المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المتحابين في الله


كيف حالك ؟

البلوشي
10-08-2014, 01:31 AM
بحث قيّم في المتحابين في الله للإمام الشوكاني

قال الإمام القاضي محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى :



بسم الله الرحمن الرحيم
وجدت بخط المولى شيخ الإسـلام ما لفظه :


سانحةٌ فكرت بعض الليالي في حديث : (( المتحابون في الله على منابر من نـور )) ، فاستعظمت هذا الجزاء مع حقارة العمل ، ثم راجعت الذكر فوجدت التحابّ في الله من أصعب الأمور وأشدِّها ، ووجوده في الأشخاص الإنسانية أعـزُّ من الكبريت الأحمر ، فذهب ما تصوّرْتُه من الإستعظام للجزاء ، وبيان ذلك أنّ التحاب الكائن بين النوع الإنساني راجعٌ عند إمعان النظر إلى محبة الدنيا ، لا يبعث عليه إلا عرضٌ دنيوي ، فإنك إذا عمدت إلى الفرد الكامل من نوع المحبة وهو محبة الولد لوالده ، والوالد لولده ، وأحد الزوجين للآخر وجدته يؤول إلى محبة الدنيا لزواله بزوال الغرض الدنيوي ، مثـلاً لو كان لرجل ولدٌ كامل الأدوات والحواسِّ الظاهرة والباطنة وجدته في الإشفاق عليه والمحبة له بمكان تقصر عنه العبارة ، لأنه يرجو منه بعد حين أن يقوم بما يحتاج إليه من حوائج الدنيا ، فلو عرض له الموت ، وهو بهذه الصفة حصل مع والده ما نشاهده فيمن مات ولده من الغمِّ والحزن والتحسر والتلهف والبكاء والعويل ، ولكن هذا ليس إلا لذلك الغرض الدنيوي ، ويوضح ذلك هذا أنه لو حصل مع الولد عاهةٌ من العاهات التي يغلب على الظنّ استمرارها ، وعجز من كانت به عن القيام بأمور الدنيا كالعمى ، والإقعاد ، وجدت والده عند ذلك يعدُّ أيامه من عافيته ، ربما يتمنى موته ، وإذا مات كان أيسر مفقود إن لم يحصل السرور للأب بموته ، فلو كانت تلك المحبة لمحض القرابة مع قطع النظر عن الدنيا لوجدت الاتحاد في الشفقة بين الحالتين ، ولكن الأمر على خلاف ذلك بالاستقراء ، مع أنّ القرابة لا تزول بزوال البصر مثلاً ، إنما الذي زال ما كان مؤملاً من النفع الدنيوي ، فكشف ذلك أنّ المحبوب هو الدنيا لا الولد لذاته ، ولا لقرابته ، كذلك محبة الولد لوالده ، فإنك تجد الولد قبل اقتداره مع كون والده هو القائم بجمع ذلك لبقاء قوته ، وعدم عجزه عن الاكتساب غيّر من محبة والده لا يقادر قدرها ، ولا يمكن تصورها ، ولا يمكن تصوُّر كُنْهها ، فإذا عرض موته حصل مع الولد من الجزع والفزع ما نشاهده فيمن كانت كذلك ، وهو عند التحقيق إنما يبكي لما فاته من المنافع التي كانت تصل إليه ، وإلى قرابته من والده ، وبرهان هذا أنه لو بلغ الولد إلى حدٍّ لا يحتاج معه في الدنيا إلى أحد ، وصار وجود والده كعدمه في إدخال المنافع الدنيوية عليه وعلى من يعول كان أهون مفقودٍ عليه ، بل ربما حصل له بموته السرور ، ولا سيما إذا كان للأب شيء من الحطام ، وهذا على فرض بقاء قوة الأب وصحته وسلامته ، فالأب باقٍ موجود حي سوي ، فلو كانت المحبة للقرابة لكانت هذه الحالة كالتي قبلها ، ولكن المحبة إنما هي للدنيا ، فحيث يتعلق بالأب الغرض الدنيوي كان له من المحبة ما ذكرناه أولاً ، وحيث لم يتعلق به ذلك الغرض لم يكن له منها شيء كما ذكرناه ثانياً .
وأما إذا بلغ الأب إلى حدِّ الضعف والقعود والعجز الكلّيّ عن مباشرة الأمور ، فربما يتمنى ولده موته ، والأبوة والبنوة بحالهما . فالحاصل أن بكاء الأب على ولده بكاءٌ على فوت دنياه الآجلة ، وبكاء الولد على والده بكاءٌ لدنياه العاجلة ، ومن أنكر هذا كرر النظر فيه ، وأمعنه ، فإنه يجده صحيحاً . كذلك محبة الزوج لزوجته ليس إلا لما يناله منها من اللذة الدنيوية ، فلو أصيبت بمصيبة أذهبت ما يدعوه إلى محبتها من جمال ، أو كمال ، أو حسن تدبير في أمور المعاش وحرص على مال الزوج لوجدت الزوج يمج بها للموت ، ويعد ذلك من الفرج ، فإن تطاول عليه الأمر كان صبره عليها من أعظم المروءة وإلا فالغالب (...بياض في المخطوط...) وقطع علاقة محبتها ، فإن أحبها في تلك الحالة لكونها ذات أولادٍ فذلك أيضاً لأمر يرجع إلى الدنيا لما عرفت .
كذلك الزوجة إذا وقع مع زوجها ما يذهب غرضها الدنيوي منه كانت مثله فيما سلف ، فلو كانت المحبة لمحض الزوجة لم يذهب بذهاب العرض الدنيوي مع بقائها ، كذلك المحبة بين الأجانب فإن أعظم أنواعها والفرد الكامل منها هو محبة العاشق للمعشوق ، وهي آيلة إلى محبة الدنيا لأن غرض العاشق قرب المعشوق واجتماعه به ، والباعث على ذلك إما شفاء الداء الناشئ عن البعد ، أو الالتذاذ بالمشاهدة ، أو بالكلام ، أو بالجماع ، أو مقدماته ، وكل ذلك أغراض دنيوية . فلو عرض للمعشوق ما يزول به الأمر الحاصل على عشقه لما كان العاشق عاشقاً حينئذ ، فعرفت أن المحبة العشقية دنيوية محضة ، كذلك محبة الخادم للمخدوم ، فإنها ليست إلا لكونه مزرعةً لمنافعه ، فلو فرض ذهاب الأمر الموجب للخدمة ، أو وجود مخدوم آخر يساوي المخدوم الأول ، أو يزيد عليه لم يبق من تلك المودة شيء .
إذا تقرر لك أن هذه الأنواع التي هي أقوى أنواع الحبّ ليست إلا من محبة الدنيا لتصور بعض منافعها في ضمن شخص من الأشخاص تبيّن لك ما هو دونهما بفحوى الخطاب ، فإنه يجعله من محبة الدنيا أولى وأحرى ، وذلك كالمحبة الكائنة بين الأخلاء البالغين في التخالل إلى أعلى الدرجات ، حتى يستحق كل واحد منهم بالنسبة إلى الآخر اسم الصديق أو (... : كلمة غير مقروءة في المخطوط) عن الغاية فيطلق على كل واحد منهم اسم الصاحب ، فإنك إذا أمعنت الفكر ، ودققت النظر وجدت السبب الحامل على ذلك عرضاً دنيوياً ، وهو جليٌّ وخفيٌّ ، فإذا مات أحد الأخلاء وذلك الغرض يتعلق به كان الحزن عليه حزناً على ذلك الغرض الفائت ، وإن مات وذلك الغرض غير متعلق به كان أهون فائت . هذا معلومٌ لا شك فيه ، ومن أنكر فعليه بالاستقراء مع التفكر ، وأقل الأغراض في الصحبة مثلاً أُنسُ أحد الشخصين بالآخر ، والنشاط إلى الإجتماع به ، وملاقاته ، فإنّ هذا الغرض ربما يخفى أنه من أغراض الدنيا ، وهو منها بلا ريب ، فإنّ ترويح الخاطر بحالة من كان كذلك والسرور بملاقاته من الأغراض الدنيوية المحضة فعرفت أن الأحزان والهموم المتوجه من بعض نوع الإنسان إلى بعض على الدنيا ولها فيها .
وقد كشف هذا المعنى حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي حيث يقول :
كـل دمعٍ يسيل منها عليـها وبفك اليـدين منها تخلَّـــــى
ما أجود فكره ، وأحكم شعره ، وأدق نظره ! وبهذا التحقيق عرفت ما انطوى عليه دلك الحديث الشريف من الإشارة إلى شرف هذه الخصلة ، وهي التحابُّ في الله ، حتى رفع لأهلها في دار الخلد منابر من نور تكريماً لهم وتعظيماً لقيامهم بنوع من الطاعات ، لا يقوم بها إلا من سبقت له العناية الربانية .
فإن قلت : صوِّر لي صورةً يصدق في مثلها الحديث فإنه لا بدَّ من وجود ، من يتصف بهذه الصفة ، لأن الحديث من باب الإخبار ، وأخبار الصادق يستحيل تخلُّفها ، يوجد من يقوم بذلك عند دفع المستحيل ، وهو لا يقع فيبطل ما استلزم ذلك .
قلت : يصدق ذلك في مثل رجلين متحابين لمحض عرض أخروي ليس من أعراض الدنيا ، ولا يتعلق بشيء منها ابتداءً ولا انتهاءً ، كمن يتحابان لكونهما يجتمعان على الجهاد في سبيل الله ، فينظر كلُّ واحدٍ منهما من صاحبه من النكاية في الكفار ، وشدِّةِ الشكيمة ما يوجب له المحبة عنده ، لكونه قد قام بما أوجب الله عليه ، وصار من أهل الجنة ، وكذلك الاجتماع على طلب العلم مع خلوص النية ، وحسن الطوية ، والتجرد عن كل عرض فاسد ، فيحب كل واحد منهما الآخر لكونه يستوجب بعمله الجنة ، وكذلك سائر الطاعات إذا كانت المحبة لأجلها ، ولكن انظر كم ترى من أهل هذه الطبقة ، فإن التحاب لمحض العمل الأخروي مما يعزُّ وجوده غاية العزة عند من لم يعتز بالمبادئ ، واهتم بالمطالب ، وفحص في دون تعليل ، ولم ينفق عليه تلبيس ولا تغرير .
ومن أعظم فوائد إمعان النظر في مثل هذا البحث أنّ الإنسان إذا حاط بحقيقته لم يحفل بجلب القلوب إليه وعطف الخواطر عليه ، لأن ذلك لم يفعل لأجله ، بل لأجل المنافع المتعلقة به ، فيسموا بنفسه إلى أن يكون جميع ما يفعله مما يستحسنه الناس خالصةً لله -جل جلاله- . فإن فعل الخير من كرم أو شجاعة أو حسن خلق أو علم أو عمل إذا كان معظم القصد به أن يكون فاعله محبوباً عند من يعلم ذلك معظماً ، رفيع القدر ، عالي المحل فهو مع كونه من الرياء البحت ، والشرك الخفيّ غرضٌ ساقطٌ لا ترغب في مثله إلا النفوس الساقطة .
ووجه سقوطه أنه وإن كان محصّلاً لغرض دنيوي لما فيه ، رفعه المحل ، ونباهة القدر ، ونبالة الذّكر لكنه عند التحقيق لأسباب هي غير ذلك الشخص ، فإنه لو فتّش عن قلوب المحبين له في الظاهر لوجدها في الحقيقة محبةً لماله أو جماله ، أو سائر الأغراض الدنيوية المتعلقة به ، يزول بزوالها مع بقاء ذاته ، فإنه إذا كان محبوباً لأجل إنفاقه على إخوانه ومعارفه زالت تلك المحبة بمجرد قطع ذلك الإنفاق ، وانقلبت المحبة عداوةً ، وكذلك لو ذهب جمال من كان محبوباً لأجل جماله ، أو انتقض من كان محبوباً لأجل انبساط أخلاقه ، فلا ريب أن هذه المحبة من الأغراض الساقطة ، وهمّه من أتعب نفسه لأجلها ، واقتحم في تحصيلها مهالك الرياء أسقط وأُسقط فلم لذي الهمة الرفيعة والقدر السامي إلا اطّراح الطلب لذلك ، والاشتغال بالأغراض الأخروية ، فيجعل جهاده وصدقته وتعليمه وحسن خلقه ، وسائر خصاله الخيرية لله - جل جلاله - ، ولا يبالي بمن أوصل الخير إليه أشكر أم كفر ، صدق أم غدر ، مع أنه إذا أخلص النية كان التأثير في النفوس أوقع ، وحصول المنافع الدنيوية لمن لم يقصدها أسرع ، فإن ستر المرائي مبتوك ، وحبل طالب الدنيا بأعمال الدين مبتوك ، بخلاف المخلص فإنه أخص بأعماله من أقواله وأفعاله جناب من تُعَدُّ أزمة الأمور ، ومن هو المصرف لقلوب عباده كيف يشاء ، ومن نظر في سرِّ الإخلاص علم أن من لم يخلص لم يؤت إلا من قبل نفسه ، والفطرة التي تهدي إلى الخير هي هلكة العقل ، وبها دارت عليه دوامة التوفيق .
اللهم أنت الهادي لا هادي سواك ، اهد قلوبنا إلى سلوك ما فيه رضاك .
قال في الأم : حرره قائله محمد بن علي الشوكاني - وفقه الله - .



من كتاب ((الفتح الرباني من فتاوى الأمام الشوكاني)) (11/5297)

12d8c7a34f47c2e9d3==