عبدالملك السلفي
12-03-2004, 12:53 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
توسع ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم "الصلاة وحكم تاركها" بالاستدلال بالآيات والأحاديث الكثيرة على كفر تارك الصلاة بما لا يدع مجالاً للتردد في صحة هذا القول ، ولكني اكتفي هنا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأقوال بعض الأئمة :
* فقد جاءت أحاديث تزيــد على الثلاثين بألفاظ كثـيرة تنـص علـى كفـر تارك الصلاة ، أو شركه ، أو خروجه من الملة ، أو براءة الذمة منه ، أو عصمـة مـن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، أو النص على جواز قتال الأئمة الذين يكفرون كفراً بواحاً وجعل علامة كفرهم البواح وشعاره ترك إقامة الصلاة ، أو النص على أنه لا يدعى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إلا المؤمنون ولا علامة يعرفون بها إلا بالوضوء ، أو النص على أنه لا يخرج من النار كل الموحدين ولا علامة يعرفون بها إلا سلامة مواضع السجود منهم ونحو ذلك.
ـ وأذكر من هذه الأحاديث ما رواه الإمام مسلم(1/88-134)من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ بين الرجــل وبــين الشــرك والكفــر تــــرك الصــــلاة" ، وفي روايــة للترمــــذي(5/13-2618):"بــــين الكفـــر والإيمـــان تــــرك الصـــلاة" ، وللنسائي(1/232):"ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" ، وكذلك ما رواه الترمذي(5/13-2621) ، والنسائي(1/231) ، وابن ماجه(1/564-1079)، وأحمد(5/346) وغيرهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر"، صححه جماعة منهم الترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان وغيرهم رحمهم الله. ولا شك أن الكفر المراد بهذا الكفر هو الكفر الأكبر ، كما سيأتي.
* المتعين في هذه المسألة :
إن المتعين أن لا يتوقف أحد في تكفير تـارك الصلاة بعد أن تبين الهدى ، وذلك لأمرين مهمين لا مهرب للمخالف منهما إضافة لما سبق :
(الأمر الأول) : أن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر وإخراجه من الملة هو الذي فهمه الصحابة ، قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين في سياق المكفرين لتارك الصلاة(الشرح الممتع:2/28) : "أما أقوال الصحابة ، فإنها كثيرة ، رويت عـن ستة عشر صحابياً ، منهــم عمــر بن الخطاب). وسيأتي عن بعض الأئمة أنهم حملوا نصوص الصحابة على الكفر الأكبر المخرج عن الإسلام ، وأسوق إليك بعض النصوص :
1- أثر عمر رضي الله عنه رواه مالك(1/39-51) ، وعبد الرزاق(المصنف:1/150- 580،581) ، وابـن أبـي شيبـة(الإيمــان:34-103) ، والمــروزي(تعظيـــم قـــدر الصــلاة:2/892-923حتى929) ، قال:"لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" ، إسناده إلى عمر صحيح جاء عنه من طرق. وهذا ظاهره تكفير عمر رضي الله عنه لتارك الصلاة الكفر الأكبر ، كما سيأتي.
2- أثر حذيفة رضي الله عنه أخرجه البخاري(1/215-791) قال لمن رآه لا يتم ركوعه وسجوده :"ما صليت ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم". قال الآجري وذكر هذا الأثر وغيره(الشريعة:1/296):"يدل على أن الصلاة من الإيمان ، ومن لم يصل فلا إيمان له ولا إسلام". وذكر الحافظ ابن حجر(الفتح:2/321) "أنه دليل لمن كفّر تارك الصلاة لأن ظاهره نفي الإسلام عمن أخل ببعض أركانها ، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى"أ.هـ. بل قال الحافظ: "وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال : [ سنة محمد أو فطرته ] كان حديثاً مرفوعاً".
3- أثر جابر رضي الله عنه أخرجه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة:2/877-892) واللالكائي(شرح أصول اعتقاد أهل السنة:4/829-1537،1538) عـن مجاهـد سأل جابراً : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : الصلاة". ومن طريق أبي الزبير سمع جابر بن عبد الله وسأله رجل : هل كنتم تعدون الذنب فيكم كفراً ؟ قال : لا ، وما بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة". سند الأول حسن لأجل محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع ، وسند الثاني صحيح ؛ فجابر رضي الله عنه يبين هنا أن الفاصل بين الكفر والإيمان عندهم في عهد النبي صلـى الله عليــه وسلــم هـي الصـلاة ، وأنهـم يعنــون الكـفــر الأكـبر ؛ أنه فرّق بين الكفر الذي هو ترك الصلاة وبين الذنب الذي لا يكفر صاحبه ، ولو لم تكن كفراً أكبر لم يكن للتفريق بينها وبين الذنب فائدة.
(الأمر الثاني) : أن تكفير تارك الصلاة ليس قول بعض الصحابة ، بل حكي إجماع منهم ، قال شيخنا محمد العثيمين (أسئلة عبر الهاتف من قبل إدارة الدعوة بقطر كما سيأتي) :"فقد جاء في الأدلة من القرآن والسنة ، والنظر الصحيح ، وإجماع الصحابة كما حكاه غير واحد ، على أن تارك الصلاة كافر مخلد في نار جهنم وليس داخلاً تحت المشيئة [ في المغفرة ] (1)". وأكتفي بذكر من نقل الإجماع :
1- إجماع الصحابة على قتال تارك الصلاة كما يقاتل المشركون ، لأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وقال لعمر رضي الله عنه فيما رواه الشيخان(البخاري:2/135-1399،مسلم1/51-32:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". قال الخطابي(كما في شرح النووي لمسلم:2/152) مشيراً إلى إلزام أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بقتال مانعي الزكاة بما تقرر عندهم من قتال تاركي الصلاة :"قايسه بالصلاة ، ورد الزكاة إليها ، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة". وبوب البخاري على الحديث فقال: "باب قتــل من أبــى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة".
2- قول عمر رضي الله عنه الآنف :"لا إسلام لمن ترك الصلاة" وفي لفظ "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" ، فعده ابن القيـم(الصـلاة وحكـم تاركـها:67) إجماعـاً مـن الصحــابة عـلى كفـر تــارك الصلاة حين قال عن عمر:"فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه ، وقد تقدم مثلُ ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ، ولا يعلم عن صحابي خلافهم".
3- قول جابر رضي الله عنه الآنف أن مجاهد سأله رضي الله عنه : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : "الصلاة". وهذا دليل على الإجماع ، بل أبلغ من ذلك أنه في حكم المرفوع كما هو مقرر في موضعه من "كتب المصطلح" لأنه نسبه لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- قال عبد الله بن شقيق التابعي الجليل الذي لقي كبار الصحابة :"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"، خرجه الترمذي(5/14-2622) ، والمروزي(تعظيم قدر الصلاة:2/904-948)، وهو صحيح الإسناد ؛ صححه الحاكم والنووي والألباني رحمهم الله ، ولا يضره أن فيه سعيد بن إياس الجُرَيري الذي ذكروا أنه كان ممن اختلط ؛ لأن الراوي عنه بشر بن المُفضَّل روى عنه قبل الاختلاط ، وقد احتج الشيخان بروايته عن الجـريـري(انظــر الكواكــب النــيرات:189). قـــال الشــوكانـي(نيـل الأوطـار:1/372) :"الظـاهر مــن الصيغة : أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة ؛ لأن قوله : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم جمع مضاف ، وهو من المشعرات بذلك".
5- ونقل الإجماع الإمام إسحاق بن راهوية ؛ قال المروزي(تعظيم قدر الصلاة(2/929):"سمعت إسحاق يقول : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر ، وكــذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا : أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر".
6- وقال ابن نصر المروزي(تعظيم قدر الصلاة(2/925) :"ذكـرنـا الأخبـار المرويـة عـن النـبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها ، وإخراجه إياه من الملة ، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك ، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك".
7- قال ابن حزم(المحلى:2/242) راداً على من لم يأخذ بقول الصحابة في هذه المسألة:"ما نعلم لمن ذكرنا من الصحابــة رضــي الله عنهم مخالفــاً منهـــم ، وهم يشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق أهواءهم ، وقد جاء عن عمر ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل(كذا) وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها ، فهو كافر مرتد".
8- قــال عبد الحق الأشبيــلي في كتابــه "الصلاة" (كما نقله ابـن القيم عنـه في كتـاب الصـلاة وحكـم تاركها:67):" ذهب جملةٌ من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمداً لتركها ، حتى يخرجَ جَميعُ وقتِها ، منهم : عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وجابر ، و أبو الدرداء ، وكـذلـك روي عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ، هؤلاء من الصحابة".
ولذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(شرح العمدة:2/81) كلاماً نفيساً بعد أن ساق الأحاديث وأقوال السلف فقال :"الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه :
(أحدها) : إن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه ، و إنما صُرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام ، و من تأمل سياق كل حديث وجده معه ، و ليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره ، بل هنا ما تقرره على الظاهر.
(الثاني) : إن ذلك الكفر منكرٌ مبهم (2) مثل قوله : "و قتالــه كفـــر" ، "هما بهم كفر" ، وقولــه "كفــر بــالله" ، و شبه ذلك ، وهنا عرف باللام بقوله :"ليـس بين العبـد و بـين الكفــر، أو قـال الشـرك" ، و الكفر المعروف ينصرف إلى الكفر المعروف ، وهو المخرج عن الملة.
(الثالث) : إن في بعض الأحاديث "فقد خرج عن الملة" ، و في بعضها "بينه و بين الإيمان" ، و في بعضها "بينه و بين الكفر" ، و هذا كله يقتضي أن الصلاة حدٌّ تدخله إلى الإيمان إن فعله و تخرجه عنه إن تركه.
(الرابع) : أن قوله "ليس بين العبد و بين الكفر إلا ترك الصلاة" ، وقـولـه "كـان أصحـاب محمـد صلى الله عليه و سلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة" ، لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم ؛ لأن بينه و بين غير ذلك مما يسمى كفراً أشياء كثيرة ، و لا يقال فقد يخرج عن الملة بأشياء غير الصلاة ، لأنا نقول هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة ، وعلى العموم يوجب تركه الكفر ، وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة.
(الخامس) : أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة و بيـان مرتبتهــا علـى غيرهـا في الجملـة ، و لو كان ذلك الكفر فسقاً لشاركها في ذلك عامة الفرائض.
(السادس) : أنه بيَّن أنها آخر الدين ، فإذا ذهب آخره ذهب كله.
(السابع) : أنه بيَّن أن الصلاة هي العهد الذي بيننا و بين الكفار ، وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها ، و اقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر ، كما أن من أتى به فقد دخل في الدين ، ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج عن الملة.
(الثامن) : إن قول عمر "لا حظ في الإسلام لمن تــرك الصــلاة" أصــرح شــيء في خروجــه عــن الملـة ، وكذلك قول ابن مسعود و غيره ، مع أنه بيَّن أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفــر ، وإنمـا هو الترك بالكلية ، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن الملة.
(التاسع) : ما تقدم من حديث معاذ "فإن فسطاطاً على غير عمود لا يقوم" ، كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة.
وفي هذه الوجوه يبطل قول من حملها على من تركها جاحداً ، وأيضاً قوله :"كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر" ، وقوله :"ليس بين العبد وبين الكفر" ، وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك ، وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها ، ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك ، حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه ، فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر ؟ ولأن المــذكـــور هو الترك ، وهو عام في من تركها جحوداً أو تكاسلاً ، ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه"أ.هـ.
* رد شبهة وجود الخلاف :
فإن قال قائلٌ : قدخالف بعض الأئمة في تكفير تارك الصلاة ، فنقول نعم ولا نقبل خلافهم بعد إجماع الصحابة ونعتذر لهم ، إذ العلماء يعتبرون وجود قولٍ لصحابي واحد مشتهر في مسألة ما حجة إذا لم يخالفه أحدٌ من الصحابة ، فكيف في مسألة ينسب أحدُ الصحابة القول فيها لجميع الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثم ينقل أحد التابعين إجماعهم على ذلك ، ونجد أكثر من خمسة عشر صحابياً يقولون بذلك ولا يعلم فيهم مخالف ، وقد حكـى الإمـام أحمد الإجماع في مسألة كان العدد فيها دون ذلك ، حينما أفتى بالتكبير في عشر ذي الحجة من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق ، فسئل : إلى أي شيء تذهب ؟ قال(أصول مذهب الإمام أحمد:352-وعزاه للمسودة:315):"لإجماع عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس". بل جعل الإمام أحمد رحمه الله الخروج عن أقوالهم المختلفة من أقوال أهـل البدع حين سئل : هل لرجل أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا ؟ فقال(أصول مذهب الإمام أحمد:351-وعزاه للمسودة:315) : "أرأيت إن أجمعوا ؟ له أن يخرج من أقاويلهم !! هذا قول خبيث ، قول أهل البدع ، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا". فهل يقول عاقل بجواز الخروج عن قول نقل الإجماع فيه عن الصحابة أو ما يدل عليه ؟ إذا كان الخروج عن أقوالهم المختلفة من قول أهل البدع.
* وهنا ثلاثة تنبيهات مهمة :
(الأول) : الظاهر أن الأئمة المخالفين لم يبلغهم إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة أو لم يثبت عندهم ، لأنه لو بلغهم الإجماع لما وسعهم أن يخالفوه ، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله ، يقول(الرسالة:472):"ونعلم أن عامتهم [ يعني الصحابة رضي الله عنهم ]ـ لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا على خطأ إن شاء الله".
(الثاني) : أن الشافعي رحمه الله وإن لم يذهب لكفر تارك الصلاة لعدم ثبوت الإجماع عنده في المسألة ، فهو من كبار أئمة السنـة العارفين بمذاهب السلف ، ولـذا عصمـه الله من مخالفتهم في كفر تارك العمل ، حيث قال رحمه الله[ كما في شرح أصول الاعتقاد للالكائي:5/886): "وكـان الإجمـاع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر". ولما ذكر ابن رجب أن الإيمان :قـول وعمـل ونيـة قـال(جامـع العلــوم والحكـم:1/58):" وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم". وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/39) "قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً : أن الإيمان قول وعمل". وأنصح في هذه المسألة بالرجوع لكتابين أولهما : كتاب ابن القيم رحمه الله "الصلاة وحكم تاركها" ، والآخر كتاب "الخلاف في حكم تارك الصلاة" للدكتور الشيخ عبد الله بن إبراهيم الزاحم ، فهما كتابان نافعان يكمل كل منهما الآخر.
(الثالث) : وهو ينبني على الأمر السابق أن من ذهب من العلماء لعدم تكفير تارك الصلاة لم يذهب لهذا القول بحجة أنه لا يكفر تارك العمل ، بل الذين لا يقولون بكفر تارك الصلاة هم على طريقة الجماعة بتكفير تارك عمل الجوارح مطلقاً كما مر من قول الشافعي رحمه الله ، وسيأتي في فتاوي سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله لما سئل عمن لم يكفر تارك الصلاة من السلف ، أيكون العمل عنده شرط كمال ؟ أنه قال(جريدة الرياض - عدد 12506) : "لا ، بل العمل عند الجميع شرط صحة ، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه ؛ فقالت جماعة : إنه الصـلاة ، وعليـه إجماع الصحابـة رضـي الله عنهم ، كما حكاه عبـد الله بـن شقيـق. وقـال آخـرون بغـيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عنـدهم قـول وعمـل واعتقـاد ، لا يصح إلا بها مجتمعة)أ.هـ. ويأتي أيضاً أن سماحة الشيخ رحمه الله أقر ما قاله صاحب كتاب ’’التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد, حين قال في(المقدمة:19):"هاهنا مسألة مهمة ، وهي أن أصحاب الحديث الذين لم يكفروا تارك الصّلاة ، لا يعنون أنّ الصلاة عملٌ ، والعمل لا يكفّر تاركه أو فاعله بغير اعتقـاد أو استحـلال أو تكـذيـب ، فهــذه لَوثــةٌ إرجائيــة حاشاهــم منهــا ... ولم يُنقل عن أحد منهم أنّ الصّلاة عمل وليست اعتقاداً ولا يكفُر تارك العمل! كما أنّهم لم يعدّوا من يكفّر تاركها بمثابة الخوارج الذين يكفرون بالذّنوب ، وهذا إقرارٌ منهم أنّ تارك العمل قد يخرج من الملة ، لكن لم يترجّح عندهم ذلك في شأْن تارك الصّلاة".
نقلا من كتاب (أقــوال ذوي العـــرفـــــان في أن أعمـال الجــوارح داخلة في مسمى الإيمــان )
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
توسع ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم "الصلاة وحكم تاركها" بالاستدلال بالآيات والأحاديث الكثيرة على كفر تارك الصلاة بما لا يدع مجالاً للتردد في صحة هذا القول ، ولكني اكتفي هنا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأقوال بعض الأئمة :
* فقد جاءت أحاديث تزيــد على الثلاثين بألفاظ كثـيرة تنـص علـى كفـر تارك الصلاة ، أو شركه ، أو خروجه من الملة ، أو براءة الذمة منه ، أو عصمـة مـن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، أو النص على جواز قتال الأئمة الذين يكفرون كفراً بواحاً وجعل علامة كفرهم البواح وشعاره ترك إقامة الصلاة ، أو النص على أنه لا يدعى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إلا المؤمنون ولا علامة يعرفون بها إلا بالوضوء ، أو النص على أنه لا يخرج من النار كل الموحدين ولا علامة يعرفون بها إلا سلامة مواضع السجود منهم ونحو ذلك.
ـ وأذكر من هذه الأحاديث ما رواه الإمام مسلم(1/88-134)من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ بين الرجــل وبــين الشــرك والكفــر تــــرك الصــــلاة" ، وفي روايــة للترمــــذي(5/13-2618):"بــــين الكفـــر والإيمـــان تــــرك الصـــلاة" ، وللنسائي(1/232):"ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" ، وكذلك ما رواه الترمذي(5/13-2621) ، والنسائي(1/231) ، وابن ماجه(1/564-1079)، وأحمد(5/346) وغيرهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر"، صححه جماعة منهم الترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان وغيرهم رحمهم الله. ولا شك أن الكفر المراد بهذا الكفر هو الكفر الأكبر ، كما سيأتي.
* المتعين في هذه المسألة :
إن المتعين أن لا يتوقف أحد في تكفير تـارك الصلاة بعد أن تبين الهدى ، وذلك لأمرين مهمين لا مهرب للمخالف منهما إضافة لما سبق :
(الأمر الأول) : أن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر وإخراجه من الملة هو الذي فهمه الصحابة ، قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين في سياق المكفرين لتارك الصلاة(الشرح الممتع:2/28) : "أما أقوال الصحابة ، فإنها كثيرة ، رويت عـن ستة عشر صحابياً ، منهــم عمــر بن الخطاب). وسيأتي عن بعض الأئمة أنهم حملوا نصوص الصحابة على الكفر الأكبر المخرج عن الإسلام ، وأسوق إليك بعض النصوص :
1- أثر عمر رضي الله عنه رواه مالك(1/39-51) ، وعبد الرزاق(المصنف:1/150- 580،581) ، وابـن أبـي شيبـة(الإيمــان:34-103) ، والمــروزي(تعظيـــم قـــدر الصــلاة:2/892-923حتى929) ، قال:"لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" ، إسناده إلى عمر صحيح جاء عنه من طرق. وهذا ظاهره تكفير عمر رضي الله عنه لتارك الصلاة الكفر الأكبر ، كما سيأتي.
2- أثر حذيفة رضي الله عنه أخرجه البخاري(1/215-791) قال لمن رآه لا يتم ركوعه وسجوده :"ما صليت ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم". قال الآجري وذكر هذا الأثر وغيره(الشريعة:1/296):"يدل على أن الصلاة من الإيمان ، ومن لم يصل فلا إيمان له ولا إسلام". وذكر الحافظ ابن حجر(الفتح:2/321) "أنه دليل لمن كفّر تارك الصلاة لأن ظاهره نفي الإسلام عمن أخل ببعض أركانها ، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى"أ.هـ. بل قال الحافظ: "وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال : [ سنة محمد أو فطرته ] كان حديثاً مرفوعاً".
3- أثر جابر رضي الله عنه أخرجه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة:2/877-892) واللالكائي(شرح أصول اعتقاد أهل السنة:4/829-1537،1538) عـن مجاهـد سأل جابراً : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : الصلاة". ومن طريق أبي الزبير سمع جابر بن عبد الله وسأله رجل : هل كنتم تعدون الذنب فيكم كفراً ؟ قال : لا ، وما بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة". سند الأول حسن لأجل محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع ، وسند الثاني صحيح ؛ فجابر رضي الله عنه يبين هنا أن الفاصل بين الكفر والإيمان عندهم في عهد النبي صلـى الله عليــه وسلــم هـي الصـلاة ، وأنهـم يعنــون الكـفــر الأكـبر ؛ أنه فرّق بين الكفر الذي هو ترك الصلاة وبين الذنب الذي لا يكفر صاحبه ، ولو لم تكن كفراً أكبر لم يكن للتفريق بينها وبين الذنب فائدة.
(الأمر الثاني) : أن تكفير تارك الصلاة ليس قول بعض الصحابة ، بل حكي إجماع منهم ، قال شيخنا محمد العثيمين (أسئلة عبر الهاتف من قبل إدارة الدعوة بقطر كما سيأتي) :"فقد جاء في الأدلة من القرآن والسنة ، والنظر الصحيح ، وإجماع الصحابة كما حكاه غير واحد ، على أن تارك الصلاة كافر مخلد في نار جهنم وليس داخلاً تحت المشيئة [ في المغفرة ] (1)". وأكتفي بذكر من نقل الإجماع :
1- إجماع الصحابة على قتال تارك الصلاة كما يقاتل المشركون ، لأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وقال لعمر رضي الله عنه فيما رواه الشيخان(البخاري:2/135-1399،مسلم1/51-32:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". قال الخطابي(كما في شرح النووي لمسلم:2/152) مشيراً إلى إلزام أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بقتال مانعي الزكاة بما تقرر عندهم من قتال تاركي الصلاة :"قايسه بالصلاة ، ورد الزكاة إليها ، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة". وبوب البخاري على الحديث فقال: "باب قتــل من أبــى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة".
2- قول عمر رضي الله عنه الآنف :"لا إسلام لمن ترك الصلاة" وفي لفظ "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" ، فعده ابن القيـم(الصـلاة وحكـم تاركـها:67) إجماعـاً مـن الصحــابة عـلى كفـر تــارك الصلاة حين قال عن عمر:"فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه ، وقد تقدم مثلُ ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ، ولا يعلم عن صحابي خلافهم".
3- قول جابر رضي الله عنه الآنف أن مجاهد سأله رضي الله عنه : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : "الصلاة". وهذا دليل على الإجماع ، بل أبلغ من ذلك أنه في حكم المرفوع كما هو مقرر في موضعه من "كتب المصطلح" لأنه نسبه لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- قال عبد الله بن شقيق التابعي الجليل الذي لقي كبار الصحابة :"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"، خرجه الترمذي(5/14-2622) ، والمروزي(تعظيم قدر الصلاة:2/904-948)، وهو صحيح الإسناد ؛ صححه الحاكم والنووي والألباني رحمهم الله ، ولا يضره أن فيه سعيد بن إياس الجُرَيري الذي ذكروا أنه كان ممن اختلط ؛ لأن الراوي عنه بشر بن المُفضَّل روى عنه قبل الاختلاط ، وقد احتج الشيخان بروايته عن الجـريـري(انظــر الكواكــب النــيرات:189). قـــال الشــوكانـي(نيـل الأوطـار:1/372) :"الظـاهر مــن الصيغة : أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة ؛ لأن قوله : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم جمع مضاف ، وهو من المشعرات بذلك".
5- ونقل الإجماع الإمام إسحاق بن راهوية ؛ قال المروزي(تعظيم قدر الصلاة(2/929):"سمعت إسحاق يقول : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر ، وكــذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا : أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر".
6- وقال ابن نصر المروزي(تعظيم قدر الصلاة(2/925) :"ذكـرنـا الأخبـار المرويـة عـن النـبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها ، وإخراجه إياه من الملة ، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك ، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك".
7- قال ابن حزم(المحلى:2/242) راداً على من لم يأخذ بقول الصحابة في هذه المسألة:"ما نعلم لمن ذكرنا من الصحابــة رضــي الله عنهم مخالفــاً منهـــم ، وهم يشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق أهواءهم ، وقد جاء عن عمر ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل(كذا) وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها ، فهو كافر مرتد".
8- قــال عبد الحق الأشبيــلي في كتابــه "الصلاة" (كما نقله ابـن القيم عنـه في كتـاب الصـلاة وحكـم تاركها:67):" ذهب جملةٌ من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمداً لتركها ، حتى يخرجَ جَميعُ وقتِها ، منهم : عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وجابر ، و أبو الدرداء ، وكـذلـك روي عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ، هؤلاء من الصحابة".
ولذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(شرح العمدة:2/81) كلاماً نفيساً بعد أن ساق الأحاديث وأقوال السلف فقال :"الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه :
(أحدها) : إن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه ، و إنما صُرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام ، و من تأمل سياق كل حديث وجده معه ، و ليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره ، بل هنا ما تقرره على الظاهر.
(الثاني) : إن ذلك الكفر منكرٌ مبهم (2) مثل قوله : "و قتالــه كفـــر" ، "هما بهم كفر" ، وقولــه "كفــر بــالله" ، و شبه ذلك ، وهنا عرف باللام بقوله :"ليـس بين العبـد و بـين الكفــر، أو قـال الشـرك" ، و الكفر المعروف ينصرف إلى الكفر المعروف ، وهو المخرج عن الملة.
(الثالث) : إن في بعض الأحاديث "فقد خرج عن الملة" ، و في بعضها "بينه و بين الإيمان" ، و في بعضها "بينه و بين الكفر" ، و هذا كله يقتضي أن الصلاة حدٌّ تدخله إلى الإيمان إن فعله و تخرجه عنه إن تركه.
(الرابع) : أن قوله "ليس بين العبد و بين الكفر إلا ترك الصلاة" ، وقـولـه "كـان أصحـاب محمـد صلى الله عليه و سلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة" ، لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم ؛ لأن بينه و بين غير ذلك مما يسمى كفراً أشياء كثيرة ، و لا يقال فقد يخرج عن الملة بأشياء غير الصلاة ، لأنا نقول هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة ، وعلى العموم يوجب تركه الكفر ، وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة.
(الخامس) : أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة و بيـان مرتبتهــا علـى غيرهـا في الجملـة ، و لو كان ذلك الكفر فسقاً لشاركها في ذلك عامة الفرائض.
(السادس) : أنه بيَّن أنها آخر الدين ، فإذا ذهب آخره ذهب كله.
(السابع) : أنه بيَّن أن الصلاة هي العهد الذي بيننا و بين الكفار ، وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها ، و اقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر ، كما أن من أتى به فقد دخل في الدين ، ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج عن الملة.
(الثامن) : إن قول عمر "لا حظ في الإسلام لمن تــرك الصــلاة" أصــرح شــيء في خروجــه عــن الملـة ، وكذلك قول ابن مسعود و غيره ، مع أنه بيَّن أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفــر ، وإنمـا هو الترك بالكلية ، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن الملة.
(التاسع) : ما تقدم من حديث معاذ "فإن فسطاطاً على غير عمود لا يقوم" ، كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة.
وفي هذه الوجوه يبطل قول من حملها على من تركها جاحداً ، وأيضاً قوله :"كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر" ، وقوله :"ليس بين العبد وبين الكفر" ، وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك ، وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها ، ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك ، حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه ، فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر ؟ ولأن المــذكـــور هو الترك ، وهو عام في من تركها جحوداً أو تكاسلاً ، ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه"أ.هـ.
* رد شبهة وجود الخلاف :
فإن قال قائلٌ : قدخالف بعض الأئمة في تكفير تارك الصلاة ، فنقول نعم ولا نقبل خلافهم بعد إجماع الصحابة ونعتذر لهم ، إذ العلماء يعتبرون وجود قولٍ لصحابي واحد مشتهر في مسألة ما حجة إذا لم يخالفه أحدٌ من الصحابة ، فكيف في مسألة ينسب أحدُ الصحابة القول فيها لجميع الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثم ينقل أحد التابعين إجماعهم على ذلك ، ونجد أكثر من خمسة عشر صحابياً يقولون بذلك ولا يعلم فيهم مخالف ، وقد حكـى الإمـام أحمد الإجماع في مسألة كان العدد فيها دون ذلك ، حينما أفتى بالتكبير في عشر ذي الحجة من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق ، فسئل : إلى أي شيء تذهب ؟ قال(أصول مذهب الإمام أحمد:352-وعزاه للمسودة:315):"لإجماع عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس". بل جعل الإمام أحمد رحمه الله الخروج عن أقوالهم المختلفة من أقوال أهـل البدع حين سئل : هل لرجل أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا ؟ فقال(أصول مذهب الإمام أحمد:351-وعزاه للمسودة:315) : "أرأيت إن أجمعوا ؟ له أن يخرج من أقاويلهم !! هذا قول خبيث ، قول أهل البدع ، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا". فهل يقول عاقل بجواز الخروج عن قول نقل الإجماع فيه عن الصحابة أو ما يدل عليه ؟ إذا كان الخروج عن أقوالهم المختلفة من قول أهل البدع.
* وهنا ثلاثة تنبيهات مهمة :
(الأول) : الظاهر أن الأئمة المخالفين لم يبلغهم إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة أو لم يثبت عندهم ، لأنه لو بلغهم الإجماع لما وسعهم أن يخالفوه ، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله ، يقول(الرسالة:472):"ونعلم أن عامتهم [ يعني الصحابة رضي الله عنهم ]ـ لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا على خطأ إن شاء الله".
(الثاني) : أن الشافعي رحمه الله وإن لم يذهب لكفر تارك الصلاة لعدم ثبوت الإجماع عنده في المسألة ، فهو من كبار أئمة السنـة العارفين بمذاهب السلف ، ولـذا عصمـه الله من مخالفتهم في كفر تارك العمل ، حيث قال رحمه الله[ كما في شرح أصول الاعتقاد للالكائي:5/886): "وكـان الإجمـاع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر". ولما ذكر ابن رجب أن الإيمان :قـول وعمـل ونيـة قـال(جامـع العلــوم والحكـم:1/58):" وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم". وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/39) "قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً : أن الإيمان قول وعمل". وأنصح في هذه المسألة بالرجوع لكتابين أولهما : كتاب ابن القيم رحمه الله "الصلاة وحكم تاركها" ، والآخر كتاب "الخلاف في حكم تارك الصلاة" للدكتور الشيخ عبد الله بن إبراهيم الزاحم ، فهما كتابان نافعان يكمل كل منهما الآخر.
(الثالث) : وهو ينبني على الأمر السابق أن من ذهب من العلماء لعدم تكفير تارك الصلاة لم يذهب لهذا القول بحجة أنه لا يكفر تارك العمل ، بل الذين لا يقولون بكفر تارك الصلاة هم على طريقة الجماعة بتكفير تارك عمل الجوارح مطلقاً كما مر من قول الشافعي رحمه الله ، وسيأتي في فتاوي سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله لما سئل عمن لم يكفر تارك الصلاة من السلف ، أيكون العمل عنده شرط كمال ؟ أنه قال(جريدة الرياض - عدد 12506) : "لا ، بل العمل عند الجميع شرط صحة ، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه ؛ فقالت جماعة : إنه الصـلاة ، وعليـه إجماع الصحابـة رضـي الله عنهم ، كما حكاه عبـد الله بـن شقيـق. وقـال آخـرون بغـيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عنـدهم قـول وعمـل واعتقـاد ، لا يصح إلا بها مجتمعة)أ.هـ. ويأتي أيضاً أن سماحة الشيخ رحمه الله أقر ما قاله صاحب كتاب ’’التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد, حين قال في(المقدمة:19):"هاهنا مسألة مهمة ، وهي أن أصحاب الحديث الذين لم يكفروا تارك الصّلاة ، لا يعنون أنّ الصلاة عملٌ ، والعمل لا يكفّر تاركه أو فاعله بغير اعتقـاد أو استحـلال أو تكـذيـب ، فهــذه لَوثــةٌ إرجائيــة حاشاهــم منهــا ... ولم يُنقل عن أحد منهم أنّ الصّلاة عمل وليست اعتقاداً ولا يكفُر تارك العمل! كما أنّهم لم يعدّوا من يكفّر تاركها بمثابة الخوارج الذين يكفرون بالذّنوب ، وهذا إقرارٌ منهم أنّ تارك العمل قد يخرج من الملة ، لكن لم يترجّح عندهم ذلك في شأْن تارك الصّلاة".
نقلا من كتاب (أقــوال ذوي العـــرفـــــان في أن أعمـال الجــوارح داخلة في مسمى الإيمــان )
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .