المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من علامات صحة القلب


كيف حالك ؟

قاسم علي
01-13-2015, 11:38 PM
من علامات صحة القلب
للإمام ابن القيم رحمه الله

ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوى، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن فى القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذى له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.

قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، وقال آخر "إنه ليمر بى أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة فى مثل هذا إنهم لفى عيش طيب".
وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".
وقال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب فى ذكر الحى الذى لا يموت، والعيش الهنى الحياة مع الله تعالى لا غير".
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟،.
وقال آخر: "من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات".
وقال يحيى بن معاذ: "من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل واحد بالنظر إليه".
ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْدُه وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشرب.
ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدا، وأن يكون فى الله.
ومن علامات صحته: أنه إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرة عينه وسرور قلبه.
ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله.
ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره فى حق الله.

فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحى السليم.
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذى همه كله فى الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها:
{يَا أَيَّتُهَا النّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28].
فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدى إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتى بها توددا وتحببا وتقربا، كما يأتى المحب المتيم فى محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله. فكلما عرض له أمر من ربه أو نهى أحس من قلبه ناطقا ينطق: "لبَّيْك وسعديك، إنى سامع مطيع ممتثل، ولك على المنَّة فى ذلك، والحمد فيه عائد إليك".
وإذا أصابه قَدرَ وجد من قلبه ناطقا يقول: "أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربى العزيز الرحيم، لا صبر لى إن لم تصبرنى، ولا قوة لى إن لم تحملنى وتقونى، لا ملجأ لى منك إلا إليك ولا مستعان لى إلا بك، ولا انصراف لى عن بابك، ولا مذهب لى عنك".
فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهدِيَتْ إلى، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عنى:
وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِى فى انْصِرَافِهِ
وَمَا زِلْتَ بى مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا
فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:

ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا

أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به مِنِّى بِهِإنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا

فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز
والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر.

سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ

تالله، لقد رفع لها علم عظيم فشمرت له، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب له، واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه.

المصدر :إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول
للإمام ابن القيم رحمه الله

الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته

12d8c7a34f47c2e9d3==