المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متى وقع النفاق في الإسلام‏


كيف حالك ؟

قاسم علي
11-09-2005, 05:55 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متى وقع النفاق في الإسلام‏

يقول العلماء‏:‏ إن النفاق العقدي لم يقع في مكة؛ لأن المسلمين كانوا مستضعفين في مكة، فلا يُسلم في مكة إلا صادق الإيمان؛ لأنه بإسلامه معرض للفتن والاضطهاد‏.‏ فليس ثَمَّ حاجة لأن ينافق‏.‏ وكذلك في أول الهجرة ما حصل نفاق، لكن لما جاءت واقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وانتصر المسلمون فيها، وقويت شوكتهم، رأى الكفار الذي يعيشون في المدينة أن استمرارهم على كفرهم يعرضهم للخطر، فلم يسعهم إلا أن يقبلوا الإسلام ظاهرا لأجل أن يعيشوا مع الناس، وتحقن دماؤهم، وما آمنوا بقلوبهم، ولكن أظهروا الإيمان حيلة وحفظا لمصالحهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏ الخداع، والمخادعة‏:‏ أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن‏.‏ وقصد المنافقين من مسلكهم هذا المخادعة، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، والله جل وعلا لا يُخدع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ ويخادعون الذين آمنوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ عملهم هذا إنما ضرره على أنفسهم؛ لأن الواجب على الإنسان أن ينصح لنفسه، وأن ينقذها من عذاب الله‏.‏ لكن المنافقين خدعوا أنفسهم؛ حيث عرضوها لغضب الله سبحانه وتعالى‏.‏

قوله؛ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ وما يدرون أن عملهم هذا سينتكس عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ هذا هو سبب النفاق‏:‏ المرض الذي في قلوبهم‏.‏ والقلب يمرض، ومرضه أشد من مرض الجسم، وذكر العلماء أن مرض القلب نوعان‏:‏ مرض شهوة، ومرض شبهة‏.‏

1- مرض الشبهة‏:‏ يكون بالشكوك والكفر والنفاق وسوء الظن بالله عز وجل، وسوء الظن بالمسلمين‏.‏

2- مرض الشهوة‏:‏ أن يحب الشهوات المحرمة، مثل‏:‏ الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والغيبة، والنميمة، ونحو ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ أي‏:‏ مرض الشهوة‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

ومرض الشبهة أشد من مرض الشهوة؛ لأن مرض الشبهة لا يتوب صاحبه في الغالب، بخلاف مرض الشهوة فقد يتوب صاحبه، ويصلح عمله‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏‏:‏ أي مرض الشبهة، ومرض الشهوة، كلا المرضين فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً‏}‏‏:‏ عقوبة لهم؛ حيث إنهم كفروا بآيات الله سبحانه وتعالى‏.‏ وقلوبهم فيها المرض من قبل، فلما كفرت بآيات الله زاد مرضها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124 - 125‏]‏؛ لأنهم أصبحوا يستهزؤون بها، ويسخرون منها، ولا يؤمنون بها فزاد مرضهم - والعياذ بالله - على مرض سابق، فتضاعف عليهم المرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏:‏ هذه عقوبة ثانية، عذاب في الآخرة وعذاب في الدنيا‏.‏ و‏{‏أَلِيمٌ‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ مؤلم موجع، وبين سبب هذا العذاب بقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏‏:‏ في إيمانهم‏.‏ كيف يكذبون‏؟‏ لأنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر‏.‏ وهذا كذب، بل هذا أعظم الكذب‏.‏ وفي قراءة‏:‏ ‏"‏بما كانوا يُكَذَِّبون‏"‏ أي‏:‏ يكذبون بآيات الله سبحانه وتعالى‏.‏

ومن صفاتهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ إذا نُهوا عن النفاق؛ لأن النفاق والكفر والمعاصي إفساد في الأرض؛ لأنها تسبب النكبات والعقوبات، تسبب حبس الأمطار وغور المياه، ويبس الأشجار وانقطاع الثمار، تسبب اختلال الأمن وانقطاع السبل؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏، فالكفر والمعاصي والنفاق إفساد في الأرض، والطاعة والإيمان والعمل الصالح إصلاح في الأرض‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ أصلحها الله بالوحي والنبوة والإيمان، فالذي يعصي الله ويكفر به مفسد في الأرض‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏‏:‏ اتركوا ما يكون سبب لفسادها وهو النفاق، وآمنوا بالله ظاهرا وباطنا كما آمن الناس، أي الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏‏:‏ وهذا من انتكاس الفطر، يعدون النفاق والكفر إصلاحاً في الأرض ‏!‏ ‏!‏

فيقولون‏:‏ إنما نحن بعملنا هذا الذي هو النفاق والكفر مصلحون، من أجل أن نعيش في هذه الدنيا، ويندفع عنا القتل‏.‏ وهذا بزعمهم إصلاح ‏!‏ ‏!‏

فقال الله تعالى رداً عليهم‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ‏}‏ عكس الله عليهم دعواهم، وحصر الإفساد فيهم، فهم وحدهم المفسدون بنفاقهم وكفرهم ‏{‏وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ لا يدرون أن هذا إفساد، بل يعتقدونه إصلاحاً‏.‏

واليوم أصحاب الشهوات وأصحاب المطامع الخبيثة، يريدون أن يحولوا المسلمين إلى المذاهب الباطلة، وإلى تعطيل الشريعة، وإلى الجرائم وفساد الأخلاق، ويقولون‏:‏ هذا إصلاح ‏!‏ ويسمون الإيمان والتمسك بالدين جفاء وتحجرا، ورجعية وتأخرا ‏!‏ إلى آخر ما يقولون‏.‏ ما أشبه الليلة بالبارحة ‏!‏ يريدون أن يحولوا الحكم بما أنزل الله إلى الحكم بالقانون، ويقولون‏:‏ هذا إصلاح ‏!‏ يريدون أن يخلعوا الحجاب عن النساء ويتركوهن سافرات في الشوارع، ويتولين أعمال الرجال، ويسافرن إلى أي محل، ويقولون‏:‏ هذا إصلاح ‏!‏ هذا رقي وتقدم ‏!‏ هذا تحضر ‏!‏ وهذا عمل الأمم الراقية ‏!‏ أما أن تعارضوا هذا الأمر فهذا هو الإفساد بزعمهم ‏!‏‏!‏ هذا هو نفس الذي ذكره الله عن المنافقين في هذه السورة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وهؤلاء الذين يقولون هذه المقالات الآن هم منافقون؛ لأنهم يظهرون الإيمان ويخفون في قلوبهم محاربة الله‏.‏ نسأل الله العافية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 13‏]‏ آمنوا بالله ورسوله كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، سماهم الله الناس؛ لأنهم هم الناس في الحقيقة‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء‏}‏‏:‏ يسمون الصحابة‏:‏ السفهاء ‏!‏ لماذا‏؟‏ لأنهم آمنوا والتزموا بدين الله‏:‏ يصلون ويصومون، ويحجبون نساءهم، ويتجنبون الحرام والربا والغش في المعاملات، ويتجنبون الاحتيال والمكر والخديعة‏.‏ والمنافقون يقولون‏:‏ هؤلاء سفهاء ‏!‏‏!‏

والسفهاء جمع سفيه، والسفيه هو‏:‏ ناقص العقل، خفيف العقل، أصله من السفاهة وهي خفة العقل، فهم يصفون الصحابة بخفة العقل؛ لأنهم ليس عندهم مكر وخديعة، ونفاق وتملق، واحتيال على أوامر الله تعالى ونواهيه‏.‏ فهؤلاء السفهاء عندهم ‏!‏‏!‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء‏}‏‏:‏ حصر السفاهة فيهم هم؛ لأنهم الذين ضروا أنفسهم، والسفيه هو الذي يضر نفسه، فهؤلاء هم ضروا أنفسهم بالنفاق والخديعة والمكر‏.‏ فأي الفريقين سفيه‏؟‏ الذين آمنوا بالله ورسوله وصلحوا وأصلحوا، أم الذين نافقوا ولم يؤمنوا‏؟‏ لا شك أن الذي لم يؤمن هو السفيه‏.‏ فالمنافقون هم السفهاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ لأن الله تعالى طمس على قلوبهم فلا يميزون بين الحق والباطل، والسفاهة والرشد، يعتقدون الرشد سفاهة، والسفاهة رشدا؛ لأن عقولهم مرضت، وقلوبهم فسدت فلا تميز بين الحق والباطل‏.‏ هذه هي بعض صفاتهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ثم ذكر تعالى من صفات المنافقين‏:‏ استعمال الوجهين‏:‏ فيأتون المؤمنين بوجه، ويأتون الكفار بوجه، ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا‏}‏ أي أظهروا الإيمان‏:‏ صلوا وصاموا، وعملوا الأعمال التي أمر بها الإسلام، يفعلون هذا في الظاهر من أجل خديعة المؤمنين، ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏‏:‏ خلوا إلى مردة الكفار، والشيطان يوصف به الجن، ويوصف به الإنس، وشياطين الإنس أشد ضررا، فالمراد بشياطينهم‏:‏ مردة الكفار من المشركين، واليهود، والنصارى، إذا خلوا إليهم ولم يكن معهم أحد من أهل الإيمان، صرحوا بالحقيقة ‏{‏قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما فارقناكم، إنا على عقيدتكم، لكن خدعنا هؤلاء، وأظهرنا لهم الإيمان استهزاء، ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ‏}‏ مستهزؤون بإظهار إيماننا أمامهم، نسخر بهم، ونستهزئ بهم، ونخدعهم، وهم يصدقوننا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ أي‏:‏ يستدرجهم ويمهلهم ويعطيهم شيئا من الخير خديعة لهم، ثم يحل بهم العقوبة الرادعة هذا هو الاستهزاء بهم‏.‏

والاستهزاء من الصفات التي لا تطلق على الله إلا في مقام المقابلة، فالله لا يوصف بالاستهزاء، لكن يوصف بأنه سبحانه حكم عدل، يوصل الجزاء إلى من يستحقه على وجه لا يشعر به، ومن ذلك أن المنافقين يعطون شيئا مما أرادوا في الدنيا، من حقن دمائهم، وحماية أموالهم‏.‏ لكن لهم العاقبة الوخيمة‏.‏

كذلك في الآخرة يعطون شيئا من النور في بداية الأمر، ثم يسلب منهم فيصبحون في ظلمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏، ينطفئ نورهم‏.‏ والعياذ بالله‏.‏ ولهذا يقول المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏، إذا انطفأ نور المنافقين خاف المؤمنون فدعوا ربهم بإتمام نورهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏‏:‏ يستدرجهم ويزيدهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، ولا يفضح أمرهم، وذلك من أجل أن يستمرئوا النفاق‏.‏ ويستسيغوه‏.‏ والطغيان هو‏:‏ الخروج عن الحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ لا يهتدون أبدا، والعمه هو‏:‏ الضلال الشديد‏.‏ والعياذ بالله‏.‏ ثم ذكر لهؤلاء المنافقين مثلين؛ لتوضيح حالهم للسامع‏:‏

المثل الأول ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏، شبههم بمن كان في صحراء مظلمة، فاستوقدوا نارا يعني‏:‏ أوقدوا النار، أو طلبوا من المؤمنين نارا ليوقدوها، فأوقدوها وانتفعوا بها في أول الأمر، ‏{‏فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ ورأى ما حوله وتبصر، انطفأت النار فجأة ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ وهذا من استهزاء الله سبحانه وتعالى بهم‏.‏

المثل الثاني‏:‏ مثل إنسان أصابه صيِّب، أي‏:‏ مطر فيه ظلمات‏:‏ ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، فهو واقع في ظلمات‏.‏ هذا مثل المنافقين، هم في ظلمات‏:‏ ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الشك، وظلمات كثيرة‏.‏ وهذا هو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء‏}‏‏:‏ يعني بالسماء‏:‏ السحاب‏.‏ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏، فيه رعود شديدة، وفيه برق شديد، فهم وقعوا في رعب شديد‏:‏ ظلمات لا يبصرون معها، ورعد شديد قاصف يخشون أن يصعقهم، والعياذ بالله، وبرق شديد خاطف يخطف أبصارهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏، إذا أضاء الأرض مشوا فيه ينظرون الطريق‏.‏ ‏{‏وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ وقفوا؛ لأنهم لا يبصرون‏.‏

هذا مثل المنافق‏:‏ إن جاءه من الإسلام خير عاجل تمسك به، وإن أصابته فتنة، أو أصابه ضر أو محنة، فإنه يتوقف ويشك في الإسلام‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ‏}‏‏:‏ إذا حصل لهم محن وشدائد وامتحان من الله عز وجل، فإنهم يشكُّون في هذا الإسلام، ويقولون‏:‏ هذا ما جاءنا بخير‏.‏ فمثلهم كمثل الذي أصابه الصيب في الليل، وحصل عنده هذه الإفزاعات، إذا أضاء له البرق مشى، وإذا انقطع البرق وقف؛ لأنه لا يدري أين يذهب، وهؤلاء مثله، إذا جاءهم من الإسلام خير استمروا فيه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ فمدعي الإيمان لا بد أن يمتحن في هذه الدنيا؛ ليظهر صدق إيمانه من كذبه، فالذي إيمانه غير صحيح، ينقلب على عقبيه ويكفر، كالمنافق‏.‏ وأما الصادق الإيمان فهذا ثابت‏:‏ إن أصابه خير شكر، وإن أصابه ضر صبر، هذا هو المؤمن‏.‏ أما المنافق فهو بالعكس‏:‏ إن أصابه خير أظهر الاطمئنان، وإن أصابته فتنة، كفر بالله - والعياذ بالله - وظهر ما عنده من المكنون، ظهر النفاق الذي في قلبه‏.‏

والله سبحانه أنزل في المنافقين كثيرا من الآيات، أنزل فيهم سورة التوبة التي تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحتهم، وسورة ‏"‏إذا جاءك المنافقون‏"‏ إضافة إلى ما جاء عنهم في سورة النساء، وآل عمران، والعنكبوت، وغيرها، وكثير من آيات القرآن فيها بيان حال المنافقين، وذلك لخطرهم على المسلمين، ولأجل أن يحذرهم المسلمون‏.‏ وما أكثرهم - لا كثَّرهم الله - الآن، يعيشون بيننا، ويبثون سمومهم وشرهم، وهم أناس من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وهم يتسمون بالإسلام وبالإيمان‏.‏ نسأل الله العافية‏.‏
كتاب {دروس من القرآن }
سماحة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله

قاسم علي
11-26-2005, 02:13 PM
الرررررررررررفع

12d8c7a34f47c2e9d3==