عبدالعزيز السارني
05-16-2004, 10:14 PM
الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع لمحمد الخميس
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
الأستاذ المشارك - قسم العقيدة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض
ملخص البحث
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن الهدف من هذا البحث هو بيان مدى مشروعية ما يفعله كثير من الناس ، من الاجتماع في البيوت والمساجد في أوقات معينة ، أو مناسبات معينة ، أو بعد الصلوات المكتوبة لذكر الله تعالى بشكل جماعي ، أو يردد أحدهم ويرددون خلفه هذه الأذكار .
ولأن هذا الفعل قد كثر وشاع بين الناس في كثير من بلدان المسلمين ، فقد جاء هذا البحث لبيان حكم الشريعة في مثل هذا الفعل .
وقد اشتمل البحث على مقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
أما المقدمة : فهي في بيان أسباب اختيار الموضوع ، وبيان خطة البحث ، وكذلك بيان اعتقاد العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها ، وذلك كمدخل للبحث .
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر لغة وشرعاً .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي من الناحية التاريخية ، وتوثيق ذلك .
والمبحث الثالث : في بيان حجج من جاز الذكر الجماعي ، وقد سقتها مفصلة .
والمبحث الرابع : في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي ، وجوابهم على حجج المجيزين ، مع بيان فتاوى للمتقدمين والمعاصرين في هذا .
والمبحث الخامس : في بيان حكم الذكر الجماعي وذلك كنتيجة لهذا البحث .
وأما المبحث السادس : فهو في بيان مفاسد الذكر الجماعي ، وآثاره السلبية سواءً على فاعله ، أو على غيره .
وأما الخاتمة : فهي في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
فهذا ملخص البحث المذكور ، وأسأل الله المغفرة والقبول ، والحمد لله رب العالمين .
المقدمة :
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ آل عمران: 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب : 70 ، 71 ] .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار(1) .
وبعد : فقد انتشرت بين الناس بدع كثيرة في دين الله تعالى ، واستبدلوها بسنن النبي r ، حتى كادت معالم السنة تندثر وأصبح الباطل حقاً ، والحق باطلاً . وأضحت البدعة سنة، والسنة بدعة .
ومن صور العبادات التي انتشرت بين عامة المسلمين ، ظاهرة الذكر الجماعي ، في المساجد والبيوت ، والمنتديات وغيرها ، وذلك في كثير من البلدان الإسلامية ، حتى عمت بها البلوى .
كما يوجد في بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن الدعاء بعد الصلوات المفروضة بشكل جماعي من مستحبات الصلاة . وهم يعتبرونها مثل الراتبة(2) التي تصلى بعد الفريضة ، أو أكثر منها ، ويحرصون عليها أشد الحرص ، ويواظبون عليها . فإذا لم يدع لهم الإمام بعد الصلاة ولم يجتمع معهم على الذكر بصورة جماعية ، رأوا أن صلاتهم ناقصة ، وأساءوا الظن به ، واتهموه بأنواع من التهم ، ولما كان الذكر عبادة لله تعالى ، والعبادات توقيفية لا مجال للابتداع فيها ، أو للاستحسان . من أجل هذا كان لابد من بيان حكم هذا العمل ، والكلام عليه ، وذلك كما سيأتي إن شاء الله في مباحث هذا الكتاب .
ولما كان بيان ( السنة ) والذب عنها ، ورد البدعة من أوجب الواجبات على العلماء، وطلبة العلم ، والدعاة إلى الله تعالى . ولما كانت ظاهرة الذكر الجماعي مما عمت به البلوى. وشاع بين العامة في كثير من البلدان ، واختلف فيه الناس بين مانع منه ، ومجوِّز له . وقد بحثت عمن ألَّف في هذا الموضوع خصوصاً ، بحيث يستوعبه من جميع جوانبه ، ويبين السنة فيه - لكني لم أقف على كتاب في هذا الموضوع . لذلك رأيت مستعيناً بالله تعالى أن يكون موضوع هذا البحث هو بيان مدى مشروعية الذكر الجماعي ، هل يجوز أم لا ؟ وقد جمعت أقوال المانعين منه وأدلتهم ، والمجيزين له وأدلتهم ، في محاولة لاستيعاب هذا الموضوع، والوقوف على مدى مشروعية هذا الفعل . وأسميت هذا البحث (( الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع )) .
خطة البحث :
اشتمل البحث على : خطبة الحاجة ، ومقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
فأما المقدمة : فهي في أسباب اختيار الموضوع ، مع بيان خطة البحث . وكذلك التنبيه على اعتقاد بعض العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها، وذلك كمدخل للبحث .
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر الجماعي .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي .
والمبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الخامس : في حكم الذكر الجماعي .
والمبحث السادس : حول مفاسد الذكر الجماعي .
والخاتمة : في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص والتوفيق ، والسداد ، وأن يجنبنا الخطأ والزلل والزيغ، وأن يتقبل منا هذا العمل .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمهيد : مشروعية الذكر ووجوب الاتباع في العبادة
من المعلوم أن الذكر من أفضل العبادات ، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت ، بقلبه ، وبلسانه ، وبجوارحه ، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله تعالى ، ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة ، وطرفي النهار ، والأذكار عند العوارض والأسباب ، فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله ، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة أو تعب وجهد .
لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها ، وهدي النبي r ، وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وذلك لأن الاتباع شرط لصحة العمل ، وقبوله عند الله تعالى ، كما قال r : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(3) أي باطل مردود على صاحبه .
ومما هو معلوم أن العبادات - ومنها الذكر - كلها توقيفية ، أي : لا مجال فيها للاجتهاد ، بل لابد من لزوم سنة النبي r وشريعته فيها ، لأنها شرع من عند الله تعالى ، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه الله تعالى ، وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله تعالى في التشريع ، ومنازعة لله تعالى في حكمه ، وقد قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] .
قال السعدي في تفسير هذه الآية : (( .. { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } من الشرك والبدع وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه . فالأصل : الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله ولا عن رسوله ... )) أهـ(4) .
فلا ينبغي ، بل ولا يجوز التقرب إلى الله تعالى إلا بما شرع ، وبما بيَّن على لسان رسوله r . ومن هنا كان لازماً على المسلم أن يلزم السنة في كل عباداته ، وألا يحيد عنها قيد أنملة ، وإلا أحبط عمله وأبطله إذا كان مخالفاً هدي رسول الله r في العمل .
ولهذا فإن المسلم ينبغي له ألا يحدث في ذكره لله شيئاً مخالفاً لما كان عليه رسول الله r هو وأصحابه ، وإلا كان مبتدعاً في الدين ، محدثاً في العبادة ما ليس منها .
ومهما استحسن الإنسان بعقله شيئاً في العبادة ، فإنه - أي الاستحسان - ليس دليلاً على مشروعية تلك العبادة ، بل إن هذا الاستحسان قد يكون مصادماً لحكم الله تعالى ، فلا ينبغي أبداً أن يتعبد الإنسان لله تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسوله r .
المبحث الأول : تعريف الذكر الجماعي
الذكر الجماعي يتركب من كلمتين ، وإليك بيان معنى كل منهما :
أولاً ( الذِّكر ) : بالكسر : الشيء الذي يجري على اللسان(5) ، وتارة يقصد به الحفظ للشيء .
قال الراغب في المفردات : (( الذكر : تارة يقال ويراد به : هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً باحترازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره . وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول . ولذلك قيل منهما ضربان : ذكر عن نسيان . وذكر لا عن نسيان ، بل عن إدامة الحفظ ))(6) .
وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء . أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله والثناء عليه ، بأسمائه وصفاته ، وتمجيده وتوحيده ، وشكره وتعظيمه ، أو بتلاوة كتابه ، أو بمسألته ودعائه(7) .
ثانياً : معنى ( الجماعي ) : هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد ، يوافق فيه بعضهم بعضاً(8) .
والمقصود بكلامنا وقولنا : الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة ، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين ، أو دون قائد ، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد ، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث .
المبحث الثاني : نشأة الذكر الجماعي
كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي ذلك مفصلاً في المبحث الرابع إن شاء الله وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة ، وخبت بسبب إنكار السلف لها . ثم لما كان زمن المأمون ، أمر بنشر تلك الظاهرة . فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس . فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ
ما نصه : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا ، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة ، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان ، من هذه السنة )) (9) وجاء في تاريخ ابن كثير : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد ، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس )) (10) . فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي إلى الظهور وبقوة ، بسبب مناصرة السلطان لها . ومن المعلوم أن السلطان إذا ناصر أمراً ، أو قولاً ما ، ونشره بالقوة بين الناس ، فلابد أن ينتشر ويذيع ، إذ إن الناس على دين ملوكهم .
واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم(11) .
هذا وقد جمعوا بين أمرين ، هما : الذكر الجماعي ، والذكر بالاسم المفرد .
وقد اختلف في جواز الذكر بالاسم المفرد ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من الذكر في جملة لأنها هي المفيدة ولا يصح الاسم المفرد ، مظهراً أو مضمراً ، لأنه ليس بكلام تام ولا جملة مفيدة . ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف .
ومن صور هذا الذكر كذلك أن يزيدوا ياءً في ( لا إله إلا الله ) بعد همزة لا إله . ويزيدون ألفاً بعد الهاء في كلمـــة ( إله ) فتصبح ( لا إيلاها ) . ويزيدون ياءً بعد همزة إلا وبعد ( إلا ) يزيدون ألفاً فتصبح ( إيلا الله ) وكل ذلك حرام بالإجماع في جميع الأوقات(12).
وكذلك يلحن بعضهم في ( لا إله إلا الله ) . فيمد الألف زيادة على قدر الحاجة ، ويختلس كسرة الهمزة المقصورة بعدها ولا يحققها أصلاً ، ويفتح هاء له فتحة خفيفة كالاختلاس ، ولا يفصل بين الهاء وبين إلا الله(13) .
وكذلك من صوره أنهم يذكرون بالحَلْقِ ، أي يحاولون إخراج الحروف من الحلق ، وهذا يلزمهم بفتح أشداقهم ، والتقعر في الكلام ، والتكلف في النطق ، ومعلوم أن مورد الذكر اللسان والحلق والشفتان لأنها هي التي تجمع مخارج الحروف(14) .
وقد تعددت صور ذلك . فمنهم من يجتمعون في بيت من البيوت ، أو مسجد من المساجد فيذكرون الله بذكر معين وبصوت واحد : كأن يقولوا : لا إله إلا الله . مائة مرة(15) . قال الشقيري : (( والاستغفار جماعة على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة بدعة . والسنة استغفار كل واحد في نفسه ثلاثاً ، وقولهم بعد الاستغفار : يا أرحم الراحمين - جماعةً - بدعة ، وليس هذا محل هذا الذكر ))(16) .
ومن صور الذكر الجماعي مما هو موجود عند جماعات من الناس :
1 - الاستغفار عقب الصلاة ، والاتيان بالأوراد الواردة أو غيرها بصوت واحد مرتفع(17) . قال الأذرعي : (( حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم ))(18) .
2 - أو أن يدعو الإمام دبر الصلاة جهراً رافعاً يديه ، ويؤمن المأمومون على دعائه وبصوت واحد(19) .
3 - ومنه أن يجتمع الناس في مكان - مسجد أو غيره - ويدعون الله ، وبصوت واحد إلى غروب الشمس ويجعلون الاجتماع لهذا الذكر شرطاً للطريقة(20) .
وقد قال التيجاني : (( من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة ، وإن كان له إخوان في البلد فلابد من جمعهم وذكرهم جماعة . وهذا شرط في الطريقة ))(21) . وقال الرباطي : (( وترك الاجتماع من غير عذر شرعي يعرض في الوقت ممنوع عندنا في الطريقة ، ويعد تهاوناً ، ولا يخفى وخامة مرتع التهاون ))(22) .
وقد أفتى العلماء ببطلان الذكر الجماعي ، فقد جاء في بعض الأسئلة الواردة إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه :
قال الســــائل : لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التيجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر ( لا إله إلا الله ) ، ويقولون في النهاية ( الله الله ... ) بصوت عال . فما حكم فعلهم هذا ؟
الجواب : ( بعد بيان ضلال هذه الطريقة ) . والاجتماع على الذكر بصوت جماعي
لا أصل له في الشرع ، وهكذا الاجتماع بقول : ( الله الله ... ) أو : ( هو هو ... ) والاجتماع بصوت واحد هذا لا أصل له ، بل هو من البدع المحدثة(23) .
4 - ومن صور الذكر الجماعي الموجودة أن يجتمع الناس في مسجد وقد وقع البلاء في بلد فيدعون الله بصوت واحد لرفعه .
5 - ومن هذه الصور كذلك ما يحصل عند بعض الناس في أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرها ، حيث إن بعضهم يؤجرون من يدعو لهم ، ويرددون وراءه أدعية معينة لكل شوط ، بدون أن يكون لكل أحد الفرصة للدعاء فيما يتعلق بحاجته الخاصة التي يريدها . وقد يكون بعض هؤلاء المرددين لصوت الداعي لا يعرفون معنى ما يدعو به الداعي : إما لكونهم لا يعرفون اللغة العربية . أو للأخطاء التي تحصل من الداعي ، وتحريفه للكلام . ومع هذا يحاكونه في دعائه ، وهذه الأدعية إنما صارت بدعة من وجهين :
الأول : تخصيص كل شوط بدعاء خاص ، مع عدم ورود ذلك . قال الشيخ
عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : (( وأما ما أحدثه بعض الناس : من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة ، أو أدعية مخصوصة فلا أصله له ، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كافي ))(24) .
الثاني : الهيئة الجماعية ، مع رفع الصوت ، وحكاية ألفاظ بدون تدبر واستحضار معنى .
6 - ومن صور الذكر الجماعي كذلك ما يقع عند الزيارة للقبر النبوي ، أو قبور الشهداء ، أو البقيع ، أو غير ذلك من ترديد الزائرين صوت المزورين ، قال الشيخ الألباني - رحمه الله - عند تعداده لبدع الزيارة في المدينة المنورة : (( تلقين من يعرفون بالمزورين جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة ، أو بعيداً عنها بالأصوات المرتفعة ، وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها ))(25) .
7 - ومن هذه الصور كذلك اجتماع الناس في المساجد وأماكن الصلوات - ولاسيما في العيدين - ليرددوا التكبير جماعة خلف من يتولى التكبير في مكبر الصوت ، ويرددون وراءه جماعة بصوت واحدٍ ، فهذا كذلك من البدع .
المبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم
احتج المجيزون للذكر الجماعي بحجج(26) ، نوجزها فيما يلي :
أولاً : النصوص الشرعية الواردة في الثناء على أهل الذكر بصيغة الجمع بما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال : (( إن لله تعالى ملائكة سيارة ، فضلاً يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر ، قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم ، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرقوا عرجوا ، وصعدوا إلى السماء . قال : فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك في الأرض ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويهللونك ، ويحمدونك ، ويسألونك ... )) وفي نهاية الحديث يقول الله : (( ... قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا ... ))(27) .
فيرى المجيزون للذكر الجماعي أن هذا الحديث يدل على فضل الاجتماع للذكر ، والجهر به من أهل الذكر جميعاً ، لأنه قال : (( يذكرونك ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويمجدونك )) بصيغة الجمع ، ثم استدلوا بقول الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري حيث قال : (( المراد بمجالس الذكر هي المجالس التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرها ، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى ، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة ، وفي دخول الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر ... والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوها والتلاوة فحسب ، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسته ، والمناظرة فيه ، من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى )) (28) . ومن هذه الأحاديث كذلك ما أخرجه أحمد من طريق : إسماعيل بن عياش ، عن راشد بن داود عن يعلى بن شداد ، قال : حدثني أبي شداد بن أوس ، وعبادة بن الصامت حاضر يصدِّقه ، قال : كنا عند النبي r فقــال : (( هل فيكم غريب ؟ )) يعني أهل الكتاب ، فقلنا : لا يا رسول الله ، فأمر بغلق الباب ، وقال : (( ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله )) فرفعنا أيدينا ساعة ، ثم وضع رسول الله r يده ، ثم قال : (( الحمد لله ، بعثتني بهذه الكلمة ، وأمرتني بها ، ووعدتني عليها الجنة ، وإنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال : أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم ))(29) .
قلت : الحديث ضعيف . فيه إسماعيل بن عياش . وهو مدلس . ولم يصرح بالسماع ، ومدار هذا الحديث على راشد بن داود ، قال ابن معين : (( ليس به بأس ، ثقة )) ، وقال دحيم : (( هو ثقة عندي )) ، بينما ضعَّفه الإمام البخاري - رحمه الله - فقال : (( فيه نظر ))، وهذا جرح شديد عنده ، بمعنى أنه متهم أو غير ثقة . كما أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي(30) ، وقال الدارقطني : (( ضعيف لا يعتبر به )) ، فاتفق مع البخاري في تضعيفه ، وهو الظاهر من حاله ، فإن في الحكم بالجرح زيادة علم عن الحكم بالتعديل ، فإذا صدر من إمام عالم متمكن غير متشدد كان مقبولاً من غير شك ، هذا من جهة .
ومن ناحية أخرى ، فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الحديث فليس فيه دلالة على جواز الذكر الجماعي ، فهو صريح الدلالة على أن ذلك كان للبيعة - أو لتجديد البيعة - وليس لمجرد الذكر ، لاسيما وقد أمرهم النبي r برفع الأيدي ، فهذا للمبايعة ، ولا يشترط - بل ولا يستحب - في الذكر .
ثانياً : الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل مجالس الذكر ، والتي منها :
1 - ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله r : (( يقول تعالى : أنا عند ظن عبدي بي . وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ... ))(31) الحديث . والشاهد في قوله : (( وإن ذكرني في ملأ )) فدل على جواز الذكر الجماعي(32) .
2 - ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله r خرج على حلقة من أصحابه فقال : (( ما أجلسكم ؟ )) قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا . فقال : (( الله ما أجلسكم إلا هذا ؟ )) قالوا : الله ما أجلســــنا إلا ذلك . فقال : (( أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة ))(33) .
3 - ما رواه أبو داود في سننه أن النبي r قال : (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس - أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل ، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس - أحب إلي من أن أعتق أربعة ))(34) وغير ذلك من الأحاديث التي ورد فيها فضل مجالس الذكر وفضل الاجتماع عليه
واستدلوا كذلك ببعض الأحاديث التي ورد فيها ذكر الدعاء الجماعي ، وهي أقرب ما يمكن أن يُستدل به في هذا الموضوع ؛ لو سلمت من الطعن ، وها هي بين يديك ، مع ما قاله الأئمة المعتمدون في علم الجرح والتعديل في رواتها وأسانيدها .
الحديث الأول : عن أبي هريرة أن النبي r رفع يديه بعدما سلم وهو مستقبل القبلة ، فقال : (( اللهم خلِّص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، من أيدي الكفار )) . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره(35) ، وابن جرير في تفسيره(36) . وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ، قال ابن حجر في التقريب : ضعيف(37) ، ونقل الذهبي في السير(38) تضعيفه عن أحمد بن حنبل والبخاري والفلاس والعجلي ، وغيرهم … انتهى.
ومع الضعف الذي في علي بن زيد ، فليس فيه دليل على الدعاء الجماعي ، وهذه الرواية مخالفة لما جاء في الصحيحين ، وهو أن النبي r كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول : (( اللهم أنج عياش ... ))(39) الحديث . أي يقول هذا الدعاء في قنوت الفجر ، قبل الخروج من الصلاة .
الحديث الثاني : عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال : رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلاً رافعاً يديه بدعوات قبل أن يفرغ من صلاته ، فلما فرغ منها قال : إن رسول الله r لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته . رواه الطبراني في الكبير(40) وسنده ضعيف لضعف فضيل بن سليمان . فقد قال عنه ابن معين : ليس بثقة . وفي رواية : ليس هو بشيء ولا يكتب حديثه . وقال صالح جزرة : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ليس بالقوي . وقال النسائي : ليس بالقوي . وذكر أبو داود أنه استعار كتاباً من موسى بن عقبة فلم يرده . وكان عبد الصمد بن مهدي لا يحدث عنه . وقال أبو زرعة : لين الحديث ، روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين ومع ضعف فضيل ، ففي القلب شيء من رواية محمد بن أبي يحيى عن ابن الزبير ، فلا أظنه أدركه ، لأن وفاة ابن الزبير كانت سنة ( 73 هـ ) ووفاة محمد كانت سنــة ( 144 هـ ) (41) . ومعنى الحديث أنه r ما كان يرفع يديه حتى يفرغ من الصلاة وهو غير رافع يديه للدعاء ، أو أنه كان يرفع بعد الفراغ من الصلاة للدعاء ؛ ولكن ليس فيه أنه كان يجهر بالدعاء ويجهر المأمون بالتأمين . وعليه ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي ، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً .
الحديث الثالث : عن أنس رضي الله عنه عن النبي r أنه قال : (( ما من عبد يبسط كفّيه في دبر كل صلاة ثم يقول : اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل ، أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر وتعصمني في ديني فإني مبتلى ، وتنالني برحمتك فإني مذنب ، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن . إلا كان حقاً على الله عــز وجل ألا يرد يديه خائبتين )) . رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة(42) ؛ والحديث فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وخصيف . أما عبد العزيز فقد ضعفه جمع من الأئمة ، وأما خصيف فقد قال الحافظ ابن حجر فيه : صدوق سيء الحفظ خلط بأخرة ، ورُمِي بالإرجاء . انتهى(43) . وإضافة إلى هذا الضعف الذي في هذا الحديث ، فليس فيه دلالة على المطلوب ، بل هو كالحديثين السابقين .
الحديث الرابع : عن الأسود العامري ، عن أبيه قال : صلَّيت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم ، انحرف ورفع يديه ودعا قال العلامة المباركفوري(44) : الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند ، وعزاه إلى المصنف . ولم أقف على سنده . فالله تعالى أعلم . أهو صحيح أو ضعيف ؟ . انتهى من التحفة . والحديث أخرجه ابن أبي شيبة(45) ، وابن حزم في المحلى(46) . وليس فيه : (( ورفع يديه ودعا )) ، وإنما هو هكذا : حدثنا هُشيم قال : نا يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد الأسود العامري ، عن أبيه قال : صليت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم انحرف . ولفظ ابن حزم: فلما صلى انحرف . فإذن ليس في الحديث : رفع يديه ودعا . ولو سلمنا بثبوت هذه الجملة فإنها لا تكفي للوفاء بالاستدلال المقصود ؛ لأنها ليس فيها الجهر بالدعاء من الإمام ، ولا تأمين المأمومين جهراً .
الحديث الخامس : عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r : (( الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ، ثم تنفع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك ، وتقول : يا رب يا رب - ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا ))(47) . رواه أحمد والترمذي . وفي رواية للترمذي : فهو خداج . قال الترمذي(48) : سمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول : روى شعبة هذا الحديث عن عبد ربه بن سعيد ، فأخطأ في مواضع . انتهى .
والحديث ضعيف . فيه عبد الله بن نافع بن العمياء ، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: مجهول(49) . وحتى ولو فرضنا صحة الحديث ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً كما هو واضح في سياقه وألفاظه .
ثالثاً : ومن أدلتهم أيضاً بعض الآثار التي جاءت عن بعض السلف ، فمنها :
1 - ما جاء عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يكبر في قبته بمنى ، فيسمعه أهل المسجد ، فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق ، حتى ترتج منى تكبيراً(50) .
2 - أن ميمونة بنت الحارث زوج النبي r - ورضي الله عنها - كانت تكبر يوم النحر ، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد(51) .
رابعاً : ومن أدلتهم أيضاً المصالح المترتبة على الذكر الجماعي لأن فيه - كما يرون - مصالح كثيرة ، منها :
1 - أن فيه تعاوناً على البر والتقوى ، وقد أمر الله بذلك في قوله : { وتعانوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] .
2 - أن الاجتماع للذكر والدعاء أقرب إلى الإجابة .
3 - أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، وربما لحنوا في دعائهم ، واللحن سبب لعدم الإجابة ، والاجتماع على الذكر والدعاء بصوت واحد يجنبهم ذلك(52) .
خامساً : ومما يستدلون به أن هذا العمل عليه أكثر الناس ، والغالبية هي الجماعة والنبي r أوصى بلزوم الجماعة في غير ما حديث(53) .
سادساً : أن الذكر على هذه الهيئة وسيلة ، والغاية منها عبادة الله ، والقاعدة تقول : أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد(54) ، وعبادة الله أمر مطلوب ، وعليه فيكون الذكر الجماعي أمراً مطلوباً(55) .
وأما جوابهم على أدلة المانعين من الذكر الجماعي ، فإنهم يرون أن الآثار الواردة عن الصحابة في المنع من الذكر الجماعي ، والإنكار على فاعليه ، يرون أنها آثار معارضة بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة ، وهذه الأحاديث مقدمة على تلك الآثار عند التعارض . قال السيوطي : هذا الأثر عن ابن مسعود(56) يحتاج إلى بيان سنده . ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم ؟ وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض(57) .
المبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم
استدل المانعون من الذكر الجماعي بأدلة . منها :
أولاً : أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي r ، ولا حث الناس عليه ، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام . وكذلك لم يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه .
قال الشاطبي : (( الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله r ))(58) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( لم ينقل أحد أن النبي r كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً ، لا في الفجر ، ولا في العصر ، ولا في غيرهما من الصلوات ، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة ))(59) .
ثانياً : فعل السلف من أصحاب النبي r والتابعين لهم بإحسان ، فإنهم قد أنكروا على من فعل هذه البدعة ، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم ، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئاً مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله ، ولا اشتدوا في الإنكار عليه ، فممَّن أنكر من الصحابة هذا العمل :
1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال : (( كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه : أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير . فكتب إليه عمر : أقبل وأقبل بهم معك فأقبل . فقال عمر ، للبواب : أعِدَّ سوطاً ، فلما دخلوا على عمر ، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط . فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك الذي يعني ، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق ))(60).
2 - وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر : عبد اله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة . فعن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا . قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني ، فأخبرني بمجلسهم . فلما جلسوا، أتاه الرجل ، فأخبره . فجاء عبد الله بن مسعود، فقال : والذي لا إله إلا غيره ، لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً . فقال عمرو بن عتبة : نستغفر الله . فقال : (( عليكم الطريق فالزموه ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً ))(61) .
3 - وممن أنكر عليهم من الصحابة : خباب بن الأرت ، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال : (( بينما نحن في المسجد ، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي . فأرسل إليَّ أبي . فوجدته قد احتجز معه هراوة له . فأقبل عليَّ . فقلت : يا أبت ! مالي مالي ؟! قال : ألم أرك جالساً مع العمالقة(62) ؟ ثم قال : هذا قرن خارجٌ الآن ))(63) ، كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك هذه البدع ومن جملة ذلك : كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان . وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية(64)
وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب ، وقوله : إنه شيء أُحدث ، وإن السلف كانوا أرغب للخير ، فلو كان خيراً لسبقونا إليه(65) .
فهذه النقول ، التي أوردناها في هذا الباب ، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف . ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه ، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها ، محذرين منها . فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير ، معرضاً عنها ، مقتحماً أبواب الضلال .
فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف ، ولو فعلوه لنُقل عنهم ، ولَوَرَدَ إلينا . فلما لم يُنقل ذلك عنهم ، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله ، كما حدث من ابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهما . دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً .
ثالثاً : النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين ، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(66) . ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي r ولم يدل عليه ، فلو شرعه النبي r لأمر به وحث الناس عليه ، ولشاع ذلك عنه r بينهم مع قيام المقتضى .
رابعاً : أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على شريعة النبي r بحيث إن المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي r ، قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] . فلما لم يشرع النبي r لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته .
خامساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد . هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب ، والأمر بمخالفتهم .
سادساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه ، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له ، فمن هذه المفاسد :
1 - التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش ، ومنها على سبيل المثال قولـــه r : (( إلا إن كلكم مناج ربه . فلا يؤذين بعضكم بعضاً ، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة ))(67) .
2 - الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما .
3 - أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا .
4 - أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس . فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي . وقد سقتها - على وجه التفصيل - في حدود ما وقفت عليه ، مع تحري الأمانة فيما نقلت .
وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي :
أولاً : الجواب على الدليل الأول : وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع ، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي ، وللجواب على هؤلاء يقال :
إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك . بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين ، والحث عليه ، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد ، أو الاجتماع ، ظاهراً ، أو خفياً .
ثانياً : الجواب على الدليل الثاني : وهو استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر .
فالجواب على هذا الدليل من وجهين :
الوجه الأول : أن ذكر الله ليس مقصوراً على التسبيحات والدعوات ، وما يقال باللسان ، بل إن ذكر الله سبحانه وتعالى يشمل كل قول وفعل يرضي الله تعالى ومنه مجالس العلم والفقه ، والقرآن ، ولذلك فإن ما ورد في فضل مجالس الذكر ليس المقصود منها فقط ما ذكروه ، بل وغير ذلك .
ويدل على ذلك ما ورد في كتاب الحلية لأبي نعيم الأصبهاني ، بسنده إلى أبي هزان قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول : من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل . قال أبو هزان : قلت لعطاء : ما مجلس الذكر ؟ قال : مجلس الحلال والحرام ، وكيف تصلي ، وكيف تصوم ، وكيف تنكح ، وكيف تطلق وتبيع وتشتري(68)
وقال الحافظ ابن حجر : والمراد بالذكر : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها ، مثل : الباقيات الصالحات وهي : (( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )) ، ونحو ذلك . والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويطلق ذكر الله أيضاً ، ويراد به : المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه : كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة(69) .
قال العلامة المباركفوري(70) : (( المراد بالذكر - هنا - : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات ، وهي: سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ، وما يلتحق بها من الحوقلة ، والبسملة ، والحسبلة ، والاستغفار، ونحو ذلك ، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه ، كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم ، والتنفل بالصلاة )) .
فإن قال قائل من هؤلاء : إن الذكر بالألفاظ الواردة نوع من أنواع الذكر اللساني يشمله أحاديث فضل مجالس الذكر فدل ذلك على استحباب الاجتماع لأجل هذا الذكر اللساني .
فالرد عليه بالوجه الثاني : أن هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه ، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله . وهناك فرق كبير بين هذا وذاك .
فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله ، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به ، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : (( كان أصحاب رسول الله r إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ ، والناس يستمعون . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون لقراءته ))(71) .
وقال الطرطوشي : (( هذه الآثار(72) تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم ، أو يقرأ المعلم على المتعلم ، أو يتساويا في العلم ، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة هكذا يكون التعليم والتعلم ، دون القراءة معاً .
وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معاً على مذهب الإدارة ، وفي قراءة الجماعة على المقرئ ... ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم . ورجل واحد يقرأ القرآن ، لجاز أن يقولوا : هؤلاء جماعة يدرسون العلم ، ويقرؤون العلم والحديث . وإن كان القارئ واحد(73) .
ثالثاً : وأما الآثار التي استدلوا بها عن عمر رضي الله عنه ، وميمونة رضي الله عنها . فيجاب عنها من ثلاثة وجوه :
الأول : أنها غير صريحة في التكبير الجماعي بالشكل الذي يدعو إليه من يقولون بمشروعية الذكر الجماعي ، بل غاية ما فيها أن الناس تأسَّوا بعمر رضي الله عنه فكبروا مثله وبأصوات مرتفعة ، وبسبب تداخل واختلاط الأصوات مع كثرة الحجيج فقد ارتجت منى بالتكبير . ولا يفهم منه أن عمر رضي الله عنه كان يكبر ثم يسكت حتى يرددوا خلفه بصوت رجل واحد . وإلا فإن أئمة المذاهب المتبوعة لم ينقل عنهم الإقرار للذكر والتسبيح والتكبير بصوت واحد فلو فهموا منه ما فهمه دعاة الذكر الجماعي لقالوا به . ولكنهم فهموا هذه الآثار - والله أعلم - على ما سبق ذكره في أول هذا الوجه .
وأما أثر ميمونة فيقال فيه ما قيل في أثر عمر . وليس فيه إلا تكبير النسوة مع الرجال في المسجد .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عاقب من اجتمعوا للدعاء والذكر وغيره كما في الأثر الذي رواه ابن وضاح . وقد سبق إيراده في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
الثالث : أن مثل هذا التكبير من عمر والترديد من الناس لم ينقل في غير أيام منى ، ووقت الحج . ولو جاز تعميم الحكم ، والقول بجواز الذكر الجماعي في المساجد والبيوت، وبعد الصلوات وفي الأوقات المختلفة ، لكان في هذا مخالفة واضحة للآثار السابقة عن عمر ، وابن مسعود ، وخباب ، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً .
رابعاً : وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به : وهو دعواهم أن للذكر الجماعي مصالح عديدة ، فيجاب عنه بما يأتي(74) :
1 - قولهم إن فيه تعاوناً على البر والتقوى باطل ، يرده فعل النبي r . فإن النبي r هو الذي أنزل عليه { وتعانوا على البر والتقوى } وكذلك فعله عليه السلام ، ولو كان الاجتماع للدعاء والذكر بعد الصلاة جهراً لمن شهد الصلاة ، وفي غير ذلك من الأوقات . لو كان هذا كله من باب التعاون على البر والتقوى لكان أول سابق إليه هو النبي عليه السلام ولفاز بالسبق إليه أصحابه رضوان الله عليهم ، ومن المعلوم أنهم لم ينقل عنهم ذلك قطعاً . وكذب من ادعى عليهم شيئاً من ذلك .
2 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أقرب للإجابة . فيجاب عليهم بأن هذه العلة كانت موجودة في زمانه عليه السلام بل هو r أعظم من تجاب دعوته ولا شك في ذلك ، فهو عليه السلام كان أحق بأن يفعل ذلك ويدعو مع أصحابه - جماعة - خمس مرات في اليوم والليلة . ولكن رغم ذلك لم ينقل عنه أنه فعل ذلك . وبالتالي يصبح من الواجب الحكم على هذا الفعل بأنه بدعة بناء على ما ثبت من فعله عليه الصلاة والسلام ، وبناء على الأدلة الكثيرة في بيان وجوب طاعته والاهتداء بهديه ، والاقتداء بسنته .
3 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أبعد عن اللحن في الدعاء والذكر ولاسيما للعوام، فيجاب عليهم بما يلي :
أ - أنه ليس من شروط صحة الدعاء عدم اللحن فيه ، بل يشترط الإخلاص وصدق التوجه ومتابعة النبي r في ذلك .
وقد كان الصحابة متوافرين بعد انتشار الفتوحات ، وظهور العجمة في الألسنة بعد أن كثر العجم الداخلون في الإسلام وشاع بين الناس اللحن في الكلام ، ومع ذلك لم ينقل عن الصحابة شيء من هذا الذكر الجماعي .
ب - أن هذا اللحن الذي زعموه ، والموجود في الدعاء ، يوجد أيضاً من هؤلاء العوام في قراءة القرآن ، وفي الصلاة وفي غيرها من شعائر الدين ، وكان الجدير بهؤلاء أن يعلموهم بعد الصلوات تلك الأحكام ، لأنها أمور واجب تعلمها على المسلم ، أما الدعاء فهو أمر مستحب .
رابعاً : قولهم : إن هذا عمل الناس ، وعليه الجماعة ، وقد اجتمع عليه أكثر الناس .
فيجاب عليهم بأن هذا احتجاج بالناس على الشرع ، وهذا باطل . بل يحتج بالشرع وبالدليل على الناس ، وعلى الرجال ، وأما اتباع عامة الناس وأغلبهم في أمور الدين فهذا باب ضلال ، وقد ذمه الله عز وجل في كتابه فقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [ الأنعام : 116 ] . ولسنا متعبَّدين بطاعة الناس واتباعهم ، بل بطاعة النبي r واتباعه .
وقد جاء عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال : (( كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوماً . فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا ( أي أن عمل العوام يخالف ذلك ) . فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام ، أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء ))(75). فبيَّن عبد الله ابن الحسن أن كثرة الجهال والمبتدعين ، وتسلطهم على الناس ، ونشرهم لبدعتهم ، ليس حجة على السنة وعلى الشرع ، ولا ينبغي ولا يجوز أن يعارض شرع الله، وسنة الرسول r بفعل أحد من الناس ، كائناً من كان .
خامساً : دعواهم أن الذكر الجماعي وسيلة لها حكم غايتها ، وغاية الذكر الجماعي عبادة الله .
فيجاب عليهم بما يلي :
1 - أن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة على الدوام ، بل إن لها موارد مقصورة عليها ، فهذه القاعدة مقصورة على ما ورد في الشرع سواء كان وسيلة أم غاية . ومما يدل على ذلك أن الشيء قد يكون مباحاً ، بل واجباً ، ومع ذلك تكون وسيلته مكروهة أو محرمة . كمن يتوصل إلى تحصيل ماء الوضوء عن طريق الغصب أو السرقة .
2 - يدلك على هذا كذلك فعل السلف الصالح ، فإنهم - رضي الله عنهم - كانوا يتحرون في أمور العبادات كلها تحرياً شديداً من غير التفات إلى الفرق بين ما يسمى
(( وسائل )) و(( غايات ))(76) .
سادساً : وأما قولهم : إن الآثار المانعة للذكر الجماعي تعارض الأحاديث الكثيرة التي تثـبت مشروعية الذكر الجماعي ( كذا زعموا ) ، فتُقدَّم الأحاديث عليها .
فيجاب عليهم بأنه لا تعارض بين هذه الآثار وتلك الأحاديث كما سبق ، بل إن تلك الأحاديث ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء فهم السلف الصالح لها ، وهذه الآثار الواردة عن السلف تفسر جانباً من هذه الأحاديث ، كما سبق وأن ذكرناه .
وأما ما رد به السيوطي أثر ابن مسعود بأنه لا يعرف له سند ، فمردود بأنه أثر صحيح بمجموع طرقه رواه الدارمي في سننه ، وابن وضاح في البدع(77) . والعجب أن الإمام السيوطي - رحمه الله - ذكر هذا في كتابه (( الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ))(78) .
وأما قول الدكتور الزحيلي(79) : (( فلا يصح القول بتبديع الدعاء الجماعي بعد الصلاة ... )) إلخ .
فيقال : قوله : ( لا يصح ) . هذه كلمة شرعية ، وإطلاق لحكم شرعي ، وهذا يقتضي عدم الجواز . فمن أين أتى بهذا الحكم ؟ ومَنْ سبقه بهذا من أهل العلم المعتبرين ؟ ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة .
ثم قوله : (( وجرى العمل بين المتأخرين بالاجتماع على الدعاء ))(80) أهـ .
فيقال له : ومتى كان اجتماع الناس على عملٍ ما قاضياً على شرع الله عز وجل ؟ فالحجة إنما هي في النصوص وفي عمل الرسول r ، والصحابة الكرام ، لا في عمل المتأخرين .
ثم قوله في إنكار ابن مسعود على المجتمعين على الذكر : (( والواقع أن هذا الإنكار ليس بسبب اجتماعهم على الذكر . وإنما لشذوذهم وادعائهم أنهم أشد اجتهاداً في الدين من غيرهم ))(81) أهـ .
فيقال له : ما دليلك على هذا الكلام ؟! وكل من روى هذه الواقعة فهم منها إنكار ابن مسعود للذكر الجماعي ، ومثله إنكار خباب بن الأرت على ولده ، وهل كان هناك شذوذ عند هؤلاء المذكورين غير اجتماعهم على الذكر الجماعي ؟ إذ لا يمكن أن يقال إن شذوذهم كان بسبب أنهم يذكرون الله كثيراً .
ومن هنا يتبين لك ضعف استدلال المجيزين للذكر الجماعي بالأدلة التي استدلوا بها ، وأنها لا تنهض لهم بما أرادوا ، وأن الحجة قائمة عليهم بحمد الله تعالى . وكذلك يتبين لك قوة أدلة المانعين من الذكر الجماعي .
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
الأستاذ المشارك - قسم العقيدة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض
ملخص البحث
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن الهدف من هذا البحث هو بيان مدى مشروعية ما يفعله كثير من الناس ، من الاجتماع في البيوت والمساجد في أوقات معينة ، أو مناسبات معينة ، أو بعد الصلوات المكتوبة لذكر الله تعالى بشكل جماعي ، أو يردد أحدهم ويرددون خلفه هذه الأذكار .
ولأن هذا الفعل قد كثر وشاع بين الناس في كثير من بلدان المسلمين ، فقد جاء هذا البحث لبيان حكم الشريعة في مثل هذا الفعل .
وقد اشتمل البحث على مقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
أما المقدمة : فهي في بيان أسباب اختيار الموضوع ، وبيان خطة البحث ، وكذلك بيان اعتقاد العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها ، وذلك كمدخل للبحث .
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر لغة وشرعاً .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي من الناحية التاريخية ، وتوثيق ذلك .
والمبحث الثالث : في بيان حجج من جاز الذكر الجماعي ، وقد سقتها مفصلة .
والمبحث الرابع : في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي ، وجوابهم على حجج المجيزين ، مع بيان فتاوى للمتقدمين والمعاصرين في هذا .
والمبحث الخامس : في بيان حكم الذكر الجماعي وذلك كنتيجة لهذا البحث .
وأما المبحث السادس : فهو في بيان مفاسد الذكر الجماعي ، وآثاره السلبية سواءً على فاعله ، أو على غيره .
وأما الخاتمة : فهي في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
فهذا ملخص البحث المذكور ، وأسأل الله المغفرة والقبول ، والحمد لله رب العالمين .
المقدمة :
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ آل عمران: 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب : 70 ، 71 ] .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار(1) .
وبعد : فقد انتشرت بين الناس بدع كثيرة في دين الله تعالى ، واستبدلوها بسنن النبي r ، حتى كادت معالم السنة تندثر وأصبح الباطل حقاً ، والحق باطلاً . وأضحت البدعة سنة، والسنة بدعة .
ومن صور العبادات التي انتشرت بين عامة المسلمين ، ظاهرة الذكر الجماعي ، في المساجد والبيوت ، والمنتديات وغيرها ، وذلك في كثير من البلدان الإسلامية ، حتى عمت بها البلوى .
كما يوجد في بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن الدعاء بعد الصلوات المفروضة بشكل جماعي من مستحبات الصلاة . وهم يعتبرونها مثل الراتبة(2) التي تصلى بعد الفريضة ، أو أكثر منها ، ويحرصون عليها أشد الحرص ، ويواظبون عليها . فإذا لم يدع لهم الإمام بعد الصلاة ولم يجتمع معهم على الذكر بصورة جماعية ، رأوا أن صلاتهم ناقصة ، وأساءوا الظن به ، واتهموه بأنواع من التهم ، ولما كان الذكر عبادة لله تعالى ، والعبادات توقيفية لا مجال للابتداع فيها ، أو للاستحسان . من أجل هذا كان لابد من بيان حكم هذا العمل ، والكلام عليه ، وذلك كما سيأتي إن شاء الله في مباحث هذا الكتاب .
ولما كان بيان ( السنة ) والذب عنها ، ورد البدعة من أوجب الواجبات على العلماء، وطلبة العلم ، والدعاة إلى الله تعالى . ولما كانت ظاهرة الذكر الجماعي مما عمت به البلوى. وشاع بين العامة في كثير من البلدان ، واختلف فيه الناس بين مانع منه ، ومجوِّز له . وقد بحثت عمن ألَّف في هذا الموضوع خصوصاً ، بحيث يستوعبه من جميع جوانبه ، ويبين السنة فيه - لكني لم أقف على كتاب في هذا الموضوع . لذلك رأيت مستعيناً بالله تعالى أن يكون موضوع هذا البحث هو بيان مدى مشروعية الذكر الجماعي ، هل يجوز أم لا ؟ وقد جمعت أقوال المانعين منه وأدلتهم ، والمجيزين له وأدلتهم ، في محاولة لاستيعاب هذا الموضوع، والوقوف على مدى مشروعية هذا الفعل . وأسميت هذا البحث (( الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع )) .
خطة البحث :
اشتمل البحث على : خطبة الحاجة ، ومقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
فأما المقدمة : فهي في أسباب اختيار الموضوع ، مع بيان خطة البحث . وكذلك التنبيه على اعتقاد بعض العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها، وذلك كمدخل للبحث .
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر الجماعي .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي .
والمبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الخامس : في حكم الذكر الجماعي .
والمبحث السادس : حول مفاسد الذكر الجماعي .
والخاتمة : في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص والتوفيق ، والسداد ، وأن يجنبنا الخطأ والزلل والزيغ، وأن يتقبل منا هذا العمل .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمهيد : مشروعية الذكر ووجوب الاتباع في العبادة
من المعلوم أن الذكر من أفضل العبادات ، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت ، بقلبه ، وبلسانه ، وبجوارحه ، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله تعالى ، ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة ، وطرفي النهار ، والأذكار عند العوارض والأسباب ، فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله ، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة أو تعب وجهد .
لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها ، وهدي النبي r ، وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وذلك لأن الاتباع شرط لصحة العمل ، وقبوله عند الله تعالى ، كما قال r : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(3) أي باطل مردود على صاحبه .
ومما هو معلوم أن العبادات - ومنها الذكر - كلها توقيفية ، أي : لا مجال فيها للاجتهاد ، بل لابد من لزوم سنة النبي r وشريعته فيها ، لأنها شرع من عند الله تعالى ، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه الله تعالى ، وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله تعالى في التشريع ، ومنازعة لله تعالى في حكمه ، وقد قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] .
قال السعدي في تفسير هذه الآية : (( .. { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } من الشرك والبدع وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه . فالأصل : الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله ولا عن رسوله ... )) أهـ(4) .
فلا ينبغي ، بل ولا يجوز التقرب إلى الله تعالى إلا بما شرع ، وبما بيَّن على لسان رسوله r . ومن هنا كان لازماً على المسلم أن يلزم السنة في كل عباداته ، وألا يحيد عنها قيد أنملة ، وإلا أحبط عمله وأبطله إذا كان مخالفاً هدي رسول الله r في العمل .
ولهذا فإن المسلم ينبغي له ألا يحدث في ذكره لله شيئاً مخالفاً لما كان عليه رسول الله r هو وأصحابه ، وإلا كان مبتدعاً في الدين ، محدثاً في العبادة ما ليس منها .
ومهما استحسن الإنسان بعقله شيئاً في العبادة ، فإنه - أي الاستحسان - ليس دليلاً على مشروعية تلك العبادة ، بل إن هذا الاستحسان قد يكون مصادماً لحكم الله تعالى ، فلا ينبغي أبداً أن يتعبد الإنسان لله تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسوله r .
المبحث الأول : تعريف الذكر الجماعي
الذكر الجماعي يتركب من كلمتين ، وإليك بيان معنى كل منهما :
أولاً ( الذِّكر ) : بالكسر : الشيء الذي يجري على اللسان(5) ، وتارة يقصد به الحفظ للشيء .
قال الراغب في المفردات : (( الذكر : تارة يقال ويراد به : هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً باحترازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره . وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول . ولذلك قيل منهما ضربان : ذكر عن نسيان . وذكر لا عن نسيان ، بل عن إدامة الحفظ ))(6) .
وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء . أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله والثناء عليه ، بأسمائه وصفاته ، وتمجيده وتوحيده ، وشكره وتعظيمه ، أو بتلاوة كتابه ، أو بمسألته ودعائه(7) .
ثانياً : معنى ( الجماعي ) : هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد ، يوافق فيه بعضهم بعضاً(8) .
والمقصود بكلامنا وقولنا : الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة ، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين ، أو دون قائد ، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد ، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث .
المبحث الثاني : نشأة الذكر الجماعي
كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي ذلك مفصلاً في المبحث الرابع إن شاء الله وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة ، وخبت بسبب إنكار السلف لها . ثم لما كان زمن المأمون ، أمر بنشر تلك الظاهرة . فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس . فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ
ما نصه : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا ، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة ، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان ، من هذه السنة )) (9) وجاء في تاريخ ابن كثير : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد ، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس )) (10) . فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي إلى الظهور وبقوة ، بسبب مناصرة السلطان لها . ومن المعلوم أن السلطان إذا ناصر أمراً ، أو قولاً ما ، ونشره بالقوة بين الناس ، فلابد أن ينتشر ويذيع ، إذ إن الناس على دين ملوكهم .
واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم(11) .
هذا وقد جمعوا بين أمرين ، هما : الذكر الجماعي ، والذكر بالاسم المفرد .
وقد اختلف في جواز الذكر بالاسم المفرد ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من الذكر في جملة لأنها هي المفيدة ولا يصح الاسم المفرد ، مظهراً أو مضمراً ، لأنه ليس بكلام تام ولا جملة مفيدة . ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف .
ومن صور هذا الذكر كذلك أن يزيدوا ياءً في ( لا إله إلا الله ) بعد همزة لا إله . ويزيدون ألفاً بعد الهاء في كلمـــة ( إله ) فتصبح ( لا إيلاها ) . ويزيدون ياءً بعد همزة إلا وبعد ( إلا ) يزيدون ألفاً فتصبح ( إيلا الله ) وكل ذلك حرام بالإجماع في جميع الأوقات(12).
وكذلك يلحن بعضهم في ( لا إله إلا الله ) . فيمد الألف زيادة على قدر الحاجة ، ويختلس كسرة الهمزة المقصورة بعدها ولا يحققها أصلاً ، ويفتح هاء له فتحة خفيفة كالاختلاس ، ولا يفصل بين الهاء وبين إلا الله(13) .
وكذلك من صوره أنهم يذكرون بالحَلْقِ ، أي يحاولون إخراج الحروف من الحلق ، وهذا يلزمهم بفتح أشداقهم ، والتقعر في الكلام ، والتكلف في النطق ، ومعلوم أن مورد الذكر اللسان والحلق والشفتان لأنها هي التي تجمع مخارج الحروف(14) .
وقد تعددت صور ذلك . فمنهم من يجتمعون في بيت من البيوت ، أو مسجد من المساجد فيذكرون الله بذكر معين وبصوت واحد : كأن يقولوا : لا إله إلا الله . مائة مرة(15) . قال الشقيري : (( والاستغفار جماعة على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة بدعة . والسنة استغفار كل واحد في نفسه ثلاثاً ، وقولهم بعد الاستغفار : يا أرحم الراحمين - جماعةً - بدعة ، وليس هذا محل هذا الذكر ))(16) .
ومن صور الذكر الجماعي مما هو موجود عند جماعات من الناس :
1 - الاستغفار عقب الصلاة ، والاتيان بالأوراد الواردة أو غيرها بصوت واحد مرتفع(17) . قال الأذرعي : (( حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم ))(18) .
2 - أو أن يدعو الإمام دبر الصلاة جهراً رافعاً يديه ، ويؤمن المأمومون على دعائه وبصوت واحد(19) .
3 - ومنه أن يجتمع الناس في مكان - مسجد أو غيره - ويدعون الله ، وبصوت واحد إلى غروب الشمس ويجعلون الاجتماع لهذا الذكر شرطاً للطريقة(20) .
وقد قال التيجاني : (( من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة ، وإن كان له إخوان في البلد فلابد من جمعهم وذكرهم جماعة . وهذا شرط في الطريقة ))(21) . وقال الرباطي : (( وترك الاجتماع من غير عذر شرعي يعرض في الوقت ممنوع عندنا في الطريقة ، ويعد تهاوناً ، ولا يخفى وخامة مرتع التهاون ))(22) .
وقد أفتى العلماء ببطلان الذكر الجماعي ، فقد جاء في بعض الأسئلة الواردة إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه :
قال الســــائل : لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التيجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر ( لا إله إلا الله ) ، ويقولون في النهاية ( الله الله ... ) بصوت عال . فما حكم فعلهم هذا ؟
الجواب : ( بعد بيان ضلال هذه الطريقة ) . والاجتماع على الذكر بصوت جماعي
لا أصل له في الشرع ، وهكذا الاجتماع بقول : ( الله الله ... ) أو : ( هو هو ... ) والاجتماع بصوت واحد هذا لا أصل له ، بل هو من البدع المحدثة(23) .
4 - ومن صور الذكر الجماعي الموجودة أن يجتمع الناس في مسجد وقد وقع البلاء في بلد فيدعون الله بصوت واحد لرفعه .
5 - ومن هذه الصور كذلك ما يحصل عند بعض الناس في أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرها ، حيث إن بعضهم يؤجرون من يدعو لهم ، ويرددون وراءه أدعية معينة لكل شوط ، بدون أن يكون لكل أحد الفرصة للدعاء فيما يتعلق بحاجته الخاصة التي يريدها . وقد يكون بعض هؤلاء المرددين لصوت الداعي لا يعرفون معنى ما يدعو به الداعي : إما لكونهم لا يعرفون اللغة العربية . أو للأخطاء التي تحصل من الداعي ، وتحريفه للكلام . ومع هذا يحاكونه في دعائه ، وهذه الأدعية إنما صارت بدعة من وجهين :
الأول : تخصيص كل شوط بدعاء خاص ، مع عدم ورود ذلك . قال الشيخ
عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : (( وأما ما أحدثه بعض الناس : من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة ، أو أدعية مخصوصة فلا أصله له ، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كافي ))(24) .
الثاني : الهيئة الجماعية ، مع رفع الصوت ، وحكاية ألفاظ بدون تدبر واستحضار معنى .
6 - ومن صور الذكر الجماعي كذلك ما يقع عند الزيارة للقبر النبوي ، أو قبور الشهداء ، أو البقيع ، أو غير ذلك من ترديد الزائرين صوت المزورين ، قال الشيخ الألباني - رحمه الله - عند تعداده لبدع الزيارة في المدينة المنورة : (( تلقين من يعرفون بالمزورين جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة ، أو بعيداً عنها بالأصوات المرتفعة ، وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها ))(25) .
7 - ومن هذه الصور كذلك اجتماع الناس في المساجد وأماكن الصلوات - ولاسيما في العيدين - ليرددوا التكبير جماعة خلف من يتولى التكبير في مكبر الصوت ، ويرددون وراءه جماعة بصوت واحدٍ ، فهذا كذلك من البدع .
المبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم
احتج المجيزون للذكر الجماعي بحجج(26) ، نوجزها فيما يلي :
أولاً : النصوص الشرعية الواردة في الثناء على أهل الذكر بصيغة الجمع بما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال : (( إن لله تعالى ملائكة سيارة ، فضلاً يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر ، قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم ، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرقوا عرجوا ، وصعدوا إلى السماء . قال : فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك في الأرض ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويهللونك ، ويحمدونك ، ويسألونك ... )) وفي نهاية الحديث يقول الله : (( ... قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا ... ))(27) .
فيرى المجيزون للذكر الجماعي أن هذا الحديث يدل على فضل الاجتماع للذكر ، والجهر به من أهل الذكر جميعاً ، لأنه قال : (( يذكرونك ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويمجدونك )) بصيغة الجمع ، ثم استدلوا بقول الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري حيث قال : (( المراد بمجالس الذكر هي المجالس التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرها ، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى ، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة ، وفي دخول الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر ... والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوها والتلاوة فحسب ، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسته ، والمناظرة فيه ، من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى )) (28) . ومن هذه الأحاديث كذلك ما أخرجه أحمد من طريق : إسماعيل بن عياش ، عن راشد بن داود عن يعلى بن شداد ، قال : حدثني أبي شداد بن أوس ، وعبادة بن الصامت حاضر يصدِّقه ، قال : كنا عند النبي r فقــال : (( هل فيكم غريب ؟ )) يعني أهل الكتاب ، فقلنا : لا يا رسول الله ، فأمر بغلق الباب ، وقال : (( ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله )) فرفعنا أيدينا ساعة ، ثم وضع رسول الله r يده ، ثم قال : (( الحمد لله ، بعثتني بهذه الكلمة ، وأمرتني بها ، ووعدتني عليها الجنة ، وإنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال : أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم ))(29) .
قلت : الحديث ضعيف . فيه إسماعيل بن عياش . وهو مدلس . ولم يصرح بالسماع ، ومدار هذا الحديث على راشد بن داود ، قال ابن معين : (( ليس به بأس ، ثقة )) ، وقال دحيم : (( هو ثقة عندي )) ، بينما ضعَّفه الإمام البخاري - رحمه الله - فقال : (( فيه نظر ))، وهذا جرح شديد عنده ، بمعنى أنه متهم أو غير ثقة . كما أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي(30) ، وقال الدارقطني : (( ضعيف لا يعتبر به )) ، فاتفق مع البخاري في تضعيفه ، وهو الظاهر من حاله ، فإن في الحكم بالجرح زيادة علم عن الحكم بالتعديل ، فإذا صدر من إمام عالم متمكن غير متشدد كان مقبولاً من غير شك ، هذا من جهة .
ومن ناحية أخرى ، فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الحديث فليس فيه دلالة على جواز الذكر الجماعي ، فهو صريح الدلالة على أن ذلك كان للبيعة - أو لتجديد البيعة - وليس لمجرد الذكر ، لاسيما وقد أمرهم النبي r برفع الأيدي ، فهذا للمبايعة ، ولا يشترط - بل ولا يستحب - في الذكر .
ثانياً : الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل مجالس الذكر ، والتي منها :
1 - ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله r : (( يقول تعالى : أنا عند ظن عبدي بي . وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ... ))(31) الحديث . والشاهد في قوله : (( وإن ذكرني في ملأ )) فدل على جواز الذكر الجماعي(32) .
2 - ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله r خرج على حلقة من أصحابه فقال : (( ما أجلسكم ؟ )) قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا . فقال : (( الله ما أجلسكم إلا هذا ؟ )) قالوا : الله ما أجلســــنا إلا ذلك . فقال : (( أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة ))(33) .
3 - ما رواه أبو داود في سننه أن النبي r قال : (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس - أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل ، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس - أحب إلي من أن أعتق أربعة ))(34) وغير ذلك من الأحاديث التي ورد فيها فضل مجالس الذكر وفضل الاجتماع عليه
واستدلوا كذلك ببعض الأحاديث التي ورد فيها ذكر الدعاء الجماعي ، وهي أقرب ما يمكن أن يُستدل به في هذا الموضوع ؛ لو سلمت من الطعن ، وها هي بين يديك ، مع ما قاله الأئمة المعتمدون في علم الجرح والتعديل في رواتها وأسانيدها .
الحديث الأول : عن أبي هريرة أن النبي r رفع يديه بعدما سلم وهو مستقبل القبلة ، فقال : (( اللهم خلِّص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، من أيدي الكفار )) . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره(35) ، وابن جرير في تفسيره(36) . وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ، قال ابن حجر في التقريب : ضعيف(37) ، ونقل الذهبي في السير(38) تضعيفه عن أحمد بن حنبل والبخاري والفلاس والعجلي ، وغيرهم … انتهى.
ومع الضعف الذي في علي بن زيد ، فليس فيه دليل على الدعاء الجماعي ، وهذه الرواية مخالفة لما جاء في الصحيحين ، وهو أن النبي r كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول : (( اللهم أنج عياش ... ))(39) الحديث . أي يقول هذا الدعاء في قنوت الفجر ، قبل الخروج من الصلاة .
الحديث الثاني : عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال : رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلاً رافعاً يديه بدعوات قبل أن يفرغ من صلاته ، فلما فرغ منها قال : إن رسول الله r لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته . رواه الطبراني في الكبير(40) وسنده ضعيف لضعف فضيل بن سليمان . فقد قال عنه ابن معين : ليس بثقة . وفي رواية : ليس هو بشيء ولا يكتب حديثه . وقال صالح جزرة : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ليس بالقوي . وقال النسائي : ليس بالقوي . وذكر أبو داود أنه استعار كتاباً من موسى بن عقبة فلم يرده . وكان عبد الصمد بن مهدي لا يحدث عنه . وقال أبو زرعة : لين الحديث ، روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين ومع ضعف فضيل ، ففي القلب شيء من رواية محمد بن أبي يحيى عن ابن الزبير ، فلا أظنه أدركه ، لأن وفاة ابن الزبير كانت سنة ( 73 هـ ) ووفاة محمد كانت سنــة ( 144 هـ ) (41) . ومعنى الحديث أنه r ما كان يرفع يديه حتى يفرغ من الصلاة وهو غير رافع يديه للدعاء ، أو أنه كان يرفع بعد الفراغ من الصلاة للدعاء ؛ ولكن ليس فيه أنه كان يجهر بالدعاء ويجهر المأمون بالتأمين . وعليه ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي ، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً .
الحديث الثالث : عن أنس رضي الله عنه عن النبي r أنه قال : (( ما من عبد يبسط كفّيه في دبر كل صلاة ثم يقول : اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل ، أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر وتعصمني في ديني فإني مبتلى ، وتنالني برحمتك فإني مذنب ، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن . إلا كان حقاً على الله عــز وجل ألا يرد يديه خائبتين )) . رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة(42) ؛ والحديث فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وخصيف . أما عبد العزيز فقد ضعفه جمع من الأئمة ، وأما خصيف فقد قال الحافظ ابن حجر فيه : صدوق سيء الحفظ خلط بأخرة ، ورُمِي بالإرجاء . انتهى(43) . وإضافة إلى هذا الضعف الذي في هذا الحديث ، فليس فيه دلالة على المطلوب ، بل هو كالحديثين السابقين .
الحديث الرابع : عن الأسود العامري ، عن أبيه قال : صلَّيت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم ، انحرف ورفع يديه ودعا قال العلامة المباركفوري(44) : الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند ، وعزاه إلى المصنف . ولم أقف على سنده . فالله تعالى أعلم . أهو صحيح أو ضعيف ؟ . انتهى من التحفة . والحديث أخرجه ابن أبي شيبة(45) ، وابن حزم في المحلى(46) . وليس فيه : (( ورفع يديه ودعا )) ، وإنما هو هكذا : حدثنا هُشيم قال : نا يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد الأسود العامري ، عن أبيه قال : صليت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم انحرف . ولفظ ابن حزم: فلما صلى انحرف . فإذن ليس في الحديث : رفع يديه ودعا . ولو سلمنا بثبوت هذه الجملة فإنها لا تكفي للوفاء بالاستدلال المقصود ؛ لأنها ليس فيها الجهر بالدعاء من الإمام ، ولا تأمين المأمومين جهراً .
الحديث الخامس : عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r : (( الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ، ثم تنفع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك ، وتقول : يا رب يا رب - ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا ))(47) . رواه أحمد والترمذي . وفي رواية للترمذي : فهو خداج . قال الترمذي(48) : سمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول : روى شعبة هذا الحديث عن عبد ربه بن سعيد ، فأخطأ في مواضع . انتهى .
والحديث ضعيف . فيه عبد الله بن نافع بن العمياء ، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: مجهول(49) . وحتى ولو فرضنا صحة الحديث ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً كما هو واضح في سياقه وألفاظه .
ثالثاً : ومن أدلتهم أيضاً بعض الآثار التي جاءت عن بعض السلف ، فمنها :
1 - ما جاء عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يكبر في قبته بمنى ، فيسمعه أهل المسجد ، فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق ، حتى ترتج منى تكبيراً(50) .
2 - أن ميمونة بنت الحارث زوج النبي r - ورضي الله عنها - كانت تكبر يوم النحر ، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد(51) .
رابعاً : ومن أدلتهم أيضاً المصالح المترتبة على الذكر الجماعي لأن فيه - كما يرون - مصالح كثيرة ، منها :
1 - أن فيه تعاوناً على البر والتقوى ، وقد أمر الله بذلك في قوله : { وتعانوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] .
2 - أن الاجتماع للذكر والدعاء أقرب إلى الإجابة .
3 - أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، وربما لحنوا في دعائهم ، واللحن سبب لعدم الإجابة ، والاجتماع على الذكر والدعاء بصوت واحد يجنبهم ذلك(52) .
خامساً : ومما يستدلون به أن هذا العمل عليه أكثر الناس ، والغالبية هي الجماعة والنبي r أوصى بلزوم الجماعة في غير ما حديث(53) .
سادساً : أن الذكر على هذه الهيئة وسيلة ، والغاية منها عبادة الله ، والقاعدة تقول : أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد(54) ، وعبادة الله أمر مطلوب ، وعليه فيكون الذكر الجماعي أمراً مطلوباً(55) .
وأما جوابهم على أدلة المانعين من الذكر الجماعي ، فإنهم يرون أن الآثار الواردة عن الصحابة في المنع من الذكر الجماعي ، والإنكار على فاعليه ، يرون أنها آثار معارضة بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة ، وهذه الأحاديث مقدمة على تلك الآثار عند التعارض . قال السيوطي : هذا الأثر عن ابن مسعود(56) يحتاج إلى بيان سنده . ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم ؟ وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض(57) .
المبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم
استدل المانعون من الذكر الجماعي بأدلة . منها :
أولاً : أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي r ، ولا حث الناس عليه ، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام . وكذلك لم يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه .
قال الشاطبي : (( الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله r ))(58) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( لم ينقل أحد أن النبي r كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً ، لا في الفجر ، ولا في العصر ، ولا في غيرهما من الصلوات ، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة ))(59) .
ثانياً : فعل السلف من أصحاب النبي r والتابعين لهم بإحسان ، فإنهم قد أنكروا على من فعل هذه البدعة ، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم ، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئاً مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله ، ولا اشتدوا في الإنكار عليه ، فممَّن أنكر من الصحابة هذا العمل :
1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال : (( كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه : أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير . فكتب إليه عمر : أقبل وأقبل بهم معك فأقبل . فقال عمر ، للبواب : أعِدَّ سوطاً ، فلما دخلوا على عمر ، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط . فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك الذي يعني ، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق ))(60).
2 - وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر : عبد اله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة . فعن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا . قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني ، فأخبرني بمجلسهم . فلما جلسوا، أتاه الرجل ، فأخبره . فجاء عبد الله بن مسعود، فقال : والذي لا إله إلا غيره ، لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً . فقال عمرو بن عتبة : نستغفر الله . فقال : (( عليكم الطريق فالزموه ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً ))(61) .
3 - وممن أنكر عليهم من الصحابة : خباب بن الأرت ، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال : (( بينما نحن في المسجد ، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي . فأرسل إليَّ أبي . فوجدته قد احتجز معه هراوة له . فأقبل عليَّ . فقلت : يا أبت ! مالي مالي ؟! قال : ألم أرك جالساً مع العمالقة(62) ؟ ثم قال : هذا قرن خارجٌ الآن ))(63) ، كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك هذه البدع ومن جملة ذلك : كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان . وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية(64)
وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب ، وقوله : إنه شيء أُحدث ، وإن السلف كانوا أرغب للخير ، فلو كان خيراً لسبقونا إليه(65) .
فهذه النقول ، التي أوردناها في هذا الباب ، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف . ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه ، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها ، محذرين منها . فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير ، معرضاً عنها ، مقتحماً أبواب الضلال .
فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف ، ولو فعلوه لنُقل عنهم ، ولَوَرَدَ إلينا . فلما لم يُنقل ذلك عنهم ، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله ، كما حدث من ابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهما . دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً .
ثالثاً : النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين ، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(66) . ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي r ولم يدل عليه ، فلو شرعه النبي r لأمر به وحث الناس عليه ، ولشاع ذلك عنه r بينهم مع قيام المقتضى .
رابعاً : أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على شريعة النبي r بحيث إن المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي r ، قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] . فلما لم يشرع النبي r لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته .
خامساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد . هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب ، والأمر بمخالفتهم .
سادساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه ، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له ، فمن هذه المفاسد :
1 - التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش ، ومنها على سبيل المثال قولـــه r : (( إلا إن كلكم مناج ربه . فلا يؤذين بعضكم بعضاً ، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة ))(67) .
2 - الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما .
3 - أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا .
4 - أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس . فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي . وقد سقتها - على وجه التفصيل - في حدود ما وقفت عليه ، مع تحري الأمانة فيما نقلت .
وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي :
أولاً : الجواب على الدليل الأول : وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع ، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي ، وللجواب على هؤلاء يقال :
إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك . بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين ، والحث عليه ، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد ، أو الاجتماع ، ظاهراً ، أو خفياً .
ثانياً : الجواب على الدليل الثاني : وهو استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر .
فالجواب على هذا الدليل من وجهين :
الوجه الأول : أن ذكر الله ليس مقصوراً على التسبيحات والدعوات ، وما يقال باللسان ، بل إن ذكر الله سبحانه وتعالى يشمل كل قول وفعل يرضي الله تعالى ومنه مجالس العلم والفقه ، والقرآن ، ولذلك فإن ما ورد في فضل مجالس الذكر ليس المقصود منها فقط ما ذكروه ، بل وغير ذلك .
ويدل على ذلك ما ورد في كتاب الحلية لأبي نعيم الأصبهاني ، بسنده إلى أبي هزان قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول : من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل . قال أبو هزان : قلت لعطاء : ما مجلس الذكر ؟ قال : مجلس الحلال والحرام ، وكيف تصلي ، وكيف تصوم ، وكيف تنكح ، وكيف تطلق وتبيع وتشتري(68)
وقال الحافظ ابن حجر : والمراد بالذكر : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها ، مثل : الباقيات الصالحات وهي : (( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )) ، ونحو ذلك . والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويطلق ذكر الله أيضاً ، ويراد به : المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه : كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة(69) .
قال العلامة المباركفوري(70) : (( المراد بالذكر - هنا - : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات ، وهي: سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ، وما يلتحق بها من الحوقلة ، والبسملة ، والحسبلة ، والاستغفار، ونحو ذلك ، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه ، كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم ، والتنفل بالصلاة )) .
فإن قال قائل من هؤلاء : إن الذكر بالألفاظ الواردة نوع من أنواع الذكر اللساني يشمله أحاديث فضل مجالس الذكر فدل ذلك على استحباب الاجتماع لأجل هذا الذكر اللساني .
فالرد عليه بالوجه الثاني : أن هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه ، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله . وهناك فرق كبير بين هذا وذاك .
فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله ، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به ، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : (( كان أصحاب رسول الله r إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ ، والناس يستمعون . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون لقراءته ))(71) .
وقال الطرطوشي : (( هذه الآثار(72) تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم ، أو يقرأ المعلم على المتعلم ، أو يتساويا في العلم ، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة هكذا يكون التعليم والتعلم ، دون القراءة معاً .
وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معاً على مذهب الإدارة ، وفي قراءة الجماعة على المقرئ ... ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم . ورجل واحد يقرأ القرآن ، لجاز أن يقولوا : هؤلاء جماعة يدرسون العلم ، ويقرؤون العلم والحديث . وإن كان القارئ واحد(73) .
ثالثاً : وأما الآثار التي استدلوا بها عن عمر رضي الله عنه ، وميمونة رضي الله عنها . فيجاب عنها من ثلاثة وجوه :
الأول : أنها غير صريحة في التكبير الجماعي بالشكل الذي يدعو إليه من يقولون بمشروعية الذكر الجماعي ، بل غاية ما فيها أن الناس تأسَّوا بعمر رضي الله عنه فكبروا مثله وبأصوات مرتفعة ، وبسبب تداخل واختلاط الأصوات مع كثرة الحجيج فقد ارتجت منى بالتكبير . ولا يفهم منه أن عمر رضي الله عنه كان يكبر ثم يسكت حتى يرددوا خلفه بصوت رجل واحد . وإلا فإن أئمة المذاهب المتبوعة لم ينقل عنهم الإقرار للذكر والتسبيح والتكبير بصوت واحد فلو فهموا منه ما فهمه دعاة الذكر الجماعي لقالوا به . ولكنهم فهموا هذه الآثار - والله أعلم - على ما سبق ذكره في أول هذا الوجه .
وأما أثر ميمونة فيقال فيه ما قيل في أثر عمر . وليس فيه إلا تكبير النسوة مع الرجال في المسجد .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عاقب من اجتمعوا للدعاء والذكر وغيره كما في الأثر الذي رواه ابن وضاح . وقد سبق إيراده في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
الثالث : أن مثل هذا التكبير من عمر والترديد من الناس لم ينقل في غير أيام منى ، ووقت الحج . ولو جاز تعميم الحكم ، والقول بجواز الذكر الجماعي في المساجد والبيوت، وبعد الصلوات وفي الأوقات المختلفة ، لكان في هذا مخالفة واضحة للآثار السابقة عن عمر ، وابن مسعود ، وخباب ، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً .
رابعاً : وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به : وهو دعواهم أن للذكر الجماعي مصالح عديدة ، فيجاب عنه بما يأتي(74) :
1 - قولهم إن فيه تعاوناً على البر والتقوى باطل ، يرده فعل النبي r . فإن النبي r هو الذي أنزل عليه { وتعانوا على البر والتقوى } وكذلك فعله عليه السلام ، ولو كان الاجتماع للدعاء والذكر بعد الصلاة جهراً لمن شهد الصلاة ، وفي غير ذلك من الأوقات . لو كان هذا كله من باب التعاون على البر والتقوى لكان أول سابق إليه هو النبي عليه السلام ولفاز بالسبق إليه أصحابه رضوان الله عليهم ، ومن المعلوم أنهم لم ينقل عنهم ذلك قطعاً . وكذب من ادعى عليهم شيئاً من ذلك .
2 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أقرب للإجابة . فيجاب عليهم بأن هذه العلة كانت موجودة في زمانه عليه السلام بل هو r أعظم من تجاب دعوته ولا شك في ذلك ، فهو عليه السلام كان أحق بأن يفعل ذلك ويدعو مع أصحابه - جماعة - خمس مرات في اليوم والليلة . ولكن رغم ذلك لم ينقل عنه أنه فعل ذلك . وبالتالي يصبح من الواجب الحكم على هذا الفعل بأنه بدعة بناء على ما ثبت من فعله عليه الصلاة والسلام ، وبناء على الأدلة الكثيرة في بيان وجوب طاعته والاهتداء بهديه ، والاقتداء بسنته .
3 - وأما قولهم إن الذكر الجماعي أبعد عن اللحن في الدعاء والذكر ولاسيما للعوام، فيجاب عليهم بما يلي :
أ - أنه ليس من شروط صحة الدعاء عدم اللحن فيه ، بل يشترط الإخلاص وصدق التوجه ومتابعة النبي r في ذلك .
وقد كان الصحابة متوافرين بعد انتشار الفتوحات ، وظهور العجمة في الألسنة بعد أن كثر العجم الداخلون في الإسلام وشاع بين الناس اللحن في الكلام ، ومع ذلك لم ينقل عن الصحابة شيء من هذا الذكر الجماعي .
ب - أن هذا اللحن الذي زعموه ، والموجود في الدعاء ، يوجد أيضاً من هؤلاء العوام في قراءة القرآن ، وفي الصلاة وفي غيرها من شعائر الدين ، وكان الجدير بهؤلاء أن يعلموهم بعد الصلوات تلك الأحكام ، لأنها أمور واجب تعلمها على المسلم ، أما الدعاء فهو أمر مستحب .
رابعاً : قولهم : إن هذا عمل الناس ، وعليه الجماعة ، وقد اجتمع عليه أكثر الناس .
فيجاب عليهم بأن هذا احتجاج بالناس على الشرع ، وهذا باطل . بل يحتج بالشرع وبالدليل على الناس ، وعلى الرجال ، وأما اتباع عامة الناس وأغلبهم في أمور الدين فهذا باب ضلال ، وقد ذمه الله عز وجل في كتابه فقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [ الأنعام : 116 ] . ولسنا متعبَّدين بطاعة الناس واتباعهم ، بل بطاعة النبي r واتباعه .
وقد جاء عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال : (( كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوماً . فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا ( أي أن عمل العوام يخالف ذلك ) . فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام ، أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء ))(75). فبيَّن عبد الله ابن الحسن أن كثرة الجهال والمبتدعين ، وتسلطهم على الناس ، ونشرهم لبدعتهم ، ليس حجة على السنة وعلى الشرع ، ولا ينبغي ولا يجوز أن يعارض شرع الله، وسنة الرسول r بفعل أحد من الناس ، كائناً من كان .
خامساً : دعواهم أن الذكر الجماعي وسيلة لها حكم غايتها ، وغاية الذكر الجماعي عبادة الله .
فيجاب عليهم بما يلي :
1 - أن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة على الدوام ، بل إن لها موارد مقصورة عليها ، فهذه القاعدة مقصورة على ما ورد في الشرع سواء كان وسيلة أم غاية . ومما يدل على ذلك أن الشيء قد يكون مباحاً ، بل واجباً ، ومع ذلك تكون وسيلته مكروهة أو محرمة . كمن يتوصل إلى تحصيل ماء الوضوء عن طريق الغصب أو السرقة .
2 - يدلك على هذا كذلك فعل السلف الصالح ، فإنهم - رضي الله عنهم - كانوا يتحرون في أمور العبادات كلها تحرياً شديداً من غير التفات إلى الفرق بين ما يسمى
(( وسائل )) و(( غايات ))(76) .
سادساً : وأما قولهم : إن الآثار المانعة للذكر الجماعي تعارض الأحاديث الكثيرة التي تثـبت مشروعية الذكر الجماعي ( كذا زعموا ) ، فتُقدَّم الأحاديث عليها .
فيجاب عليهم بأنه لا تعارض بين هذه الآثار وتلك الأحاديث كما سبق ، بل إن تلك الأحاديث ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء فهم السلف الصالح لها ، وهذه الآثار الواردة عن السلف تفسر جانباً من هذه الأحاديث ، كما سبق وأن ذكرناه .
وأما ما رد به السيوطي أثر ابن مسعود بأنه لا يعرف له سند ، فمردود بأنه أثر صحيح بمجموع طرقه رواه الدارمي في سننه ، وابن وضاح في البدع(77) . والعجب أن الإمام السيوطي - رحمه الله - ذكر هذا في كتابه (( الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ))(78) .
وأما قول الدكتور الزحيلي(79) : (( فلا يصح القول بتبديع الدعاء الجماعي بعد الصلاة ... )) إلخ .
فيقال : قوله : ( لا يصح ) . هذه كلمة شرعية ، وإطلاق لحكم شرعي ، وهذا يقتضي عدم الجواز . فمن أين أتى بهذا الحكم ؟ ومَنْ سبقه بهذا من أهل العلم المعتبرين ؟ ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة .
ثم قوله : (( وجرى العمل بين المتأخرين بالاجتماع على الدعاء ))(80) أهـ .
فيقال له : ومتى كان اجتماع الناس على عملٍ ما قاضياً على شرع الله عز وجل ؟ فالحجة إنما هي في النصوص وفي عمل الرسول r ، والصحابة الكرام ، لا في عمل المتأخرين .
ثم قوله في إنكار ابن مسعود على المجتمعين على الذكر : (( والواقع أن هذا الإنكار ليس بسبب اجتماعهم على الذكر . وإنما لشذوذهم وادعائهم أنهم أشد اجتهاداً في الدين من غيرهم ))(81) أهـ .
فيقال له : ما دليلك على هذا الكلام ؟! وكل من روى هذه الواقعة فهم منها إنكار ابن مسعود للذكر الجماعي ، ومثله إنكار خباب بن الأرت على ولده ، وهل كان هناك شذوذ عند هؤلاء المذكورين غير اجتماعهم على الذكر الجماعي ؟ إذ لا يمكن أن يقال إن شذوذهم كان بسبب أنهم يذكرون الله كثيراً .
ومن هنا يتبين لك ضعف استدلال المجيزين للذكر الجماعي بالأدلة التي استدلوا بها ، وأنها لا تنهض لهم بما أرادوا ، وأن الحجة قائمة عليهم بحمد الله تعالى . وكذلك يتبين لك قوة أدلة المانعين من الذكر الجماعي .