المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الذين تواصوا بالحق ..الذين تواصوا بالصبر


كيف حالك ؟

محمد يحيى
07-23-2004, 08:09 PM
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَـانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

أيها الأخوة, ارتكزت هذه السورة العظيمة على معالم أربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

بُدئت هذه السورة بالقسم بالعصر، وهو الدهر كله أو جزء منه، إن كان القسم واقعاً على جزءٍ من الدهر كما قال بعض المفسرين، وقال بعضهم هو صلاة العصر، فإن في قسم الله سبحانه بهذا العصر دلالة على عظم هذا المخلوق، فإن العصر هو منتهى النهار ومُقْتَبَل الليل فيها، فيه آيات عجيبة ودلائل كبيرة على قدرة الجبار جل جلاله.

ولذلك أصبحت صلاة العصر من أفضل الصلوات، بل من حافظ على أدائها كانت له طريقًا إلى الجنة.

في الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله : ((من صلى البردين دخل الجنة))[2]، والبردان: الصبح والعصر.

وبالمقابل من فرط فيهما ولم يحافظ على أدائها وتكاسل عن ذلك كانت سببًا لحبوط عمله.

يقول المصطفى كما في الصحيحين: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله))[3].

وإن كان القسم واقعاً على الدهر كله، فإن الدهر مليء بالعجائب والقدرات الفائقة الدالّة على عظيم قدرته سبحانه وسعة علمه.

فالدهر أيام الله، يجري فيها بحكمته ما يشاء من الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والخفض والرفع، قدر ينفذ، وآية تظهر، وأمة تذهب وأخرى تأتي، دولة تعلو وأخرى تهبط، ليل يعقبه نهار، ونهارٌ يطرده ليل، وأرحام تدفع وأرض تبلع.

ومع ذلك فالأرض كلها قائمة بأمر الله، وَمِنْ ءايَـاتِهِ أَن تَقُومَ ?لسَّمَاء وَ?لاْرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25].

كل هذا القسم العظيم لا شك واقع على مقسمٍ عليه عظيم أيضًا، فإن عظم القسم يدل على عظم المقسم عليه.

إِنَّ الإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ [العصر:2]، هذا هو جواب القسم، خسارة الإنسان, كل إنسان، الأحمر والأسود، في الشرق وفي الغرب، من الشمال ومن الجنوب, كل هؤلاء أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39]. أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْء [إبراهيم:18].

خسران الكفر والضلال والعصيان، تفسد فطرهم وتسوء مقاصدهم, ولا ينجو ولن ينجو إلا من استكمل أسباب النجاة التي دلت عليها السورة الكريمة:

أولها: الإيمان بالله وبما جاء من عند الله، عبادةً لله وخضوعًا، فهو سبحانه القوي الأعلى. الإيمان الحق الذي يودع في القلب نوراً، ويورث في الروح طمأنينة, ويملأ النفس أنسًا، فيزول الخوف والاضطراب كما ينتفي الكبر والاستعلاء.

حينما تصفو النفوس بالإيمان, فإن المشاعر تصفو وتعلو، وتحس بكرامتها على الله، فتجزم بمراقبة ربها عليها، واطلاعه على مكنونات صدورها وضمائرها, الإيمان الحق الذي يورث العمل الصالح, الإيمان الذي يظهر أثره على الجوارح, الإيمان الذي يعيشه المؤمن الحق فيحس وهو يطبق ما أمره الله كأنه يعيش مع الملأ الأعلى, الإيمان الذي يحجب الإنسان عن المعصية، فيكرهها لأنها مما يبغضه الله، ويحب الطاعة؛ لأنها تقربه من خالقه ومولاه.

ولذلك قال الله بعدها: إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـ?لِحَـ?تِ [العصر:3].

لم يكن ولن يكون إيمان بلا عمل، فمن كمل إيمانه كمل عمله، بل إن العمل الصالح مما يزيد إيمان القلب وصلاحه وفلاحه.

ومن زعم أن هناك انفصالاً بين الإيمان والعمل ـ فالعمل شيءٌٌ والإيمان شيء آخرـ فهذا جاهل بكتاب الله وسنة نبيه, ولم يعرف مراد الشريعة، ولم يستثمر معاني الإيمان، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يعقل إيمان كامل وعمل خامل [ضدان لا يجتمعان] فكل عمل صالح يدل على إيمان راسخ.

أيها الأخوة, إنك لتعجب حينما تقرأ في كتب العقيدة التي تُعنى بسوق الخلاف من المذاهب المنحرفة, إنك لتعجب حينما يمرّ عليك أن هناك طائفة من المبتدعة تقول: إن الإيمان وحده كافٍ عن العمل، ويجعلون العمل شيئاً والإيمان شيئاً آخر، فلا عمل يؤثر في الإيمان ولا الإيمان يثمر العمل.

ولكنك من حين أن تعرف هذا المذهب تستيقن يقينًا جازمًا أن هؤلاء لم يذوقوا طعم الإيمان، ولم يعرفوا سيرة القوم من الصحابة.

فما الذي جعل الصحابة ومن بعدهم يضحون بأرواحهم رخيصة لنصرة هذا الدين؟

فهذا مجاهد، وهذا يفني الليل بالقيام والتهجد والبكاء, وآخر يقطع النهار وشيئاً من الليل بالعلم والتعليم.

إن الناظر في سيرة أولئك القوم, ليجزم جزمًا أكيدًا أنه لا إيمان بلا عمل, وللأسف إن بعض المسلمين هداهم الله قد قلد هؤلاء المبتدعة من حيث لا يشعر.

فإذًا نصح عن منكر ظاهر كحلق اللحية مثلاً وإطالة الثوب أو الدخان أو التقصير في الصلاة أو ما شابه ذلك، قال لك: الإيمان في القلب، وما فائدة الإيمان إذا سكن في القلب. ولا يورث عملاً ولا طاعةً.

إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:3].

الله أكبر! إنها الرابطة بين أبناء المجتمع وأفراد الأمة، إنها الأخوة الإيمانية التي يفرح بها المسلم ويعتبرها أقوى من الأخوة في النسب.

وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ [العصر:3].

إن إيمان هؤلاء بعملهم الصالح لم يكن حِكرًا عليهم، ولم يحملهم إيمانهم وعملهم الصالح أن يكونوا قابعين في بيوتهم لا يهمهم أمر الإسلام ولا المسلمين، أو أن ينظروا للناس نظر ازدراء واحتقار.

إن الإيمان ـ أيها الأخوة ـ ليس انكماشًا ولا سلبية ولا انزواءً.

إن الإيمان يحمل على التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

إن أهل الإيمان يتواصون بالحق دائمًا, فهم يتواصون بسلوك طريق الحق، ونبذ الطرق الضالة المنحرفة، يتواصون بحق بعضهم على بعض، يتواصون بحقوق أهل الإسلام عليهم، يتواصون بحقوق الله عليهم من الإيمان به والدعوة إلى دينه وتعظيم حرماته، وترك مساخطه وغضبه، يتواصون بالثبات على طريق الإيمان.

وفوق هذا كله, يوصي بعضهم بعضًا بالصبر على أقدار الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على الأذى في الله، والصبر في ترك ما حرم الله.

نعم, فهم يتمثلون الصبر بأكمل صوره وأجلى معانيه، فهم يتواصون بالصبر على طاعة الله ويشد بعضهم أزر بعض. ويذكر بعضهم بعضًا بعاقبة الصبر على طاعة الله، ويتذاكرون ثواب الله بينهم, ويعيشون بين أنهار الجنة وكثبانها، وبين جمالها وأنسها, لكن بحديثهم هذا يصبِّر بعضهم بعضًا، ويسلي بعضهم بعضًا، ويتواصون بالصبر على ترك ما حرم الله.

فهاهم يذكر بعضهم بعضاً مغبة المعاصي وعاقبة الذنب، ويتذاكرون النار وعذابها، فتسكب الدمعات الحارة ولو نطقت لقالت: اللهم لا تشوِ وجهه بالنار.

ويتواصون على الصبر على الدعوة إلى الدين الحق ودعوة الناس إلى الطريق المستقيم وتحمل الأذى والصبر على أذى الناس، ويتذكرون حديث المصطفى : ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))[4].

ويسمو بهم التواصي حتى يسلي بعضهم بعضًا بأن هذا الطريق قد يبتلى فيه العبد، يبتلى بماله, بنفسه، فقد يؤذى أو ينال منهم بشتى أنواع البلاء فعليه بالصبر.

ويذكرون بعضهم بآيات الله وبقصص أنبياء الله وبمحمد رسول الله يوم أوذي ونيل منه وهو أكرم مخلوق على الله.

ويذكر بعضهم بعضًا بما لاقاه الصحابة الكرام, وهم أشرف الأمة, وأفضل القرون على الإطلاق، ولا يزالون كذلك.

لا يزال أهل الإيمان كذلك, إيمانهم راسخ وعملهم صالح، ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، حتى تنقضي دنياهم فيعيشون بعد بعثهم الحياة الحقيقية والنعيم الحقيقي, حينها يعلم أهل الباطل وأهل الدنيا أنهم ما كانوا إلا في خسران، وأنهم لم يذوقوا شيئًا من نعيم الدنيا. وحينها يتذكر أولئك المؤمنون عندما يغسمون في الجنان فيقال لهم: هل رأيتم بأسًا قط؟ هل رأيتم شقاءً قط؟

فيقولون: لا يا رب. وتذهب الدنيا كأدراج الرياح، وتتلاشى, ويذهب منها كل شيء وتبقى الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية.

فعلى من أراد أن يكون في عداد أولئك, فما عليه إلا أن يطبق هذه السورة العظيمة تطبيقاً عمليًا، ويترك ما حرم الله عليه، ويقبل على طاعة خالقه ومولاه.

أيها الأخوة, إن كل هذه المعاني ما هي إلا بعضها، إن كل ما سمعتم قليل من كثير مما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة، وإلا فهي لا تكفيها خطبة واحدة. وحقها أن تفرد كل آية منها بل كل كلمة منها بخطبة كاملة, وربما لا يوفى حقها، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

وما هي إلا لفتة لي ولكم لنتدبر هذا القرآن العظيم بل هذه السورة العظيمة، لنرجع إلى كتاب ربنا ونتدبره، وننظر إلى ما فيه من الآيات العظيمة، والحكم الباهرة، والطريق المستقيم.

وصدق الشافعي إذ يقول: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لوسعتهم". لأنها رسمت الحياة وأعطت جدولاً حيويَّاً لكل مسلم، فهل من مدّكر؟

اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم.

اللهم اجعلنا لكتابك من التالين، وللذيذ خطابه من المستمعين، ولأوامره من العاملين، ولنواهيه من المستجيبين يا رب العالمين.

قلت ما قد سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] صحيح إسناده الهيثمي، المعجم الأوسط للطبراني (5120)، وشعب الإيمان للبيهقي (9057)، قال الهيثمي في المجمع (10/307): رجاله رجال الصحيح غير ابن عائشة وهو ثقة.

[2] صحيح ، البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر (574)، مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة.. (635).

[3] صحيح، البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب من ترك العصر (553).

[4] صحيح، أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2507)، وابن ماجه كتاب الفتن، باب الصبر البلاء (4032)، وأحمد (2/43)، والبخاري في الأدب المفرد (388)، وابن أبي شيبة (5/293)، وهو في الصحيحة للألباني رقم (939).

"خطبة منقولة"

12d8c7a34f47c2e9d3==