عبدالعزيز العمري
11-04-2003, 05:32 PM
ملخص الخطبة
1- الصوم أمانة. 2- أصول المفطّرات. 3- الجماع في نهار رمضان وما يترتب عليه. 4- إخراج المادة المنوية. 5- تعمد الأكل والشرب. 6- حكم الإبر المغذّية. 7- حكم القيء للصائم. 8- حكم إخراج الدم للصائم. 9- أمور علاجية لا تؤثّر على الصيام. 10- الحيض والنفاس مفسدان للصيام. 11- حكم القطرة والإبر العضلية والوريدية والكحل. 12- آداب الصيام.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ ممّا ائتمَن الله عليه عبدَه المؤمن فريضةَ الصّيام، فصيام رمضانَ فريضة افترضَها الله عليك، وائتمنَك على هذه الفريضة، ائتمَنك على أدائها، بمعنى أنْ تلتزمَ بذلك وقتًا، ثمّ تلتزم البعدَ عمّا ينافي هذا الصّيام، فيكون صيامك لله صيامَ صِدق على الحقيقة، في وقتِه ثمّ البعد عن كلّ ما يُفسد هذا الصيام، والبعد أيضًا عمّا ينقِّصُ ثوابَه؛ ليكونَ صيامك صيامًا كاملاً بتوفيقٍ من الله، وليصدق عليك ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه))[1].
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ جلاله بيّن لنا في كتابه العزيز أصولَ المفطّرات وهي ثلاثة، فقال تعالى: وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ [البقرة:187]، فذكر صنفين: الأكل والشرب، وقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، فذكر النوعَ الثالث وهو مباشرة النّساء. إذًا فأصول المفطّرات الأكل والشّرب ومواقعَة النّساء، فإنّ حقيقة الصّيام هي الإمساك عن الأكلِ والشرب ومواقعة النّساء وسائر المفطّرات التي دلّت عليها سنّة محمّد .
فأعظم ما ينافي الصّيام مباشرة النّساء في نهار رمضان، فإنّ مجامعة المرأة في نهار رمضان منافية لحقيقةِ الصّيام بإجماعِ أمّة الإسلام، لدلالة القرآن ودلالة السنّة على ذلك.
أتى رجلٌ النبيّ فقال: يا رسول الله، هلكتُ وأهلكت، قال: ((ما ذاك؟)) قال: أتيتُ امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجِد رقبةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعِم ستّين مسكينًا؟)) قال: لا، فسكت النبيّ ، ثمّ أُتي النبيّ بمِتكَل من تَمر فيه خمسة عشر صاعًا، فقال: ((خذه فتصدّق به))، قال: أعَلى أفقر منّي يا رسول الله؟ فوالله، ما بين لابتَي المدينةِ أهلُ بيت أفقر من أهل بيتي، فضحِك ثمّ قال: ((خذه فأطعِمه أهلك))[2].
إذًا فالجِماع منافٍ للصيام، مفسدٌ له، حرامٌ على المسلم تعمّدُه، آثم بذلك، يترتّب عليه الكفّارة المغلّظة مع معصيةِ الله ورسوله في الإقدام على ذلك. لهذا، المسلمُ يتّقي ذلك طاعةً لله، وهي ابتلاء وامتحان له، لكن المؤمن يتغلّب على نزعات الهَوى وشهوات النّفس طاعةً لله، فيتركها مع القدرةِ عليها تقرُّبًا إلى الله ولعلمِه باطِّلاع الله عليه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
ثانيًا: ممّا يفسِد الصيام تعمُّد إخراجِ المادّة المنويّة، سواء كان بتَكرار نظرٍ زائد، أو سواء كان بالعادةِ السرّية المستهجَنَة، فإنّ هذا يسبّب فسادَ الصوم، أو كان بمباشرة امرأتِه بدون جماع، مِن وسائلَ يمكن ثوران الشّهوة، فيؤدّي ذلك إلى إخراج المادّة المنوية، فإنّ ذلك يفسد صيامَ هذا اليوم وإن لم تجِب كفارةٌ لأنّ الكفارة لا تجب إلاّ بالجماع، لكنّه بوسائله إذا خرجت المادّة المنويّة أفسدت صيامَ ذلك اليوم لأنّ الله يقول في حقّ الصائم: ((يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه لأجلي))[3]، ولذا لمّا أخبرت عائشة أمّ المؤمنين أنّ النبيّ ربّما قبّل وهو صائم قالت: ولكنّه كان أملكَكم لإربه[4]، أي: أنّه كان مسيطرًا على شهوته، متحكِّمًا في أمره، لا تطغى عليه شهوته.
إذًا فالمسلم يجتنب كلَّ وسيلة يمكنها أن تؤدّيَ إلى ما لا يرضى، اتقاءً للمحرَّم وبُعدًا عنه. أمّا لو أنزلَ الصّائم في النّهار بطريق الاحتلام فإنّ هذا أمر معفوٌّ عنه؛ إذ لا قدرةَ له على ذلك، وهو ممّا غُلب عليه، أو كان مجرّد تفكير من غير نظر، فإنّ ذلك أيضًا لا يؤثّر عليه.
وممّا ينافي الصيامَ تعمُّد الأكل أو الشّرب بإدخال الطعامِ أو الشّراب إلى الجسد بأيّ طريق ممكِن، من طريق الفمِ أو غيره، فإنّ من أدخل إلى جوفه مطعومًا أو مشروبًا نافى حقيقةَ الصّيام التي لأجلها فُرِض الصّيام، فإنّ مَن تعمّد الأكلَ أو الشرب فإنَّ ذلك منافٍ لصيامه، لأنّ الله يقول: ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ، وأباح في الليل الأكلَ والشرب إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أي: إلى أن يتبيّن الفجر، فإذا تبيّن الفجر برؤية الخيط الأبيض فإن هذا موجب للإمساك، أو كنتَ معتمِدًا على أذان المؤذّن، فمتى أذّن المؤذّن معلِمًا بدخول وقت الفجر وجب عليك الإمساك عن الطعام والشراب.
أمّا لو وقع من المسلم في نهار رمضان أكلٌ أو شرب نسيانًا فقط فإنّ الله يعفو عنه، ونبيّنا يقول: ((من نسِي فأكل أو شرب فليتمَّ صومَه، فإنّما أطعمه الله وسقاه))[5].
ويُلحَق بهذا الإبَر المغذِّية التي يُعطاها بعضُ المرضى لتكونَ عِوضًا عن تناولِ الطّعام والشّراب من طريق الفم، فإنّها أيضًا مفسِدة للصيام لأنّها تمدّ الجسد بالغذاء، وهي قائمة مقامَ تناوُله من الفم، فهي إذًا مفسِدة للصّيام ومنافيَة له.
وممّا يفسِد صيامَ المسلم ـ أيّها الإخوة ـ تعمُّد إخراج القيء، فإنّ تعمّدَ إخراج القيء مفسدٌ للصّيام لحديث أنّه قال: ((من ذرَعه القيء فلا قضاءَ عليه، ومن استقاء فعليه القَضاء))[6]، فإذا غلب القيء عليه ولا بدّ مِن خروجه ولم يكن له سببٌ في ذلك فليدَعه يخرج ولا يمنَعه ولا شيءَ عليه، لكن لو تعمّد القيء لثِقل الطّعام على معدته، فتعمّد القيءَ ليرتاح من ذلك الطّعام، فإنّ ذلك مفسِد لصيامه، فإن كان لضرورةٍ فلا إثمَ عليه وعليه القضاء، وإن كان لغير ضرورةٍ أثِم وعليه القضاءُ مع إكمالِ ذلك اليوم.
وممّا يفسِد صيامَ الصائم أيضًا إخراج الدّم، فإخراج الدّم من الجسَد بطريق الحِجامة هذا مفسِد للصيام، لأنّ النبيّ قال: ((أفطر الحاجِم والمحجوم))[7]، والحِجامة إخراجُ الدّم الفاسد، وهو إخراج دمٍ كثير يؤدّي إلى ضعفِ الصائم ولا يستطيع الجمعَ بين إخراج هذا الدّم وبين الصّيام.
وكذلك لو اضطرّ إلى إسعافِ محتاج للدّم، فاضطرّ إلى سحبِ دمٍ منه لضرورةِ إنقاذِ حياة إنسان، فإنّ له أن يسحبَ الدّم، ولكن يقضي هذا اليوم، لأنّ ذلك مثل الحِجامة أو أشدّ منها، لكن لو خرج الدّم من الإنسان مِن غير اختياره؛ رعاف من طريق الأنف، سعالٌ من طريق الفم، ناسور أو باسور، خرَج الدّم من غير اختياره ومن غير طلبه، سقط عليه شيء فأخرج الدّم، وطئ شيئًا فشقّ جلده فأخرج الدّم، فإنّ هذا لا شيءَ عليه؛ لأنّه لم يكن متعمِّدًا لإخراجه، ولا سببَ له في ذلك، فهذا أمر لا يؤثّر عليه.
أمّا لو اضطرّ إلى تحليلِ الدّم وأخذ عيّناتٍ منه لأجل علاجٍ وتشخيصِ أمراض فإنّ هذا التحليل للصائم لا يضرّه وهو صائم، إن استعمله في اللّيل فهو أفضل، وإن اضطرّ إليه في النّهار فيُرجى أن لا يُؤثّر؛ لأنّ هذا دمٌ يسير، فلا أثرَ له ولا يلحَق الصّائم ضررٌ بذلك.
احتياج الصّائم إلى قلعِ سنِّه أثناء النهار لا يؤثّر عليه، خروجُ هذا الدّم المصاحب لقلع السِّنّ لا يؤثّر على الصائم. استعمالُ الصّائم للبخاخ لأجلِ داء الرّبو أو غيره إذا صُرف له فإنّ ذلك لا يؤثّر على صيامه. شمّه بعضَ الأشياء التي جُعلت علاجًا لبعض الأشياء فإنّ هذا أيضًا لا يؤثّر على صوم الصّائم.
خروج حيضِ المرأة مفسدٌ لصيامِها ولو لم يبقَ من النّهار إلا جزءٌ يسير، فإنّ ذلك منافٍ للصّيام إذِ الحائض ممنوعة من الصّيام والصلاة، مأمورة بقضاءِ الصوم دونَ قضاء الصلاة.
وممّا ينبَّه عليه أنّ بعضَ المسائل قد تُشكل على المرأةِ المسلمة في نهار الصّيام، وذلك من أمور.
أوّلاً: ليُعلم أنّ النّفاس لا يسمّى نفاسًا إلاّ إذا خرج من المرأة ما ظهر فيه تخطيط إنسان، فإذا سَقط منها ما ظهر فيه تخطيط إنسان فهذا يسمّى نفاسًا، وهذا لا يكون في الغالبِ إلاّ بعد ما يمضي على الجنين أكثرُ من ثمانين يومًا، أمّا ذا سقط منها ما بين الشّهرين ونحو ذلك، فإنّ هذا لا يسمّى نفاسًا، لأنّه لم يتبيّن فيه خلق إنسان.
أيّتها المرأة المسلمة، إنّ طُهر الحائض قبلَ صلاة الفجر يوجِب عليها الإمساكَ ولو لم تغتسل إلا بعد [طلوع] الفجر، إذا كان هذا الطّهر سابقًا لوقتِ الفجر فإنّه يجب عليها الإمساك ولو لم يكن الاغتسال إلا بعد [طلوع] الفجر.
أيّتها المرأة المسلمة، خروج الدّم غير دَم الحيض لا يوجِب فسادَ الصيام، إنّما يفسد الصيام دمُ الحيض المعتاد المعروف الذي تعرِفه المرأة وتعتاد عليه. كونُ دم الحيض قد يتقدّم أيّامًا أو قد يتأخّر فإنّ ذلك مفسِد للصّيام وإن تقدّم عن وقته أو تأخّر عن وقته. المرأة المسلمة تترك الصّيام أثناءَ الحيض، والحيضُ المعتبَر هو الحيض الذي تعرِفه بمواصفاته الخاصّة عندها، فإذا وجدت ذلك وجب عليها الفطرُ وحرُم عليها الصّيام، ولكن يتساءل كثيرٌ من النّساء عن أمورٍ تخفى عليهنّ في هذا الموضوع.
فمِن ذلك أوّلاً: أنّ بعض النّساء يكون لها عادة شهريّة تُقدّر بأيّام سبعة أو ثمانية، وربّما جاوَز الدّم هذا الوقتَ بأيام، فيقال: هذا الدم الزائد على الوقت إذا كان هذا الدّم زادَ على زمن الحيض فهو ملحَق بالحَيض حتى يمضي خمسةَ عشرَ يومًا، فهو أكثر دمِ الحيض، وما زاد عليه فيجب عليها أن تغتسِل وتصوم.
أمّا خروج أشياء سابقة للحيض أو لاحقةٍ له من كُدرة أو صُفرة فإذا كانت متّصلةً بدم الحيض فإنّها تحسَب من أيّام الحيض، أمّا إذا رأت المرأة طهرَها كاملاً، ثم خرج منها أشياء ليست مِن دم الحيض أو أشياء متقطِّعة فإنّها لا تعتبرها من دم الحيض، إذ هذا الخارج الذي لا يشبِه الحيضَ وإنما هو دمٌ عاديّ فهذا لا يؤثّر على صيام المرأة، ولا يمنعها مواصلةَ الصّيام.
أيّها المسلم، احفَظ صيامَك وصُنه عن كلّ المفسدات، وخذ الاحتياطَ لنفسك، فإنّ الله سائلك عن هذا الصّيام: هل أدّيتَ الأمانةَ فيه المطلوبة شرعًا أم لا؟ أسأل الله لي ولك الفقهَ في الدين، وأن يتقبّل عملنا وعملَكم، وأن يجعلَ أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـٰلَكُمْ [محمد:33].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغريظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1927)، ومسلم في الصيام (1106).
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[7] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، استعمالُ المسلم للعلاج مِن طريق القطَر في العين أو مِن طريق القطَر في الأذن هذا لا يؤثّر على صيام الصّائم. استعماله الإبَر العضَلية أو الوريديّة لأجل فقط العلاجِ الخاصّ هذا لا يؤثّر على صوم الصّائم؛ لأنّ هذا لا يُلحَق بمطعوم ولا بمشروب، فلا يؤثّر ذلك على صيام الصائم. وضعُه كحلاً في عينيه ودواءً في عينيه قطرَة أو غيرها كلّ هذا لا يؤثّر على صيام الصّائم.
أيّها المسلم، إنّ هناك آدابًا للصّيام يجب عليك أن تتأدّب بها ليكون صيامك إن شاء الله صيامًا مقبولاً، فأوّل ذلك أن تعلمَ أنّ الصائم يجب عليه أن يهتمّ بالصّلوات الخمس، وأن يحافِظ عليها في وقتِها جماعةً في المسجد، وأنّ هذا أمر واجب دائمًا وأبدًا، لكن في شهر رمضان يتأكّد عليك، ويجِب أن تعظِّم الصلوات الخمس، وتعظّم أداءها في الوقت وأداءَها جماعة في المساجد، فهذا هو دين الإسلام.
سُئِل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن رجلٍ يقوم الليل ويصوم النّهار ولا يحضر الجمعةَ ولا الجماعة، قال: (هو في النّار)[1]؛ لأنّ أداء الفريضة أمرٌ لا بدّ منه في رمضان أو غيره.
أيّها المسلم، ليكن الصوم مهذِّبًا لسلوكِك، مؤدّبًا لك بآداب الإسلام، فاحذَر في صومك الكذِب، واحذر الغِشّ، واحذَر الخداع، واحذر قولَ الزور، واحذر شهادةَ الزور، واحذَر السِّخاب والسِّباب والشِّتام والأقوالَ البذيئة، ونبيّنا يقول للصائم: ((فإن سابّه أحد أو شاتمه فليقل: إنّي امرؤ صائم))[2]، أي: فليذكّر أنَّ صومَه يمنعه من أنّه يخوض مع الجاهلين ومع السّفهاء في سفهِهم ومع أهلِ الجهالة في جهالتهم.
أيّها الصّائم، لم تؤمَر بالصّيام امتحانًا لصبرِك على الظّمَأ والجوع، ولكن لتهذيبِ أخلاقِك وتأديبِك بالآدابِ الشّرعية، يقول : ((مَن لم يدَع قولَ الزّور والعمَل به والجهلَ فليس لله حاجة في أن يدَع طعامَه وشرابَه))[3].
أيّها الصائم، إيّاك والكذب، وإيّاك وشهادةَ الزور، وإيّاك والأقوالَ الباطلة، إيّاك والأقوال الفاجِرة، إيّاك والأقوال البذيئة، إيّاك والسّماع للباطل والمسلسلاتِ الهابطة الماجِنة المنافيَة للقيَم والأخلاق والمعاديَة لتعاليم الإسلام، فإنّك صائم، فصُن سمعَك عمّا لا يليق، وصن سمعَك عن استماعِ الباطل، وصُن لسانَك عن النّطق بالباطل، وصُن جميعَ جوارحِك عن عملِ الباطل.
إنّ الصومَ يجب أن يكونَ على سمعك وبصرك وعقلِك وفكرِك وسائر جوارحك، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنها: (إذا صمتَ فليصُم سمعك وبصرك عن المحارم، ودَع عنك أذى الجار، ولا تكن في صومِك وفِطرك سواء)[4].
لا بدّ أن يكونَ الصيام مؤثرًا على المسلم في أقوالِه وأعماله، فأقواله طيّبة، وأعماله حسَنة، وتصرّفاته على ما يوافِق الشّرع، فلا يقول إلاّ خيرًا، ولا يسمَع إلا خيرًا، ولا يفكِّر إلاّ فيما يعود عليه بالنّفع في دينِه ودنياه، وليستغلَّ أيّام وليالي صيامِه فيما يصلح دينَه ويقوّم سلوكَه، وليحذَر استماعَ الباطل واستماعَ الملاهي واستماعَ المسلسلات الهابِطة الضالّة المحارِبة لله ورسولِه ولدينِه وقيَم الأمّة وفضائلها، وليكن على حذرٍ من هذا كلِّه، فإنّه صائم، فيصون سمعَه عن استماع الباطِل، وعينيه عن رؤيةِ الباطل، ولسانَه عن التكلّم بالباطل، وليُدم فكرَه فيما يعود عليه بالخير، هكذا الصائم، فلا يكون الصّائم مغتابًا لعباد الله، ولا ساعيًا بينهم بالنّميمة، ولا مروّجًا للأكاذيب والأباطيل، ولا داعيًا إلى ضلال ومُجون، ولا داعيًا إلى شرّ وفسادٍ، وإنّما هو مسلم صامَ رمضانَ صومًا صحيحًا صادقًا بكلّ ما تؤدّيه الكلمة من معاني، صامَ لسانه إلاّ من ذكر وقرآن وما ينفعه، صامَت عيناه فصرَف نظرَه عن محارمِ الخَلق، وصرَف نظره عن محارِم الله، وصرَف نظره عن النّظر إلى ما قد يلقي في قلبه شرًّا، صامَت الأذنان فلم تستمِع الحرام والباطل، ولزِم طاعةَ ربّه، واشتغل بما يعود عليه وبما يصون صومَه عن هذه الأباطيل وعن هذه المحرّمات وعن هذه المسلسَلات الباطلة التي تدعو إلى كلّ شرّ، وفي بعضها سخريّة بالإسلام واستهزاءٌ بأحكامِه وانتقاص لتعاليمِه الحقّة، ولا شكّ أنّ هذا مِن أعظم الباطل.
وفَّق الله المسلمين لالتزام الإسلام في أقوالِهم وأعمالهم، وصان صيامَهم عن كلّ ما يفسده.
فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ في صيامكم، واتلوا كتابَ الله، وتدبّروه التدبّر الصحيح، ففيه خيرٌ في دينكم ودنياكم، إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. اتلوا كتاب الله تلاوةَ المتدبّر المتعقّل المتأمِّل، وقِفوا عند حدوده، وامتثلوا أوامره، واجتنِبوا نواهيَه، وتأدّبوا بآدابه في أحوالكم كلِّها لعلّكم تفلحون.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدي...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (16/243).
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6057) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422) بنحوه.
1- الصوم أمانة. 2- أصول المفطّرات. 3- الجماع في نهار رمضان وما يترتب عليه. 4- إخراج المادة المنوية. 5- تعمد الأكل والشرب. 6- حكم الإبر المغذّية. 7- حكم القيء للصائم. 8- حكم إخراج الدم للصائم. 9- أمور علاجية لا تؤثّر على الصيام. 10- الحيض والنفاس مفسدان للصيام. 11- حكم القطرة والإبر العضلية والوريدية والكحل. 12- آداب الصيام.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ ممّا ائتمَن الله عليه عبدَه المؤمن فريضةَ الصّيام، فصيام رمضانَ فريضة افترضَها الله عليك، وائتمنَك على هذه الفريضة، ائتمَنك على أدائها، بمعنى أنْ تلتزمَ بذلك وقتًا، ثمّ تلتزم البعدَ عمّا ينافي هذا الصّيام، فيكون صيامك لله صيامَ صِدق على الحقيقة، في وقتِه ثمّ البعد عن كلّ ما يُفسد هذا الصيام، والبعد أيضًا عمّا ينقِّصُ ثوابَه؛ ليكونَ صيامك صيامًا كاملاً بتوفيقٍ من الله، وليصدق عليك ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه))[1].
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ جلاله بيّن لنا في كتابه العزيز أصولَ المفطّرات وهي ثلاثة، فقال تعالى: وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ [البقرة:187]، فذكر صنفين: الأكل والشرب، وقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، فذكر النوعَ الثالث وهو مباشرة النّساء. إذًا فأصول المفطّرات الأكل والشّرب ومواقعَة النّساء، فإنّ حقيقة الصّيام هي الإمساك عن الأكلِ والشرب ومواقعة النّساء وسائر المفطّرات التي دلّت عليها سنّة محمّد .
فأعظم ما ينافي الصّيام مباشرة النّساء في نهار رمضان، فإنّ مجامعة المرأة في نهار رمضان منافية لحقيقةِ الصّيام بإجماعِ أمّة الإسلام، لدلالة القرآن ودلالة السنّة على ذلك.
أتى رجلٌ النبيّ فقال: يا رسول الله، هلكتُ وأهلكت، قال: ((ما ذاك؟)) قال: أتيتُ امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجِد رقبةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعِم ستّين مسكينًا؟)) قال: لا، فسكت النبيّ ، ثمّ أُتي النبيّ بمِتكَل من تَمر فيه خمسة عشر صاعًا، فقال: ((خذه فتصدّق به))، قال: أعَلى أفقر منّي يا رسول الله؟ فوالله، ما بين لابتَي المدينةِ أهلُ بيت أفقر من أهل بيتي، فضحِك ثمّ قال: ((خذه فأطعِمه أهلك))[2].
إذًا فالجِماع منافٍ للصيام، مفسدٌ له، حرامٌ على المسلم تعمّدُه، آثم بذلك، يترتّب عليه الكفّارة المغلّظة مع معصيةِ الله ورسوله في الإقدام على ذلك. لهذا، المسلمُ يتّقي ذلك طاعةً لله، وهي ابتلاء وامتحان له، لكن المؤمن يتغلّب على نزعات الهَوى وشهوات النّفس طاعةً لله، فيتركها مع القدرةِ عليها تقرُّبًا إلى الله ولعلمِه باطِّلاع الله عليه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
ثانيًا: ممّا يفسِد الصيام تعمُّد إخراجِ المادّة المنويّة، سواء كان بتَكرار نظرٍ زائد، أو سواء كان بالعادةِ السرّية المستهجَنَة، فإنّ هذا يسبّب فسادَ الصوم، أو كان بمباشرة امرأتِه بدون جماع، مِن وسائلَ يمكن ثوران الشّهوة، فيؤدّي ذلك إلى إخراج المادّة المنوية، فإنّ ذلك يفسد صيامَ هذا اليوم وإن لم تجِب كفارةٌ لأنّ الكفارة لا تجب إلاّ بالجماع، لكنّه بوسائله إذا خرجت المادّة المنويّة أفسدت صيامَ ذلك اليوم لأنّ الله يقول في حقّ الصائم: ((يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه لأجلي))[3]، ولذا لمّا أخبرت عائشة أمّ المؤمنين أنّ النبيّ ربّما قبّل وهو صائم قالت: ولكنّه كان أملكَكم لإربه[4]، أي: أنّه كان مسيطرًا على شهوته، متحكِّمًا في أمره، لا تطغى عليه شهوته.
إذًا فالمسلم يجتنب كلَّ وسيلة يمكنها أن تؤدّيَ إلى ما لا يرضى، اتقاءً للمحرَّم وبُعدًا عنه. أمّا لو أنزلَ الصّائم في النّهار بطريق الاحتلام فإنّ هذا أمر معفوٌّ عنه؛ إذ لا قدرةَ له على ذلك، وهو ممّا غُلب عليه، أو كان مجرّد تفكير من غير نظر، فإنّ ذلك أيضًا لا يؤثّر عليه.
وممّا ينافي الصيامَ تعمُّد الأكل أو الشّرب بإدخال الطعامِ أو الشّراب إلى الجسد بأيّ طريق ممكِن، من طريق الفمِ أو غيره، فإنّ من أدخل إلى جوفه مطعومًا أو مشروبًا نافى حقيقةَ الصّيام التي لأجلها فُرِض الصّيام، فإنّ مَن تعمّد الأكلَ أو الشرب فإنَّ ذلك منافٍ لصيامه، لأنّ الله يقول: ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ، وأباح في الليل الأكلَ والشرب إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أي: إلى أن يتبيّن الفجر، فإذا تبيّن الفجر برؤية الخيط الأبيض فإن هذا موجب للإمساك، أو كنتَ معتمِدًا على أذان المؤذّن، فمتى أذّن المؤذّن معلِمًا بدخول وقت الفجر وجب عليك الإمساك عن الطعام والشراب.
أمّا لو وقع من المسلم في نهار رمضان أكلٌ أو شرب نسيانًا فقط فإنّ الله يعفو عنه، ونبيّنا يقول: ((من نسِي فأكل أو شرب فليتمَّ صومَه، فإنّما أطعمه الله وسقاه))[5].
ويُلحَق بهذا الإبَر المغذِّية التي يُعطاها بعضُ المرضى لتكونَ عِوضًا عن تناولِ الطّعام والشّراب من طريق الفم، فإنّها أيضًا مفسِدة للصيام لأنّها تمدّ الجسد بالغذاء، وهي قائمة مقامَ تناوُله من الفم، فهي إذًا مفسِدة للصّيام ومنافيَة له.
وممّا يفسِد صيامَ المسلم ـ أيّها الإخوة ـ تعمُّد إخراج القيء، فإنّ تعمّدَ إخراج القيء مفسدٌ للصّيام لحديث أنّه قال: ((من ذرَعه القيء فلا قضاءَ عليه، ومن استقاء فعليه القَضاء))[6]، فإذا غلب القيء عليه ولا بدّ مِن خروجه ولم يكن له سببٌ في ذلك فليدَعه يخرج ولا يمنَعه ولا شيءَ عليه، لكن لو تعمّد القيء لثِقل الطّعام على معدته، فتعمّد القيءَ ليرتاح من ذلك الطّعام، فإنّ ذلك مفسِد لصيامه، فإن كان لضرورةٍ فلا إثمَ عليه وعليه القضاء، وإن كان لغير ضرورةٍ أثِم وعليه القضاءُ مع إكمالِ ذلك اليوم.
وممّا يفسِد صيامَ الصائم أيضًا إخراج الدّم، فإخراج الدّم من الجسَد بطريق الحِجامة هذا مفسِد للصيام، لأنّ النبيّ قال: ((أفطر الحاجِم والمحجوم))[7]، والحِجامة إخراجُ الدّم الفاسد، وهو إخراج دمٍ كثير يؤدّي إلى ضعفِ الصائم ولا يستطيع الجمعَ بين إخراج هذا الدّم وبين الصّيام.
وكذلك لو اضطرّ إلى إسعافِ محتاج للدّم، فاضطرّ إلى سحبِ دمٍ منه لضرورةِ إنقاذِ حياة إنسان، فإنّ له أن يسحبَ الدّم، ولكن يقضي هذا اليوم، لأنّ ذلك مثل الحِجامة أو أشدّ منها، لكن لو خرج الدّم من الإنسان مِن غير اختياره؛ رعاف من طريق الأنف، سعالٌ من طريق الفم، ناسور أو باسور، خرَج الدّم من غير اختياره ومن غير طلبه، سقط عليه شيء فأخرج الدّم، وطئ شيئًا فشقّ جلده فأخرج الدّم، فإنّ هذا لا شيءَ عليه؛ لأنّه لم يكن متعمِّدًا لإخراجه، ولا سببَ له في ذلك، فهذا أمر لا يؤثّر عليه.
أمّا لو اضطرّ إلى تحليلِ الدّم وأخذ عيّناتٍ منه لأجل علاجٍ وتشخيصِ أمراض فإنّ هذا التحليل للصائم لا يضرّه وهو صائم، إن استعمله في اللّيل فهو أفضل، وإن اضطرّ إليه في النّهار فيُرجى أن لا يُؤثّر؛ لأنّ هذا دمٌ يسير، فلا أثرَ له ولا يلحَق الصّائم ضررٌ بذلك.
احتياج الصّائم إلى قلعِ سنِّه أثناء النهار لا يؤثّر عليه، خروجُ هذا الدّم المصاحب لقلع السِّنّ لا يؤثّر على الصائم. استعمالُ الصّائم للبخاخ لأجلِ داء الرّبو أو غيره إذا صُرف له فإنّ ذلك لا يؤثّر على صيامه. شمّه بعضَ الأشياء التي جُعلت علاجًا لبعض الأشياء فإنّ هذا أيضًا لا يؤثّر على صوم الصّائم.
خروج حيضِ المرأة مفسدٌ لصيامِها ولو لم يبقَ من النّهار إلا جزءٌ يسير، فإنّ ذلك منافٍ للصّيام إذِ الحائض ممنوعة من الصّيام والصلاة، مأمورة بقضاءِ الصوم دونَ قضاء الصلاة.
وممّا ينبَّه عليه أنّ بعضَ المسائل قد تُشكل على المرأةِ المسلمة في نهار الصّيام، وذلك من أمور.
أوّلاً: ليُعلم أنّ النّفاس لا يسمّى نفاسًا إلاّ إذا خرج من المرأة ما ظهر فيه تخطيط إنسان، فإذا سَقط منها ما ظهر فيه تخطيط إنسان فهذا يسمّى نفاسًا، وهذا لا يكون في الغالبِ إلاّ بعد ما يمضي على الجنين أكثرُ من ثمانين يومًا، أمّا ذا سقط منها ما بين الشّهرين ونحو ذلك، فإنّ هذا لا يسمّى نفاسًا، لأنّه لم يتبيّن فيه خلق إنسان.
أيّتها المرأة المسلمة، إنّ طُهر الحائض قبلَ صلاة الفجر يوجِب عليها الإمساكَ ولو لم تغتسل إلا بعد [طلوع] الفجر، إذا كان هذا الطّهر سابقًا لوقتِ الفجر فإنّه يجب عليها الإمساك ولو لم يكن الاغتسال إلا بعد [طلوع] الفجر.
أيّتها المرأة المسلمة، خروج الدّم غير دَم الحيض لا يوجِب فسادَ الصيام، إنّما يفسد الصيام دمُ الحيض المعتاد المعروف الذي تعرِفه المرأة وتعتاد عليه. كونُ دم الحيض قد يتقدّم أيّامًا أو قد يتأخّر فإنّ ذلك مفسِد للصّيام وإن تقدّم عن وقته أو تأخّر عن وقته. المرأة المسلمة تترك الصّيام أثناءَ الحيض، والحيضُ المعتبَر هو الحيض الذي تعرِفه بمواصفاته الخاصّة عندها، فإذا وجدت ذلك وجب عليها الفطرُ وحرُم عليها الصّيام، ولكن يتساءل كثيرٌ من النّساء عن أمورٍ تخفى عليهنّ في هذا الموضوع.
فمِن ذلك أوّلاً: أنّ بعض النّساء يكون لها عادة شهريّة تُقدّر بأيّام سبعة أو ثمانية، وربّما جاوَز الدّم هذا الوقتَ بأيام، فيقال: هذا الدم الزائد على الوقت إذا كان هذا الدّم زادَ على زمن الحيض فهو ملحَق بالحَيض حتى يمضي خمسةَ عشرَ يومًا، فهو أكثر دمِ الحيض، وما زاد عليه فيجب عليها أن تغتسِل وتصوم.
أمّا خروج أشياء سابقة للحيض أو لاحقةٍ له من كُدرة أو صُفرة فإذا كانت متّصلةً بدم الحيض فإنّها تحسَب من أيّام الحيض، أمّا إذا رأت المرأة طهرَها كاملاً، ثم خرج منها أشياء ليست مِن دم الحيض أو أشياء متقطِّعة فإنّها لا تعتبرها من دم الحيض، إذ هذا الخارج الذي لا يشبِه الحيضَ وإنما هو دمٌ عاديّ فهذا لا يؤثّر على صيام المرأة، ولا يمنعها مواصلةَ الصّيام.
أيّها المسلم، احفَظ صيامَك وصُنه عن كلّ المفسدات، وخذ الاحتياطَ لنفسك، فإنّ الله سائلك عن هذا الصّيام: هل أدّيتَ الأمانةَ فيه المطلوبة شرعًا أم لا؟ أسأل الله لي ولك الفقهَ في الدين، وأن يتقبّل عملنا وعملَكم، وأن يجعلَ أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـٰلَكُمْ [محمد:33].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغريظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1927)، ومسلم في الصيام (1106).
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[7] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، استعمالُ المسلم للعلاج مِن طريق القطَر في العين أو مِن طريق القطَر في الأذن هذا لا يؤثّر على صيام الصّائم. استعماله الإبَر العضَلية أو الوريديّة لأجل فقط العلاجِ الخاصّ هذا لا يؤثّر على صوم الصّائم؛ لأنّ هذا لا يُلحَق بمطعوم ولا بمشروب، فلا يؤثّر ذلك على صيام الصائم. وضعُه كحلاً في عينيه ودواءً في عينيه قطرَة أو غيرها كلّ هذا لا يؤثّر على صيام الصّائم.
أيّها المسلم، إنّ هناك آدابًا للصّيام يجب عليك أن تتأدّب بها ليكون صيامك إن شاء الله صيامًا مقبولاً، فأوّل ذلك أن تعلمَ أنّ الصائم يجب عليه أن يهتمّ بالصّلوات الخمس، وأن يحافِظ عليها في وقتِها جماعةً في المسجد، وأنّ هذا أمر واجب دائمًا وأبدًا، لكن في شهر رمضان يتأكّد عليك، ويجِب أن تعظِّم الصلوات الخمس، وتعظّم أداءها في الوقت وأداءَها جماعة في المساجد، فهذا هو دين الإسلام.
سُئِل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن رجلٍ يقوم الليل ويصوم النّهار ولا يحضر الجمعةَ ولا الجماعة، قال: (هو في النّار)[1]؛ لأنّ أداء الفريضة أمرٌ لا بدّ منه في رمضان أو غيره.
أيّها المسلم، ليكن الصوم مهذِّبًا لسلوكِك، مؤدّبًا لك بآداب الإسلام، فاحذَر في صومك الكذِب، واحذر الغِشّ، واحذَر الخداع، واحذر قولَ الزور، واحذر شهادةَ الزور، واحذَر السِّخاب والسِّباب والشِّتام والأقوالَ البذيئة، ونبيّنا يقول للصائم: ((فإن سابّه أحد أو شاتمه فليقل: إنّي امرؤ صائم))[2]، أي: فليذكّر أنَّ صومَه يمنعه من أنّه يخوض مع الجاهلين ومع السّفهاء في سفهِهم ومع أهلِ الجهالة في جهالتهم.
أيّها الصّائم، لم تؤمَر بالصّيام امتحانًا لصبرِك على الظّمَأ والجوع، ولكن لتهذيبِ أخلاقِك وتأديبِك بالآدابِ الشّرعية، يقول : ((مَن لم يدَع قولَ الزّور والعمَل به والجهلَ فليس لله حاجة في أن يدَع طعامَه وشرابَه))[3].
أيّها الصائم، إيّاك والكذب، وإيّاك وشهادةَ الزور، وإيّاك والأقوالَ الباطلة، إيّاك والأقوال الفاجِرة، إيّاك والأقوال البذيئة، إيّاك والسّماع للباطل والمسلسلاتِ الهابطة الماجِنة المنافيَة للقيَم والأخلاق والمعاديَة لتعاليم الإسلام، فإنّك صائم، فصُن سمعَك عمّا لا يليق، وصن سمعَك عن استماعِ الباطل، وصُن لسانَك عن النّطق بالباطل، وصُن جميعَ جوارحِك عن عملِ الباطل.
إنّ الصومَ يجب أن يكونَ على سمعك وبصرك وعقلِك وفكرِك وسائر جوارحك، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنها: (إذا صمتَ فليصُم سمعك وبصرك عن المحارم، ودَع عنك أذى الجار، ولا تكن في صومِك وفِطرك سواء)[4].
لا بدّ أن يكونَ الصيام مؤثرًا على المسلم في أقوالِه وأعماله، فأقواله طيّبة، وأعماله حسَنة، وتصرّفاته على ما يوافِق الشّرع، فلا يقول إلاّ خيرًا، ولا يسمَع إلا خيرًا، ولا يفكِّر إلاّ فيما يعود عليه بالنّفع في دينِه ودنياه، وليستغلَّ أيّام وليالي صيامِه فيما يصلح دينَه ويقوّم سلوكَه، وليحذَر استماعَ الباطل واستماعَ الملاهي واستماعَ المسلسلات الهابِطة الضالّة المحارِبة لله ورسولِه ولدينِه وقيَم الأمّة وفضائلها، وليكن على حذرٍ من هذا كلِّه، فإنّه صائم، فيصون سمعَه عن استماع الباطِل، وعينيه عن رؤيةِ الباطل، ولسانَه عن التكلّم بالباطل، وليُدم فكرَه فيما يعود عليه بالخير، هكذا الصائم، فلا يكون الصّائم مغتابًا لعباد الله، ولا ساعيًا بينهم بالنّميمة، ولا مروّجًا للأكاذيب والأباطيل، ولا داعيًا إلى ضلال ومُجون، ولا داعيًا إلى شرّ وفسادٍ، وإنّما هو مسلم صامَ رمضانَ صومًا صحيحًا صادقًا بكلّ ما تؤدّيه الكلمة من معاني، صامَ لسانه إلاّ من ذكر وقرآن وما ينفعه، صامَت عيناه فصرَف نظرَه عن محارمِ الخَلق، وصرَف نظره عن محارِم الله، وصرَف نظره عن النّظر إلى ما قد يلقي في قلبه شرًّا، صامَت الأذنان فلم تستمِع الحرام والباطل، ولزِم طاعةَ ربّه، واشتغل بما يعود عليه وبما يصون صومَه عن هذه الأباطيل وعن هذه المحرّمات وعن هذه المسلسَلات الباطلة التي تدعو إلى كلّ شرّ، وفي بعضها سخريّة بالإسلام واستهزاءٌ بأحكامِه وانتقاص لتعاليمِه الحقّة، ولا شكّ أنّ هذا مِن أعظم الباطل.
وفَّق الله المسلمين لالتزام الإسلام في أقوالِهم وأعمالهم، وصان صيامَهم عن كلّ ما يفسده.
فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ في صيامكم، واتلوا كتابَ الله، وتدبّروه التدبّر الصحيح، ففيه خيرٌ في دينكم ودنياكم، إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. اتلوا كتاب الله تلاوةَ المتدبّر المتعقّل المتأمِّل، وقِفوا عند حدوده، وامتثلوا أوامره، واجتنِبوا نواهيَه، وتأدّبوا بآدابه في أحوالكم كلِّها لعلّكم تفلحون.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدي...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (16/243).
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6057) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422) بنحوه.