الصواعق السلفية
11-06-2003, 12:19 AM
منهج الإمام مسلم
في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله
تأليف
الشيخ ربيع بن هـادي المدخلي
عضو هيئة التدريس ورئيس شعبة السنة
بالدراسات العليــا بالجامعة الإسلاميــة
بالمدينة المنورة سابقاً
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1408هـ - 1988م
بين يدي الكتاب هذا البحث يدفع الدعاوي الأتية لحمزة عبدالله المليباري
أولاً : ادعاؤه أن ترتيب الإمام مسلم - رحمه الله - لطرق الحديث في كتابه الصحيح قائم على منهج علمي، إذ إنه أودع في ترتيبها دقائق علمية لا يطلع عليها إلا الحفاظ، الذين إذا سمعوا الحديث استحضروا في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها. وذلك تطبيقاً ( كذا ) لما وعد في مقدمته .
وهذا يفيد أن ترتيبه للأحاديث قائم على منهج علمي، وهو مراعاته ذلك الترتيب في إيراد الأحاديث في كتابه الصحيح، فإذا أورد طريق حديث من طرقه في أول الباب، فمعناه أنه أسلم من العيوب وأنقى عنده، ويجمع تارة طرقه في أول الباب لكونها على مستوى واحد في السلامة من العيوب ( كذا ) .
ثم إذا أتبعها بطرق أخرى لذلك الحديث، وقد تكون هي طرقاً مستقلة عن الصحابي الذي قدم حديثه من طرق أخر غير هذه، فمعناه أنها ليست في مستوى تلك، لكون راويها من أهل القسم الثاني أو لسبب آخر .
ثانياً : إن وسيلة بيان العلل هي هذا الترتيب العلمي الدقيق على هذا، فإذا قدم ماهو مستحق أن يؤخره وإذا أخر ماهو مستحق أن يقدمه فمعناه أنه أدرك فيه شيئاً جعله يتصرف كذلك ( ص 2 ) .
ويؤكد ذلك بقوله : " وبيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلل بأن يقول في أثناء الكلام، واختلف على فلان أو خالفه مثلاً كماهو معروف في كتب العلل لابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهما، بل يكون البيان بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله : خالفه فلان أو اختلف على فلان مثلا، وإذا سمعه الحافظ يفهم بأنه اختلاف واضطراب، وإذا سمعه أمثالنا فيعدوه تعدد طرق، ومثل هذا البيان كثيراً ما نجده في التاريخ الكبير، إلا في موضعين( كذا )، وقال فيهما وخالفه " ( ص 3 ) .
ويؤكد ذلك بقوله، بعد أن طبق قاعدته على حديث ابن عمر " صلاة في مسجدي " من طرق في الدرجة الأولى :
" فلما وجدنا الإمام مسلماً هنا يؤخر ما كان يقدمه في أول الباب ففهم منه أنه أدرك علة فيه جعلته يؤخره في آخر الباب، أعني بعد طريقين من أهل القسم الثاني، وإنه لابد لنا من الرجوع إلى كتاب العلة لكي تتضح لنا الدقائق العلمية التي أودعها الإمام مسلم - رحمه الله - الناقد الكبير في ترتيب تلك الطرق " . وقد كرر هذا المعنى في بحثه في عدد من المواضع .
ثالثا : تناوله صحيح البخاري أيضاً، وأن فيه اختلافاً وعللاً، حيث يقول : " وبيان العلة من الاختلاف في الوصل والإرسال وغيرهما ثابت في صحيح البخاري أيضا فيما أظهره الحافظ ابن حجر عندما أجاب في هدي الساري عما انتقد الإمام الدارقطني وغيره في بعض أحاديث صحيح البخاري " ( ص 4 ) من بحثه .
رابعا : طعنه في طرق حديث ابن عمر " صلاة في مسجدي ..... " وهي في غاية الصحة والقوة .
خامسا : ادعاؤه اتفاق البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض على تعليل حديث ابن عمر وميمونة " صلاة في مسجدي " وتكراره لهذا الادعاء، مع تضعيفه لشواهد هذا الحديث الكثيرة، والتى ادعى فيها التواتر .
سادسا : مبالغاته وغلوه في هؤلاء بما يأباه ويرفضه الإسلام .
سابعـا : ادعاؤه عدم ذكر مسلم لابن عباس في إسناد حديث ميمونة، وأن ذكره تصحيف في صحيح مسلم .
ثامنـا : هضمه لبعض الرواة بذكر الجرح فيهم والإهمال أو التقصير في ذكر ما قاله الأئمة فيهم من تعديل .
إلى أشياء أخر ستراها في مناقشاتي له، وسوف ترى الرد عليه بأمثلة كثيرة من صحيح مسلم، وبأقوال الأئمة في صحيح مسلم، وتزييف ما قاله حول صحيح البخاري، ورد غلوه بنصوص وقواعد، وما كان عليه سلف هذه الأمة .
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد : فقد وصل إليّ بحث وهو جزء من رسالة في مرحلة الدكتوراه يحضرها أحد الطلاب بالدراسات العليا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة وهو حمزة المليباري وموضوعها تحقيق وتخريج القسم الثاني من " غاية المقصد في زوائد المسند " تناول في هذا البحث حديثي ابن عمر وابن عباس اللذين خرجهما الإمام مسلم رحمه الله في " صحيحه " ( 2/1013 - 1014 ) من طرق في غاية الصحة ومدارها على أربعة من كبار أصحاب نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنهما - ولفظ حديث ابن عمر : " صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " . وحديث ابن عباس بمعناه . وشرع في تضعيفهما وتوهينهما قائلاً عن طرقهما إنها " كلها منتقدة معللة " ويقول عن مسلم إنه لم يخرجها في الأصول ولا في المتابعـة وإنما أوردها في الصحيح للتنبيه على عللها(1) واستدل على رأيه هذا بقول الإمام مسلم - رحمه الله - في مقدمة صحيحه 1/59 :
" وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى " .
ثم أضاف وجهين من الأدلة في زعمه - يستدل بهما على أن الإمام مسلماً - رحمه الله - لم يورد هذين الحديثين من تلك الطرق الصحيحة لا في الأصول ولا في المتابعة فهي غير صالحة لذلك، وإنما أرودها للتنبيه على عللها .
ثم عقب تلك الأدلة - في زعمه - بقوله :
" ولما أن الإمام مسلماً - رحمه الله - أخرج هذا الحديث من وجوه صحيحة واتفق ( كذا ) عليها الإمام البخاري في صحيحه، ولم يقصد بإخراج هذه الطرق المعللة والمنتقدة المتابعة، لم يتجه إليه الطعن إن شاء الله " .
يقصد أن الإمام مسلماً أقام الدليل على أن طرق حديثي ابن عمر وابن عباس معللة منتقدة، ولا تصلح في الأصول ولا في المتابعة بهذا الترتيب، فحيث قدم حديث أبي هريرة من وجوه صحيحة وأخر حديثي ابن عمر وابن عباس فإن هذا الترتيب بالتقديم والتأخير برهان واضح على صحة ما قدم وضعف ما أخر ولو جاء المتأخر من وجوه أقوى من المتقدم. وهذا هو الذي وعد به الإمام مسلم من الشرح والإيضاح في نظر هذا الباحث .
وكنت قد ناقشت في رسالتي ( بين الإمامين ) كلام الدارقطني والإمام البخاري والنسائي وعياض - رحمهم الله - مناقشة علمية قائمة على الحجج القوية وانتهيت في مناقشتي إلى تصحيح الحديثين وسلامتهما من العلل فذكر الباحث مناقشتي هذه وأثنى على رسالتي ثم قال : " والأمر الوحيد الذي استدعى انتباهي هو مخالفة الشيخ لما اتفق الإمام البخاري والدارقطني والنسائي والقاضي عياض على إعلالهم حديث نافع ثم إن مسلماً لم يشر إلى تصحيحه ذلك الحديث - حديث نافع وحديث ابن عباس عن ميمونة - بأي وجه من الوجوه، وللقاريء أن يفهم من هذا الكلام ما يمكنه إدراكه .
فقد أعرضت عن مناقشته سابقا وسوف أناقشه فيما يأتي إن شاء الله " .
ثم مضى الرجل في مناقشتي ودراسة بعض الأسانيد دراسة غريبة بعيدة عن المنهج العلمي، وفي نهاية هذه المناقشة وصل إلى نتيجة وما أصعبها وأشد وقعها على النفس وهي قوله : " ثم فضيلة الشيخ ذكر شواهد للحديث لا يحتاج إليها، مع أن الشواهد كلها منتقدة وقد بينتها في تعليقي السابق، والله أعلم " .
فناقشته فيما طرحه في هذا البحث :
أولاً : فيما تعلق به من كلام مسلم وهو قوله : " وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً " .
حيث رأى أن هذين اللفظين الشرح والإيضاح إنما يتمثلان في ترتيبه للأحاديث؛ فحديث أبي هريرة ما قدمه إلا لأنه صحيح وما أخر حديثي ابن عمر وابن عباس إلا لأن طرقهما معللة منتقدة .
فأدركت ما في هذا الاتجاه من خطر، وأن مقتضاه أن ما ساقه مسلم في أول كل باب فهو صحيح، وأن ما أخره - ولو جاء من طرق - فهو معل بحيث لا يصلح في المتابعات، وما هذا الباب إلا مثال لتطبيق هذه القاعدة(2)، فناقشته في أمر لا يطاق فأي مسلم يعرف مكانة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهون عليه أن يرى من يَقعِّدُ من حيث يدري أو لا يدري لنسف ثاني أصح الكتب بعد كتاب الله، بحيث لا تستثنى هذه القاعدة إلا الأحاديث الأوائل، كمن يحاول قذف قنبلة مثل قنبلة " هيروشيما " على مدينة من أرقى المدن ويقول في هدوء ورفق : لا تخافوا من تدمير هذه القنبلة فإنها سوف تبقى في كل بيت وأسرة أوائلها وأقوى وأصح أفرادها، ثم يصر ويصر على قذفها.
واجهت هذا الاتجاه الخطير بصبر، وناقشته في هذه القاعدة التي يدعى جهلا على أحسن أحواله أنه استفادها من كلام مسلم، وبينت بطلانها من وجوه عديدة من تصريحات مسلم، ومن واقع صحيحه، ومن كلام أئمة هذا الشأن ومواقفهم، راجع ردي عليه من ص ( 4 - 9 ) وفيها ما يقنع طالب الحق .
فلما رآها حججاً دامغة لم يستطع الإجابة عليها، لم يرجع إلى الحق ولم يستسلم له فتحايدها في جوابه الجديد وأخذ يؤكد تلك القاعدة الباطلة بخلف الكلام ورديئه، وبكلام ينقله عن العلماء لا صلة له بهذه القنبلة المدمرة، وحاشاهم ثم حاشاهم، وبرأهم الله أن يقولوا أو يفكروا فيما يشير إلى مثلها فضلا أن يقولوا ما يؤيدها، ولو رأوها لكانت لهم مواقف صارمة من واضعها؛ ولأقاموا الدنيا وأقعدوها، وسيأتي ذكر مواقفهم من هذا الكتاب العظيم صحيح مسلم رحمه الله .
ثانياً : ناقشته في كلامه على أسانيد الحديثين وتعليلها :
رأيت منهجاً غريباً في أسلوبه فرأيته يحاول جاهداً من رفع شأن الأسانيد إذا كانت خارج صحيح مسلم، ويترك ما فيل فيها من خدش، ويذكر ما قيل من خدش في بعض رجال مسلم، ويقتصر على بعض ما قيل من مدح في الجبال من رجال مسلم، ورأيت روح حب الغلب قد سيطرت على بحثه، كأنه في ميدان من ميادين المباريات، ورأيته يدعي أن البخاري والدارقطني والنسائي والقاضي عياضاً قد اتفقوا على تعليل طرق حديثي ابن عباس وابن عمر، فناقشته في هذا الدعوى، وبينت الفوارق بين انتقاداتهم، بحيث لا يصح إطلاق دعوى الاتفاق، وأن شبههم ضعيفة على جلالتهم انظر ردي عليه من ص ( 17 - 24 ) .
وانظر ردي عليه عموما إلى آخره في مناقشته في الرجال وفي القضايا الأخرى .
وبعد كل ما وقع منه من ادعاء على الإمام مسلم، وبعدما وقع منه من أخطاء، وبعد إجهازه على كل طرق حديثي ابن عمر وابن عباس جاء بطامة كبرى على شواهد الحديثين، فقال : " إنها كلها منتقدة معللة " وأنه قد بينها في تعليقه على الحديث السابق .
أي أنه قضى على الشهود قبل أن يؤدوا شهادتهم، ولاحول ولاقوة إلا بالله .
فلما وقفت على هذه النتيجة طلبت منه تعليقه الذي فعل فيه ما فعل بهذه الشواهد فأدرك أن تلك النتيجة لاتطاق مسح عبارة " كلها " وطبع بدلها كلمة " بعضها " وعلق في الحاشية بالكلام الآتي : " قد أخطأت خطأ فاحشاً في قولي : كلها منتقدة لأن حديث أبي هريرة صحيح متفق عليه، وحديث جبير بن مطعم حسن لغيره، أما حديث جابر وابن الزبير فهما منتقدان كما في التعليق السابق " .
وفي كلامه هذا تخفيف من هول النتيجة نوعاً ما رغم إصراره على تعليل بقية أحاديث الباب إلى جانب طرق حديثي ابن عباس وابن عمر في صحيح مسلم، فبينت له أن هذه الأحاديث قد ادُّعِـىَ فيها التواتر، وأنه قد خالف بتعليله لها ثلاثة عشر إماماً(3) من أئمة الحديث. انظر : ( ص 72، 80 ) وما بينهما إن شئت .
مع أن هذا العرض لا يعطيك الحقيقة كاملة، فاقرأ الرد عليه، وستقف إن شاء الله منه على مكانة هذه الأحاديث التي انتقدها وعللها وخالف فيها أئمة الحديث الذين صححوها وترى بعده عن مناهج علماء الإسلام المنصفين، والذين تشبعوا بحب السنة واحترامها .
ثم اطلعت على الأوراق الأخيرة التي ضعف فيها الشواهد، فإذا به يعلق على حديث عبدالله بن الزبير الذي خرجه الإمام أحمد في المسند وأورده الهيثمى في " غاية المقصد في زوائد أحمد " والذي صححه عشرة من العلماء وصحح شواهده علماء آخرون كثيرو العدد، فترك تخريجه من مسند أحمد الذي هو أهم عمله وبدل أن يكتب عليه بضعة أسطر في بيان درجته وذكر أئمة الحديث الذي صححوه وذكر شواهده التي ترفع من شأنه فإذا به يستطرد في سبع صحائف من القطع الكبير - لعلها تبلغ إحدى عشرة صحيفة - يناقش العلماء ويصاولهم ويضعف ما صححوه، ويناقش حتى الدارقطني إذا لان، فرجح بعض الطرق، وبأساليب تدل والله على ضعفه وعلى عدم معرفته في الوقت نفسه بطرق تحقيق المخطوطات وبقواعد المحدثين في التصحيح والتضعيف وغيرهما ثم لما وصل إلى حديث ابن عمر رقم ( 5000 ) من " غاية المقصد " من طريق عطاء عنه : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ... " الحديث، الذي أشار مؤلف " غاية المقصد " - وهو الهيثمي - إلى صحته لما وصل إليه كَرَّ عليه بالأسلوب نفسه .
فبدل أن يتبع منهج المحققين فيكتفى ببضعة أسطر لئلا يثقل الكتاب الذي يحققه ويخرج حديث ابن عمر من صحيح مسلم كما أشار إليه المؤلف الهيثمي ويشد به أزر حديث عطاء، بدل أن يسير على هذا المنهج العلمي المعقول المقبول المسلم به في الأوساط العلمية، يخرج بعيدا عن مجال عمله ويصول ويجول في صفحات كثيرة يشتت فيها أحاديث صحهها جمهرة من علماء الحديث وادعى بعضهم فيها التواتر، ويمزقها أشلاء ضارباً باحترام العلماء لها وتصحيحهم إياها عرض الحائط .
ومع كل هذه الأفاعيل الشنيعة والتحديات الخطيرة لأقوال العلماء ومواقفهم يستنكر عليّ تصحيح حديثي ابن عمر وابن عباس في صحيح مسلم والذي وافقني فيه معظم المحدثين، ويستبيح لنفسه مخالفة خمسة عشر عالماً بل أكثر -والحق معهم والأدلة والحجة في جانبهم- ويصف منهجه بأنه منهج علمي.
فللقاريء أن يتصور إلى أي حد بلغ به الغرور كما يقال .
[line]
(1) - وطبق هذا المنهج على حديث صحيح لم يسبقه أحد إلى تعليله وهو حديث شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر ( انظر ص 118 - 119 ) من هذا البحث علما بأنه لم يمنعه من كثرة التطبيق إلا عجزه وقد ظن أن هذا الحديث صالح للتطبيق فخاب ظنه، وانظر إبطال قوله في هذا الحديث ( ص127 - 129 ) من هذا البحث .
(2) - وقد خيل إليه .
(3) - بل يزيد عددهم على خمسة عشر .
يتبع إن شاء الله تعالى........
في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله
تأليف
الشيخ ربيع بن هـادي المدخلي
عضو هيئة التدريس ورئيس شعبة السنة
بالدراسات العليــا بالجامعة الإسلاميــة
بالمدينة المنورة سابقاً
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1408هـ - 1988م
بين يدي الكتاب هذا البحث يدفع الدعاوي الأتية لحمزة عبدالله المليباري
أولاً : ادعاؤه أن ترتيب الإمام مسلم - رحمه الله - لطرق الحديث في كتابه الصحيح قائم على منهج علمي، إذ إنه أودع في ترتيبها دقائق علمية لا يطلع عليها إلا الحفاظ، الذين إذا سمعوا الحديث استحضروا في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها. وذلك تطبيقاً ( كذا ) لما وعد في مقدمته .
وهذا يفيد أن ترتيبه للأحاديث قائم على منهج علمي، وهو مراعاته ذلك الترتيب في إيراد الأحاديث في كتابه الصحيح، فإذا أورد طريق حديث من طرقه في أول الباب، فمعناه أنه أسلم من العيوب وأنقى عنده، ويجمع تارة طرقه في أول الباب لكونها على مستوى واحد في السلامة من العيوب ( كذا ) .
ثم إذا أتبعها بطرق أخرى لذلك الحديث، وقد تكون هي طرقاً مستقلة عن الصحابي الذي قدم حديثه من طرق أخر غير هذه، فمعناه أنها ليست في مستوى تلك، لكون راويها من أهل القسم الثاني أو لسبب آخر .
ثانياً : إن وسيلة بيان العلل هي هذا الترتيب العلمي الدقيق على هذا، فإذا قدم ماهو مستحق أن يؤخره وإذا أخر ماهو مستحق أن يقدمه فمعناه أنه أدرك فيه شيئاً جعله يتصرف كذلك ( ص 2 ) .
ويؤكد ذلك بقوله : " وبيان العلة في صحيح مسلم ليس على طريقة كتب العلل بأن يقول في أثناء الكلام، واختلف على فلان أو خالفه مثلاً كماهو معروف في كتب العلل لابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهما، بل يكون البيان بذكر وجوه الاختلاف من غير أن يتعرض لقوله : خالفه فلان أو اختلف على فلان مثلا، وإذا سمعه الحافظ يفهم بأنه اختلاف واضطراب، وإذا سمعه أمثالنا فيعدوه تعدد طرق، ومثل هذا البيان كثيراً ما نجده في التاريخ الكبير، إلا في موضعين( كذا )، وقال فيهما وخالفه " ( ص 3 ) .
ويؤكد ذلك بقوله، بعد أن طبق قاعدته على حديث ابن عمر " صلاة في مسجدي " من طرق في الدرجة الأولى :
" فلما وجدنا الإمام مسلماً هنا يؤخر ما كان يقدمه في أول الباب ففهم منه أنه أدرك علة فيه جعلته يؤخره في آخر الباب، أعني بعد طريقين من أهل القسم الثاني، وإنه لابد لنا من الرجوع إلى كتاب العلة لكي تتضح لنا الدقائق العلمية التي أودعها الإمام مسلم - رحمه الله - الناقد الكبير في ترتيب تلك الطرق " . وقد كرر هذا المعنى في بحثه في عدد من المواضع .
ثالثا : تناوله صحيح البخاري أيضاً، وأن فيه اختلافاً وعللاً، حيث يقول : " وبيان العلة من الاختلاف في الوصل والإرسال وغيرهما ثابت في صحيح البخاري أيضا فيما أظهره الحافظ ابن حجر عندما أجاب في هدي الساري عما انتقد الإمام الدارقطني وغيره في بعض أحاديث صحيح البخاري " ( ص 4 ) من بحثه .
رابعا : طعنه في طرق حديث ابن عمر " صلاة في مسجدي ..... " وهي في غاية الصحة والقوة .
خامسا : ادعاؤه اتفاق البخاري والنسائي والدارقطني والقاضي عياض على تعليل حديث ابن عمر وميمونة " صلاة في مسجدي " وتكراره لهذا الادعاء، مع تضعيفه لشواهد هذا الحديث الكثيرة، والتى ادعى فيها التواتر .
سادسا : مبالغاته وغلوه في هؤلاء بما يأباه ويرفضه الإسلام .
سابعـا : ادعاؤه عدم ذكر مسلم لابن عباس في إسناد حديث ميمونة، وأن ذكره تصحيف في صحيح مسلم .
ثامنـا : هضمه لبعض الرواة بذكر الجرح فيهم والإهمال أو التقصير في ذكر ما قاله الأئمة فيهم من تعديل .
إلى أشياء أخر ستراها في مناقشاتي له، وسوف ترى الرد عليه بأمثلة كثيرة من صحيح مسلم، وبأقوال الأئمة في صحيح مسلم، وتزييف ما قاله حول صحيح البخاري، ورد غلوه بنصوص وقواعد، وما كان عليه سلف هذه الأمة .
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد : فقد وصل إليّ بحث وهو جزء من رسالة في مرحلة الدكتوراه يحضرها أحد الطلاب بالدراسات العليا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة وهو حمزة المليباري وموضوعها تحقيق وتخريج القسم الثاني من " غاية المقصد في زوائد المسند " تناول في هذا البحث حديثي ابن عمر وابن عباس اللذين خرجهما الإمام مسلم رحمه الله في " صحيحه " ( 2/1013 - 1014 ) من طرق في غاية الصحة ومدارها على أربعة من كبار أصحاب نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنهما - ولفظ حديث ابن عمر : " صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " . وحديث ابن عباس بمعناه . وشرع في تضعيفهما وتوهينهما قائلاً عن طرقهما إنها " كلها منتقدة معللة " ويقول عن مسلم إنه لم يخرجها في الأصول ولا في المتابعـة وإنما أوردها في الصحيح للتنبيه على عللها(1) واستدل على رأيه هذا بقول الإمام مسلم - رحمه الله - في مقدمة صحيحه 1/59 :
" وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى " .
ثم أضاف وجهين من الأدلة في زعمه - يستدل بهما على أن الإمام مسلماً - رحمه الله - لم يورد هذين الحديثين من تلك الطرق الصحيحة لا في الأصول ولا في المتابعة فهي غير صالحة لذلك، وإنما أرودها للتنبيه على عللها .
ثم عقب تلك الأدلة - في زعمه - بقوله :
" ولما أن الإمام مسلماً - رحمه الله - أخرج هذا الحديث من وجوه صحيحة واتفق ( كذا ) عليها الإمام البخاري في صحيحه، ولم يقصد بإخراج هذه الطرق المعللة والمنتقدة المتابعة، لم يتجه إليه الطعن إن شاء الله " .
يقصد أن الإمام مسلماً أقام الدليل على أن طرق حديثي ابن عمر وابن عباس معللة منتقدة، ولا تصلح في الأصول ولا في المتابعة بهذا الترتيب، فحيث قدم حديث أبي هريرة من وجوه صحيحة وأخر حديثي ابن عمر وابن عباس فإن هذا الترتيب بالتقديم والتأخير برهان واضح على صحة ما قدم وضعف ما أخر ولو جاء المتأخر من وجوه أقوى من المتقدم. وهذا هو الذي وعد به الإمام مسلم من الشرح والإيضاح في نظر هذا الباحث .
وكنت قد ناقشت في رسالتي ( بين الإمامين ) كلام الدارقطني والإمام البخاري والنسائي وعياض - رحمهم الله - مناقشة علمية قائمة على الحجج القوية وانتهيت في مناقشتي إلى تصحيح الحديثين وسلامتهما من العلل فذكر الباحث مناقشتي هذه وأثنى على رسالتي ثم قال : " والأمر الوحيد الذي استدعى انتباهي هو مخالفة الشيخ لما اتفق الإمام البخاري والدارقطني والنسائي والقاضي عياض على إعلالهم حديث نافع ثم إن مسلماً لم يشر إلى تصحيحه ذلك الحديث - حديث نافع وحديث ابن عباس عن ميمونة - بأي وجه من الوجوه، وللقاريء أن يفهم من هذا الكلام ما يمكنه إدراكه .
فقد أعرضت عن مناقشته سابقا وسوف أناقشه فيما يأتي إن شاء الله " .
ثم مضى الرجل في مناقشتي ودراسة بعض الأسانيد دراسة غريبة بعيدة عن المنهج العلمي، وفي نهاية هذه المناقشة وصل إلى نتيجة وما أصعبها وأشد وقعها على النفس وهي قوله : " ثم فضيلة الشيخ ذكر شواهد للحديث لا يحتاج إليها، مع أن الشواهد كلها منتقدة وقد بينتها في تعليقي السابق، والله أعلم " .
فناقشته فيما طرحه في هذا البحث :
أولاً : فيما تعلق به من كلام مسلم وهو قوله : " وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً " .
حيث رأى أن هذين اللفظين الشرح والإيضاح إنما يتمثلان في ترتيبه للأحاديث؛ فحديث أبي هريرة ما قدمه إلا لأنه صحيح وما أخر حديثي ابن عمر وابن عباس إلا لأن طرقهما معللة منتقدة .
فأدركت ما في هذا الاتجاه من خطر، وأن مقتضاه أن ما ساقه مسلم في أول كل باب فهو صحيح، وأن ما أخره - ولو جاء من طرق - فهو معل بحيث لا يصلح في المتابعات، وما هذا الباب إلا مثال لتطبيق هذه القاعدة(2)، فناقشته في أمر لا يطاق فأي مسلم يعرف مكانة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهون عليه أن يرى من يَقعِّدُ من حيث يدري أو لا يدري لنسف ثاني أصح الكتب بعد كتاب الله، بحيث لا تستثنى هذه القاعدة إلا الأحاديث الأوائل، كمن يحاول قذف قنبلة مثل قنبلة " هيروشيما " على مدينة من أرقى المدن ويقول في هدوء ورفق : لا تخافوا من تدمير هذه القنبلة فإنها سوف تبقى في كل بيت وأسرة أوائلها وأقوى وأصح أفرادها، ثم يصر ويصر على قذفها.
واجهت هذا الاتجاه الخطير بصبر، وناقشته في هذه القاعدة التي يدعى جهلا على أحسن أحواله أنه استفادها من كلام مسلم، وبينت بطلانها من وجوه عديدة من تصريحات مسلم، ومن واقع صحيحه، ومن كلام أئمة هذا الشأن ومواقفهم، راجع ردي عليه من ص ( 4 - 9 ) وفيها ما يقنع طالب الحق .
فلما رآها حججاً دامغة لم يستطع الإجابة عليها، لم يرجع إلى الحق ولم يستسلم له فتحايدها في جوابه الجديد وأخذ يؤكد تلك القاعدة الباطلة بخلف الكلام ورديئه، وبكلام ينقله عن العلماء لا صلة له بهذه القنبلة المدمرة، وحاشاهم ثم حاشاهم، وبرأهم الله أن يقولوا أو يفكروا فيما يشير إلى مثلها فضلا أن يقولوا ما يؤيدها، ولو رأوها لكانت لهم مواقف صارمة من واضعها؛ ولأقاموا الدنيا وأقعدوها، وسيأتي ذكر مواقفهم من هذا الكتاب العظيم صحيح مسلم رحمه الله .
ثانياً : ناقشته في كلامه على أسانيد الحديثين وتعليلها :
رأيت منهجاً غريباً في أسلوبه فرأيته يحاول جاهداً من رفع شأن الأسانيد إذا كانت خارج صحيح مسلم، ويترك ما فيل فيها من خدش، ويذكر ما قيل من خدش في بعض رجال مسلم، ويقتصر على بعض ما قيل من مدح في الجبال من رجال مسلم، ورأيت روح حب الغلب قد سيطرت على بحثه، كأنه في ميدان من ميادين المباريات، ورأيته يدعي أن البخاري والدارقطني والنسائي والقاضي عياضاً قد اتفقوا على تعليل طرق حديثي ابن عباس وابن عمر، فناقشته في هذا الدعوى، وبينت الفوارق بين انتقاداتهم، بحيث لا يصح إطلاق دعوى الاتفاق، وأن شبههم ضعيفة على جلالتهم انظر ردي عليه من ص ( 17 - 24 ) .
وانظر ردي عليه عموما إلى آخره في مناقشته في الرجال وفي القضايا الأخرى .
وبعد كل ما وقع منه من ادعاء على الإمام مسلم، وبعدما وقع منه من أخطاء، وبعد إجهازه على كل طرق حديثي ابن عمر وابن عباس جاء بطامة كبرى على شواهد الحديثين، فقال : " إنها كلها منتقدة معللة " وأنه قد بينها في تعليقه على الحديث السابق .
أي أنه قضى على الشهود قبل أن يؤدوا شهادتهم، ولاحول ولاقوة إلا بالله .
فلما وقفت على هذه النتيجة طلبت منه تعليقه الذي فعل فيه ما فعل بهذه الشواهد فأدرك أن تلك النتيجة لاتطاق مسح عبارة " كلها " وطبع بدلها كلمة " بعضها " وعلق في الحاشية بالكلام الآتي : " قد أخطأت خطأ فاحشاً في قولي : كلها منتقدة لأن حديث أبي هريرة صحيح متفق عليه، وحديث جبير بن مطعم حسن لغيره، أما حديث جابر وابن الزبير فهما منتقدان كما في التعليق السابق " .
وفي كلامه هذا تخفيف من هول النتيجة نوعاً ما رغم إصراره على تعليل بقية أحاديث الباب إلى جانب طرق حديثي ابن عباس وابن عمر في صحيح مسلم، فبينت له أن هذه الأحاديث قد ادُّعِـىَ فيها التواتر، وأنه قد خالف بتعليله لها ثلاثة عشر إماماً(3) من أئمة الحديث. انظر : ( ص 72، 80 ) وما بينهما إن شئت .
مع أن هذا العرض لا يعطيك الحقيقة كاملة، فاقرأ الرد عليه، وستقف إن شاء الله منه على مكانة هذه الأحاديث التي انتقدها وعللها وخالف فيها أئمة الحديث الذين صححوها وترى بعده عن مناهج علماء الإسلام المنصفين، والذين تشبعوا بحب السنة واحترامها .
ثم اطلعت على الأوراق الأخيرة التي ضعف فيها الشواهد، فإذا به يعلق على حديث عبدالله بن الزبير الذي خرجه الإمام أحمد في المسند وأورده الهيثمى في " غاية المقصد في زوائد أحمد " والذي صححه عشرة من العلماء وصحح شواهده علماء آخرون كثيرو العدد، فترك تخريجه من مسند أحمد الذي هو أهم عمله وبدل أن يكتب عليه بضعة أسطر في بيان درجته وذكر أئمة الحديث الذي صححوه وذكر شواهده التي ترفع من شأنه فإذا به يستطرد في سبع صحائف من القطع الكبير - لعلها تبلغ إحدى عشرة صحيفة - يناقش العلماء ويصاولهم ويضعف ما صححوه، ويناقش حتى الدارقطني إذا لان، فرجح بعض الطرق، وبأساليب تدل والله على ضعفه وعلى عدم معرفته في الوقت نفسه بطرق تحقيق المخطوطات وبقواعد المحدثين في التصحيح والتضعيف وغيرهما ثم لما وصل إلى حديث ابن عمر رقم ( 5000 ) من " غاية المقصد " من طريق عطاء عنه : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ... " الحديث، الذي أشار مؤلف " غاية المقصد " - وهو الهيثمي - إلى صحته لما وصل إليه كَرَّ عليه بالأسلوب نفسه .
فبدل أن يتبع منهج المحققين فيكتفى ببضعة أسطر لئلا يثقل الكتاب الذي يحققه ويخرج حديث ابن عمر من صحيح مسلم كما أشار إليه المؤلف الهيثمي ويشد به أزر حديث عطاء، بدل أن يسير على هذا المنهج العلمي المعقول المقبول المسلم به في الأوساط العلمية، يخرج بعيدا عن مجال عمله ويصول ويجول في صفحات كثيرة يشتت فيها أحاديث صحهها جمهرة من علماء الحديث وادعى بعضهم فيها التواتر، ويمزقها أشلاء ضارباً باحترام العلماء لها وتصحيحهم إياها عرض الحائط .
ومع كل هذه الأفاعيل الشنيعة والتحديات الخطيرة لأقوال العلماء ومواقفهم يستنكر عليّ تصحيح حديثي ابن عمر وابن عباس في صحيح مسلم والذي وافقني فيه معظم المحدثين، ويستبيح لنفسه مخالفة خمسة عشر عالماً بل أكثر -والحق معهم والأدلة والحجة في جانبهم- ويصف منهجه بأنه منهج علمي.
فللقاريء أن يتصور إلى أي حد بلغ به الغرور كما يقال .
[line]
(1) - وطبق هذا المنهج على حديث صحيح لم يسبقه أحد إلى تعليله وهو حديث شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر ( انظر ص 118 - 119 ) من هذا البحث علما بأنه لم يمنعه من كثرة التطبيق إلا عجزه وقد ظن أن هذا الحديث صالح للتطبيق فخاب ظنه، وانظر إبطال قوله في هذا الحديث ( ص127 - 129 ) من هذا البحث .
(2) - وقد خيل إليه .
(3) - بل يزيد عددهم على خمسة عشر .
يتبع إن شاء الله تعالى........