الآجري
12-16-2004, 01:37 PM
اللهجات العربية
تمهيد
تساءل العلماء كثيراً عن العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ووصَلَنا بها الشعر الجاهلي، وكُتِبَ بها تراثُنا الإسلامي، والتي لا تزال لغة العرب في كل مكان، ويستخدمها المسلمون في العالم كله في عباداتهم، وفي كثير من شؤون حياتهم، تساءلوا: هل كانت قبائل العرب جميعاً تتكلم بهذه اللغة، أو هي لغة قريش وحدها سادت بعد الإسلام ونزول القرآن بها؟
ولقد اختلف العلماء في الإجابة عن هذا السؤال، فمنهم من ادعى أن العربية التي وصلتنا هي لغة قريش وحدها.
ومنهم من قال: إنها لغة مشتركة للعرب جميعاً، تعاملوا بها، واستعملوها في لقاءاتهم ومواسمهم الدينية والثقافية والتجارية، وإلى جانب هذه اللغة كان لكل قبيلة لهجة خاصة بها، أو لغة خاصة.
وإذا كان الرأي الثاني هو الأرجح فهل يعني أن القبائل العربية المتعددة كانت تتكلم بلغات، أو بلهجات بعيدة عن الفصحى المشتركة؟ .
وهل وجود هذه اللهجات يعني أن العرب لم يكونوا جميعاً يتكلمون الفصحى، أو يتعاملون بها؟ .
أو أنهم كانوا يتعاملون في حياتهم اليومية بلغات خاصة ثم يتخاطبون بالفصحى عند لقاءاتهم؟ .
والإجابة القاطعة على هذه التساؤلات ليست سهلة لأمور منها ما يلي:
1- أن ما وصلنا من روايات عن لهجات العرب قبل الإسلام ليس بالشيء الكثير الذي يمكن أن يصور لنا حجم هذه اللهجات ومدى بعدها أو قربها من الفصحى.
2- وأن ما وصلنا من أدب جاهلي لا يمثل اللهجات الخاصة بقبائل شعرائه بقدر ما يمثل الفصحى.
3- ولأن العلماء أضربوا كثيراً عن نقل اللهجات لأن ما وصلنا من أخبار وروايات عن اللهجات العربية، وما جاء منها في القراءات المتواترة وغير المتواترة يمكن أن يُستنتج منه بعضُ خصائص اللهجات العربية، ويبين لنا أن الاختلافات بين اللهجات لا تعدو أن تكون اختلافات قليلة من إمالة صوت أو إبداله، أو إدغامه، أو إعمال حرف عند قبيلة تهمله قبيلة أخرى، أو اختلاف في دلالة لفظ بين قبيلة وأخرى، أو أنها - بصفة عامة - لا ترقى إلى درجة الزعم بأن اللهجات العربية كانت متباعدة، أو أنه كان لكل قبيلة لهجة خاصة.
وقبل الحديث عن أشهر سمات اللهجات العربية وما بقي منها في عربيتنا اليوم لابد من التقديم بحديث عن تعريف اللهجة، وأسباب حدوثها، والغرض من دراسة اللهجات.
تعريف اللهجة، وأسباب حدوثها، والغرض من دراستها، وانقسام اللهجات، والعلاقة بينها
أولاً: معنى اللهجة: يفهم من معنى اللهجة في المعاجم العربية أنها اللغة، أو طريقة أداء اللغة، أو النطق، أو جرس الكلام ونغمته.
ويعرفها المُحْدَثون بأنها: الصفات أو الخصائص التي تتميز بها بيئة ما في طريقة أداء اللغة أو النطق.
ثانياً: انقسام اللهجات والعلاقة بينها:
وبناءاً على ذلك التعريف السابق فاللغة الواحدة قد تنقسم إلى عدة بيئات لغوية لكل منها لهجة خاصة، أو صفات لغوية معينة، ويشترك أفراد البيئات المختلفة أو المتكلمون باللهجات المتعددة - في أكثر خصائص اللغة.
فإذا قلنا: اللغة العربية قصدنا اللغة التي يتفاهم بها المسلمون، ويقرؤون بها ويكتبون، ويسمعون عباراتهم، فيفهمونها.
أما إذا قلنا لهجة الجنوب، أو الشام قصدنا طريقة أداء أهل تلك المنطقة للغة، فقد تكون لهم خصائص معينة يختلفون فيها عن غيرهم.
والخصائص التي تميز اللهجة قد تكون صوتية؛ فجماعة تنطق القاف كافا، أو الجيم ياء، أو الذال زايا. . .
وقد يكون في ترقيق صوت أو تفخيمه، أو في طريقة النبر ونظام المقاطع.
وقد تكون هذه الخصائص في بنية الكلمة ووزنها، وفي تقديم بعض الأصوات على بعض.
وقد يكون الاختلاف في تركيب الجملة، والربط بين أجزائها كما قد يكون في دلالات بعض الألفاظ.
ولكن اللهجات التي تنتمي إلى لغة واحدة يجمع بينها روابط صوتية ولفظية، ودلالية، وتركيبية كبيرة.
وكلما ازدادت الصفات المشتركة بين مجموعة اللهجات ازداد التقارب بينها.
وعلى العكس من ذلك إذا قلت الصفات المشتركة بين هذه اللهجات ابتعدت عن بعضها حتى تصبح هذه اللهجات مع مرور الزمان كأنها لغات لا يربط بينها إلا روابط ضعيفة.
ويذكر أن أكثر اللغات المعروفة انفصلت عن لغات أسبق، فهي - في الأصل - لهجة من اللغة الأم أو فرع منها، ثم اتسعت الفروق بينها وبين اللغة الأصلية حتى غدت لغة مستقلة كما حدث في مجموعات اللغات الهندية الأوربية، أو في اللغات السامية.
ثالثاً: أسباب حدوث اللهجات: وهناك عوامل مختلفة تؤدي إلى حدوث اللهجات، منها ما يلي:
1- العامل الجغرافي: فقد تتسع الرقعة الجغرافية للمتكلمين باللغة، وتفصل بينهم الجبال والأنهار، ويقل الاتصال بينهم؛ فتأخذ اللغة في التغيير شيئاً فشيئاً ويسلك المتكلمون باللغة مسلكاً مختلفاً عن غيرهم، فيؤدي ذلك إلى حدوث لهجة جديدة.
2- العامل الاجتماعي: فالظروف الاجتماعية في البيئات المتعددة الطبقات تساعد على حدوث اللهجات؛ فكل طبقة تحاول أن يكون لها لغتها، أو أسلوبها اللغوي المميز.
3- العامل السياسي: فانفصال قبيلة أو دولة عن غيرها، واعتناق المذاهب السياسية، أو الدخول في الديانات الجديدة يساعد على دخول ألفاظ واصطلاحات جديدة في اللغة.
4- الصراع اللغوي والاحتكاك: وربما كان ذلك أهم العوامل التي تساعد على حدوث اللهجات؛ فالصراع يؤدي إلى انتصار إحداها على الأخرى طبقاً لقوانين لغوية؛ فالأقوى حضارةً ومادةً قد يُكتَب له الانتصار، ولكن اللغة المغلوبة تترك أثرها في الغالبين، وتؤدي إلى تطور، أو تغير في لغتهم.
كما أن اختلاط الأقوام ببعضهم يؤدي إلى التغييرات اللغوية، فاللغات السامية التي دخلت العراق احتكت بالسومرية، وانتصر الساميون على السكان الأصليين للعراق بعد أن أخذوا منهم الكثير، وبعد أن فقدوا كثيراً من مميزات لغتهم الأصلية.
والمسلمون بعد فتح فارس، والمغرب وغيرها نشروا العربية.
ولكن لهجات خاصة نشأت في تلك البلاد نتيجة الاحتكاك بين الفاتحين وسكان البلاد الأصليين.
رابعاً: اللهجة الخاصة: إلى جانب اللهجة التي سبق الحديث عنها، وعن أسباب حدوثها هناك ما يسمى بـ اللهجة أو اللغة الخاصة، وهي تلك التي تستعملها طوائف وجماعات خاصة؛ ففي سلك القضاء أو الطب، أو أعمال الحداد، أو النجارة، أو بين اللصوص وقطاع الطرق تجد ألفاظاً واصطلاحات لا تستخدم إلا عندهم، وتمتاز هذه اللغات باستخدام التعبيرات الاستعارية، واستعمال الألفاظ في غير مدلولاتها الحقيقية، وقد تنشأ هذه اللهجات نتيجة شعور أصحابها بالعزلة أو معاداتهم للنظام، أو رغبة في التمويه، أو تمييز أنفسهم.
خامساً: اللغة المشتركة:
ويقصد باللغة المشتركة مجموعة الصفات اللغوية التي تجمع بين لهجات اللغة الواحدة، وتجعل الأفراد المتكلمين بهذه اللهجات يتفاهمون مع بعضهم بسهولة، فهي لغة وسيطة تقوم بين المتكلمين بلهجات مختلفة.
وتتميز اللغة المشتركة - إضافة إلى أنها مفهومة لدى جميع المتكلمين بها أو سامعيها - أنها فوق مستوى العامة، وأنها لا تنتمي إلى بيئة واحدة، وإنما هي مزيج بين اللغات أو اللهجات المختلفة.
سادساً: لماذا ندرس اللهجات؟:
اللهجة ظاهرة لغوية موجودة في كل بيئة وفي كل عصر، ودراسة اللهجة ليس دعوة إلى نصرة اللهجات والعاميات، ولكن دراسة اللهجات العربية لها مسوغات، وينتج عنها فوائد منها:
1- أنها تفيد في تفسير بعض قضايا العربية ومفرداتها ودلالاتها؛ فظواهر الاشتراك، والتضاد، والترادف، والإبدال، وغيرها يمكن أن يُرَدَّ كثيرٌ منها إلى اختلاف اللهجات العربية.
2- ودراسة اللهجات تعين على تفسير كثير من القراءات القرانية، ومعرفة اللهجات التي وردت عليها.
3- كما يفسر لنا كثيراً من اللهجات الحديثة ويعرفنا بأصولها، وكيفية حدوثها.
لقد كان لسيادة اللغة القرشية - لغة القرآن الكريم - أثر كبير في نظرة علماء العربية إلى غيرها من اللهجات؛ حيث أضرب بعضهم عن نقل غير الفصيح، لأنهم يفضلون لغة قريش على غيرها.
وسيمر بنا عند الحديث عن لغة أو لهجة قريش أنه كان لها النصيب الأوفى، والقِدْحُ المعلى في الفصحى، وأن قريشاً كانت تختار من لغات العرب أفصحها، فتضمها إلى لغتها، وتستعملها.
وعلى الرغم من شيوع تلك اللغة في العصر الجاهلي، وأنها أصبحت لغة الأدب عامة، وأن القبائل العربية قد اصطلحت فيما بينها على هذه اللغة الفصحى، وأن الشعراء كانوا على اختلاف قبائلهم وتباعدها وتقاربها ينظمون شعرهم في تلك اللغة، وأن الواحد منهم إذا أراد نظم الشعر تجافى عن لهجة قبيلته المحلية إلى تلك اللهجة الأدبية العامة، بالرغم من ذلك كله كانت هناك لهجات كثيرة تميزت بها بعض القبائل، وظلت آثارها واضحة على ألسنتها إلى القرن الثاني للهجرة، حيث سجلها بعض اللغويون، وأطلقوا عليها ألقاباً تدل على استهجان هذه اللهجات ولم يكونوا يُعنون بنسبة هذه اللهجات إلى أصحابها؛ فقد كانت تهمهم الصحة اللغوية، وكأنهم يريدون التنبيه على ما يخالف اللغة الأدبية العامة التي نزل بها القرآن؛ ولهذا يلاحظ أنهم قد يختلفون في نسبة اللهجة؛ فقد ينسبها عالم إلى قبيلة، وينسبها غيره إلى قبيلة أخرى.
ولهذا استحسن بعض الباحثين أن يقسم أنواع الاختلاف إلى خمسة أقسام وهي:
القسم الأول: لغات منسوبة ملقبة: ومعنى ذلك أنها تنسب إلى قبيلة أو قبائل، وأن لها لقباً تعرف به.
وقد عده العلماء من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ.
وهو كذلك بعد هذبت اللغة، وأطبقت العرب على المنطق الحر، والأسلوب المصفى، وسيأتي نماذج لأمثلة من ذلك.
القسم الثاني: لغات منسوبة غير ملقبة تجري في إبدال الحروف.
القسم الثالث: لغات من ذلك في تغير الحركات.
القسم الرابع: لغات غير منسوبة ولا ملقبة.
القسم الخامس: لغة أو لثغة في منطق العرب.
أمثلة للقسم الأول:
1- الكشكشة: وهي في ربيعة ومضر، وقد تروى لأسد، وهوازن.
والكشكشة: هي إبدال كاف الخطاب في المؤنث شيناً في حالة الوقف وهو الأشهر، وبعضهم يثبتها في حال الوصل - أيضاً - .
فيقولون في رأيتكِ: رأيتكش، وبكِ: بكش، وعليكِ: عليكش.
وبعضهم يجعل الشين مكان الكاف ويكسرها في الوصل، ويسكنها في الوقف فيقولون في مررت بك اليوم: مررت بشِ اليوم، وفي مررت بكْ في الوقف: مررت بشْ.
وأنشدوا على ذلك قول المجنون:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها * ولكن عظم الساق منشِ iiدقيق
يريد: عيناك، وجيدك، ومنك.
وقول الآخر:
يا دار حييت ومن ألم iiبش * عهدي ومن يحلل بواديش يعش
يريد: بكِ، وبواديكِ.
وقال ابن جني: " قرأت على أبي بكر محمد بن الحسين عن أبي العباس أحمد بن يحيى - ثعلب - لبعضهم:
علي فيما أبتغي iiأبغيش * بيضاء ترضيني ولا ترضيشِ
وتطبِّي ودَّ بني iiأبيشِ * إذا دنوت جعلت تُنئيشِ
وإن نأيت جعلت iiتدنيشِ * وإن تكلمت حثت في فيشِ
حتى تنُقِّي كنقيق iiالدِّيشِ
فشبه كاف الديك بكاف ضمير المؤنث.
ومن كلامهم: إذا أعياش جاراتش فأقبلي على ذي بيتش ".
2- الكسكسة: وهي إبدال كاف المخاطبة سيناً، أو زيادة سين على كاف المخاطبة؛ وهي كالكشكشة إلا أن السين تحل محل الشين، في هذه اللهجة.
وبعض العلماء ينسبها إلى ربيعة ومضر وبكر وهوازن.
ونقل الحريري أنها لبكر لا لربيعة ومضر، وهي فيما نقله زيادة سين بعد كاف المخاطب.
وروى صاحب القاموس أنها لتميم لا لبكر، وفسرها كما فسرها الحريري.
3- الشنشنة: وهي قلب الكاف شيناً مطلقاً، فيقولون: في لبيك اللهم لبيك: لبيش اللهم لبيش، ويقولون في: كيف: شيف، أو تشيف.
وتنسب هذه اللهجة إلى قبائل من اليمن، وتغلب، وقضاعة.
ويلحظ أن الشنشنة، والكشكشة لهما بقايا في عديد من اللهجات العربية في الخليج العربي والشام.
4- التلتلة: وهي كسر أحرف المضارعة مطلقاً، وينسبها بعض العلماء إلى كثير من قبائل العرب كتيم، وخصوصاً بطن بهراء منها.
وتنسب كذلك إلى قيس وغيرها.
بل زعم بعضهم أن هذه لغة العرب جميعاً عدا أهل الحجاز.
وقد جاءت هذه اللهجة في القرآت القرآنية مثل: (نِستعين، وتِبيض، وتِسود).
ونسب ابن فارس هذا الكسر لأسد، وقيس إلا أنه جعله عاماً في أوائل الألفاظ فمثل له بقوله: (مثل: تِعلمون، ونِعلم، وشِعير، وبِعير).
5- الطمطمائية: وهي إبدال لام التعريف ميماً.
وقد جاء على اللهجة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس من أمبر امصيام في أمسفر " أي: (ليس من البر الصيام في السفر).
وتنسب إلى طيء، والأزد، وقبائل اليمن بعامة.
ولا تزال في بعض قبائل جنوب الجزيرة واليمن.
6- العنعنة: وهي قلب الهمزة المبدوء بها عيناً.
فيقولون في: إنك: عِنكَّ، وفي أسلم: عسلم، وفي إذن: عِذن، وهلم جرا.
وتعزى هذه الظاهرة إلى تميم، وقيس، وأسد، وقضاعة.
7- العجعجة: وهي جعل الياء المشددة جيماً، فيقولون في تميمي: تميمج.
وكذا يجعلون الياء الواقعة بعد عين، فيقولون في الراعي: الراعج وهكذا.
وتنسب هذه اللهجة إلى قضاعة؛ ولهذا يقال: عجعجة قضاعة.
وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا؛ فلا تكاد تظهر حروفهم، وقد سمى بعض العلماء ذلك منهم (غمغمة قضاعة).
وتنسب العجعجة إلى بعض قبائل تميم.
وقد ورد عليها شواهد شعرية كثيرة أودعها النحاة والصرفيون كثيراً من مؤلفاتهم.
قال الأصمعي: حدثني خلف، قال: أنشدني رجل من أهل البادية - وقرأتها عليه في الكتاب:
عمي عويف وأبو iiعلج * المطعمان اللحم في العشجِّ
وما لغداة فلق iiالبرنجْ * تُقلع بالودِّ iiوبالصِّيْصِجِّ
يريد أبو علي، وبالعشي، والبرني - وهوضرب من أجود التمر - وبالصيصية، وهي قرن البقرة، ويروى البيت: خالي عويف...
وأنشد الفراء لبعضهم:
يا رب إن كنت قبلت حِجَّتِجْ * فلا يزال شاحِجٌ يأتيك iiبجْ
أقمرُ نَهَّاتٌ يُنَزّي iiوفْرَتجْ
أي: يريد: حجتي، ويأتيك بي، والشاحج: السريع من الدواب، ويروى: شامخ، والأقمر: الأبيض، والنهات: النهَّاق، ويتنزي: يحرك، والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن.
8- الوتم: في لغة اليمن، وهو جعل السين تاء؛ فيقولون في الناس: النات.
ويستشهد اللغويون على ذلك بقول علباء بن أرقم:
يا قبَّح الله بني iiالعلات * عمرو بن يربوع شرار الناتِ
ليسوا أعفاءً ولا أكياتِ
فقوله: النات أي: الناس، وقوله: أكيات أي: أكياس جمع كَيِّس.
9- الوكم: في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب، يكسرون كاف الخطاب في الجمع متى كان قبلها ياء أو كسرة، فيقولون في عليكُم وبِكُم: عليكِمِ، وبكِمِ.
10- الوهم: في لغة كلب يكسرون هاء الغيبة متى وَلِيَتْها ميم الجمع مطلقاً، والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة نحو: عليهِمْ، وبِهِم، فيقولون في مِنْهُم وعنهم وبينهم: مِنهِم، وعنهِم، وبينهِم.
11- الاستنطاء: في لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار؛ حيث يجعلون العين الساكنة نوناً إذا جاوزت الطاء؛ فيقولون في أعطى: أنطى.
وعلى لغتهم قرئ شذوذاً: [إنا أنطيناك الكوثر].
12- القُطعة: في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في مثل: يا أبا الحكم: يا أبا الحكا.
وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو؛ لأن الترخيم مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام.
13- اللخلخائية: وهي تَعْرِض في لغة أعراب الشحر، وعمان، فيحذفون بعض الحروف اللينة، ويقولون في نحو: ما شاء الله: مشا الله.
القسم الثاني: لغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء، ومن أمثلته:
1- في لغة مازن: يبدلون الميم باءً، والباء ميماً، فيقولون في بكر: مكر، ووفي اطمأن: اطبأن.
2- في لغة طيء: يبدلون تاء الجمع هاءًَ إذا وقفوا عليها إلحاقاً لها بتاء المفرد، وقد سُمع من بعضهم: (دفن البناهْ من المكرماه).
يريد: البنات والمكرمات.
وحكى قطرب قول بعضهم: "كيف البنون والبناه، وكيف الإخوة والأخواه".
3- في لغة طيء - أيضاً -: يقلبون الياء ألفاً بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كل ماضٍ ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنياً للمجهول، فيقولون في: رَضِي، وهُدي: رَضَا، وهدَى.
4- في لغة طيء على ما رواه ابن السكيت أنهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون: هن فعلت، يريدون إن فعلت، ومنه قول شاعرهم:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى * لهنك من برق علي كربم
أي: لَئِنك.
5- في لغة تميم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياء على أصل الوزن بدون حذف؛ فيقولون في مبيع: مبيوع.
لكنهم لا يفعلون ذلك إلا إذا كانت عين الفعل واواً إلا ما ندر.
6- في لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياءً ثم يدغمونها؛ توصلاً إلى كسر ما قبل الياء؛ فيقولون في عصاي، وهواي: عّصِيَّ، وهَوِيَّ، كما قال شاعرهم أبو ذؤيب الهذلي:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا iiلهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع
7- في لغة خشعم وزبيد يحذفون نون (من) الجارة إذا وليها ساكن، قال شاعرهم:
لقد ظفر الزوار أقفية iiالعدا * بما جاوز الآمال م الأسر والقتل
ومعنى الزوار: السيوف، وقول م الأسر: أي من الأسر. . .
وقد شاعت هذه اللغة في الشعر، واستخفها كثير من الشعراء، فتعاوروها.
8- في لغة بلحرث يحذفون الألف من (على) الجارة، واللام الساكنة التي تليها، فيقولون: في: على الأرض: علأ رض وهكذا.
9- في لغة بلحرث وخثعم وكنانة يقلبون الياء بعد الفتحة، فيقولون في: إليك، وعليك، ولديه: إلاك، وعَلاك، ولداه.
وهذه موجودة في بعض بادية الجزيرة.
القسم الثالث: من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات، ومن أمثلته:
1- هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقاً إذا وقعت بعد ياء ساكنة؛ فيقولون: لديهُ، وعليهُ، ولغة غيرهم كسرها.
وعلى منطق أهل الحجاز قرأ حفص وحمزة: [ما أنسانيهُ إلا الشيطان] و [عاهد عليهُ الله].
أما غيرهما فيكسر الياء.
2- في لغة بني يربوع - وهم من بني تميم - يكسرون ياء المتكلم إذا أضيف إليها جمع المذكر السالم، فيقولون: في نحو ضاربيَّ: ضاربيِّ وهكذا.
3- وقال ابن جني: "إن أبا الحسن - الأخفش - حكى أن سكون الهاء في مثل هذا النحو - يعني في ضمير النصب المتصل - لغة لأزد السراة.
ومثل هذا البيت ما رويناه عن قطرب:
وأشربُ الماءَ ما بي نحوهُ عطشٌ * إلا لأنَّ عيونَهْ سالَ واديها
4- وهناك لغات في كلمات، وهي كثيرة جداً منها:
أن تميماً من أهل نجد يقولون: نِهيٌ: للغدير، وغيرهم يفتحها.
والعرب يقولون: رُفقة للجماعة، ولغة قيس: كسر الراء.
والحجازيون يقولون: لعمري، وتميم تقول: (وعملي) ويحكى عنهم (وعمري) -أيضاً-.
5- في لغات الإعراب وهذا كثير - أيضاً - ومنه:
(متى) بمعنى (من) في لغة هذيل، ويجرون بها، سمع من بعضهم: أخرجها متى كُمِّه: أي من كُمِّه، ويروون بيت أبي ذؤيب الهذلي المشهور:
شربن بماء البحر ثم ترفعت * متى لججٍ خضر لهن iiنئيج
وفي لغة ربيعة وغُنْمٍ يبنون (مع) الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبت معْه، ومنه قول جرير:
فريشي منكم وهواي مَعْكم * وإن كانت زيارتكم iiلماما
وإذا وليها ساكن كسروها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبت معِ الرجل، وغُنْمٌ حي من تغلب بن وائل.
القسم الرابع: وهو لغات غير منسوبة ولا ملقبة: وهذا القسم هو اللغة أو أكثرها؛ لأن الذين دونوها جمعوا كل لغات العرب، وجعلوها لغة جنسية؛ فلم يميزوا منطقاً من منطق، ولا أفردوا لغة عن لغة؛ خدمة للتاريخ اللغوي الذي يراد به خدمة القرآن وعلومه.
ولو أراد أحد استغراق هذا النوع لطال به المقام، ومن أمثلة ذلك:
1- إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء: كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي، والأراني، والضفادي.
في سادس: سادي، وفي خامس: خامي.
2- ومن العرب من يجعل الكاف جيماً، فيقول: مثلاً: (الجعبة) في (الكعبة).
وبعضهم ينطق بالتاء طاءً، كأفلطني في أفلتني، قال الخليل: وهي لغة تميمية قحة.
القسم الخامس: وهو ما يرونه على أنه لغة في الكلام، أو لثغة من المتكلم:
وذلك كالألفاظ التي وردت بالراء، والغين، أو بالراء واللام، أو بالزاي والذال، أو بالسين والتاء، أو بالشين والسين.
فكل ذلك مما يشك فيه الرواة، ولا يجزمون بأنه لغة فرد، أو لغة قبيلة.
فاللثغة في السين أن تبدل ثاءً، وفي القاف أن تبدل طاءً، وربما أبدلت كافاً، وهكذا. . .
هذا وسيأتي الكلام عن اللثغة عند الكلام على عيوب المنطق العربي.
منقول
تمهيد
تساءل العلماء كثيراً عن العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ووصَلَنا بها الشعر الجاهلي، وكُتِبَ بها تراثُنا الإسلامي، والتي لا تزال لغة العرب في كل مكان، ويستخدمها المسلمون في العالم كله في عباداتهم، وفي كثير من شؤون حياتهم، تساءلوا: هل كانت قبائل العرب جميعاً تتكلم بهذه اللغة، أو هي لغة قريش وحدها سادت بعد الإسلام ونزول القرآن بها؟
ولقد اختلف العلماء في الإجابة عن هذا السؤال، فمنهم من ادعى أن العربية التي وصلتنا هي لغة قريش وحدها.
ومنهم من قال: إنها لغة مشتركة للعرب جميعاً، تعاملوا بها، واستعملوها في لقاءاتهم ومواسمهم الدينية والثقافية والتجارية، وإلى جانب هذه اللغة كان لكل قبيلة لهجة خاصة بها، أو لغة خاصة.
وإذا كان الرأي الثاني هو الأرجح فهل يعني أن القبائل العربية المتعددة كانت تتكلم بلغات، أو بلهجات بعيدة عن الفصحى المشتركة؟ .
وهل وجود هذه اللهجات يعني أن العرب لم يكونوا جميعاً يتكلمون الفصحى، أو يتعاملون بها؟ .
أو أنهم كانوا يتعاملون في حياتهم اليومية بلغات خاصة ثم يتخاطبون بالفصحى عند لقاءاتهم؟ .
والإجابة القاطعة على هذه التساؤلات ليست سهلة لأمور منها ما يلي:
1- أن ما وصلنا من روايات عن لهجات العرب قبل الإسلام ليس بالشيء الكثير الذي يمكن أن يصور لنا حجم هذه اللهجات ومدى بعدها أو قربها من الفصحى.
2- وأن ما وصلنا من أدب جاهلي لا يمثل اللهجات الخاصة بقبائل شعرائه بقدر ما يمثل الفصحى.
3- ولأن العلماء أضربوا كثيراً عن نقل اللهجات لأن ما وصلنا من أخبار وروايات عن اللهجات العربية، وما جاء منها في القراءات المتواترة وغير المتواترة يمكن أن يُستنتج منه بعضُ خصائص اللهجات العربية، ويبين لنا أن الاختلافات بين اللهجات لا تعدو أن تكون اختلافات قليلة من إمالة صوت أو إبداله، أو إدغامه، أو إعمال حرف عند قبيلة تهمله قبيلة أخرى، أو اختلاف في دلالة لفظ بين قبيلة وأخرى، أو أنها - بصفة عامة - لا ترقى إلى درجة الزعم بأن اللهجات العربية كانت متباعدة، أو أنه كان لكل قبيلة لهجة خاصة.
وقبل الحديث عن أشهر سمات اللهجات العربية وما بقي منها في عربيتنا اليوم لابد من التقديم بحديث عن تعريف اللهجة، وأسباب حدوثها، والغرض من دراسة اللهجات.
تعريف اللهجة، وأسباب حدوثها، والغرض من دراستها، وانقسام اللهجات، والعلاقة بينها
أولاً: معنى اللهجة: يفهم من معنى اللهجة في المعاجم العربية أنها اللغة، أو طريقة أداء اللغة، أو النطق، أو جرس الكلام ونغمته.
ويعرفها المُحْدَثون بأنها: الصفات أو الخصائص التي تتميز بها بيئة ما في طريقة أداء اللغة أو النطق.
ثانياً: انقسام اللهجات والعلاقة بينها:
وبناءاً على ذلك التعريف السابق فاللغة الواحدة قد تنقسم إلى عدة بيئات لغوية لكل منها لهجة خاصة، أو صفات لغوية معينة، ويشترك أفراد البيئات المختلفة أو المتكلمون باللهجات المتعددة - في أكثر خصائص اللغة.
فإذا قلنا: اللغة العربية قصدنا اللغة التي يتفاهم بها المسلمون، ويقرؤون بها ويكتبون، ويسمعون عباراتهم، فيفهمونها.
أما إذا قلنا لهجة الجنوب، أو الشام قصدنا طريقة أداء أهل تلك المنطقة للغة، فقد تكون لهم خصائص معينة يختلفون فيها عن غيرهم.
والخصائص التي تميز اللهجة قد تكون صوتية؛ فجماعة تنطق القاف كافا، أو الجيم ياء، أو الذال زايا. . .
وقد يكون في ترقيق صوت أو تفخيمه، أو في طريقة النبر ونظام المقاطع.
وقد تكون هذه الخصائص في بنية الكلمة ووزنها، وفي تقديم بعض الأصوات على بعض.
وقد يكون الاختلاف في تركيب الجملة، والربط بين أجزائها كما قد يكون في دلالات بعض الألفاظ.
ولكن اللهجات التي تنتمي إلى لغة واحدة يجمع بينها روابط صوتية ولفظية، ودلالية، وتركيبية كبيرة.
وكلما ازدادت الصفات المشتركة بين مجموعة اللهجات ازداد التقارب بينها.
وعلى العكس من ذلك إذا قلت الصفات المشتركة بين هذه اللهجات ابتعدت عن بعضها حتى تصبح هذه اللهجات مع مرور الزمان كأنها لغات لا يربط بينها إلا روابط ضعيفة.
ويذكر أن أكثر اللغات المعروفة انفصلت عن لغات أسبق، فهي - في الأصل - لهجة من اللغة الأم أو فرع منها، ثم اتسعت الفروق بينها وبين اللغة الأصلية حتى غدت لغة مستقلة كما حدث في مجموعات اللغات الهندية الأوربية، أو في اللغات السامية.
ثالثاً: أسباب حدوث اللهجات: وهناك عوامل مختلفة تؤدي إلى حدوث اللهجات، منها ما يلي:
1- العامل الجغرافي: فقد تتسع الرقعة الجغرافية للمتكلمين باللغة، وتفصل بينهم الجبال والأنهار، ويقل الاتصال بينهم؛ فتأخذ اللغة في التغيير شيئاً فشيئاً ويسلك المتكلمون باللغة مسلكاً مختلفاً عن غيرهم، فيؤدي ذلك إلى حدوث لهجة جديدة.
2- العامل الاجتماعي: فالظروف الاجتماعية في البيئات المتعددة الطبقات تساعد على حدوث اللهجات؛ فكل طبقة تحاول أن يكون لها لغتها، أو أسلوبها اللغوي المميز.
3- العامل السياسي: فانفصال قبيلة أو دولة عن غيرها، واعتناق المذاهب السياسية، أو الدخول في الديانات الجديدة يساعد على دخول ألفاظ واصطلاحات جديدة في اللغة.
4- الصراع اللغوي والاحتكاك: وربما كان ذلك أهم العوامل التي تساعد على حدوث اللهجات؛ فالصراع يؤدي إلى انتصار إحداها على الأخرى طبقاً لقوانين لغوية؛ فالأقوى حضارةً ومادةً قد يُكتَب له الانتصار، ولكن اللغة المغلوبة تترك أثرها في الغالبين، وتؤدي إلى تطور، أو تغير في لغتهم.
كما أن اختلاط الأقوام ببعضهم يؤدي إلى التغييرات اللغوية، فاللغات السامية التي دخلت العراق احتكت بالسومرية، وانتصر الساميون على السكان الأصليين للعراق بعد أن أخذوا منهم الكثير، وبعد أن فقدوا كثيراً من مميزات لغتهم الأصلية.
والمسلمون بعد فتح فارس، والمغرب وغيرها نشروا العربية.
ولكن لهجات خاصة نشأت في تلك البلاد نتيجة الاحتكاك بين الفاتحين وسكان البلاد الأصليين.
رابعاً: اللهجة الخاصة: إلى جانب اللهجة التي سبق الحديث عنها، وعن أسباب حدوثها هناك ما يسمى بـ اللهجة أو اللغة الخاصة، وهي تلك التي تستعملها طوائف وجماعات خاصة؛ ففي سلك القضاء أو الطب، أو أعمال الحداد، أو النجارة، أو بين اللصوص وقطاع الطرق تجد ألفاظاً واصطلاحات لا تستخدم إلا عندهم، وتمتاز هذه اللغات باستخدام التعبيرات الاستعارية، واستعمال الألفاظ في غير مدلولاتها الحقيقية، وقد تنشأ هذه اللهجات نتيجة شعور أصحابها بالعزلة أو معاداتهم للنظام، أو رغبة في التمويه، أو تمييز أنفسهم.
خامساً: اللغة المشتركة:
ويقصد باللغة المشتركة مجموعة الصفات اللغوية التي تجمع بين لهجات اللغة الواحدة، وتجعل الأفراد المتكلمين بهذه اللهجات يتفاهمون مع بعضهم بسهولة، فهي لغة وسيطة تقوم بين المتكلمين بلهجات مختلفة.
وتتميز اللغة المشتركة - إضافة إلى أنها مفهومة لدى جميع المتكلمين بها أو سامعيها - أنها فوق مستوى العامة، وأنها لا تنتمي إلى بيئة واحدة، وإنما هي مزيج بين اللغات أو اللهجات المختلفة.
سادساً: لماذا ندرس اللهجات؟:
اللهجة ظاهرة لغوية موجودة في كل بيئة وفي كل عصر، ودراسة اللهجة ليس دعوة إلى نصرة اللهجات والعاميات، ولكن دراسة اللهجات العربية لها مسوغات، وينتج عنها فوائد منها:
1- أنها تفيد في تفسير بعض قضايا العربية ومفرداتها ودلالاتها؛ فظواهر الاشتراك، والتضاد، والترادف، والإبدال، وغيرها يمكن أن يُرَدَّ كثيرٌ منها إلى اختلاف اللهجات العربية.
2- ودراسة اللهجات تعين على تفسير كثير من القراءات القرانية، ومعرفة اللهجات التي وردت عليها.
3- كما يفسر لنا كثيراً من اللهجات الحديثة ويعرفنا بأصولها، وكيفية حدوثها.
لقد كان لسيادة اللغة القرشية - لغة القرآن الكريم - أثر كبير في نظرة علماء العربية إلى غيرها من اللهجات؛ حيث أضرب بعضهم عن نقل غير الفصيح، لأنهم يفضلون لغة قريش على غيرها.
وسيمر بنا عند الحديث عن لغة أو لهجة قريش أنه كان لها النصيب الأوفى، والقِدْحُ المعلى في الفصحى، وأن قريشاً كانت تختار من لغات العرب أفصحها، فتضمها إلى لغتها، وتستعملها.
وعلى الرغم من شيوع تلك اللغة في العصر الجاهلي، وأنها أصبحت لغة الأدب عامة، وأن القبائل العربية قد اصطلحت فيما بينها على هذه اللغة الفصحى، وأن الشعراء كانوا على اختلاف قبائلهم وتباعدها وتقاربها ينظمون شعرهم في تلك اللغة، وأن الواحد منهم إذا أراد نظم الشعر تجافى عن لهجة قبيلته المحلية إلى تلك اللهجة الأدبية العامة، بالرغم من ذلك كله كانت هناك لهجات كثيرة تميزت بها بعض القبائل، وظلت آثارها واضحة على ألسنتها إلى القرن الثاني للهجرة، حيث سجلها بعض اللغويون، وأطلقوا عليها ألقاباً تدل على استهجان هذه اللهجات ولم يكونوا يُعنون بنسبة هذه اللهجات إلى أصحابها؛ فقد كانت تهمهم الصحة اللغوية، وكأنهم يريدون التنبيه على ما يخالف اللغة الأدبية العامة التي نزل بها القرآن؛ ولهذا يلاحظ أنهم قد يختلفون في نسبة اللهجة؛ فقد ينسبها عالم إلى قبيلة، وينسبها غيره إلى قبيلة أخرى.
ولهذا استحسن بعض الباحثين أن يقسم أنواع الاختلاف إلى خمسة أقسام وهي:
القسم الأول: لغات منسوبة ملقبة: ومعنى ذلك أنها تنسب إلى قبيلة أو قبائل، وأن لها لقباً تعرف به.
وقد عده العلماء من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ.
وهو كذلك بعد هذبت اللغة، وأطبقت العرب على المنطق الحر، والأسلوب المصفى، وسيأتي نماذج لأمثلة من ذلك.
القسم الثاني: لغات منسوبة غير ملقبة تجري في إبدال الحروف.
القسم الثالث: لغات من ذلك في تغير الحركات.
القسم الرابع: لغات غير منسوبة ولا ملقبة.
القسم الخامس: لغة أو لثغة في منطق العرب.
أمثلة للقسم الأول:
1- الكشكشة: وهي في ربيعة ومضر، وقد تروى لأسد، وهوازن.
والكشكشة: هي إبدال كاف الخطاب في المؤنث شيناً في حالة الوقف وهو الأشهر، وبعضهم يثبتها في حال الوصل - أيضاً - .
فيقولون في رأيتكِ: رأيتكش، وبكِ: بكش، وعليكِ: عليكش.
وبعضهم يجعل الشين مكان الكاف ويكسرها في الوصل، ويسكنها في الوقف فيقولون في مررت بك اليوم: مررت بشِ اليوم، وفي مررت بكْ في الوقف: مررت بشْ.
وأنشدوا على ذلك قول المجنون:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها * ولكن عظم الساق منشِ iiدقيق
يريد: عيناك، وجيدك، ومنك.
وقول الآخر:
يا دار حييت ومن ألم iiبش * عهدي ومن يحلل بواديش يعش
يريد: بكِ، وبواديكِ.
وقال ابن جني: " قرأت على أبي بكر محمد بن الحسين عن أبي العباس أحمد بن يحيى - ثعلب - لبعضهم:
علي فيما أبتغي iiأبغيش * بيضاء ترضيني ولا ترضيشِ
وتطبِّي ودَّ بني iiأبيشِ * إذا دنوت جعلت تُنئيشِ
وإن نأيت جعلت iiتدنيشِ * وإن تكلمت حثت في فيشِ
حتى تنُقِّي كنقيق iiالدِّيشِ
فشبه كاف الديك بكاف ضمير المؤنث.
ومن كلامهم: إذا أعياش جاراتش فأقبلي على ذي بيتش ".
2- الكسكسة: وهي إبدال كاف المخاطبة سيناً، أو زيادة سين على كاف المخاطبة؛ وهي كالكشكشة إلا أن السين تحل محل الشين، في هذه اللهجة.
وبعض العلماء ينسبها إلى ربيعة ومضر وبكر وهوازن.
ونقل الحريري أنها لبكر لا لربيعة ومضر، وهي فيما نقله زيادة سين بعد كاف المخاطب.
وروى صاحب القاموس أنها لتميم لا لبكر، وفسرها كما فسرها الحريري.
3- الشنشنة: وهي قلب الكاف شيناً مطلقاً، فيقولون: في لبيك اللهم لبيك: لبيش اللهم لبيش، ويقولون في: كيف: شيف، أو تشيف.
وتنسب هذه اللهجة إلى قبائل من اليمن، وتغلب، وقضاعة.
ويلحظ أن الشنشنة، والكشكشة لهما بقايا في عديد من اللهجات العربية في الخليج العربي والشام.
4- التلتلة: وهي كسر أحرف المضارعة مطلقاً، وينسبها بعض العلماء إلى كثير من قبائل العرب كتيم، وخصوصاً بطن بهراء منها.
وتنسب كذلك إلى قيس وغيرها.
بل زعم بعضهم أن هذه لغة العرب جميعاً عدا أهل الحجاز.
وقد جاءت هذه اللهجة في القرآت القرآنية مثل: (نِستعين، وتِبيض، وتِسود).
ونسب ابن فارس هذا الكسر لأسد، وقيس إلا أنه جعله عاماً في أوائل الألفاظ فمثل له بقوله: (مثل: تِعلمون، ونِعلم، وشِعير، وبِعير).
5- الطمطمائية: وهي إبدال لام التعريف ميماً.
وقد جاء على اللهجة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس من أمبر امصيام في أمسفر " أي: (ليس من البر الصيام في السفر).
وتنسب إلى طيء، والأزد، وقبائل اليمن بعامة.
ولا تزال في بعض قبائل جنوب الجزيرة واليمن.
6- العنعنة: وهي قلب الهمزة المبدوء بها عيناً.
فيقولون في: إنك: عِنكَّ، وفي أسلم: عسلم، وفي إذن: عِذن، وهلم جرا.
وتعزى هذه الظاهرة إلى تميم، وقيس، وأسد، وقضاعة.
7- العجعجة: وهي جعل الياء المشددة جيماً، فيقولون في تميمي: تميمج.
وكذا يجعلون الياء الواقعة بعد عين، فيقولون في الراعي: الراعج وهكذا.
وتنسب هذه اللهجة إلى قضاعة؛ ولهذا يقال: عجعجة قضاعة.
وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا؛ فلا تكاد تظهر حروفهم، وقد سمى بعض العلماء ذلك منهم (غمغمة قضاعة).
وتنسب العجعجة إلى بعض قبائل تميم.
وقد ورد عليها شواهد شعرية كثيرة أودعها النحاة والصرفيون كثيراً من مؤلفاتهم.
قال الأصمعي: حدثني خلف، قال: أنشدني رجل من أهل البادية - وقرأتها عليه في الكتاب:
عمي عويف وأبو iiعلج * المطعمان اللحم في العشجِّ
وما لغداة فلق iiالبرنجْ * تُقلع بالودِّ iiوبالصِّيْصِجِّ
يريد أبو علي، وبالعشي، والبرني - وهوضرب من أجود التمر - وبالصيصية، وهي قرن البقرة، ويروى البيت: خالي عويف...
وأنشد الفراء لبعضهم:
يا رب إن كنت قبلت حِجَّتِجْ * فلا يزال شاحِجٌ يأتيك iiبجْ
أقمرُ نَهَّاتٌ يُنَزّي iiوفْرَتجْ
أي: يريد: حجتي، ويأتيك بي، والشاحج: السريع من الدواب، ويروى: شامخ، والأقمر: الأبيض، والنهات: النهَّاق، ويتنزي: يحرك، والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن.
8- الوتم: في لغة اليمن، وهو جعل السين تاء؛ فيقولون في الناس: النات.
ويستشهد اللغويون على ذلك بقول علباء بن أرقم:
يا قبَّح الله بني iiالعلات * عمرو بن يربوع شرار الناتِ
ليسوا أعفاءً ولا أكياتِ
فقوله: النات أي: الناس، وقوله: أكيات أي: أكياس جمع كَيِّس.
9- الوكم: في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب، يكسرون كاف الخطاب في الجمع متى كان قبلها ياء أو كسرة، فيقولون في عليكُم وبِكُم: عليكِمِ، وبكِمِ.
10- الوهم: في لغة كلب يكسرون هاء الغيبة متى وَلِيَتْها ميم الجمع مطلقاً، والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة نحو: عليهِمْ، وبِهِم، فيقولون في مِنْهُم وعنهم وبينهم: مِنهِم، وعنهِم، وبينهِم.
11- الاستنطاء: في لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار؛ حيث يجعلون العين الساكنة نوناً إذا جاوزت الطاء؛ فيقولون في أعطى: أنطى.
وعلى لغتهم قرئ شذوذاً: [إنا أنطيناك الكوثر].
12- القُطعة: في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في مثل: يا أبا الحكم: يا أبا الحكا.
وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو؛ لأن الترخيم مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام.
13- اللخلخائية: وهي تَعْرِض في لغة أعراب الشحر، وعمان، فيحذفون بعض الحروف اللينة، ويقولون في نحو: ما شاء الله: مشا الله.
القسم الثاني: لغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء، ومن أمثلته:
1- في لغة مازن: يبدلون الميم باءً، والباء ميماً، فيقولون في بكر: مكر، ووفي اطمأن: اطبأن.
2- في لغة طيء: يبدلون تاء الجمع هاءًَ إذا وقفوا عليها إلحاقاً لها بتاء المفرد، وقد سُمع من بعضهم: (دفن البناهْ من المكرماه).
يريد: البنات والمكرمات.
وحكى قطرب قول بعضهم: "كيف البنون والبناه، وكيف الإخوة والأخواه".
3- في لغة طيء - أيضاً -: يقلبون الياء ألفاً بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كل ماضٍ ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنياً للمجهول، فيقولون في: رَضِي، وهُدي: رَضَا، وهدَى.
4- في لغة طيء على ما رواه ابن السكيت أنهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون: هن فعلت، يريدون إن فعلت، ومنه قول شاعرهم:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى * لهنك من برق علي كربم
أي: لَئِنك.
5- في لغة تميم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياء على أصل الوزن بدون حذف؛ فيقولون في مبيع: مبيوع.
لكنهم لا يفعلون ذلك إلا إذا كانت عين الفعل واواً إلا ما ندر.
6- في لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياءً ثم يدغمونها؛ توصلاً إلى كسر ما قبل الياء؛ فيقولون في عصاي، وهواي: عّصِيَّ، وهَوِيَّ، كما قال شاعرهم أبو ذؤيب الهذلي:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا iiلهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع
7- في لغة خشعم وزبيد يحذفون نون (من) الجارة إذا وليها ساكن، قال شاعرهم:
لقد ظفر الزوار أقفية iiالعدا * بما جاوز الآمال م الأسر والقتل
ومعنى الزوار: السيوف، وقول م الأسر: أي من الأسر. . .
وقد شاعت هذه اللغة في الشعر، واستخفها كثير من الشعراء، فتعاوروها.
8- في لغة بلحرث يحذفون الألف من (على) الجارة، واللام الساكنة التي تليها، فيقولون: في: على الأرض: علأ رض وهكذا.
9- في لغة بلحرث وخثعم وكنانة يقلبون الياء بعد الفتحة، فيقولون في: إليك، وعليك، ولديه: إلاك، وعَلاك، ولداه.
وهذه موجودة في بعض بادية الجزيرة.
القسم الثالث: من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات، ومن أمثلته:
1- هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقاً إذا وقعت بعد ياء ساكنة؛ فيقولون: لديهُ، وعليهُ، ولغة غيرهم كسرها.
وعلى منطق أهل الحجاز قرأ حفص وحمزة: [ما أنسانيهُ إلا الشيطان] و [عاهد عليهُ الله].
أما غيرهما فيكسر الياء.
2- في لغة بني يربوع - وهم من بني تميم - يكسرون ياء المتكلم إذا أضيف إليها جمع المذكر السالم، فيقولون: في نحو ضاربيَّ: ضاربيِّ وهكذا.
3- وقال ابن جني: "إن أبا الحسن - الأخفش - حكى أن سكون الهاء في مثل هذا النحو - يعني في ضمير النصب المتصل - لغة لأزد السراة.
ومثل هذا البيت ما رويناه عن قطرب:
وأشربُ الماءَ ما بي نحوهُ عطشٌ * إلا لأنَّ عيونَهْ سالَ واديها
4- وهناك لغات في كلمات، وهي كثيرة جداً منها:
أن تميماً من أهل نجد يقولون: نِهيٌ: للغدير، وغيرهم يفتحها.
والعرب يقولون: رُفقة للجماعة، ولغة قيس: كسر الراء.
والحجازيون يقولون: لعمري، وتميم تقول: (وعملي) ويحكى عنهم (وعمري) -أيضاً-.
5- في لغات الإعراب وهذا كثير - أيضاً - ومنه:
(متى) بمعنى (من) في لغة هذيل، ويجرون بها، سمع من بعضهم: أخرجها متى كُمِّه: أي من كُمِّه، ويروون بيت أبي ذؤيب الهذلي المشهور:
شربن بماء البحر ثم ترفعت * متى لججٍ خضر لهن iiنئيج
وفي لغة ربيعة وغُنْمٍ يبنون (مع) الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبت معْه، ومنه قول جرير:
فريشي منكم وهواي مَعْكم * وإن كانت زيارتكم iiلماما
وإذا وليها ساكن كسروها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبت معِ الرجل، وغُنْمٌ حي من تغلب بن وائل.
القسم الرابع: وهو لغات غير منسوبة ولا ملقبة: وهذا القسم هو اللغة أو أكثرها؛ لأن الذين دونوها جمعوا كل لغات العرب، وجعلوها لغة جنسية؛ فلم يميزوا منطقاً من منطق، ولا أفردوا لغة عن لغة؛ خدمة للتاريخ اللغوي الذي يراد به خدمة القرآن وعلومه.
ولو أراد أحد استغراق هذا النوع لطال به المقام، ومن أمثلة ذلك:
1- إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء: كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي، والأراني، والضفادي.
في سادس: سادي، وفي خامس: خامي.
2- ومن العرب من يجعل الكاف جيماً، فيقول: مثلاً: (الجعبة) في (الكعبة).
وبعضهم ينطق بالتاء طاءً، كأفلطني في أفلتني، قال الخليل: وهي لغة تميمية قحة.
القسم الخامس: وهو ما يرونه على أنه لغة في الكلام، أو لثغة من المتكلم:
وذلك كالألفاظ التي وردت بالراء، والغين، أو بالراء واللام، أو بالزاي والذال، أو بالسين والتاء، أو بالشين والسين.
فكل ذلك مما يشك فيه الرواة، ولا يجزمون بأنه لغة فرد، أو لغة قبيلة.
فاللثغة في السين أن تبدل ثاءً، وفي القاف أن تبدل طاءً، وربما أبدلت كافاً، وهكذا. . .
هذا وسيأتي الكلام عن اللثغة عند الكلام على عيوب المنطق العربي.
منقول