سعيد الزعابي
11-11-2004, 01:48 PM
قال الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في كتابه الصارم المنكي في الرد على السبكي ( 330 - 340. طبعة الريان ) :
وقوله – أي السبكي - : ( زيارة القبور تعظيم ، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واجب ) ، الكلام عليه من وجوه :
أحدهما أن يقال : هتان المقدمتان إن أخذتا على إطلاقهما أنتجتا أن زيارة قبره واجبه وهو إنتاج لازم للمقدمتين لزوماً بيناً، فإن الضرب الأول من الشكل الأول والحد الأوسط فيه محمول في الأولى موضوع في الثانية ، فتكون النتيجة موضوع الأولى ومحمول الثانية ، وهي زيارة قبره واجبة ، ثم يلزم على هذا لوازم منها أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته ، ولا تقبل روايته ولا فتواه ، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة ، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسوقا جمهورهم بتركهم توليه علي ، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب .
لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه ، وترك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر ، فإن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم للكفر ، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر ، لأنه تارك لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن الرافضة والخوارج لم يصلوا إلى هذا الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة .
يوضحه الوجه الثاني : أن الخوارج إنما كفروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم ، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده ، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً فأين المكفر بالذنب إلى المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد ؟
يوضحه الوجه الثالث : أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها ، ولكان فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً ، من قرب أو بعد ، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض قام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم يزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول وحزبه القائمون بحقوقه ، وما كانوا أولياء إن أولياؤه إلا أهل طاعته والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً ، والذين جردوا التوحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه ، ووافقواه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه .
الوجه الرابع : أنه إذا كان زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر أكد من الهجرة إليه في حياته ، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة بعد الفتح )) .وعند عباد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً ، وليس بخاف أن هذا مراغمة صريحة لما جاء به الرسول وإحداث في دينه ما لم يأذن به ،وكذب عليه وعلى الله ، هذا من أقبح التنقص .
وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أنه رأس فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها : ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين : زيارة شرعية ،وزيارة بعدية .
فالزيارة الشرعية : مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً ، قال : وبعد ذلك : فالزيارة لقرب المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته يدعي كما يدعي إذا صلى على جنازته .
وأما الزيارة البدعية : فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت مثل: طلب الحوائج منه أو به ، أو التمسح بقبره وتقبيله ، أو السجود له ونحو ذلك ، فهذا كله لم يأمر اله به ، ولا رسوله ، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره .
قال المعترض : بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ : وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به فهذه ثلاثة أقسام .
أولها : السلام والدعاء له ، وقد سلم جوازه وأنه شرعي .
والقسم الثاني : التبرك به والدعاء عنده للزائر ، وقال :وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث ، ولا دليل له على ذلك ، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه ، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين ، فكيف بالأنبياء والمرسلين ، ومن أدعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه ، وفيه حظ لرتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة من سواه من المؤمنين وذلك كفر بيقين .
فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر ، فإن قال : إن هذا ليس يحط ، ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له ، قلت هذا جهل وسوء أدب ، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم يستحق التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ، ولا يرتاب في ذلك من في قلبه شيء من الإيمان ، هذا كله كلام المعترض .
فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهودى وقلة العلم ، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه اذلي يشهد به عليه كلامه ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .
الوجه الخامس : أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور : أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أو نوعاً خاصاً من التعظيم ؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به ، لأنه من تعظيمه ، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له ، وقال : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) ، ومعلوم أن مطرية أنما قصد تعظيمه وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له يا محمد ، يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا ،وأبن خيرنا : (( عليكم بقولكم ولا تستهوينكم الشيكان أنا محمد بن عبد الله ورسوله )) والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ، فمن عظمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم ، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ونهى عنه وحذر منه .
وأيضاً فإن الحلف به تعظيم له ، فقولوا : يجب على الحالف أن يحلف به ، لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب ، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه ،كل هذا تعظيم له ، معلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على م استطاع إليه سبيلاً ، ولا فرق بينهما ، وإن قلتم إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده ، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز ، وبيان أن الزيارة من هذا النوع الواجب ، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله .
الوجه السادس : أن يقال : الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما خطر بالبال تعظيم له فأرجوا له هذا التعظيم ، وحكموا على من قال : لا يجب بأنه تارك لتعظيمه ، بل حكموا على من قال : لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر ،ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة أولا تجب في العمر إلا مرة ، أولا تجب أصلاً بأنه تارك للتعظيم ، لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب ، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب ،أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه .
يوضحه الوجه السابع : إن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه ، وذلك قادح في إيمانهم ، وكذلك من كره ، أو حرم الحلف به وقال : لا تعتقد يمين الحالف به يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه ، لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب .
الوجه الثامن : إن القول بعدم وجوب زيارة قبره ، أو بعدم استحبابها ، أو بعد جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه ، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام : لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير وبمنزلة قول من قال منهم : تكره الصلاة عليه عند الذبح ، وبمنزلة قوله من قال : لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول ، ولا عند التشهد في الأذان ، بل قول من نفى وجوب الزيارة ، أو جواز شد الرحال إلى أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه ، أو استحبابها في بعض المواضع ، لأن الصلاة عليه مأمور بها ، وقد ضمن للمصلي عليه مرة أن يصلي الله عليه عشراً ، بل الصلاة عليه محض التعظيم له ، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم ، وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه ، بل ذلك عين تعظيمه يدل عليه .
الوجه التاسع : أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره ، والرضا بما يرضى به ، ولفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما جذر منه ، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قول أحد سواه ، ولا يعارض ما جاء به بمعقول ، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه ، وقدم آرائهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله ، ثم ينسب ورثة الرسول الموافقين مع أوقاله المخالفين لما خلفها من ترك التعظيم والتنقيص ، وأي إخلاف بتعظيمه وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين ، وقدم عليه آراء الرجال وزعم أن العقل يعارض ما جاء به ، وأن الواجب تقديم المعقول ، وآراء الرجال على قوله.
الوجه العاشر : أن إيجاب زيارة قبرة ، واستحبابها وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يحج إلي البيت العتيق كما يفعله عباد القبور ولا سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع ، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويتمسح به ، فلم يبق عليه من الأعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار ، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور ، أو استحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله .
وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم وحلق رؤوسهم عند قبورهم ، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك ، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه مناسك حج المشاهد وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من علمه تعظيماص ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة .
الوجه الحادي عشر : أن هذا الذي قصده عباد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها ، ولعن فاعل ذلك ، ونهى عن الصلاة إليها وحرم اتخاذ قبره عيداً ، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك ، ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دنيال لما ظهر في زمان الصحابة ، ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة ، وأراد القبر أن يوفي بنذره ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى يجعل مسجداً كما قال : وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً ، ولأجله كره مالك أن يقول القائل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، لما يوهم هذا اللفظ من أنه قصد المدينة لأجل زيارة القبر .
ولما فيه من تعظيم القبر الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض ، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور ، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ ، ومنع الناذر من إتيانه ، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به ، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع ، أو لم يكن .
ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه وقد منع ناذر القبر من الوفاء بنذره ، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به ، ومن رد هذا النقل عنه وكذب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذب بالحق لما جاءه ، فإن ناقله ممن له لسان صدق في الأمة بالعلم والإمامة والصدق والجلالة ، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام ، وكان نظير الشافعي ، وإماماً في سائر العلوم حتى قال المبرد : إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف ، وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال : قد جاءت المدينة ، وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو المبسوط فمن فهو بمنزلة من كذب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظراءهم .
ومتى وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته ،ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض ، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم وعلم نصيحتهم للأمة ، وتعظيمهم للرسول وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك ، وبهذا جعلهم الله أئمة وجعل لهم لسان صدق في الأمة ، وفلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم ، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه .
فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم وهو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أمته عنه ، ولعن فاعله ، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول : (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ،ويقول : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ، ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم ، فعلم أن من التعظيم للقبور ما يعلن الله فاعله ويشتد غضبه عليه.
الوجه الثاني عشر : أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم ، فإن التعظيم محله القلب واللسان ، والجوارح وهم أبعد الناس منه ، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على نفسه والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران :
أحدهما : تجريد التوحيد ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات ، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها ، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلي الصبح والعصر لئلا ينشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم ،ونهى أن يقال :/ ما شاء الله وشاء فلان ، ونهى أن يحلف بغير الله ، وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلي إلى القبر ، أو يتخذ مسجداً ، أو عيداً ، أو يوقد عليه سراج وذم، من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد ، فقال له : بئس الخطيب أنت ، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة ، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه ، وسد الذرائع المنافية له ، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه .
الثاني : تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله ، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث المستعان به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة ، وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب ، والذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده ، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده ، وليس لغيره من الأمر شيء ، كائناً من كان بل الأمر كله لله .
وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً وأعمهم عنده شفاعة ليس له من الأمر شيء ولا يعطي أحد شيئاً ، ولا يمنع أحد شيئاً ، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً ، وقد قال الأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمدته : (( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عليك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول اله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول اله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً )) .
فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه ، وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه ، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير ، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه ، فالغالي المفرط كذلك ، وكل منهما شر من الأجر من وجه دون وجه ، وأولياءه سلكون بين ذلك قواماً ؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلانه كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه .
وبالجملة :فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وجدة والرضا بحكمه ، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله : فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده ، أو تأوله أو فوضه ،أو أعرض عنه ، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه إن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك ، وهم يشهدون على أنهم بذلك .
وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم ،وأقوال متبوعهم على قوله ، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين ، وأنه إذاعارضة الرجال قدمت عليه ، وكان الحكم ما تحكم به ، أفلا يستحي من الله ومن العقلاء من هذا حالة في أصول دينه وفروعه أن يستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه ، ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : ((وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون)) ((وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عال الغيب والشهادة فينبكم بما كنتم تعملون )) . اهـ كلامه رحمه الله واسكنه فسيح جناته
وقوله – أي السبكي - : ( زيارة القبور تعظيم ، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واجب ) ، الكلام عليه من وجوه :
أحدهما أن يقال : هتان المقدمتان إن أخذتا على إطلاقهما أنتجتا أن زيارة قبره واجبه وهو إنتاج لازم للمقدمتين لزوماً بيناً، فإن الضرب الأول من الشكل الأول والحد الأوسط فيه محمول في الأولى موضوع في الثانية ، فتكون النتيجة موضوع الأولى ومحمول الثانية ، وهي زيارة قبره واجبة ، ثم يلزم على هذا لوازم منها أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته ، ولا تقبل روايته ولا فتواه ، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة ، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسوقا جمهورهم بتركهم توليه علي ، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب .
لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه ، وترك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر ، فإن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم للكفر ، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر ، لأنه تارك لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن الرافضة والخوارج لم يصلوا إلى هذا الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة .
يوضحه الوجه الثاني : أن الخوارج إنما كفروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم ، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده ، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً فأين المكفر بالذنب إلى المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد ؟
يوضحه الوجه الثالث : أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها ، ولكان فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً ، من قرب أو بعد ، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض قام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم يزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول وحزبه القائمون بحقوقه ، وما كانوا أولياء إن أولياؤه إلا أهل طاعته والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً ، والذين جردوا التوحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه ، ووافقواه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه .
الوجه الرابع : أنه إذا كان زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر أكد من الهجرة إليه في حياته ، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة بعد الفتح )) .وعند عباد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً ، وليس بخاف أن هذا مراغمة صريحة لما جاء به الرسول وإحداث في دينه ما لم يأذن به ،وكذب عليه وعلى الله ، هذا من أقبح التنقص .
وقد ذكر المعترض في موضع من كتابه أنه رأس فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها : ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين : زيارة شرعية ،وزيارة بعدية .
فالزيارة الشرعية : مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً ، قال : وبعد ذلك : فالزيارة لقرب المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته يدعي كما يدعي إذا صلى على جنازته .
وأما الزيارة البدعية : فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت مثل: طلب الحوائج منه أو به ، أو التمسح بقبره وتقبيله ، أو السجود له ونحو ذلك ، فهذا كله لم يأمر اله به ، ولا رسوله ، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره .
قال المعترض : بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ : وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به فهذه ثلاثة أقسام .
أولها : السلام والدعاء له ، وقد سلم جوازه وأنه شرعي .
والقسم الثاني : التبرك به والدعاء عنده للزائر ، وقال :وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث ، ولا دليل له على ذلك ، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه ، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين ، فكيف بالأنبياء والمرسلين ، ومن أدعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه ، وفيه حظ لرتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة من سواه من المؤمنين وذلك كفر بيقين .
فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر ، فإن قال : إن هذا ليس يحط ، ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له ، قلت هذا جهل وسوء أدب ، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم يستحق التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ، ولا يرتاب في ذلك من في قلبه شيء من الإيمان ، هذا كله كلام المعترض .
فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهودى وقلة العلم ، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه اذلي يشهد به عليه كلامه ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .
الوجه الخامس : أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور : أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أو نوعاً خاصاً من التعظيم ؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به ، لأنه من تعظيمه ، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له ، وقال : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) ، ومعلوم أن مطرية أنما قصد تعظيمه وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له يا محمد ، يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا ،وأبن خيرنا : (( عليكم بقولكم ولا تستهوينكم الشيكان أنا محمد بن عبد الله ورسوله )) والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ، فمن عظمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم ، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ونهى عنه وحذر منه .
وأيضاً فإن الحلف به تعظيم له ، فقولوا : يجب على الحالف أن يحلف به ، لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب ، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه ،كل هذا تعظيم له ، معلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على م استطاع إليه سبيلاً ، ولا فرق بينهما ، وإن قلتم إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده ، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز ، وبيان أن الزيارة من هذا النوع الواجب ، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله .
الوجه السادس : أن يقال : الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما خطر بالبال تعظيم له فأرجوا له هذا التعظيم ، وحكموا على من قال : لا يجب بأنه تارك لتعظيمه ، بل حكموا على من قال : لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر ،ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة أولا تجب في العمر إلا مرة ، أولا تجب أصلاً بأنه تارك للتعظيم ، لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب ، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب ،أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه .
يوضحه الوجه السابع : إن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه ، وذلك قادح في إيمانهم ، وكذلك من كره ، أو حرم الحلف به وقال : لا تعتقد يمين الحالف به يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه ، لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب .
الوجه الثامن : إن القول بعدم وجوب زيارة قبره ، أو بعدم استحبابها ، أو بعد جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه ، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام : لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير وبمنزلة قول من قال منهم : تكره الصلاة عليه عند الذبح ، وبمنزلة قوله من قال : لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول ، ولا عند التشهد في الأذان ، بل قول من نفى وجوب الزيارة ، أو جواز شد الرحال إلى أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه ، أو استحبابها في بعض المواضع ، لأن الصلاة عليه مأمور بها ، وقد ضمن للمصلي عليه مرة أن يصلي الله عليه عشراً ، بل الصلاة عليه محض التعظيم له ، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم ، وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه ، بل ذلك عين تعظيمه يدل عليه .
الوجه التاسع : أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره ، والرضا بما يرضى به ، ولفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما جذر منه ، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قول أحد سواه ، ولا يعارض ما جاء به بمعقول ، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه ، وقدم آرائهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله ، ثم ينسب ورثة الرسول الموافقين مع أوقاله المخالفين لما خلفها من ترك التعظيم والتنقيص ، وأي إخلاف بتعظيمه وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين ، وقدم عليه آراء الرجال وزعم أن العقل يعارض ما جاء به ، وأن الواجب تقديم المعقول ، وآراء الرجال على قوله.
الوجه العاشر : أن إيجاب زيارة قبرة ، واستحبابها وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يحج إلي البيت العتيق كما يفعله عباد القبور ولا سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع ، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويتمسح به ، فلم يبق عليه من الأعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار ، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور ، أو استحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله .
وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم وحلق رؤوسهم عند قبورهم ، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك ، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه مناسك حج المشاهد وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من علمه تعظيماص ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة .
الوجه الحادي عشر : أن هذا الذي قصده عباد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها ، ولعن فاعل ذلك ، ونهى عن الصلاة إليها وحرم اتخاذ قبره عيداً ، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك ، ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دنيال لما ظهر في زمان الصحابة ، ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة ، وأراد القبر أن يوفي بنذره ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى يجعل مسجداً كما قال : وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً ، ولأجله كره مالك أن يقول القائل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، لما يوهم هذا اللفظ من أنه قصد المدينة لأجل زيارة القبر .
ولما فيه من تعظيم القبر الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض ، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور ، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ ، ومنع الناذر من إتيانه ، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به ، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع ، أو لم يكن .
ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه وقد منع ناذر القبر من الوفاء بنذره ، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به ، ومن رد هذا النقل عنه وكذب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذب بالحق لما جاءه ، فإن ناقله ممن له لسان صدق في الأمة بالعلم والإمامة والصدق والجلالة ، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام ، وكان نظير الشافعي ، وإماماً في سائر العلوم حتى قال المبرد : إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف ، وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال : قد جاءت المدينة ، وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو المبسوط فمن فهو بمنزلة من كذب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظراءهم .
ومتى وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته ،ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض ، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم وعلم نصيحتهم للأمة ، وتعظيمهم للرسول وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك ، وبهذا جعلهم الله أئمة وجعل لهم لسان صدق في الأمة ، وفلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم ، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه .
فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم وهو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أمته عنه ، ولعن فاعله ، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول : (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ،ويقول : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ، ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم ، فعلم أن من التعظيم للقبور ما يعلن الله فاعله ويشتد غضبه عليه.
الوجه الثاني عشر : أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم ، فإن التعظيم محله القلب واللسان ، والجوارح وهم أبعد الناس منه ، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على نفسه والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران :
أحدهما : تجريد التوحيد ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات ، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها ، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلي الصبح والعصر لئلا ينشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم ،ونهى أن يقال :/ ما شاء الله وشاء فلان ، ونهى أن يحلف بغير الله ، وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلي إلى القبر ، أو يتخذ مسجداً ، أو عيداً ، أو يوقد عليه سراج وذم، من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد ، فقال له : بئس الخطيب أنت ، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة ، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه ، وسد الذرائع المنافية له ، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه .
الثاني : تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله ، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث المستعان به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة ، وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب ، والذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده ، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده ، وليس لغيره من الأمر شيء ، كائناً من كان بل الأمر كله لله .
وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً وأعمهم عنده شفاعة ليس له من الأمر شيء ولا يعطي أحد شيئاً ، ولا يمنع أحد شيئاً ، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً ، وقد قال الأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمدته : (( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عليك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول اله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول اله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً )) .
فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه ، وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه ، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير ، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه ، فالغالي المفرط كذلك ، وكل منهما شر من الأجر من وجه دون وجه ، وأولياءه سلكون بين ذلك قواماً ؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلانه كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه .
وبالجملة :فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وجدة والرضا بحكمه ، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله : فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده ، أو تأوله أو فوضه ،أو أعرض عنه ، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه إن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك ، وهم يشهدون على أنهم بذلك .
وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم ،وأقوال متبوعهم على قوله ، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين ، وأنه إذاعارضة الرجال قدمت عليه ، وكان الحكم ما تحكم به ، أفلا يستحي من الله ومن العقلاء من هذا حالة في أصول دينه وفروعه أن يستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه ، ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : ((وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون)) ((وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عال الغيب والشهادة فينبكم بما كنتم تعملون )) . اهـ كلامه رحمه الله واسكنه فسيح جناته