المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : للتحميل : تعقيبات على مقالات الصابوني في الصفات * للشيخ صالح الفوزان حفظه الله *


كيف حالك ؟

السحيمي الأثري
05-19-2004, 07:45 PM
تعقيبات على مقالات الصابوني في الصفات
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وآله وصحبه‏.‏
أما بعد‏:‏
فقد اطلعت على مقالات لفضيلة الشيخ محمد على الصابوني، نشرها في ‏"‏ مجلة المجتمع ‏"‏ ‏(‏الأعداد‏:‏ 627 و628 و629 و630 و631 و632‏)‏ تحت عنوان‏:‏ ‏(‏عقيدة أهل السنة في ميزان الشرع‏)‏، يحاول في تلك المقالات جعل الأشاعرة من أهل السنة في باب صفات الله عز وجل، وقد وقع في متناقضات عجيبة وخلط غريب، استدعاني أن أكتب هذا التعقيب الذي لا أقصد من ورائه إلا بيان الحقيقة، وإزالة اللَّبس، سائلًا الله العون والتوفيق‏.‏
وإليك بيان ما جاء في مقالاته مع الرد عليه‏:‏
1 – حينما تقرأ العنوان الذي وضعه لمقالاته – وهو‏:‏ عقيدة أهل السنة في الميزان‏)‏ – تستغربه؛ لأن وضع عقيدة أهل السنة في الميزان معناه فحصها ومعرفة هل هي صواب أو خطأ‏؟‏ وهذا تنقيص من قدرها، لاسيما والمراد بأهل السنة عند الإطلاق القرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان‏.‏
لكنه يزول هذا الاستغراب حينما تعلم أنه يريد بذلك عقيدة التفويض التي ظنها عقيدة أهل السنة، وقد بينا بطلان ذلك فيما يأتي‏.‏
2 – حمل حملة شعواء على الذين يكفِّرون الأشاعرة، ونحن معه في هذا، فتكفير المسلم لا يجوز، إلا إذا ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، لكنه لم يبين من هم الذين قالوا تلك المقالة، وأقدموا على هذا التفكير‏؟‏ وفي أي كتاب أو مجلة وقع ذلك‏؟‏ مع مناقشته مناقشة علمية، حتى يكون القارئ على بصيرة من أمرهم‏.‏
3 – جعل قضية الاختلاف في أمر النزول والصفات كالاختلاف في عقد اليدين في الصلاة وإرسالهما، وأمر الجهر بالبسملة والإسرار بها، وفي صلاة التراويح هل هي ثمان ركعات أو عشرون ركعة‏؟‏
ولا يخفى ما في هذا من الخلط؛ فقضية الصفات من قضايا العقيدة التي لا يجوز الخلاف فيها، وقضية وضع اليدين في الصلاة على الصدر أو إرسالهما وما ذُكر معها من المسائل من قضايا الفروع التي يسوغ فيها الخلاف بحسب فهم الأدلَّة الواردة فيها، ثم هي من السنن وليست من الفرائض‏.‏
4 – قال ‏"‏ إن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة؛ لم يخرجوا عن الإسلام، ولا نطردهم من الملة ‏"‏‏.‏
- والجواب‏:‏ أما كون الأشاعرة لم يخرجوا عن الإسلام،؛ نعم هم من جملة المسلمين، وأما أنهم من أهل السنة والجماعة في باب الصفات؛ فلا؛ لأنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك فأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات على ما جاءت من غير تأويل، والأشاعرة لا يثبتون كثيرًا منها كما جاء، بل يؤِّولونه عن ظاهره كما هو معروف، فكيف يُجعَل من القوم من يخالفهم‏؟‏ ‏!‏
نعم هم من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة، التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا معهم في باب الصفات وما خالفوا فيه؛ لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك، وكتبهم هي الحكم في هذه القضية‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ‏"‏ منهاج السنة ‏"‏‏:‏ ‏"‏ لفظ ‏"‏ ‏(‏أهل السنة‏)‏ يراد به مَن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة؛ فلا يدخل فيه إلا من أثبت الصفات لله، ويقول‏:‏ إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرى في الآخرة، ويُثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عن أهل الحديث والسنة ‏"‏‏.‏ انتهى
باختصار‏.‏
5 – قال‏:‏ ‏"‏ علماء مصر وشيوخ الأزهر يدينون في معتقدهم بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري، والعراق وتونس والمغرب على المذهب الأشعري ‏"‏‏.‏
- والجواب أن يقال‏:‏
أولًا‏:‏ مذهب أبي الحسن الأشعري الذي استقرَّ عليه أخيرًا في باب الصفات هو مذهب أهل السنة والجماعة، ورجع عما كان عليه قبلُ من تأويل الصفات؛ كما صرح بذلك في كتابه ‏(‏الإبانة عن أصول الديانة‏)‏ وفي كتابه ‏(‏المقالات‏)‏، ومعلوم أن مذهب الإنسان هو ما يستقرُّ عليه أخيرًا، لا سيما وقد صرح برجوعه عن مذهبه الأول‏.‏
ومَن ذكرت يا فضيلة الشيخ هم على مذهبه الذي رجع عنه، فانتسابهم إليه غير صحيح؛ لأن هذا المذهب الذي هم عليه أصبح غير مذهب أبي الحسن الأشعري، ونسبته إليه بعد ما رجع عنه ظلم‏.‏
ويقال ثانيًا‏:‏ المذهب لا يُعرف كونه حقًا بكثرة المتبعين له؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏‏.‏
وإنما يعرف كونه حقًا بمطابقته للكتاب والسنة‏.‏
وما عليه الأشاعرة في الصفات ليس مطابقًا للكتاب والسنة‏.‏
6 – يرى أن الأسلم تفويض الصفات إلى علاَّم الغيوب، وينسب هذا إلى السلف، فيقول‏:‏ ‏"‏ يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ قد اشتهر بأنه مذهب أهل التفويض ومذهب أهل السلف الصالح ‏"‏‏.‏
ثم نقل عن الإمام أحمد والإمام مالك - رحمهما الله - كلاما يظن أنه يؤيد ما يقول، حيث نقل عن الإمام أحمد قوله ‏"‏ أخبار الصفات تُمَرُّ كما جاءت؛ بلا تشبيه ولا تعطيل؛ فلا يقال‏:‏ كيف‏؟‏ ولم‏؟‏ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحدُّها حادُّ، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، وندع الكيفية في الصفات إلى علم الله ‏"‏‏.‏
ثم نقل قول الإمام مالك‏:‏ ‏"‏ الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏
- والجواب عن ذلك‏:‏ أن إطلاق أن مذهب السلف هو التفويض إطلاق خاطئ، وجهل بمذهب السلف، لأن السلف لا يفوضون معنى الصفات، لأنه معلوم لديهم، وإنما يفوضون كيفية الصفات؛ كما جاء في كلام هذين الإمامين الذي نقله فضيلة الشيخ‏.‏
فالإمام أحمد يقول‏:‏ ‏"‏ نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، وندع الكيفية في الصفات إلى علم الله ‏"‏، فالمفوض هو الكيفية فقط‏.‏
وكذلك الإمام مالك يقول‏:‏ ‏"‏ الاستواء معلومٌ ‏"‏؛ أي‏:‏ معلوم معناه‏.‏ ‏"‏ و الكيف مجهول ‏"‏؛ فصار المفوض هو الكيفية‏.‏
وهذا هو اعتقاد السلف في جميع الصفات، يعلمون معناها، ويعتقدونه، ويؤمنون به كما جاء، لا يؤولونه عن ظاهره، ويفوِّضون الكيفية إلى علم الله تعالى‏.‏
7 – ثم يتناقض الشيخ بعد ذلك، فبينما قرَّر فيما سبق أنه مقتنع بعقيدة التفويض، وأنها عقيدة السلف – كما يزعم -؛ إذا هو بعد ذلك يخرج عن التفويض، ويقول‏:‏ ‏"‏ ولكننا نعتقد بتنزيه الله عن الجوارح، فلا يسمع بصماخ الأذن، ولا يرى بحدقة العين، ولا يتكلم بلسان من قطعة لحم وحنجرة يخرج منها الصوت؛ كما هو حال الخلق والعباد، بل هذه الأمور مستبعدة عن الله جل وعلا ‏"‏‏.‏
- ونقول له‏:‏ ما دمتَ قد فوضت في الصفات؛ فلماذا تدخل في هذه التفصيلات، مع أن التفويض معناه السكوت عن تفسيرها‏؟‏ ‏!‏
- وإذا كان قصدك تنزيه الله عن مشابهة الخلق؛ فاكتف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏، ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏، ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏، فتجمِل النفي كما أجمله الله في كتابه، دون أن تقول‏:‏ ليس كذا، وليس كذا‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏
- 8 – يتهجَّم على الذين يُثبِتون الصفات، ويقول‏:‏ ‏"‏ إنهم يصوِّرون الله بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركَّب من أعضاء وحواس، له وجه ويدان وعينان، وله ساق وأصابع، وهو يمشي وينزل ويهرول، ويقولون في تقرير هذه الصفات‏:‏ إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج؛ يريد أحدهم –بزعمه _ أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ، ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول، وأنه جلوس حِسِّيّ، لا كما يتأوله المتأولون ‏"‏ انتهى كلامه‏.‏
- والجواب‏:‏ إن لفظ الجسم والتركيب والأعضاء والحواس لم يرد في كتاب الله وسنة رسوله نفيه ولا إثباته، ونحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وننفي ما نفى عن نفسه، ونمسك عما عدا ذلك‏.‏ أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع والنزول؛ فهذه قد أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نثبتها كما جاءت‏.‏
وأما قولك‏:‏ ‏"‏ ويقولون في تقرير هذه الصفات‏:‏ إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا الدرج ‏"‏؛ فهذا من باب التشويه والإرجاف والتنفير، وإلا كان الواجب عليك – إذا كان هذا واقعًا – أن تبين‏:‏ من هو قائله‏؟‏ وفي أي مدرسة أو جامعة‏؟‏ أو في أي كتاب قاله‏؟‏ حتى يمكن مناقشته وإيقافه عند حده‏.‏ وما ذكرته من أنهم يقولون عن الاستواء والنزول‏:‏ إنه جلوس حسيّ ونزول حسيّ؛ فالصواب أن يقال‏:‏ استواء حقيقي ونزول حقيقي‏.‏ هذا تعبير أهل السنة والجماعة، وهو على ما يليق بالله عز وجل، وليس من معاني الاستواء الجلوس عندهم؛ فإن معاني الاستواء عندهم هي‏:‏ العلو، والاستقرار، والارتفاع، والصعود‏.‏
قال العلامة ابن القيم في النونية مبينًا معاني الاستواء عند السلف‏:‏
ولهم عبارات عليها أَربَع ** قد حَصَلت للفارس الطَّعَّان
وهي استقر وقد علا وكذلك ** ارتفع الذي ما فيه من نُكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ** وأبو عبيدةَ صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ** أَدرَى مِنَ الجهميّ بالقرآن
ثم قال فضيلة الشيخ الصابوني‏:‏
‏"‏ بل لم يكن يتلفظ الواحد منهم – يعني‏:‏ السلف – بمعنى الاستواء، حتى لا يتوهم السامع التشبيه؛ كما فعل الإمام مالك - رحمه الله - حين قال للسائل‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏‏.‏‏.‏ وقد كان بإمكانه أن يقول له‏:‏ الاستواء‏:‏ هو الجلوس، ألا تعرف الجلوس‏؟‏ ‏"‏ انتهى‏.‏
- والجواب أن نقول‏:‏ إن السلف لم يكونوا يتحاشون من ذكر معاني الصفات، لأنهم يعلمونها، ويعتقدون معناها، ألا تراهم فسروا الاستواء بأربعة معان؛ كما ذكرنا عنهم‏؟‏ إنما كانوا يتحاشون الخوض في الكيفية؛ لأنهم لا يعلمونها، والذي سأل الإمامَ مالك لم يسأله عن المعنى، إنما سأله عن الكيفية؛ فإنه قال‏:‏ ‏{‏اسْتَوَى‏}‏، ولهذا قال له مالك‏:‏ ‏"‏ والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة ‏"‏ يعني‏:‏ الكيف‏.‏
9 – قال‏:‏ ‏"‏ وأهل السنة قد اشتهروا بمذهبين اثنين؛ هما‏:‏ الأول‏:‏ مذهب السلف، والثاني‏:‏ مذهب الخلف، وكل منهما لا يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة ‏"‏‏.‏
- والجواب عن ذلك أن نقول‏:‏ إذا كان مذهب الفريقين واحدًا؛ فلماذا قسمتهم إلى سلف وخلف، وإن كان مذهب الفريقين مختلفًا – كما هو الواقع - فإنه لا يصح لغة ولا شرعًا ولا عقلًا أن تجعلهم جماعة واحدة في هذا الباب، وتطلق عليهم جميعًا أهل السنة والجماعة، مع أن المراد بأهل السنة والجماعة ما وضحه النبي - صلى الله عليه وسلم – بقوله‏:‏ ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏)‏‏.‏
فهل كان تأويل الصفات أو تفويضها الذي يفعله الخلف –كما ذكرتَ عنهم - هل هو مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم‏؟‏ ‏!‏
إذن؛ ليس من يؤول الصفات أو يفوِّضها من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وإن كان منهم في أبواب أخرى لا يخالفهم فيها‏.‏
10 – ثم يضيف الشيخ إلى مذهب السلف ما ليس منه، فيقول‏:‏
‏"‏ وخلاصة مذهب السلف أنه يجب علينا أن نصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه من صفات على ما يليق به سبحانه، فتنزهه جل وعلا عن الجسمية والشكل والصورة ‏"‏‏.‏
- فقوله‏:‏ ‏"‏ ننزهه عن الجسمية والشكل والصورة ‏"‏‏:‏ هذا ليس من مذهب السلف، فهم ينفون ما نفاه الله عن نفسه، ولم يرد نفي الجسم والشكل، فهم يمسكون عن ذلك، ويكتفون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ وأمثاله من النفي المجمل‏.‏
وأما الصورة فقد ورد الأحاديث إثباتها في حق الله تعالى؛ فهم لا ينفونها‏.‏
11 - يسوِّغ تأويل بعض الصفات، حيث يقول‏:‏
‏"‏ لذلك مالوا ‏(‏يعني السلف‏)‏ إلى التأويل في بعض الصفات التي توهم التشبيه، كالاستواء، والنزول، والإتيان، والمجيء، لأن عصرهم الذي عاشوا فيه لم يكن كالعصر السابق‏:‏ عصر التسليم والتفويض، وإنما عصر الجدل والمناظرة، فهم لم يؤوِّلوا عن هوى ومكابرة، وإنما أوَّلوا عن حاجة واضطرار؛ لدفع شغب المجادلين في صفات الله بالباطل، ومن ذلك الحين اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان اثنان هما‏:‏ مذهب أهل التفويض، ومذهب أهل التأويل، أما المذهب الأول؛ فهو المشهور بمذهب السلف، والمذهب الثاني هو المشهور بمذهب الخلف، وكل من المذهبين منسوب إلى أهل السنة ‏"‏ انتهى‏.‏
- والجواب أن نقول‏:‏
أ – لم يكن التفويض المطلق ولا التأويل للصفات عن ظاهرها في يوم من الأيام مذهبًا لأهل السنة والسلف الصالح، لأن مذهب السلف وأهل السنة هو الإيمان بما دلت عليه صفات الله تعالى من معنى الكمال، مع تفويض كيفيتها لله تعالى؛ كما نَقلْتَه عن الإمام مالك وغيرهما في مطلع كلامك‏.‏
وإنما التفويض والتأويل مذهبان للخلف، وهم ليسوا في هذا الباب من أهل السنة والجماعة؛ لمخالفتهم لمذهبهم فيه، والمخالف لا يُنسَب إلى من خالفه، وإن كانوا من أهل السنة في بقية الأبواب التي وافقوا فيها أهل السنة‏.‏
ب – تأويل الصفات عن معناها الحقيقي لا يجوز في أي عصر من العصور، ولا يجوز أن نرد على أهل الباطل بباطل، بل يجب أن نَثبُت على الحق، ولا نلتفت إلى شغب المخالفين، ولا نتنازل عما معنا من الحق لأجل الرد عليه‏.‏
والتأويل باطلٌ؛ مهما صلحت نية فاعله، حسن مقصده وقد يعمل الشخص بعمل أهل النار وهو يظن أنه يحسن صنعًا؛ كما قال تعالى‏:‏
‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏‏.‏
والباطل إنما يُدفَع بالحق، ‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏‏.‏
12 – يكرر أن مذهب السلف هو التفويض، ومذهب الخلف هو التأويل، ويقول‏:‏
‏"‏ إنما كان المحقِّقون منهم ‏(‏يعني‏:‏ أصحاب المذهبين‏)‏ يفضلون مذهب السلف، فيقولون‏:‏ هو أسلم، والبعض منهم كان يرجِّح مذهب الخلف؛ دفاعًا لشبهات الزائغين، ويقول‏:‏ هو أحكم، مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم؛ خلافًا للمعتزلة والجهمية، فكان الخلاف بين الفاضل والأفضل ‏"‏‏.‏
والجواب أن نقول‏:‏
أ – قد بينَّا فيما سبق مرارًا أن مذهب السلف في الصفات هو اعتقاد ما دلت عليه النصوص؛ من غير تشبيه ولا تعطيل، وليس هو التفويض، فنسبته إليهم زور وبهتان، وهم منه براء، فكل من التفويض والتأويل من مذاهب الخلف المحدَثة، وليس فيهما مفضولًا ولا فاضل، بل كلاهما زور وباطل‏.‏
ب – قوله ‏"‏ مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم ‏"‏ قول فيه مغالطة، إذ كيف يقال‏:‏ إن من يؤِّول صفات الله عن مدلولها، فيؤِّول اليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء والرحمة بالنعمة، كيف يقال مع هذا‏:‏ إنه يعتقد هذه الصفات دون تعطيل، أليس فعله هذا هو التعطيل بعينه‏؟‏ ‏!‏
13 - قال ‏"‏ وإذا كان من أوَّل الصفات ضالًا، فنضلل السلف الصالح جميعًا؛ لأنهم أولوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏؛ قالوا‏:‏ معهم بعلمه لا بذاته، وأولوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏؛ قالوا‏:‏ مَعيَّه علم؛ لئلا تتعدد الذات، وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏؛ قال‏:‏ المراد‏:‏ ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏
- والجواب عن ذلك؛ نقول‏:‏
أ – نعم؛ من أوَّل الصفات عن مدلوها إلى غير معانيها، فهو ضال؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله الأسماءُ الحسنى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏
ومن الإلحاد فيها صرفها عما دلت عليه، وهذا ضلال‏.‏
ب – وأما ما ذكرته من تفسير أهل السنة والجماعة لآيات المعيَّة بأنها معيَّة علم وإحاطة؛ فليس هو من التأويل الذي زعمته‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ‏(‏الفتوى الحموية‏)‏‏:‏
‏"‏ ولا يحسب حاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضًا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل‏:‏ ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏، وقوله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة؛ فإن الله قِبَل وجهه‏)‏، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعمال‏:‏ ‏(‏والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه‏)‏‏.‏
ذلك أن كلمة ‏(‏مع‏)‏ في اللغة إذا أطلقت؛ فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيِّدَت بمعنى من المعاني؛ دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال‏:‏ ما زلنا نسير والقمر معنا، أو النجم معنا، ويقال‏:‏ هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك‏.‏ فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة‏.‏
ثم أن هذه المعيِّة تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏؛ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعيِّة ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيدٌ عليكم، مهيمن عليكم، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف‏:‏ إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته ‏"‏ انتهى‏.‏
فعُلِمَ من ذلك أنه لم يجرِ في الآية – ولله الحمد - التأويل الذي زعمه فضيلة الشيخ الصابوني؛ لأن المعية يختلف معناها باختلاف مواردها‏.‏
ج – وأما قوله‏:‏ إن ابن كثير قال في التفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏‏.‏‏.‏ وزعم أن هذا تأويل من ابن كثير؛ فنقول له‏:‏ ليس هذا من قبيل التأويل الذي تدَّعيه؛ لأن الآية جاءت بلفظ الجمع‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ‏}‏‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ‏(‏مجموع الفتاوى‏)‏‏:‏ ‏(‏5/507‏)‏‏:‏
‏"‏ فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه؛ دل ذلك على أن المراد به أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده من الملائكة؛ فإن صيغة ‏"‏ نحنُ ‏"‏ يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحدٍ جند يطيعونه كطاعة الملائكة لربهم، وهو خالقهم وربُّهم، وهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه وملائكته تعلم، فكان لفظ‏:‏ ‏"‏نحنُ‏"‏ هنا هو المناسب ‏"‏‏.‏
وقال سياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة؛ فإنه قال‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏، فقيَّد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقِي المتلقيين؛ قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏، ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب؛ لم يختص ذلك بهذه الحال، ولم يكن لذكر القعيدين والرقيب والعتيد من معنى مناسب ‏"‏ انتهى‏.‏
ومنه تعلم أن ابن كثير - رحمه الله - لم يؤول الآية الكريمة كما زعم الشيخ الصابوني‏.‏
14 - قال‏:‏ ‏"‏ يجب التأويل في بعض الأحيان، بل نقول‏:‏ إنه يتعين التأويل؛ كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في أرضه‏)‏، وكما قال تعالى عن سفينة نوح‏:‏ ‏{‏وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ‏}‏، فهل السفينة تجري في عين الله‏؟‏ أم المراد‏:‏ تسير بحفظنا ورعايتنا، فإذا لم نؤِّولها؛ فسد المعنى تمامًا‏.‏
وكيف نقول في الحديث القدسي، ‏(‏ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه‏)‏، فما رأي السادة الأعلام‏؟‏ ‏!‏ أليس فيه حجة ومتمسك لمن يقولون بوحدة الوجود، والذين يزعمون الحلول والاتحاد‏؟‏ أم نقول‏:‏ يتعين هذا التأويل‏.‏
وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف ‏(‏إن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن جاءنى يمشي، أتيته هرولة‏)‏ ألا يجب التأويل‏؟‏ فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل‏؟‏‏.‏
- الجواب‏:‏ أن نقول نعم؛ نحكم بضلال من أوَّل صفات الله تعالى عما دلت عليه من المعنى الحق، وحاول صرفها إلى غير معانيها الحقيقية من الأشاعرة وغيرهم، وإن لم يكن هذا ضلالًا؛ فما هو الضلال‏؟‏ ‏!‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ‏}‏‏.‏
وأما ما استدللت به على وجوب التأويل في بعض الأحيان؛ فلا دلالة فيه لما تريد، وبيان ذلك كما يلي‏:‏
أ – قوله - صلى الله عليه وسلم – ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض‏)‏؛ قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ‏(‏مجموع الفتاوى‏)‏‏:‏ ‏(‏6/397‏)‏‏:‏
إنه ‏"‏ قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس، ومن تدبر اللفظ المنقول؛ تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره؛ فإنه قال‏:‏ ‏(‏يمين الله في الأرض‏)‏، فقيَّده بقوله ‏(‏في الأرض‏)‏، ولم يطلق فيقول‏:‏ يمين الله‏.‏ وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ فمن صافحه وقبَّله؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه ‏"‏ معلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافِح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شُبِّه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله؛ كما هو معلوم عند كل عاقل ‏"‏ انتهى‏.‏
وقد تبين بهذا أولا‏:‏ أن الحديث ليس بصحيح كما توهمه الصابوني‏.‏
وثانيًا‏:‏ ليس فيه دلالة على تأويل الصفات‏.‏
ب – وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏؛ معناه‏:‏ بمرأى منا، ولا يفهم من ظاهر الآية ما قاله فضيلة الشيخ أن السفينة تجري في عين الله، وليس هو ظاهر اللفظ حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه قال‏:‏ ‏{‏بِأَعْيُنِنَا‏}‏، ولم يقل‏:‏ في أعيننا، ومعلوم الفرق بين اللفظتين، فهي كقوله‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏‏.‏
قال الشوكاني في ‏"‏ فتح القدير ‏"‏‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏؛ أي‏:‏ بمرأى منا، بنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا؛ فلا تبال بهم ‏"‏‏.‏
ج – وأما حديث‏:‏ ‏(‏كنت سمعه الذي يسمع به‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏؛ فأول الحديث وآخره يبين المراد منه، وهو أن العبد إذا اجتهد في التقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل؛ أحبه الله، وسدده في جميع تصرفاته‏.‏
قال الحافظ ابن رجب في ‏"‏ شرح الأربعين ‏"‏‏:‏ ‏"‏ فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى؛ محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبقِ للعبد من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به ‏"‏ انتهى‏.‏
ويوضح ذلك قوله في آخر الحديث‏:‏ ‏(‏ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذَنَّه‏)‏، فالله يسدده في تصرفاته، ويعطيه ما سأله، ويؤمنه مما يخاف‏.‏‏.‏‏.‏
هذا ما يدل عليه الحديث، ولا يحتمل غير هذا المعنى حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه معلوم قطعًا بالأدلة والفطرة والمعقول أن الله سبحانه لا يحلُّ في شيء من خلقه، فلا حاجة إلى التأويل؛ كما زعم الصابوني سامحه الله‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ‏(‏مجموع الفتاوى‏)‏ ‏(‏2/271 - 272‏)‏‏:‏
‏"‏ فالملاحدة والاتحادية يحتجون به ‏(‏يعني‏:‏ هذا الحديث‏)‏ على قولهم؛ بقوله‏:‏ كنت سمعه وبصره ويده ورجله، والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة منها‏:‏
قوله‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليا؛ فقد بارزني بالمحاربة‏)‏، فأثبت معاديًا ومحاربا ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا‏.‏
ومنها قوله‏:‏ ‏(‏وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه‏)‏، فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه بما افترض عليه من فرائض‏.‏
ومنها قوله‏:‏ ‏(‏ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏)‏، فأثبت متقربًا ومتقربًا إليه، ومحبًا ومحبوبا غيره، وهذا كله ينقض قولهم‏.‏
ومنها قوله‏:‏ ‏(‏فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏؛ فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور، وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد‏.‏
د - وأما قوله‏:‏ ‏"‏ وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف‏:‏ ‏(‏إن تقرب مني شبرًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ إلخ‏؟‏ فنقول‏:‏ المراد منه قرب الله من عبده إذا تقرب إليه بالعبادة، وقرب الله من عباده المؤمنين ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ‏(‏مجموع الفتاوى‏)‏ ‏(‏5/464‏)‏ في معنى الحديث‏:‏ ‏"‏ وهو سبحانه قد وصف نفسه في كتابه وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقربه من الداعي، وقربه من المتقرب إليه ‏"‏‏.‏
وذكر الآية والحديث، وقال‏:‏ ‏(‏5/510‏)‏‏:‏ ‏"‏ فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر زاده الرب قربًا إليه، حتى يكون كالمتقرب بذراع ‏"‏‏.‏
وقال العلامة ابن القيم في ‏"‏ الصواعق ‏"‏ ‏(‏2/412 – 413 – المختصر‏)‏‏:‏ ‏"‏ وقد بينا بأنه سبحانه قريب من أهل الإحسان، ومن أهل سؤاله وإجابته ‏"‏‏.‏ ويوضح ذلك بأن الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه، فيقرب ربه منه‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ فإنه من تقرب منه شبرًا يتقرب منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا؛ تقرب منه باعًا‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏
إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ وهو مع ذلك فوق سماواته، على عرشه؛ كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو فوق عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة وهو على عرشه، فإن علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته، فلا يكون قط إلا عاليًا، ولا يكون فوقه شيء ألبتة؛ كما قال أعلم الخلق‏:‏ ‏"‏ فأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء ‏"‏، وهو سبحانه قريب في علوه، عال في قربه‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏
إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب، وأحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن‏.‏ فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف يشاء وهو على العرش‏؟‏ ‏!‏‏.‏ انتهى‏.‏
15 - يدافع الشيخ الصابوني عن الذين يؤولون الصفات، فيقول‏:‏ ‏"‏ إنهم ما أنكروا الصفات كما فعل الجهمية والمعتزلة، وإنما أولوها بما يحتمله اللفظ؛ دفعًا للتشبيه والتجسيم‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ إلخ‏.‏
- ونقول له‏:‏ هذه مغالطة منك؛ لأن من أول الصفات عن مدلولها الصحيح ومعناها الصريح؛ كمن أول اليد بالنعمة، والاستواء على العرش بالاستيلاء عليه، والوجه بالذات؛ أليس هو بذلك قد نفى اليد الحقيقية والاستواء الحقيقي والوجه الحقيقي وصرفها إلى معان غير مقصودة باللفظ أصلًا‏؟‏ ‏!‏ فكيف لا يكون مع ذلك قد نفى الصفات‏؟‏ ‏!‏‏.‏
16 - ثم يواصل الدفاع عنهم، فيقول‏:‏
- ‏"‏ ثم هم يقولون في المجيئ والإتيان‏:‏ إن المطلق يحمل على المقيد، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏، وقوله ‏{‏أو يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏؛ يحمل على المقيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏، فكيف نكفرهم وهم يحتجون بالقرآن على بعض التأويلات‏؟‏ ‏!‏ ‏"‏
ونقول له‏:‏ نحن لا نكفرهم بذلك كما سبق، لكننا نخطئهم ونضللهم في مثل هذا التأويل، وحمل المطلق على المقيد ليس هذا من موارده؛ لاختلاف المقصود من النصين، فكل منهما يقصد به غير ما يقصد بالآخر، فمواردها مختلفة فيبقى كل نص على مدلوله، ولا يحمل أحدهما على الآخر‏.‏
قال العلامة ابن القيم في ‏(‏الصواعق‏)‏ ‏(‏2/385 - 386 - المختصر‏)‏‏:‏
‏"‏ الإتيان والمجيء من الله تعالى نوعان‏:‏ مطلق ومقيد، فإذا كان مجيء رحمته أو عذابه؛ كان مقيدًا؛ كما في الحديث‏:‏ ‏"‏ حتى جاء الله بالرحمة والخير ‏"‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ‏}‏، وفي الأثر‏:‏ ‏"‏ لا يأتي بالحسنات إلا الله ‏"‏‏.‏
النوع الثاني‏:‏ المجيء والإتيان المطلق؛ كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏}‏، وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه، هذا إذا كان مطلقًا، فكيف إذا قيد بما يجعله صريحًا في مجيئه نفسه؛ كقوله ‏{‏إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏، فعطف مجيئه على مجيء الملائكة، ثم عطف مجيء آياته على مجيئه‏.‏
ومن المجيء المقيد قوله‏:‏ ‏{‏فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ‏}‏ فلما قيده بالمفعول، وهو ‏(‏البنيان‏)‏، وبالمجرور، وهو ‏(‏القواعد‏)‏ دل ذلك على مجيء ما بيَّنه، إذا من المعلوم أن لله سبحانه إذا جاء بنفسه؛ لا يجيء من أساس الحيطان وأسفلها ‏"‏ انتهى‏.‏
17 – ثم يواصل فضيلة الشيخ دفاعه المستميت عن الذين يؤولون الصفات، فيقول‏:‏
‏"‏ ويقولون في حديث النزول‏:‏ ‏(‏ينزل الله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا‏)‏‏:‏ إن المراد به تنزيل رحمته؛ إذا كيف ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار ثلث أخير في بعض البلاد، فالوقت الذي يكون عندنا بمكة مثلًا صلاة المغرب يكون في أندونسيا الثلث الأخير من الليل، وفي الوقت الذي يكون بمكة آخر الليل يكون عند غيرنا وقت الضحى أو الظهر ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ما قال‏.‏
- والجواب‏:‏ عن ذلك أن نقول‏:‏
أولًا‏:‏ ألفاظ الحديث تنفي نسبة النزول إلى غير الله؛ بأن يقال‏:‏ تنزل رحمته، حيث جاء في حديث النزول أنه يقول سبحانه‏:‏ ‏"‏ أنا الملك، من يستغفرني فأغفر له، هل من سائل فأعطيه ‏"‏‏:‏
هل رحمته تقول‏:‏ أنا الملك‏؟‏ ‏!‏
هل رحمته تقول‏:‏ من يستغفرني فأغفر له، هل سائل فأعطيه‏؟‏ ‏!‏
هل رحمته تقول‏:‏ ‏"‏ أنا الملك، من يستغفرني‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏؟‏ ‏!‏
ثانيًا ً‏:‏ وأما الاعتراض بأن ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد؛ فيجاب عنه بأن هذا الاعتراض صادر عن عدم تصوره لعظمة الله سبحانه، وعن قياس نزوله على نزول المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا‏.‏
وهذا الاعتراض أيضا ناشيء عن البحث في كيفية نزوله سبحانه، والنزول كسائر صفات الله عز وجل، نؤمن به على حقيقته ومعناه، ونكل كيفيته إلى الله عز وجل‏.‏
ونحن نقول لهؤلاء‏:‏ إذا كان الله سبحانه يحاسب جميع الخلائق يوم القيامة في ساعة واحدة، ويرزق الخلائق في ساعة واحدة، ويسمع دعاء الداعين في ساعة واحدة - على اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم -، ولا تغلطه كثرة المسائل، فإذا كان قادرًا على ذلك كله؛ فهو قادر على النزول الذي أخبر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كيف يشاء، مع اختلاف ثلث الليل في سائر البلدان، والله تعالى أعلم‏.‏
18 – يدعو الشيخ الصابوني إلى ترك مناقشة المذاهب – بما فيها الصوفية أصحاب الطرق المعروفة، والذين تكثر عندهم الأخطاء – وأن نوفر طاقاتنا لحرب أعدائنا الملاحدة والشيوعيين والمنافقين‏.‏
والجواب أن نقول‏:‏
لا يمكن أن نقف صفًّا واحدًا في وجه أعداء الإسلام إلا إذا صلحت العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات والإلحاد في أسماء الله وصفاته؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏‏.‏
والاعتصام بحبل الله يعني الرجوع إلى الحق وترك الباطل، وإذا كانت المعاصي العملية تخل بصف المسلمين أمام أعدائهم؛ فكيف بالمعاصي الاعتقادية‏؟‏ ‏!‏
إنه لا يبقى في وجه الأعداء إلا أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك‏)‏ ‏.‏
19 – يختم بما بدأ به من مدح الأشاعرة، وأنهم من أهل السنة، وينقل طرفًا من مقالة أبي الحسن الأشعري في كتابه ‏"‏ الإبانة ‏"‏ الذي صرح فيه برجوعه عن مذهبه الأول إلى مذهب أهل السنة، ويجعل ذلك من مزايا مذهب الأشاعرة تلبيسًا على الناس الذين لا يعرفون الفرق بين ما عليه الأشاعرة من تأويل الصفات وما استقر عليه من رأي أبي الحسن الأشعري أخيرًا، وهو الرجوع إلى مذهب أهل السنة وإثبات الصفات، وبذلك يصبح ليس له مذهب مستقل، ويكون الأشاعرة ليسوا من أتباع أبي الحسن على الحقيقة، وتكون تسميتهم بهذا الاسم تزييفًا وظلمًا لأبي الحسن ما داموا لا يقولون بما قاله في كتاب ‏"‏ الإبانة ‏"‏‏.‏
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ‏(‏مجموع الفتاوى‏)‏ ‏(‏16/ 359‏)‏‏:‏
‏"‏ وأما من قال منهم ‏(‏يعني‏:‏ الأشاعرة‏)‏ بكتاب ‏"‏ الإبانة ‏"‏ الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك؛ فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنًا بكل من انتسب هذه النسبة، وبفتح بذلك أبواب شر ‏"‏ انتهى‏.‏
وكان الشيخ يريد بذلك أن من قال بما في كتاب ‏"‏ الإبانة ‏"‏ لا ينبغي له أن ينتسب إلى الأشعري؛ لأن هذا ليس قول الأشعري وحده، وإنما هو قول أهل السنة، ولأنه بهذا الانتساب يوهم أن المراد الانتساب إلى مذهب الأشعري الذي رجع عنه - وهو تأويل الصفات -، وهو مذهب باطل ومبتدع‏.‏
هذا ما أردنا تعليقه على مقالات الشيخ الصابوني الذي حاول بها تعتيم الرؤية حول مذهب الأشاعرة في الصفات، وإيهام الأغرار أنه مذهب أهل السنة‏.‏ ونسأل الله لنا وله التوفيق لمعرفة الحق والعمل به‏.‏
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه‏.

أبوالمجد
05-20-2004, 03:43 PM
حياك الله ابوعتبة وجزاك الله خير مشاركة قيمة جعلها الله في ميزان كاتبها حفظه الله وناقلها

زاهر جمال
07-13-2004, 03:00 PM
جزاكم الله خيرا

12d8c7a34f47c2e9d3==