المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يبين أسباب مخالفة الإمام للحديث


كيف حالك ؟

أبو عبدالله الأثري
01-24-2005, 08:01 PM
الحمد لله على آلائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فى أرضه وسمائه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة الى يوم لقائه وسلم تسليما .

وبعد فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم فى ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد فعلماؤها شرارها الا المسلمين فان علماءهم خيارهم فانهم خلفاء الرسول فى أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا .

وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شىء من سنته دقيق ولا جليل فانهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول وعلى ان كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر فى تركه .

وجميع الاعذار ثلاثة أصناف

أحدها : عدم اعتقاده أن النبى قاله

والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول

والثالث : اعتقاده ان ذلك الحكم منسوخ

وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة

السبب الأول
أن لايكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال فى تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى.

وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فان الاحاطة بحديث رسول لله لم تكن لأحد من الأمة وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحدث أو يفتى أو يقضى أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا ويبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه فينتهى علم ذلك إلى من يشاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم فى مجلس آخر قد يحدث أو يفتى أو يقضى أو يفعل شيئا ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ماليس عند هؤلاء وعند هؤلاء ماليس عند هؤلاء وانما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته .

وأما احاطة واحد بجميع حديث رسول الله فهذا لا يمكن ادعاؤه قط واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله وسنته وأحواله خصوصا الصديق رضي الله عنه الذي لم يكن يفارقه حضرا ولا سفرا بل كان يكون معه فى غالب الأوقات حتى أنه يسمر عنده بالليل فى أمور المسلمين وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فانه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت انا وأبو بكر وعمر ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر رضى الله عنه عن ميراث الجدة قال مالك فى كتاب الله من شيء وما علمت لك فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء ولكن أسأل الناس فسألهم فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا ان النبى أعطاها السدس وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين أيضا وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التى قد اتفقت الأمة على العمل بها
وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها ابو موسى واستشهد بالأنصار وعمر أعلم ممن حدثه بهذه السنة
ولم يكن عمر أيضا يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب اليه الضحاك بن سفيان وهو أمير لرسول الله على بعض البوادي يخبره أن رسول الله ورث امرأة اشيم الضبابى من دية زوجها فترك رأيه لذلك وقال لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه
ولم يكن يعلم حكم المجوس فى الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أن رسول الله قال ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) ولما قدم سرغ وبلغه أن الطاعون بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح فاشار كل عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فاخبره بسنة رسول الله فى الطاعون وأنه قال ( إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بارض فلا تقدموا عليه )
وتذاكر هو وابن عباس أمر الذى يشك فى صلاته فلم يكن قد بلغته السنة فى ذلك حتى قال عبد الرحمن بن عوف عن النبى ( إنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن )
وكان مرة فى السفر فهاجت ريح فجعل يقول من يحدثنا عن الريح قال أبو هريرة فبلغنى وأنا فى أخريات الناس فحثثت راحلتى حتى أدركته فحدثته بما أمر به النبى عند هبوب الريح
فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه اياها من ليس مثله ومواضع أخر لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى فيها أو أفتى فيها بغير ذلك مثل ما قضى فى دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبى موسى وابن عباس وهما دونه بكثير فى العلم علم بأن النبى قال ( هذه وهذه سواء يعني الابهام والخنصر ) فبلغت هذه السنة لمعاوية رضي الله عنه فى إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك ولم يكن عيبا فى عمر رضي الله عنه حيث لم يبلغه الحديث
وكذلك كان ينهى المحرم عن التطيب قبل الإحرام وقبل الافاضة الى مكة بعد رمي جمرة العقبة هو وابنه عبدالله رضي الله عنهما وغيرهما من أهل الفضل ولم يبلغهم حديث عائشة رضى الله عنها ( طيبت رسول الله لاحرامه قبل ان يحرم ولحله قبل أن يطوف )
وكان يأمر لابس الخف ان يمسح عليه الى أن يخلعه من غير توقيت واتبعه على ذلك طائفة من السلف ولم تبلغهم احاديث التوقيت التى صحت عند بعض من ليس مثلهم فى العلم وقد روي ذلك عن النبى من وجوه متعددة صحيحة
وكذلك عثمان رضي الله عنه لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد فى بيت الموت حتى حدثته الفريعة بنت مالك أخت أبى سعيد الخدري بقضيتها لما توفى زوجها وان النبى قال لها ( أمكثى فى بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) فأخذ به عثمان وأهدى له مرة صيد كان قد صيد لأجله فهم بأكله حتى أخبره على رضي الله عنه أن النبى رد لحما أهدي له
وكذلك علي رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء ان ينفعنى منه وإذا حدثنى غيره استحلفته فاذا حلف لى صدقته وحدثنى أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر حديث صلاة التوبة المشهور
وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بان المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد بأبعد الأجلين ولم يكن قد بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبى صلى الله عليه وسلم بان عدتها وضع حملها
وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بان المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بروع بنت واشق
وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله عليه وسلم عددا كثيرا جدا
وأما المنقول منه عن غيرهم فلا يمكن الاحاطة به فانه ألوف فهؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص فخفاء بعض السنة عليه أولى فلا يحتاج الى بيان فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو امام معينا فهو مخطىء خطا فاحشا قبيحا
ولا يقولن قائل الأحاديث قد دونت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد لأن هذه الدواوين المشهورة فى السنن انما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين ومع هذا فلا يجوز ان يدعى انحصار حديث رسول الله فى دواوين معينة ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله فليس كل ما فى الكتب يعلمه العالم ولا يكاد ذلك يحصل لأحد بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين اعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا الا عن مجهول أو باسناد منقطع أولا يبلغنا بالكلية فكانت دواوينهم صدورهم التى تحوي اضعاف ما فى الدواوين وهذا امر لا يشك فيه من علم القضية
ولا يقولن قائل من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا لأنه ان اشترط فى المجتهد علمه بجميع ما قاله النبى وفعله فيما يتعلق بالأحكام فليس في الأمة مجتهد وانما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل ثم انه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذى يبلغه .

السبب الثاني
ان يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الاسناد مجهول عنده أو متهم أو سيء الحفظ وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث قد رواه الثقات لغيره باسناد متصل بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة أو يكون قد رواه غير أولئك المجروحين عنده أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة وقد ضبط الفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها
وهذا أيضا كثير جدا وهو فى التابعين وتابعيهم الى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول او كثير من القسم الأول فان الآحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت لكن كانت تبلغ كثيرا من العلماء من طرق ضعيفة وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه مع انها لم تبلغ من خالفها من هذا الوجه ولهذا وجد فى كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته فيقول قولي فى هذه المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا فان كان صحيحا فهو قولي .

السبب الثالث
اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول كل مجتهد مصيب ولذلك أسباب
منها أن يكون المحدث بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا ويعتقده الآخر ثقة ومعرفة الرجال علم واسع ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه لاطلاعه على سبب جارح وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته ان ذلك السبب غير جارح اما لأن جنسه غير جارح أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح وهذا باب واسع وللعلماء بالرجال وأحوالهم فى ذلك من الاجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم فى علومهم
ومنها أن لايعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب ذلك معروفه
ومنها أن يكون للمحدث حالان حال استقامة وحال اضطراب مثل أن يختلط أو تحترق كتبه فما حدث به فى حال الاستقامة صحيح وما حدث به فى حال الاضطراب ضعيف فلا يدرى ذلك الحديث من أي النوعين وقد علم غيره أنه مما حدث به فى حال الاستقامة
ومنها أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد أو انكر أن يكون حدثه معتقدا أن هذا علة توجب ترك الحديث ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به والمسألة معروفة
ومنها ان كثيرا من الحجازيين يرون ان لا يحتج بحديث عراقي او شامى ان لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال قائلهم نزلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقيل لآخر سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة قال ان لم يكن له أصل بالحجاز فلا
وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء وان أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها
وبعض العراقيين يرى أن لايحتج بحديث الشاميين وان كان اكثر الناس على ترك التضعيف بهذا فمتى كان الاسناد جيدا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيا أو عراقيا أو شاميا أو غير ذلك
وقد صنف أبو داود السجستانى كتابا فى مفاريد أهل الأمصار من السنن يبين ما اختص به أهل كل مصر من الأمصار من السنن التى لا توجد مسندة عند غيرهم مثل المدينة ومكة والطائف ودمشق وحمص والكوفة والبصرة وغيرها الى أسباب أخر غير هذه .

السبب الرابع
اشتراطه فى خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره .
مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة .
واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيها اذا خالف قياس الأصول .
واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره اذا كان فيما تعم به البلوى الى غير ذلك مما هو معروف فى مواضعه .

السبب الخامس
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه وهذا يرد فى الكتاب والسنة مثل الحديث المشهور عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب فى السفر فلا يجد الماء فقال لا يصل حتى يجد الماء فقال له عمار يا أمير المؤمنين أما تذكر اذ كنت أنا وأنت فى الابل فاجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة وأما أنت فلم تصل فذكرت ذلك للنبى فقال ( انما يكفيك هكذا وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه فقال له عمر اتق الله يا عمار فقال ان شئت لم أحدث به فقال بل نوليك من ذلك ما توليت ) فهذه سنة شهدها عمر ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر وهو لم يكذب عمارا بل أمره أن يحدث به
وأبلغ من هذا انه خطب الناس فقال لا يزيد رجل على صداق أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وبناته الا رددته فقالت امرأة يا أمير المؤمنين لم تحرمنا شيئا أعطانا الله اياه ثم قرأت ( وآتيتم احداهن قنطارا ) فرجع عمر الى قولها وقد كان حافظا للآية ولكن نسيها
وكذلك ما روي ان عليا ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده اليهما رسول االله صلى الله عليه وسلم فذكره حتى انصرف عن القتال وهذا كثير فى السلف والخلف .

السبب السادس
عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي فى الحديث غريبا عنده مثل لفظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة والمنابذة والغرر الى غير ذلك من الكلمات الغريبة التى قد يختلف العلماء فى تفسيرها وكالحديث المرفوع ( لا طلاق ولا عتاق فى اغلاق ) فانهم قد فسروا الاغلاق بالاكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير
وتارة لكون معناه فى لغته وعرفه غير معناه فى لغة النبى صلى الله عليه وسلم وهو يحمله على ما يفهمه فى لغته بناء على ان الاصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم آثارا فى الرخصة فى النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر لأنه لغتهم وانما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد فانه جاء مفسرا فى أحاديث كثيرة صحيحة وسمعوا لفظ الخمر فى الكتاب والسنة فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة بناء على انه كذلك فى اللغة وان كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر
وتارة لكون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حقيقة ومجاز فيحمله على الأقرب عنده وان كان المراد هو الآخر كما حمل جماعة من الصحابة فى أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وكما حمل آخرون قوله ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) على اليد الى الابط
وتارة لكون الدلالة من النص خفية فان جهات دلالات الأقوال متسعة جدا يتفاوت الناس فى إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا فى ذلك العام ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك
وهذا باب واسع جدا لا يحيط به الا الله وقد يغلط الرجل فيفهم من الكلام مالا تحمله اللغة العربية التى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بها .

السبب السابع
اعتقاده أن لا دلالة فى الحديث والفرق بين هذا وبين الذي قبله ان الأول لم يعرف جهة الدلالة والثانى عرف جهة الدلالة لكن اعتقد انها ليست دلالة صحيحة بان يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة سواء كانت فى نفس الأمر صوابا أو خطأ مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة وان المفهوم ليس بحجة وان العموم الوارد على سبب مقصور على سببه أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب أو لا يقتضى الفور أو أن المعرف باللام لا عموم له أو ان الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها أو ان المقتضى لا عموم له فلا يدعى العموم فى المضمرات والمعاني الى غير ذلك مما يتسع القول فيه فان شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف منه فى هذا القسم وان كانت الأصول المجردة لم تحط بجميع الدلالات المختلف فيها وتدخل فيه أفراد أجناس الدلالات هل هي من ذلك الجنس أم لا مثل أن يعتقد أن هذا اللفظ المعين مجمل بأن يكون مشتركا لا دلالة تعين أحد معنييه أو غير ذلك .

السبب الثامن
اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز الى أنواع المعارضات ، وهو باب واسع أيضا فان تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم .

السبب التاسع
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله ان كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أو مثل اجماع وهذا نوعان
أحدهما أن يعتقد أن هذا المعارض راجح فى الجملة فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها
وتارة يعين أحدها بأن يعتقد أنه منسوخ أو أنه مؤول ثم قد يغلط فى النسخ فيعتقد المتأخر متقدما وقد يغلط فى التأويل بأن يحمل الحديث على ما لا يحتمله لفظه أو هناك ما يدفعه واذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالا وقد لا يكون الحديث المعارض فى قوة الأول اسنادا أو متنا وتجيء هنا الاسباب المتقدمة وغيرها فى الحديث الاول والاجماع المدعى فى الغالب انما هو عدم العلم بالمخالف
وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا الى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضى خلاف ذلك لكن لا يمكن العالم أن يبتدىء قولا لم يعلم به قائلا مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه حتى أن منهم من يعلق القول فيقول ان كان فى المسألة اجماع فهو أحق ما يتبع والا فالقول عندي كذا وكذا
وذلك مثل من يقول لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم ويقول اجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث وتوريثه محفوظ عن علي وابن مسعود وفيه حديث حسن عن النبى
ويقول آخر لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبى فى الصلاة وايجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم قول أهل العلم الذين أدركهم فى بلاده وأقوال جماعات غيرهم كما تجد كثيرا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين وكثير من المتأخرين لا يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين وما خرج عن ذلك فانه عنده يخالف الاجماع لأنه لا يعلم به قائلا وما زال يقرع سمعه خلافه فهذا لا يمكنه ان يصير الى حديث يخالف هذا لخوفه أن يكون هذا خلافا للاجماع أو لاعتقاده أنه مخالف للاجماع والاجماع أعظم الحجج
وهذا عذر كثير من الناس فى كثير مما يتركونه وبعضهم معذور فيه حقيقة وبعضهم معذور فيه وليس فى الحقيقة بمعذور وكذلك كثير من الاسباب قبله وبعده .

السبب العاشر
معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارض أو لا يكون فى الحقيقة معارضا راجحا كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن واعتقادهم ان ظاهر القرآن من العموم ونحوه مقدم على نص الحديث ثم قد يعتقد ما ليس بظاهر ظاهرا لما فى دلالات القول من الوجوه الكثيرة
ولهذا ردوا حديث الشاهد واليمين وإن كان غيرهم يعلم أن ليس فى ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين ولو كان فيه ذلك فالسنة هي المفسرة للقرآن عندهم
وللشافعي فى هذه القاعدة كلام معروف ولأحمد فيها رسالته المشهورة فى الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضع عن ذكره
ومن ذلك دفع الخبر الذي فيه تخصيص لعموم الكتاب او تقييد لمطلقه او فيه زيادة عليه واعتقاده من يقول ذلك ان الزيادة على النص كتقييد المطلق نسخ وأن تخصيص العام نسخ وكمعارضه طائفه من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة بناء على أنهم مجمعون على مخالفة الخبر وأن اجماعهم حجة مقدمة على الخبر كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الاصل وان كان أكثر الناس قد يثبتون ان المدنيين قد اختلفوا فى تلك المسألة وانهم لو أجمعوا وخالفهم غيرهم لكانت الحجة فى الخبر
وكمعارضة قوم من البلدين بعض الأحاديث بالقياس الجلي بناء على أن القواعد الكلية لا تنقض بمثل هذا الخبر
الى غير ذلك من أنواع المعارضات سواء كان المعارض مصيبا أو مخطئا فهذه الأسباب العشرة ظاهرة وفى كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة فى ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها فان مدارك العلم واسعة ولم نطلع نحن على جميع ما فى بواطن العلماء والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها وإذا ابداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ إذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه سواء كانت الحجة صوابا فى نفس الأمر أم لا لكن نحن وان جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم الى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وان كان أعلم اذ تطرق الخطأ الى آراء العلماء أكثر من تطرقه الى الادلة الشرعية فان الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عبادة بخلاف رأي العالم
والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر ورأي العالم ليس كذلك ولو كان العمل بهذا التجويز جائز لما بقي فى أيدينا شىء من الأدلة التى يجوز فيها مثل هذا لكن الغرض أنه فى نفسه قد يكون معذورا فى تركه له ونحن معذورون فى تركنا لهذا الترك وقد قال سبحانه ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ) الآية وقال سبحانه ( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول )
وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبى بقول أحد من الناس كما قال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث فقال له قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر .



درر من كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام

شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

12d8c7a34f47c2e9d3==