(‏3/45‏)‏ والبيهقي في دلائل النبوة ‏(‏5/380‏)‏ والحاكم في المستدرك ‏(‏3/512 رقم4275‏)‏، وقال‏:‏ هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏‏]‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏"‏أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري ‏(‏رقم 1399، 2946‏)‏ ومسلم ‏(‏رقم 20، 21‏)‏‏.‏‏]‏، فكان صلى الله عليه وسلم يغشاهم في مجتمعاتهم وفي منازلهم، وفي أيام الموسم في الحج، ويدعوهم إلى التوحيد، ويذهب هنا وهناك، كما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى التوحيد‏.‏ وإفراد الله جل وعلا بالعبادة، هذا أول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا هو الأساس، وهكذا يجب على الدعاة أن يهتموا بهذا الأمر، وأن يجعلوا الدعوة إلى التوحيد هي أهم شيء في دعوتهم‏.‏

فقد أتى صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، إخلاص العبادة لله عز وجل، وترك عبادة ما سوى الله من الأولياء والصالحين أو غيرهم، هذا هو دين الرسل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ فهذا هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، الدعوة إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وبقية الإصلاحات تأتي تبعًا لذلك‏.‏

والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، ليس فيه شرك، وأيضًا لابد أن يكون العمل موافقًا لما شرعه الله سبحانه وتعالى، فالله لا يقبل العمل الذي فيه بدعة ولا ما كان فيه شرك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏ لم يقتصر على الأمر بعبادة الله، بل نهى عن الشرك؛ لأن عبادة الله لا تقبل إذا كان فيها شرك، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله‏:‏ ‏{‏ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏‏.‏

وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فهي مكونة من نفي وإثبات، نفي الشرك، وإثبات التوحيد، ‏(‏لا إله‏)‏ إبطال لجميع المعبودات ‏(‏إلا الله‏)‏ إثبات لعبادة الله وحده، فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، ولا يقبل العمل الذي فيه بدعة ومخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 1718/18‏)‏ والبخاري تعليقًا في كتاب الاعتصام، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود‏.‏‏]‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري رقم ‏(‏2697‏)‏ ومسلم ‏(‏رقم1718/17‏)‏‏.‏‏]‏ ولذلك قال العلماء‏:‏ إن العمل لا يقبل إلا بشرطين‏:‏ الشرط الأول‏:‏ الإخلاص لله عز وجل، والشرط الثاني‏:‏ المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا اختل أحد الشرطين؛ لم يقبل هذا العمل، ولم يكن عملاً صالحًا‏.‏

وأخبر جل وعلا أن من عبد ما يستحسنه من الأصنام والأولياء والأشجار والأحجار والقبور، ولم يرجع في العبادة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما اعتمد على الاستحسان أو على ما تهواه نفسه، ولو خالف الكتاب والسنة، أخبر الله جل وعلا أن الله قد حرم عليه الجنة ومأواه النار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏ يعني‏:‏ منعه من دخول الجنة منعًا باتًا، فالتحريم في اللغة‏:‏ المنع، فالمشرك ممنوع من دخول الجنة بتاتًا، لا طمع له فيها، ومأواه النار، هذه عاقبة الشرك بالله عز وجل، وإن كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، هؤلاء إذا ماتوا على ذلك، غير تائبين، حرم الله عليهم الجنة، وجعل النار مأواهم أبد الآباد‏.‏ فالذي يريد لنفسه النجاة يتنبه لهذا، ولا يبقى على أمور الجاهلية في هذا وغيره‏.‏

وقوله رحمه الله‏:‏ ‏(‏وهذه المسألة هي التي تَفَرَّقَ الناس لأجلها بين مسلم وكافر‏)‏ يعني مسألة التوحيد والشرك، جماعة صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وأخلصوا العبادة لله عز وجل، هؤلاء مؤمنون، وقوم خالفوه وبقوا على شركهم وعبادتهم، وما كان يعبده آباؤهم من قبل، كما عليه أمم الكفر الذين يعارضون الرسل؛ لأنهم يريدون البقاء على ما كان عليه آباؤهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏، وقالوا‏:‏ ‏{‏ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 62‏]‏، هذه مقالتهم وحجتهم، وهي التمسك بما عليه الآباء والأجداد، من عبادة غير الله عز وجل‏.‏

وقوله رحمه الله‏:‏ ‏(‏وعندها وقعت العداوة‏)‏ أي‏:‏ بين الموحدين والمشركين، بين المؤمنين والكفار، فإنه يجب على المؤمنين أن يعادوا الكفار، فلا تجوز محبة الكفار حتى ولو كانوا أقرب الناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ فلابد من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين، والشرك والمشركين ‏{‏ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ هذه ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏

أما الذين ينادون الآن بالمحاورة بين الأديان، والمفاهمة بين الأديان، وأنها كلها أديان سماوية؛ بل بعضهم يتجرّأ ويقول‏:‏ لا تكفر اليهود والنصارى‏.‏ فهذا خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخلاف ما جاء به القرآن، وخلاف ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 23‏]‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ اليهود والنصارى أهل كتاب وأهل إيمان، وكلها أديان من عند الله، نتفاهم فيما بيننا ونتعاون، ولا تكفرون اليهود والنصارى‏.‏ هذه دعوة الآن قائمة، وهي قضاء على الولاء والبراء بين المؤمنين والكفار، كل من لم يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، سواء كان كتابيًا أو غير كتابي؛ لأنه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدًا إلا أن يؤمن به، فمن لم يؤمن به فهو كافر، واليهود والنصارى لا يؤمنون بالرسول، فهم كفار، قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يَسمَعُ بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهوديٌّ أو نصرانيٌّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النَّارِ‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 153‏)‏‏.‏‏]‏ فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدًا الخروج عن ملته، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏والله لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي‏"‏‏.‏

فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دين صحيح غير دين الإسلام ‏{‏ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

فهذه دعوة باطلة، تعقد لها الآن مؤتمرات وندوات، وتنفق فيها أموال للدعوة للتقارب بين الأديان - يسمونه - الحوار بين الأديان‏.‏ سبحان الله ‏!‏ حوار بين إيمان وكفر ‏؟‏‏!‏ وبين شرك وتوحيد ‏؟‏‏!‏ بين أعداء الله وأولياء الله ‏؟‏‏!‏

ثم قال الشيخ رحمه الله ‏(‏ولأجلها شُرع الجهاد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏)‏‏.‏

فالواجب علينا نحو الكفار‏:‏ ثلاثة أمور‏:‏

الأمر الأول‏:‏ عداوتهم؛ لأنهم أعداء لله سبحانه وتعالى، وأعداء لرسوله‏.‏

الأمر الثاني‏:‏ دعوتهم إلى الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا أمر واجب على المسلمين‏.‏

الأمر الثالث‏:‏ جهادهم إذا دُعوا إلى الإسلام وأبوا فالواجب جهادهم وقتالهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏، فالمرحلة الأخيرة معهم القتال، إذا كان المسلمون يطيقون القتال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ الآية، وهذه الآية فيها بيان الحكمة من الجهاد في الإسلام، وأنها‏:‏ إزالة الشرك، حتى لا تكون فتنة، والمراد بالفتنة‏:‏ الشرك، أي حتى لا يوجد شرك، ويكون الدين كله لله، هذا هو المقصود من الجهاد، ليس المقصود من الجهاد توسيع السلطة والاستيلاء على الممالك، وحصول الثروة، ليس هذا هو المقصود، المقصود إعلاء كلمة الله عز وجل، وإزالة الشرك من الأرض، هذا هو المقصود‏.‏

وكذلك ليس المقصود من الجهاد في الإسلام الدفاع، كما يقوله بعض الكتاب المخذولين، يقولون‏:‏ إن الإسلام لا يأمر بقتال الكفار؛ لأنه وحشية، لكن القتال الذي في الإسلام من أجل الدفاع، يعني‏:‏ إذا اعتدوا علينا نحن نقاتلهم؛ لصد العدوان فقط‏.‏ سبحان الله ‏!‏ الله جل وعلا يقول‏:‏ ‏{‏ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏ المقصود بالقتال في الإسلام‏:‏ نشر الدعوة، ونشر الدين، وإزالة الشرك ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏، هذا هو المقصود منه، فالقتال في الإسلام على نوعين‏:‏

النوع الأول‏:‏ قتال دفاع، عند عجز المسلمين‏.‏

النوع الثاني‏:‏ قتال طلب، عند قوة المسلمين وقدرتهم عليه‏.‏
يتبع أن شاء الله

إبراهيم يوسف
11-25-2005, 12:30 AM
جزاك الله خيرا

قاسم علي
11-25-2005, 05:20 PM
المسألة الثانية‏:‏ تفرق أهل الجاهلية في عباداتهم ودينهم

‏[‏إنهم متفرِّقونَ في دينهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ وكذلك في دُنياهم، ويرون أن ذلك هو الصّواب، فأتى بالاجتماع في الدّين بقوله‏:‏ ‏{‏ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏ ونهانا عن مشابهتهم بقوله‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏، ونهانا عن التّفرُّق في الدّنيا بقوله‏:‏ ‏{‏ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏]‏‏.‏ __________________________________________________ ___
الشرح

هذه هي المسألة الثانية من المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وهي أن أهل الجاهلية كانوا متفرقين في دينهم وفي دنياهم، وصفتهم التفرق والاختلاف، كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 31، 32‏]‏، هذه صفة أهل الجاهلية من اليهود والنصارى والوثنيين، وسائر الملل الجاهلية كانوا على هذا النمط، متفرقين في دينهم، كل منهم له دين ينادي به وينتسب إليه، النصرانية تدعو إلى النصرانية، واليهودية تدعو إلى اليهودية، وكل من الديانتين يكفّر الديانة الأخرى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏ الذين لا يعلمون هم المشركون؛ لأنهم لا كتاب لهم وليس لهم دين سماوي، وهم أيضًا يكفر بعضهم بعضًا، ويخالف بعضهم بعضًا‏.‏ ‏{‏ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 113‏]‏ أي بين الله سبحانه وتعالى من هو على الحق ومن هو على الباطل، ودين الله واحد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏‏.‏

فدين الله واحد لجميع الخلق من يهودي ونصراني ووثني وعربي وعجمي، فدين الله واحد، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ لكن هؤلاء فرقوا دينهم وصار لكل طائفة منهم دين يختلف عن الدين الآخر، فاليهود أنفسهم كانوا مختلفين فيما بينهم، والنصارى كانوا مختلفين، كانوا فرقًا مختلفة، وهم إلى الآن على اختلاف‏.‏

وكذلك العرب الوثنيون متفرقون في عبادتهم، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار‏.‏

هذه حالة أهل الجاهلية من كتابيين وأميين، لا يجمعهم دين، وعندهم حزبيات ‏{‏ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ وهذا من تمام العقوبة والابتلاء،؛ كون الإنسان يفرح بما هو عليه من الباطل، كان الواجب العكس، وأن الإنسان يخاف من الضلال، ويخاف من الانحراف، ويخاف من الهلاك، لكن هؤلاء بالعكس ‏{‏ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ دون النظر إلى كون ما هو عليه حقًا أو باطلاً، المهم أنها نِحلَةُ آبائهم وأجدادهم وقومهم وعشيرتهم، ولا يهمهم حق أو باطل، وهذا من الابتلاء والامتحان، إذا فرح الإنسان بالباطل، فهذه عقوبة؛ لأنه إذا فرح بالباطل فلن يتحول عنه‏.‏

هذه صفة أهل الجاهلية، والله جل وعلا نهانا عن ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 31، 32‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وأنزل على رسوله ‏{‏ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ هذا هو الذي شرعه الله، إقامة الدين الذي هو دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين، وهو دين الأنبياء جميعًا، لكن ذكر هؤلاء؛ لأنهم أفضل الرسل وأولو العزم، الخمسة، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله وسلم عليهم - هم أولو العزم وأفضل الرسل، وأخذ الله الميثاق من جميع الرسل، وعلى الخصوص على هؤلاء الخمسة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ وجميع الرسل دينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، هذا دين جميع الرسل عمومًا، والخمسة خصوصًا، لا يقبل الاختلاف ولا التفرق، فلا يكن لكل واحد دين، ولا لكل طائفة دين، وإنما دين الجميع واحد، هو دين الله جل وعلا على جميع الخلق ‏{‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏

جميع الخلق الجن والإنس يجب أن يكون دينهم واحدًا، هو التوحيد، وإفراد الله بالعبادة جل وعلا، والعبادة بيّنها على ألسن الرسل، ما وكلها إلى الناس؛ بل أنزل علينا كتابًا وأرسل إلينا رسلاً، وقال‏:‏ هذا هو الدين، وهذه هي العبادة‏.‏ وهي توقيفية، والدين توقيفي، ليس من حق الناس أن يشرعوا لهم أديانًا؛ بل هذا من حق الله سبحانه وتعالى، هو الذي يشرع الدين ‏{‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، هذا إنكار منه سبحانه وتعالى، فالدين هو ما شرعه الله، وأنزله في كتبه، وعلى ألسن رسله، عليهم الصلاة والسلام، فهو توقيفي، والرسل إنما هم مبلغون عن الله جل وعلا، يبلغون عن الله ما شرعه لعباده، هذه وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم متعبدون بهذا الدين مثل غيرهم، عباد يعبدون الله جل وعلا بهذا الدين الذي شرعه لهم، ولأممهم‏.‏

وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏ هذا نهي لنا أن نكون مثل أهل الجاهلية الذين تفرقوا في دينهم واختلفوا، ولم يكن هذا عن جهل منهم، وإنما هو عن هوى ‏{‏ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ‏}‏ تركوا البينات واتبعوا الهوى، فالذي حملهم على هذا التفرق هو الهوى -؛ والعياذ بالله - اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله عز وجل، والله جل وعلا لم يترك حجة لأحد، أرسل الرسل وأنزل الكتب ‏{‏ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

فالله جل وعلا ما ترك الناس، منذ أن أهبط آدم إلى الأرض، لم يترك الناس بلا دين وبلا نبي؛ بل ما زال جل وعلا يرسل الرسل متتابعة، ويشرع للناس الدين ويبينه لهم، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا تنسخ ملته حتى تقوم الساعة، ومدادها الكتاب والسنة، فما من وقت من الأوقات إلا وهناك دين لله جل وعلا جاءت به الرسل، ‏{‏ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏، ‏{‏ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ ليس لأحد حجة ‏{‏ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 19‏]‏ فالله جل وعلا أقام الحجة على الخلق‏.‏

لكن أهل الجاهلية خالفوا ما جاءت به الرسل، لا عن جهل، وإنما هو عن عناد واتباع للهوى، خصوصًا اليهود والنصارى فهم على علم بذلك، ولذلك سماهم الله أهل الكتاب، من باب العيب عليهم، أنهم أهل كتاب وأهل علم، ومع هذا يخالفون أمر الله سبحانه وتعالى، ويتبعون أهواءهم‏.‏ نهى الله هذه الأمة أن تسلك هذا المسلك الجاهلي، وأمرهم أن يتمسكوا بالدين الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي سار عليه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه الراشدون، هذا هو الدين الذي يجب أن تتمسك به الأمة إلى أن تقوم الساعة، وإذا اختلفوا في شيء أن يردوه إلى الكتاب والسنة ‏{‏ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

والاختلاف من طبيعة البشر، لكن الله جل وعلا أحالنا على الكتاب والسنة إذا اختلفنا ولا ندري أيُّنا المصيب، نرجع إلى الكتاب والسنة، فمن شهد له الكتاب والسنة بأنه حق أخذنا به، وما شهدا أنه غير حق تركناه؛ لأن هدفنا اتباع الحق، لا الانتصار للآراء، أو تعظيم الآباء والأجداد أو الشيوخ، ليس هذا شأن المسلمين، الحق هو ضالة المؤمن؛ أين وجده أخذه، الهدف الحق ‏{‏ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ من بقائكم على النزاع ‏{‏ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ يعني‏:‏ أحسن عاقبة‏.‏ وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى لنا؛ أنه أبقى فينا ما يحل النزاع ويدل على الحق، وهو كتابه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ وهو القرآن ‏{‏ جَمِيعًا ‏}‏ ليس بعضكم فقط، بل جميعًا، أي جميع الخلق عمومًا، وهذه الأمة خصوصًا ‏{‏ وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ‏}‏، ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ ‏{‏ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ‏}‏ دين الجاهلية ‏{‏ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ أنقذكم بالإسلام، وبهذا القرآن، فاشكروا نعمة الله عز وجل‏.‏ والاعتصام بحبل الله هو الاعتصام بالكتاب؛ لأن الكتاب هو حبل الله الممدود الذي من تمسك به نجا، ومن أفلت منه هلك‏.‏

هذا ما قصّه الله علينا من حالة أهل الجاهلية‏:‏ أنهم ‏{‏ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏، ثم نهانا عن ذلك، نهانا أن نتشبه بهم، ثم أمرنا بالاعتصام بكتابه الذي هو أمان من الاختلاف وأمان من النزاع والهلاك، فلا نجاة إلا بالاعتصام بكتاب الله جل وعلا، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، فأهل الجاهلية متفرقون في دينهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ مسرورون بمذهبهم، وإن كان باطلاً‏.‏ وكذلك كانوا متفرقين في دنياهم؛ لأن من ضيع الدين ضيع الدنيا، فكانوا في دنياهم متفرقين لا يجمعهم جماعة؛ بل كل قبيلة تحكم نفسها بنفسها، وكل قبيلة تستبيح دماء القبيلة الأخرى وأموالها‏.‏

هذه حالة العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، لما ضيعوا دينهم ضيعوا دنياهم، وصار الخوف والقلق والجوع ملازمًا لهم دائمًا، وكانت الجاهلية كلها حروبًا، وكلها غارات وثارات، حتى الإخوة يتقاتلون في الجاهلية، فالأوس والخزرج في المدينة هم إخوة من ناحية النسب، قبيلة واحدة قحطانية، لكن قامت بينهم حرب طاحنة استمرت أكثر من مئة سنة، يسمونها ‏"‏حرب بعاث‏"‏ بين الأوس والخزرج، وكان اليهود يوقدونها، فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، جمعهم الله به، وطفئت الحروب، وتآخى المسلمون، وصاروا يدًا واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكَّرهم الله به ‏{‏ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وانطفأت الحروب التي بينهم،وصلحت دنياهم، كذلك بقية قبائل العرب لما دخلوا في الإسلام، صلحت دنياهم لما صلح دينهم، وأمِنوا على دمائهم وأموالهم، وصاروا يسيرون في الأرض آمنين، وصار العربي يلقى العربي الآخر من أي قبيلة فلا يعرض له بسوء؛ بل سادت المحبة بينهم، تآخوا في دين الله عز وجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏ هذه براءة من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، أي‏:‏ أحزابًا لأن المطلوب أن يكون الدين واحدًا، وأن يكون الناس جماعة واحدة على الدين، هذا هو الذي أمر الله به سبحانه وتعالى، فمن كان كذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يواليه، وهو وليه، أما من فَرَّقَ دينه وبقي على النزاع، وبقي على أمر الجاهلية، فالرسول بريء منه‏.‏

يبقى أن نعرف حقيقة الاختلاف، أو الخلاف، في المسائل الفقهية‏.‏ فالخلاف واقع وموجود الآن في أمور الفقه، فهل هذا من الاختلاف المذموم ‏؟‏

نقول‏:‏ الاختلاف على قسمين‏:‏

القسم الأول‏:‏ الاختلاف في الدين، كالاختلاف في العبادة والعقيدة، وهذا اختلاف مذموم ومحرم؛ لأن الدين ليس مجالاً للاجتهاد، وليس مجالاً للآراء، بل الدين توقيفي، والعقيدة توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، علينا أن نتمسك بما شرعه الله لنا من الدين ومن العقيدة، دون أنت نتدخل بآرائنا واجتهاداتنا‏.‏ كذلك العبادة توقيفية؛ ما جاءنا به دليل عملنا به، وما ليس عليه دليل فإنه بدعة يجب علينا تركه؛ لحديث‏:‏ ‏"‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏"‏ ‏[‏تقدم ص25‏]‏ ، وحديث‏:‏ ‏"‏وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار‏"‏ ‏[‏أخرجه النسائي ‏(‏3/209-210 رقم 1577‏)‏ واللفظ له وأبو داود ‏(‏5/12-13 رقم 4607‏)‏ وابن ماجه ‏(‏1/30-31 رقم 42‏)‏ والترمذي ‏(‏5/2 رقم 2681‏)‏ بنحوه وأخرجه الإمام مسلم قطعة منه: وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ‏ ‏ ‏(‏رقم 867‏)‏‏.‏‏]‏‏، فأمور العقيدة وأمور العبادة وأمور الدين عمومًا لا مجال للخلاف فيها أبدًا، وإنما تتبع فيها النصوص من الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف هذه الأمة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الاختلاف فيما للرأي فيه مجال، أو ما هو مسرح للاجتهاد من مسائل الفقه، واستنباط الأحكام من الأدلة، هذا يقع فيه الاختلاف؛ لأن مدارك الناس تختلف في الاستنباط من النصوص، ومسائل الإجماع محصورة، ولا يجوز مخالفتها‏.‏ لكن ما ليس عليه إجماع من المسائل الاجتهادية التي هي مجال للاجتهاد فالله جل وعلا أعطى كل عالم بحسب ما خصه به من المدارك والفهم، وما يصل إليه من النصوص، والاجتهاد مشروع في ذلك، وقد حصل الاجتهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، فهذا اختلاف في الاجتهاد، وليس اختلافًا في العقيدة ولا في الدين، وإنما هو اختلاف في مسائل الفقه، وكان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجتهدون ويختلفون‏.‏ وهذا الاجتهاد على قسمين‏:‏

قسم ظهر الدليل مع أحد الطرفين المختلفين فيه فيجب أخذ ما عليه الدليل، وترك ما لم يقم عليه الدليل، فتعرض آراء الفقهاء على الدليل، فما دل عليه الدليل وجب الأخذ به وترك ما خالفه، ويجب على المجتهد الذي لم يوفق للصواب وخالف الدليل أن يقبل الحق ويرجع إلى الصواب، ولا يجوز له الاستمرار في الاجتهاد الخاطئ، ولا يجوز لنا أن نتبعه على الاجتهاد الخاطئ، والأئمة يوصوننا بهذا ويقولون‏:‏ اعرضوا أقوالنا على الكتاب والسنة، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول‏:‏ ‏"‏ إذا جاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن التابعين فنحن رجال وهم رجال ‏"‏‏.‏ هذا كلام الإمام أبي حنيفة، أقدم الأئمة الأربعة‏.‏

والإمام مالك رحمه الله يقول‏:‏ ‏"‏ كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ‏"‏‏.‏ يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول رحمه الله‏:‏ ‏"‏ أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد لجدل هؤلاء ‏؟‏‏!‏‏"‏ هذا كلام الإمام مالك رحمه الله‏.‏

ويقول رحمه الله‏:‏ ‏"‏ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ‏"‏، ما هو الذي أصلح أولها‏؟‏ الكتاب والسنة‏.‏ هذا كلام الإمام مالك رحمه الله‏.‏

والإمام الشافعي رحمه الله يقول‏:‏ ‏"‏ أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن له أن يدعها لقول أحد ‏"‏، ويقول رحمه الله‏:‏ ‏"‏ إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقولي عرض الحائط ‏"‏، ويقول رحمه الله‏:‏ ‏"‏ إذا صح الحديث فهو مذهبي ‏"‏‏.‏ هذه كلمات الشافعي رحمه الله (3).‏

والإمام أحمد رحمه الله يقول‏:‏ ‏"‏ عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان ‏!‏ والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏ أتدري ما الفتنة‏؟‏ الفتنة الشرك، لعله إذا رَدَّ بعض قوله - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ‏"‏‏.‏

إذًا، هذه أقوال الأئمة المجتهدين، اجتهدوا عن علم وعن أهلية للاجتهاد، لكن لم يّدَّعوا لأنفسهم العصمة، بل أوصوا أن يؤخذ من أقوالهم ما وافق الدليل، فيجب على الحنبلي إذا رأى الدليل مع الشافعي أن يأخذ بقول الشافعي، وواجب على الشافعي إذا رأى الدليل مع الحنفي أن يأخذ بقول الحنفي، وواجب على المالكي إذا رأى الدليل مع الحنبلي أن يأخذ بقول الحنبلي؛ لأن الغرض هو اتباع الدليل، ليس الغرض قول فلان ولا فلان، فلا يتعصبون لأئمتهم، وإنما يتعصبون للدليل فقط‏.‏ وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب كلهم يأمرون بهذا ويقولون‏:‏ انظروا في أقوال العلماء، فخذوا ما قام عليه الدليل‏.‏ وكلامهم في هذا معلوم من كتبهم‏.‏

هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، لا تعصب، لكن ليس معنى هذا أن نرفض المذاهب ونتركها؛ بل نستفيد من المذاهب ومن فقه الأئمة؛ لأنه ثروة عظيمة، لكن نتابع الدليل، من كان معه دليل أخذنا بقوله، هذا الواجب‏.‏

ومن لا يعرف الدليل يسأل أهل العلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 43‏]‏؛ لأنك تريد براءة الذمة، فإذا كنت تعرف، فالحمد لله، خذ بالدليل، وإذا كنت لا تعرف تسأل أهل العلم، هذا هو الواجب‏.‏

القسم الثاني من هذا الاجتهاد الفقهي ما لم يظهر فيه دليل مع أحد القولين؛ بل كلا القولين محتمل، فهذا لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ما دام لم يترجح شيء منها بالدليل، فلا إنكار على من أخذ بقول من الأقوال؛ شريطة ألا يكون عنده تعصب أو هوى، وإنما قصده الحق؛ لذلك لا ينكر الحنبلي على الشافعي، ولا ينكر الشافعي على المالكي، والأئمة الأربعة وأتباعهم إخوة على مدار الزمان، ولله الحمد، ما وقع بينهم عداوات، ولا وقع بينهم حزازات، وإن وقع شيء من ذلك فإنما هو من بعض المتعصبة، الذين لا عبرة بهم، لكن جمهور أصحاب المذاهب الأربعة - والحمد لله - ليس بينهم عداء ولا تفرق ولا حزازات، يتزاوجون، ويصلي بعضهم خلف بعض، ويسلم بعضهم على بعض، ويتآخون، مع أن عندهم اختلافًا في بعض المسائل الاجتهادية المحتملة، التي لم يظهر رجحان بعضها على بعض، ومن هنا قالوا الكلمة المشهورة‏:‏ ‏"‏ لا إنكار في مسائل الاجتهاد ‏"‏‏.‏

فإذا كان أهل بلد على قول من هذه الأقوال الاجتهادية التي لم يظهر ما يخالفها ولا ما يعارضها، مجتمعين على رأي من هذه الآراء الفقهية، فلا يسوغ لأحد أن يفرق هذا الاجتماع، بل ينبغي الوفاق وعدم الاختلاف‏.‏
يتبع أن شاء الله

قاسم علي
11-26-2005, 01:50 PM
المسألة الثالثة‏:‏ اعتبارهم مخالفة ولي الأمر فضيلة وطاعته والانقياد له ذلة ومهانة

‏[‏إنَّ مُخالفة وليّ الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسّمع والطّاعة له ذُلٌّ ومهانةٌ، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالسَّمع والطّاعة لهم والنَّصيحة، وغلَّظَ في ذلك وأبدى وأعاد‏.‏

وهذه المسائل الثّلاث هي التي جمع بينها فيما صحّ عنه في الصّحيح أنَّه قال‏:‏ ‏"‏ إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا‏:‏ أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم ‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 1715‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏ ولم يقع خلل في دين النّاس ودنياهم إلا بسبب الإخلال في هذه الثّلاث أو بعضها‏.‏‏]‏ __________________________________________________ __
الشـرح

من مسائل الجاهلية‏:‏ أنهم لا يخضعون لولي الأمر، ويرون أن هذا ذلة، ومعصية الأمير يعتبرونها فضيلة وحرية؛ ولذلك لا يجمعهم إمام، ولا يجمعهم أمير؛ لأنهم لا يخضعون، وعندهم أنفة وكبر‏.‏

فجاء الإسلام بمخالفتهم وأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر المسلم؛ لما في ذلك من المصالح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ فأمر بطاعة ولاة الأمور، والرسول صلى الله عليه وسلم حدد ذلك في غير المعصية، فقال‏:‏ ‏"‏لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏"‏ ‏[‏أخرجه أحمد في المسند ‏(‏1/131‏)‏ وصححه الألباني في صحيح الجامع ‏(‏رقم 7520‏)‏‏.‏‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"‏إنما الطاعة بالمعروف‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري بلفظ‏:‏ ‏ ‏ لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف ‏ ‏ ‏(‏رقم 7257‏)‏، ومسلم ‏(‏رقم 1840/39‏)‏‏.‏‏]‏ ، فتجب طاعة ولي الأمر في غير معصية الله، إذا أمر بمعصية فلا يطاع، لكن لا يخالف في بقية الأمور، لا يطاع في هذه المسألة خاصة التي فيها معصية، أما بقية الأمور فلا تنتقض بيعته بسبب ذلك، ولا يخالف، ما دام أنه على الإسلام؛ لما في طاعة ولاة الأمور من اجتماع الكلمة، وحقن الدماء، واستتباب الأمن، وإنصاف المظلوم من الظالم، ورد الحقوق إلى أصحابها، والحكم بين الناس بالعدل، حتى ولو كان ولي الأمر غير مستقيم في دينه، حتى ولو كان فاسقًا، ما لم يصل إلى الكفر، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ اسمعوا وأطيعوا، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم عليه من الله برهان ‏"‏ ‏[‏أخرجه البخاري ‏(‏رقم 7056‏)‏، ومسلم ‏(‏رقم 1709/42‏)‏‏.‏‏]‏ ، فما دامت معاصيه دون الكفر، فإنه يُسمع له ويطاع، وفسقه على نفسه، لكن ولايته وطاعته لمصلحة المسلمين‏.‏

ولهذا لما قيل لبعض الأئمة‏:‏ إن فلانًا فاسق لكنه قوي، وإن فلانًا صالح لكنه ضعيف، أيهما يصلح للولاية‏؟‏ قال‏:‏ الفاسق القوي؛ لأن فسقه على نفسه، وقوته للمسلمين‏.‏ أما هذا الصالح فإن صلاحه لنفسه وضعفه يضر المسلمين‏.‏

فيُسمع له ويطاع وإن كان فاسقًا في نفسه، بل وإن جار وإن ظلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 1847‏)‏‏.‏‏]‏ ؛ لأن في طاعته مصلحة أرجح من المفسدة التي هو عليها، ولأن مفسدة الخروج عليه أعظم من مفسدة البقاء على طاعته وهو عاص؛ لأن في الخروج عليه سفكًا للدماء وإخلالاً بالأمن وتفريقًا للكلمة‏.‏

وماذا حصل للذين خرجوا على الأمراء وولاة الأمور مما قصّه التاريخ‏؟‏ ماذا حصل لما قام نازغة من الشذاذ في عهد عثمان رضي الله عنه وشقوا عصا الطاعة وقتلوا أمير المؤمنين عثمان ‏؟‏ ماذا حصل على المؤمنين من النكسات إلى الآن؛ بسبب الخروج على أمير المؤمنين وقتله‏؟‏ فلا يزال المسلمون يعانون من النكسات المتوالية والمفاسد، وكذلك في حق بقية الولاة الصبر على طاعته وإن كان فيه مفسدة جزئية أخف من مفسدة الخروج عليه؛ فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم طاعته ما لم يخرج عن الإسلام، ولو كان فاسقًا، ولو كان ظالمًا، فإنه يصبر على هذه المفاسد الجزئية؛ درءًا للمفسدة العظيمة، وارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما، هذا شيء معروف‏.‏ وما من قوم خرجوا على إمامهم إلا كانت المفسدة في الخروج عليه أعظم من المفسدة في الصبر على طاعته‏.‏

وهذا فرق ما بين أهل الجاهلية، وأهل الإسلام في مسألة ولاة الأمور، أهل الجاهلية لا يرون الطاعة لولاة الأمور، ويرون ذلك ذلة‏.‏ وأما الإسلام فإنه أمر بطاعة ولاة الأمور المسلمين، وإن كان عندهم شيء من الفسق في أنفسهم، أو عندهم ظلم للناس، يصبر عليهم؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين، وفي الخروج عليهم مضار للمسلمين أعظم من المفاسد التي في البقاء على طاعتهم مع انحرافهم الذي لا يخرجهم عن الإسلام، هذه القاعدة العظيمة التي جاء بها الإسلام في هذا الأمر العظيم‏.‏ وأما أهل الجاهلية - كما سبق - لا يرون انعقاد ولاية، ولا يرون سمعًا ولا طاعة، ومثلهم الأمم الكافرة الآن، الذين يقولون بالحريات والديمقراطيات، ماذا تكون مجتمعاتهم الآن‏؟‏ همجية، بهيمية، قتل وسلب وفساد أعراض، وشرّ واضطراب أمن، وهم دول كبرى، وعندهم أسلحة، وعندهم مدمرات، لكن حالتهم حالة بهيمية - والعياذ بالله - لأنهم باقون على ما كانت عليه الجاهلية‏.‏

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لهم، وأمر بالنصيحة لهم سرًا، بينهم وبين الناصح‏.‏ وأما الكلام فيهم وسبهم واغتيابهم؛ فهذا من الغش لهم؛ لأنه يؤلّب الناس عليهم ويفرح أهل الشر، وهذا من الخيانة لولاة الأمور‏.‏ أما الدعاء لهم وعدم ذكر معايبهم في المجالس، فهو من النصيحة لهم، ومن كان يريد أن ينصح الإمام فإنه يوصل النصيحة إليه في نفسه، إما مشافهة، وإما كتابة، وإما بأن يوصى له من يتصل به ويبلغه عن هذا الشيء؛ وإذا لم يتمكن فهو معذور‏.‏

أما أنه يجلس في المجالس أو على المنابر أو أمام أشرطة ويسب ولاة الأمور ويعيبهم، فهذا ليس من النصيحة، وإنما هو من الخيانة لولاة الأمور، والنصيحة لهم تشمل الدعاء لهم بالصلاح، وتشمل ستر عيوبهم وعدم إفشائها على الناس، وكذلك من النصيحة لهم‏:‏ القيام بالأعمال التي يكلونها إلى الموظفين، ويعهدون بها إلى الولاة في القيام بها، هذا من النصيحة لولاة الأمور‏.‏

ثم قال الشيخ رحمه الله‏:‏

وهذه الثلاث هي التي جمع بينها فيما صح عنه في أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله يرضى لكم ثلاثًا‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 1715‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏ ولم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الصفات أو ببعضها‏.‏

يقول الشيخ رحمه الله‏:‏ وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسائل الثلاث، يعني‏:‏ التي تقدّم ذكرها، وهي‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ أنّ أهل الجاهلية كانوا يعبدون الأولياء والصالحين، ويقولون‏:‏ ‏{‏ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والمسألة الثانية‏:‏ أن أهل الجاهلية كانوا متفرقين في دينهم ودنياهم‏.‏

والمسألة الثالثة‏:‏ أنهم لا يخضعون لولي الأمر، ويرون ذلك ذلة ومهانة‏.‏ هذه المسائل الثلاث جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب في كلمة واحدة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏إن الله يرضى لكم ثلاثًا‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم‏"‏ ‏[‏أخرجه مسلم ‏(‏رقم 1715‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

الأولى‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، ويدخل في الشرك عبادة الأولياء والصالحين‏.‏

الثانية‏:‏ أن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، عكس ما كان عليه أهل الجاهلية من انهم كانوا متفرقين في دينهم ودنياهم، وحبل الله هو القرآن، والاعتصام به هو أن تتمسكوا به، فتعملوا بما أمركم به، وتجتنبوا ما نهاكم عنه؛ لأن القرآن هو المنهج الرباني الكفيل بمصالح العباد في دينهم ودنياهم، فالتمسك به رحمة، وعدم التمسك به عذاب وشقاء‏.‏

الثالثة‏:‏ أن تناصحوا من ولاّه الله أمركم، وهذا بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية الذين لا ينقادون لولي الأمر، وهذا فيه الأمر بالانقياد لولي الأمر، ومناصحته وطاعته، وعدم الخروج عليه، وعدم الكلام فيه أمام الناس وذكر عيوبه ونشر عيوبه بين الناس، لأن هذا من الخيانة لولي الأمر، ليس هذا من النصيحة، وإن كان بعض الناس يزعم أن هذه نصيحة، فهذه ليست نصيحة، وإنما هذا تشهير وشر، وإلقاء للعداوة بين الوالي والرعية، وليس فيه مصلحة أبدًا، بل هو مضرة محضة‏.‏

ثم بيّن - رحمه الله - أن الخلل الذي يقع في دين الناس ودنياهم، إنما سببه الإخلال بهذه الثلاث أو الإخلال ببعضها، وهو الشرك بالله، والتفرق، والخروج على ولي الأمر‏.‏
يتبع أن شاء الله

12d8c7a34f47c2e9d3==