المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لواء السنة المنشور لقمع المجادل عن عباد القبور ( رد على ربيع المدخلي)


كيف حالك ؟

عامي
07-31-2014, 01:22 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
لواء السنة المنشور لقمع المجادل عن عباد القبور
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فإن الله تعالى قد بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق , وأنزل معه الكتاب ليكون حجة على العالمين , فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ المبين , فلم يقم أحد من أنبياء الله السابقين بما قام به النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم من الدعوة والجهاد والبلاغ, حتى أتاه اليقين من ربه وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وترك الناس على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ثم أصحابه من بعده, رضوان الله عليهم , تابعوا الجهاد والدعوة فنشروا الإسلام والتوحيد في أكثر من نصف المعمورة في ذلك الوقت . ولم يبق بلدٌ من بلدان العالم القديم لم تسمع بهم وبدينهم وبجهادهم .
وكانت فتوحاتهم آية من آيات الله الكبرى , لم يفتحوا البلاد فحسب, بل فتحوا القلوب والعقول بالقرآن الكريم وبالدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ,
فدخلت أمم لا يُحصي عددهم إلا الله في الإسلام , ولم يبق حجة لمن أبى الدخول فيه , فقد صار هذا الدين كالشمس المشرقة على ربوع الأرض لا تخفى على أحد , وبهذا البلاغ الذي سار مسير الشمس قامت الحجة على أهل الكتاب من اليهود والنصارى , دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
فهذا الحديث دليل على أن اليهودي والنصراني تقوم عليه الحجة بمجرد السماع بالإسلام وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وفيه دليل أيضا أن قيام الحجة لا يشترط له التعليم والتفهيم الذي يقول به بعض الناس اليوم . ففرق بين فهم الحجة وبلوغ الحجة , كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وفيه دليل أيضا أن مجرد السماع كافٍ لقيام الحجة على أمة الدعوة .
وأمة الدعوة هم الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الخلق .
وأمة الإجابة هم الذين استجابوا لدعوته ودخلوا في الإسلام .
وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث " من هذه الأمة " أي أمة الدعوة .
فهذا الحديث أصل عظيم في مسألة قيام الحجة , وتُحل به إشكالات كثيرة أثارها مرجئة هذا العصر , وفيه رد واضح على مسألة العذر بالجهل التي جادلوا بها عن عباد القبور .
فاليهودي الجاهل والنصراني الجاهل تُقام عليه الحجة بالسماع بالنبي صلى الله عليه وسلم . وعابد القبر يسمع القرآن والحديث ويعيش في أمة مسلمة , ويزعم هؤلاء المرجئة أنه معذور بالجهل .
فلو وقفوا مع الحديث وقفة تأمل وتفقه وتدبر لعلموا فساد قولهم , وأن عذر المشرك بالجهل يُبطل دلالة هذا الحديث , ويجعل لجهال اليهود وجهال النصارى حجة على الله تعالى . بل يجعل الدين الإسلامي دينا متناقضا في نظرهم , حيث لا يعذر الجاهل الكتابي , ويعذر الجاهل القبوري . ولا فرق بينهما , فهذا النصراني يعبد عيسى بن مريم عليه السلام , وهذا يعبد الأموات الصالحين . فكلاهما يدعو غير الله , فما الذي جعل الكتابي الجاهل كافرا , وجعل عابد القبر الجاهل مسلما ؟ ومناط التكفير بينهما مشترك هو عبادة غير الله تعالى . بصرف النظر عن ما عند النصراني من عقائد أخرى كفرية . فالعلماء يحكمون على المسلم بالكفر إذا وافق النصارى في عقيدة واحدة من عقائدهم الباطلة , كما لو وافقهم في أن اليهود صلبوا عيسى عليه السلام , والله تعالى يقول في القرآن الكريم : (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًابَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) فإذا وافقهم المسلم في هذه العقيدة فقط يكفر بإجماع المسلمين , فكيف إذا وافقهم في صرف العبادة لغير الله تعالى , أي وافقهم في الشرك الأكبر والعياذ بالله . الذي هو أعظم عند الله من عقيدة الصلب أو من تكذيب القرآن , فمناط التكفير في المسألة الأولى هو القول بأن عيسى عليه السلام صُلب , ومناط التكفير في المسألة الثانية هو عبادة غير الله تعالى .
من غير نظر في المسألتين في الفرق بين الإسلام والنصرانية في الدين والعقيدة .
ومن غريب ما وقع أن جماعة من النصارى احتجوا عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لصحة دينهم بما يفعله القبوريون من الشرك والتعلق بالصالحين , فبين لهم الشيخ بأن ما يفعله هؤلاء وما تفعلونه أنتم مخالف لملة إبراهيم يعني التوحيد . ولم يعتذر شيخ الإسلام رحمه الله لهؤلاء القبوريين بأنهم جهال , فهو أعقل وأعلم من أن يحتج بهذه الحجة الداحضة أمام النصارى . مجموع الفتاوى (370/1 )
فإن قال قائل : هل هذا الحديث خاص باليهود والنصارى , أم هو عام فيهم وفي غيرهم ؟
فالجواب : بل هو عام فيهم وفي غيرهم , قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ " أَيْ من هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ القيامة فكلهم يجب عليهم الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ , وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ النصارى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انتهى

والمقصود أن هذا الحديث حجة في المسألة , لو قوبل هذا الحديث بالرضى والتسليم والفهم السليم , لكن بُلينا بمن يترك دلالة الكتاب والسنة , ويتتبع المتشابه من كلام العلماء ليجادل عن أهل الشرك من عباد القبور .
وتعجب من حال هؤلاء حين تراهم يحتجون في المجادلة عن عباد القبور بكلام إمام كرس حياته كلها لجهاد أهل الشرك والخرافة والضلال , كشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله . لتعلم يقينا أن هؤلاء لا يحتجون بكلام الشيخ رحمه الله إلا إذا وافق هواهم , وأما كلامه الآخر الصريح في هذه المسالة الموافق للكتاب والسنة ووافقه عليه علماء الدعوة وأئمة السنة, لا يرفعون له رأسا .
وكان أول من سن هذه السنة السيئة في الاحتجاج بالمتشابهمن كلام العلماءفي هذه المسألة – فيما أعلم - هو داود بن جرجيس ( ت1299 ) المعروف بعدائه الشديد لدعوة التوحيد , فتصدى له علماء الدعوة رحمهم الله , فردوا على ابن جرجيس وبينوا جهله وغلطه وكذبه على أهل العلم , ومن هنا بدأت عناية علماء الدعوة بتحرير كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم في هذه المسألة , ليس للاحتجاج به في أصل المسألة , فالمسألة ثابتة عندهم بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على كفر عباد القبور وأمثالهم من الغالية , بل توجهت عنايتهم بكلام الشيخين لأن ابن جرجيس وأمثاله كانوا يحتجون بمواضع من كلام الشيخين في عذر المشرك الجاهل , ويحتجون بكلامهما في غير ذلك من الشبه التي كانوا يلقونها . فحرر أئمة الدعوة كلام الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى , وكشفوا ما عند ابن جرجيس من المغالطة والكذب والتلبيس .

وقد انتهى أمر ابن جرجيس , فقد دفنه علماء الدعوة وأهالوا عليه التراب هو وكتبه وشبهاته وحزبه , لكن ظهر اليوم حزب جديد , يتعامل مع هذه المسألة بالمنهجية التي كان عليها داود بن جرجيس , أعني : الاحتجاج بالمتشابه من كلام أهل العلم في المجادلة عن عباد القبور , لكن هذا الحزب الجديد لا يقول بكل ما كان يقوله ابن جرجيس – حاشا لله – فهم موحدون يدعون إلى التوحيد , أما ابن جرجيس فداعية إلى الشرك والخرافة , لكن وافقوه في المجادلة عن عباد القبور في مسألة الحكم عليهم وأيضا في الموقف ممن يكفرهم , وقد تجرهم هذه الموافقات إلى طوام أخرى , الله أعلم بها , لكن المقصود أنهم وافقوا ابن جرجيس في أن عباد القبور الجهال – وهم السواد الأعظم من القبوريين – مسلمون , وعندهم أنه لا يجوز تكفيرهم إلا بعد البيان والتعريف, ووافقوه في أن المكفر للقبوريين الجهال قبل البيان والتعريف متشدد خارجي تكفيري, وهم بهذا المسلك ينصرون حزب ابن جرجيس على أئمة الدعوة, من حيث يشعرون أو لا يشعرون, ولما كان هذا الحزب الجديد من أهل التوحيد – كما ذكرت – صار أشد خطرا علينا من ابن جرجيس الواضح المفضوح , وإن كان ابن جرجيس حاول التلبيس على الناس في نجد , وكان نزل في حائل وفي القصيم محرضا على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, لكن الله رد كيده في نحره , كان يزعم أنه سلفي حنبلي متابع للشيخين ابن تيمية وابن القيم , وأنه لم يبق حنبلي في بغداد إلا هو, يقول هذا ليجعل لكلامه وتحريضه قوةً وتأثيرا في أهل التوحيد والسنة , لأنه يعلم أنهم لا يقبلون كلامه إلا إذا كان سلفيا موافقا للشيخين, وهذه الأوصاف التي ادعاها ابن جرجيس هي ظاهرة في هذا الحزب الجديد بالجملة , ولهذا أثروا بكلامهم على كثير من شباب السنة , فتعجب من كثرة التخليط المبثوث على صفحات " الانترنت " من هؤلاء الشباب والطلبة الذين يدعون السنة والسلفية , حتى وقع بعضهم في أصول الجهمية من حيث لا يدري , أرادوا أن يردوا على غلاة التكفير من أتباع الضال المقدسي وأمثاله من الدواعش فوقعوا في التجهم والإرجاء , فردوا البدعة ببدعة , والضلالة بضلالة , ونبرأ إلى الله تعالى من هؤلاء ومن هؤلاء .
وإذا كان المقدسي البرقاوي هو منظر الغلو في التكفير وحامل رايته , فيؤسفني أن أقول إن حامل راية الحزب الجديد حزب الإرجاء وإعذار المشركين هو الشيخ ربيع بن هادي المدخلي , الذي جمع نصوصا من كلام العلماء المتشابه , فصار يحتج به في المجادلة عن المشركين من عباد القبور , وأنهم جهال معذرون بالجهل حتى يُعرفوا وتقام عليهم الحجة كما سأنقله عنه إن شاء الله بعد قليل, فأصبح الشباب في أمر مريج في الموقف من أهل الشرك والزندقة والإلحاد . وانتعشت سوق العذر بالجهل , حتى عُذر الملاحدة من أهل وَحدة الوجود , نسأل الله العافية !
هذا, وإن الأشد خطرا والأكثر ضررا عند ربيع المدخلي أنه لا يعذر عباد القبور بالجهل فحسب , بل ذهب يحارب مَن يُكفّرهم , ويرميه بالغلو والتشدد وأنه حدادي تكفيري خارجي !
فأعاد إلى الذاكرة ما كان يقوله عثمان بن منصور ( أحد أعداء الدعوة في زمن الشيخ الإمام عبدالرحمن بن حسن , وكان على صلة بداود بن جرجيس ) كان عثمان بن منصور هذا – وقيل إنه تراجع - يُلقب علماء الدعوة بالخوارج , لأنهم يكفرون عباد القبور , ويزعم هو أنهم يكفرون المسلمين الذين يقولون لا إله إلا الله , وكتب قصيدة في الثناء على ابن جرجيس يحرضه على أئمة الدعوة , الخوارج في نظره . ولأجل هذه الفكرة السخيفة التافهة المختمرة في ذهنه كتب رسالة سماها ( منهج المعارج لأخبار الخوارج ) ورد عليه الشيخ الإمام عبدالرحمن بن حسن رحمه الله بكلام العالم العاقل الذي لا تنطلي عليه حيل أهل الفتنة والشغب بأنه لا يوجد في نجد خوارج حتى تؤلف هذا التأليف , إنما الخوارج عندك هم أهل هذه الدعوة الإسلامية , يريد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب , إذا كفَّروا من أنكرها , قلت يكفرون المسلمين ... ( دعاوى المناوئين ص62 )
سبحان الله , ما أشبه الليلة بالبارحة !
ها هو ربيع المدخلي ومن معه من الأعوان والمؤيدين يعتقدون الفكرة السخيفة نفسها التي كانت مختمرة في ذهن عثمان بن منصور , لكن عثمان كان يقول " خوارج " وربيع ورفاقه يقولون " حدادية تكفيرية " وأحيانا يقولون " خارجية "
إننا لا نتقول عليهم , هذا هو المسطر في مقالاتهم , والمعروف من أقوالهم وتوجهاتهم , وسوف أنقل من آخر مقال كتبه ربيع المدخلي ما يُدينه بهذه الشبهة ,
قال ربيع المدخلي في مقاله الذي نشره في منتصف رمضان 1435هـ :الحلقة الثانية من رَدِّي على مقال الجهني (حوار مباشر بين مرجئ قديم ومرجئ معاصر), :
للحدادية التكفيريين عدد من الأصول الباطلة التي خالفوا فيها السلف الصالح قد بينا بطلانها مراراً لكنهم يصرون على التشبث بهذه الأصول الباطلة ويضمون إليها الأكاذيب والخيانات ورمي من يقوم ببيان بطلان هذه الأصول بالجهل وعدم الفهم، بل وصل الهوى ببعضهم إلى رمي أهل السنة بالكفر والزندقة ففاقوا الخوارج وسائر أهل الضلال بهذا التأصيل والظلم والتكفير.
وهذا الجهني الذي أناقشه في هذا المقال وغيره لا يُظهر التكفير ولكنه يوالي ويتولى هؤلاء التكفيريين ويرى أنهم هم السلفيون.
ومن الأدلة على شدة عداوتهم للمنهج السلفي وأهله أنهم يصمون السلفيين بالإرجاء، وهم والله براء من وصمة الإرجاء، ويحاربونه أشد الحرب.
ومن فجورهم قولهم أن السلفيين يدافعون عن المشركين، وكذبوا وأفكوا، فالسلفيون هم حاملوا راية التوحيد والسنة، فيحاربون الشرك كبيره وصغيره، ويحذرون الناس منه أشد التحذير في كتاباتهم ودروسهم ومقالاتهم، ويحذرون من البدع صغيرها وكبيرها.
ومن مكرهم وخداعهم أنهم استغلوا مسألة العذر بالجهل التي يقول بها كثير من الأئمة الذين يحاربون الشرك، فيحكمون على الواقعين في الشرك من المعاندين بأنهم مشركون، ويحكمون على الجهال الواقعين في الشرك بأنهم واقعون في الشرك الأكبر.
لكنهم يرون إقامة الحجة عليهم وبيان أن الذي وقعوا فيه شرك أكبر، فإن عاندوا وأصروا على ذلكم الشرك كفروهم، وألحقوهم بأسلافهم من المعاندين.انتهى
قلت : فربيع المدخلي إذن يقسم المشركين إلى قسمين :
الأول : الواقعون في الشرك من المعاندين , وهؤلاء مشركون
الثاني : الجهال الواقعون في الشرك , وهؤلاء يصفهم بأنهم واقعون في الشرك , لا يحكم عليهم بالشرك إلا إذا أقام عليهم الحجة وبيان أن الذي وقعوا فيه شرك أكبر، فإن عاندوا وأصروا على ذلكم الشرك كفروهم، وألحقوهم بأسلافهم من المعاندين .
وعليه فلا مشرك عند ربيع المدخلي إلا المشرك المعاند .
وهذا ظاهر من تقسيمه للمشركين , إلى مشركين معاندين يحكم عليهم بالشرك . ومشركين جهال لا يحكم عليهم بالشرك إلا بعد البيان وإقامة الحجة , فلا يحكم عليه بالشرك إلا إذا عاند . هذا نص كلامه بحروفه .
قال :ويحكمون على الجهال الواقعين في الشرك بأنهم( مسلمون )واقعون في الشرك الأكبر لكنهم يرون إقامة الحجة عليهم وبيان أن الذي وقعوا فيه شرك أكبر، فإن عاندوا وأصروا على ذلكم الشرك كفروهم،( عندئذ )وألحقوهم بأسلافهم من المعاندين.
إذن جهال القبوريين ليسوا مشركين عند ربيع المدخلي حتى يتحولوا إلى معاندين . فهذا هو دفاعه عن المشركين الذي حاول المدخلي أن يدفعه عن نفسه وحزبه , وهيهات ! وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينسف هذه الشبهة من أساسها في هذا البحث .

خطر توجهات ربيع المدخلي :
قد يقول قائل إن هذا القول الذي نقلته عن ربيع المدخلي يقول به غيره من الدعاة ومدرسي الجامعات ممن اشتهروا بالانتماء للسلفية , فلماذا تسليط الضوء على ربيع المدخلي ومناصريه , وهذا لعمر الله سؤال وجيه , يدور في أذهان كثير من الشباب , سأجيب عليه بجواب فيه تفصيل , أبين فيه الخطر المحدق بطلاب العلم جراء المسلك الذي يسلكه ربيع المدخلي ومن معه من المؤيدين , فأقول : إن الخطر منتوجهات هؤلاء المرجئة ( ربيع ومن معه ) تتبين لك إذا عرفت أنهم في تعاملهم مع مخالفيهم في مسائل الإيمان والتكفير يقسمونهم إلى قسمين : العلماء الكبار, هذا قسم , والقسم الآخر : المشايخ وطلاب العلم ومن معهم من عامة الشباب , فيسكت ربيع ومن معه عن العلماء الكبار, ليس احتراما وتقديرا لجنابهم بل خوفا أن يسقطوا هم إذا تكلموا في العلماء , وفي الوقت نفسه يشنون الغارة على القسم الثاني , ويصيحون فيهم .. الحدادية .. التكفيرية .. الخارجية .. إلى درجة أن ربيع المدخلي كرر كلمة ( حدادي وحدادية وحداديون ) في مقاله الأخير - الذي نقلت عنه آنفا - أكثر من ستين مرة !لتعلم إلى أي مدى بلغ هوسهم مع خصومهم .
فإذا بقي الحال على ما هو عليه فبعد عمر طويل إن شاء الله تعالى , إذا رحل هؤلاء العلماء الكبار – نسأل الله أن يحفظهم – فكل من يبقى بعدهم ممن هو على عقيدتهم ومنهجهم يكون حداديا وتكفيريا عند ربيع – هذا إذا بقي حيا – أو عند أعوانه ومؤيديه , وكثير منهم كهول وشباب , وقد يؤدي هذا – لا قدر الله – إلى أن تعود الردود والملاسنات بين نجد والحجاز , كما كان الحال قبل قيام هذا العهد المبارك واجتماع الكلمة على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله , مع استبدال كلمة " وهابية " التي كان يرددها الطلبة الحجازيون بكلمة " حدادية " لأن كثيرا من طلاب العلم اليوم في الديار الحجازية هم من مؤيدي ربيع المدخلي, ومعهم أفراد من بلدان عربية أخرى كالعراق وقطر واليمن والجزائر والأردن وغيرها , ومن طلاب الجامعة الإسلامية وبعض مدرسيها , أصبحوا اليوم يرتابون فيما يقرره علماؤنا الكبار في مسائل الإيمان والتكفير , ويرون أن الحق مع ربيع المدخلي فيما يقرره من الإرجاء , وأن تقريرات علمائنا وأئمة الدعوة هي أصول الحدادية التكفيرية , لكنهم من أجل أن يحفظوا مكانتهم هم لا يتكلمون صراحة في علمائنا , لكن هم في قرارة أنفسهم يعتقدون خطأ أقوالهم , وعلى هذا يربيهم ربيع المدخلي , فلا تسأل عن حال طلاب العلم والمشايخ بعد عشرين أو ثلاثين سنة , مع وجود بودار هذا الانشطار المخيف , والله المستعان !
وهذا ليس إرجافا , كلا والله , لكنه إنذار مبكر , قبل ان تستفحل الفتنة وتخرج عن أيدي العلماء والمصلحين .
إنني أدعو إلى الوقوف بحزم أمام هذه الهجمة الشرسة على عقيدة هذه البلاد ,
إن هذه البلاد الطيبة التي قامت على الدعوة التي دعا إليها الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله , وآزره فيها ونصره الإمام محمد بن سعود رحمه الله , ينبغي أن تقف بحزم أمام أي دعوة أو فكرة تهدد عقيدتها وتتهم علماءها وأئمتها وتنصر أقوال علماء السوء الذين حاربوها وحرضوا عليها كابن جرجيس وعثمان بن منصور ومن جرى مجراهم . إن هذه الأقوال التي يروج لها ربيع المدخلي ومن معه لو لم تهدد عقيدتنا ووحدتنا الدينية لوجب القضاء عليها لأنها مذاهب وأقوال باطلة فكيف وقد قسمت الطلاب وفرقتهم وألقت بينهم العداوة والبغضاء على أيدي هؤلاء الذين لا همَّ لهم إلا أن تسلم لهم رياستهم وزعامتهم الدينية ولو حصل في الناس ما حصل .
ولهذا تراهم يختزلون السنة والسلفية في توجهاتهم وجماعتهم, بل في أشخاصهم, والمخالف لهم يلصقون به اللقب المناسب عندهم,
فإن خالفهم في منزلة العمل من الإيمان قالوا " حدادي " ,
وإن خالفهم في العذر بالجهل قالوا " تكفيري "
وإن ربط الصلاة بالإيمان فجعل تركها تركا للإيمان كما عليه أئمة السنة والحديث قالوا " حدادي تكفيري خارجي "
هذا, وعندهم جبهات أخرى مشتعلة مع أقوام آخرين , لكنها لا تعنيني, فأكثر هذه الجبهات فتحها ربيع على أقوام يوافقونه في عقيدته الإرجائية ولكنهم زاحموه على رياسته الدينية فأعلن الحرب وحمل اللواء وفتح الجبهة واشتبك معهم في مواجهات تافهة , ضيعت أوقات الشباب بل أفسدت أخلاقهم , وتحولت ألسنتهم من ألسنة رطبة بذكر الله الى ألسنة حداد والعياذ بالله .
إنها قصة مؤسفة وظاهرة محزنة , ينبغي لأهل السنة أن يأخذوا منها الدروس والعبر إذا أرادوا أن يعيدوا ترتيب أوراقهم من جديد .

تاريخ شبهة المرجئة
اعلم أن هذه الشبهة التي هي المنع من تكفير عابد القبر الجاهل حتى يُبين له وتقام عليه الحجة قد ظهرت في زمن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله , فأخمدها الشيخ برسائله المعروفة , وسيأتي إن شاء الله ذكر بعضها , ثم ظهرت في زمن حفيده الشيخ عبدالرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبداللطيف , وكان الذي تولى كبرها هو داود بن جرجيس , فأطفأها الله على يد أئمة الدعوة في ذلك الوقت , ثم ظهرت في زمن الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن , وتأثر بها بعض طلاب العلم من أهل نجد , فكتب في الرد عليها رسالته المشهورة النافعة ( حكم تكفير المعين ) , ثم ظهرت في زمن الشيخ سليمان بن سحمان فكتب في الرد عليها رسائله وكتبه المعروفة التي طحن فيها هذه الشبهة وأهلها طحنا .
فهذه أبرز أطوار هذه الشبهة , مع أنها لا تزال قائمةً في رؤوس أهل الشبه , يخفونها حينا ويظهرونها حينا .
وفي هذا الوقت العسير على أهل التوحيد والسنة , حيث تكالبت عليهم الخطوب والمحن , ظهرت هذه الشبهة وبُعثت من جديد وجرى الدم في عروقها , على أيدي جماعة ممن ابتلي ببدعة الإرجاء ويقدمون أنفسهم للناس على أنهم سلفيون , وهذا الادعاء للسلفية هو الذي غرر بهم كثيرا من الناس , فظنوا أن ما يقرره هؤلاء من الإرجاء وما يردده هؤلاء من شبهة ابن جرجيس, هو الحق , وأن المخالف لهم تكفيري حدادي خارجي , ولأن ربيعا المدخلي عنده قدرة فائقة في قلب الحقائق وتلبيس الأمور فقد ألبس قول أئمة الدعوة لباس الحدادية التكفيرية , وألبس قول خصومهم لباس السنة والسلفية , ومعه أعوان ينشرون هذه الأباطيل , ومن عارضهم أو خالفهم وَسَمُوه بما تعلموه من شيخهم ربيع , بأنه حدادي تكفيري . يظنون أنهم بهذا الأسلوب يُلجمون أهل الحق ويرهبونهم . فكانت النتيجة على عكس ما قصد ربيع المدخلي وأعوانه , إذ الحقائق بدأت تظهر , وبان للناس ما عند هذا الحزب الجديد من مضادة لما عليه كبار العلماء في بلاد الحرمين الشريفين . ولاسيما عند صدور فتوى سماحة المفتي الشيخ العلامة عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله , حينما سئل عن بعض أقوال ربيع في مسائل الإيمان والتكفير , فأرسل للسائل الأخ الشيخ أبي عاصم الغامدي بعض الفتاوى الصادرة من اللجنة الدائمة في مثل هذه التوجهات الإرجائية التي يدعو إليها ربيع المدخلي .
فلو كان عند هذه الحزب الجديد شيء من الحياء لكف عن التشغيب وإثارة الشبه , ولَرَحِمَ الشبابَ الحائر بين مقالات ربيع المدخلي وأمثاله وبين فتاوى كبار العلماء , فالذي يظهر لي أن هذا الطور هو أصعب أطوار هذه الشبهة , لأن إثارتها جاءت من داخل الصفوف فسببت بلبلة في صفوفنا , ولو أنها جاءت من الخارج لسهل وَأْدُها في مكانها , ومع ذلك أقول بأن هذه الشبهة مهما بلغت من قوة التلبيس وكثرة الرواج فمصيرها إن شاء الله أن تُدفن في الحفرة التي دفنت فيها زمن أئمة الدعوة رحمهم الله .

وهذا بحث كتبته أبين فيه بالأدلة الشرعية أن الواقع في الشرك الأكبر غير معذور بالجهل , استنبطت ذلك من كتاب الله تعالى , ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم , معتمدا في فهم الكتاب والسنة – بعد الله تعالى – على فهم الراسخين في العلم . وسميته : ( لواء السنة المنشور لقمع المجادل عن عباد القبور ) وأنبه إلى أن الآيات القرآنية هي نسخة طبق الأصل من مصحف المدينة النبوية , ولذا تركت ترقيمها لئلا يتشوش البحث بكثرة الأرقام , كما أني تركت الترقيم عند الإحالة إلى الكتب - إلا يسيرا - للسبب نفسه .
والله أسأل أن ينير بصائرنا وأن يصلح بواطننا وظواهرنا . وأن يجعلنا باحثين عن الحق موفقين إلى الهدى مُعانين على السداد . وأن يجعل أعمالنا صالحة , ولوجهه خالصة , ولا يجعل لأحد فيها شيئا ,
وهذا أوان الشروع في المقصود , وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

حالة المشرك ليست حالة جهل محض كما يبينها القرآن الكريم :
إن الغلط دخل على هؤلاء المجادلين عن عباد القبور من حيث ظنوا ان المشرك يمكن أن يكون في حالة جهل محض , وهذا جهل منهم بحقيقة الشرك وطبيعته وتأثيره على صاحبه , فإن الناظر في كتاب الله تعالى يرى أن الله جل وعلا قد وصف المشرك بحالة في غاية البؤس والشقاء . وأن المشرك يعيش في ضلال بعيد قد انسدت عليه طرق الهدى من كل ناحية والعياذ بالله , وهذا جزاء الشرك ودعاء غير الله تعالى .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح كان أبغض
الأشياء إلى الله، وأشدها مقتاً لديه وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرَّم ذبائحهم ومناكحهم، وقطع المولاة بينهم وبين المؤمنين؛ وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، وأن يتخذوهم عبيداً، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقص لعظمة الإلهية، وسواء ظن برب العالمين .
فلم يَجمع على أحد من الوعيد والعقوبةما جَمع على أهل الشرك ،فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده؛ ولهذا أخبر سبحانه أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه ، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً يحبه ويخافه ويرجوه، ويذل له ويخضع.
يجعلون له عِدْلاً في العبادة والمحبة والتعظيم، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً يقولون لآلهتهم وهي في النار: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين } ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السموات والأرض، وإنما ساووهم به بمحبتهم لها وتعظيمهم وعبادتهم إياها كما ترى عليه أكثر أهل الشرك ممن ينتسب إلى الإسلام،
ومن العجبأنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين،
وما ذنبهم إلا أن قالوا إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا
موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً؛ وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبداً، بل حرَّم الله
شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة
فليس لهم من الأمر شيء؛ بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه،
والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع .
فالشرك ملزومٌ لتنقص الرب سبحانه , والتنقصُ لازمٌ له ضرورةً، شاء المشرك أم أبى , ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره ، وأن يُخلِّد صاحبه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقِّص لله سبحانه، وإن زعم أنه معظم له بذلك. انتهى( إغاثة اللهفان ) باختصار .

فهذا شيء من مخازي الشرك والعياذ بالله ,لكن المشرك لا يدرك ذلك بسبب ما هو فيه من الضلال البعيد , ولنقرأ الآيات الكريمات التي تبين لنا حال هذا المشرك والعياذ بالله تعالى :
قال تعالى : (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
قال أهل التفسير : هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك في بعده عن ربه , وبعده عن الهدى , وهلاكه في دينه , كحال من خرَّ من السماء , فتخطفه أي تمزقه الطير في الهُوي , أو هوت به الريح أي ألقت به في مكان سحيق أي بعيد .
فالمشرك قد استحوذت عليه الشياطين فمزقت دينه , فكل شيطان له مزعة من دينه , كما أن الخارَّ من السماء قد مزقته الطير , فكل طائر له مزعة من لحمه .
والمشرك قد جرفه هواه إلى مكان بعيد , كما أن الخار من السماء قد هوت به الريح إلى مكان سحيق .
والمشرك هلاكه محتم – إذا لم يتداركه الله برحمته - كما أن هلاك الخار من السماء محتم .
والمشرك حينما ترك التوحيد والإيمان وسقط في الشرك , فقد ترك أشرف منزلة وأرفع مكان , فكان كمن خر من السماء , التي هي المكان الأرفع والأشرف إلى أسفل سافلين حيث الهلاك المحتم والمصير المظلم .

وقال تعالى : (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
فهذا مثل ضربه الله تعالى لحال المشرك المتردد المتأرجح بين داعي الهدى وداعي الضلالة , فهو في أرض التيه حيران لا يدري بعد أن أضلته الشياطين أين يتجه , وله أصحاب من أهل الهدى يدعونه إلى الهدى , وهو حيران , هل يستجيب لداعي التوحيد أم يمضي مع الشياطين في تلك المهالك .
وهذا حال المشرك عابد القبر , يري المسلمين الموحدين , فيجذبه داعي الهدى لهم , هذا والشياطين قد استهوته في أرض بعيدة , هي أرض الخرافة والشرك . فيبقى في حيرة وقلق بين أهل التوحيد ودعاة الشرك .
قال العلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في " تفسيره " :وهذه حال الناس كلهم, إلا من عصمه الله تعالى, فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي متعارضة, دواعي الرسالة والعقل الصحيح, والفطرة المستقيمة يدعونه إلى الهدى والصعود إلى أعلى عليين.
ودواعي الشيطان, ومن سلك مسلكه, والنفس الأمارة بالسوء, يدعونه إلى الضلال, والنزول إلى أسفل سافلين.
فمن الناس من يكون مع دواعي الهدى, في أموره كلها أو أغلبها.
ومنهم من بالعكس من ذلك.
ومنهم من يتساوى لديه الداعيان, ويتعارض عنده الجاذبان.
وفي هذا الموضع, تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.انتهى

وقال الله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)
قال أهل التفسير : أي لا احد أشد ضلالا , وأعجب حالا , ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب دعاءه , فهو أقصى حد من الضلالة . ( التحرير والتنوير )
قلت : فالمشرك إذن ليس في جهل محض , بل هو في أقصى حد من الضلالة , والعياذ بالله .

وقال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ )
فهذا حال كل مشرك يدعو غير الله , أنه يدعو ما لا يضره وما لا ينفعه , فهو في ضلال بعيد , والعياذ بالله . بل إن ضرر هذا الذي يدعوه هو أقرب من نفعه , فإن ضرره في العقل والبدن والدنيا والآخرة معلوم . ولذا قال تعالى ( لبئس المولي ) أي هذا المعبود ( ولبئس العشير ) أي : القرين الملازم على صحبته . فإن المقصود من القرين الملازم : حصول النفع ودفع الضر . فإذا لم يحصل شيء من هذا, فإنه مذموم ملوم . ( تفسير ابن سعدي )

وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَوَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَوَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)
في هذه الآية الكريمة تصوير لحال المشرك وقد سُدت عليه منافذ الهدى , ومُنع قدرا من قبول الحق والعمل بالتوحيد .
فالمشرك – كما تصوره الآية الكريمة – قد وُضع في عنقه غل غليظ بلغ إلى ذقنه , ويداه مجموعة إلى هذا الغل , فجعل رأسه مرفوعا إلى الأعلى , وهذا هو المقمح . فلا يستطيع أن ينظر أو يلتفت , قد استحكم فيه هذا الغل استحكاما , وهذا الغل هو غل الشرك بالله تعالى . الذي جعله على هذه الهيئة البئيسة , ثم هو لا يستطع الحركة والنجاة فمن أمامه سد ومن خلفه سد . وقد ذهب بصره فلا يرى شيئا .
فهذه حالة المشرك والعياذ بالله , وهي حالة ليس بينها وبين حالة الجهل أدنى مقارنة . وهذا المعنى كثير في القرآن , من ذلك قوله تعالى :
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن بن سعدي في تفسير هذه الآية :
يقول تعالى - مبينا كثرة الغاوين الضالين, المتبعين إبليس اللعين-: " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا " أي: أنشأنا وبثثنا " لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ " صارت البهائم أحسن حالة منهم.
" لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا "أي: لا يصل إليها فقه ولا علم, إلا مجرد قيام الحجة.
" وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا " ما ينفعهم, بل فقدوا منفعتها وفائدتها.
" وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا " سماعا يصل معناه إلى قلوبهم.
" أُولَئِكَ " الذين بهذه الأوصاف القبيحة " كَالْأَنْعَامِ " أي: البهائم, التي فقدت العقول.
وهؤلاء آثروا ما يفنى, على ما يبقى, فسلبوا خاصية العقل.
" بَلْ هُمْ أَضَلُّ " من البهائم, فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له.
ولها أذهان, تدرك بها, مضرتها من منفعتها, فلذلك كانت أحسن حالا منهم.
" وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ " الذين غفلوا عن أنفع الأشياء.
غفلوا عن الإيمان باللّه, وطاعته, وذكره.
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار, لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه, فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود.
فهؤلاء حقيقون, بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها.
فخلقهم للنار, وبأعمال أهلها, يعملون.
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه, وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته, ولم يغفل عن اللّه, فهؤلاء, أهل الجنة, وبأعمال أهل الجنة يعملون . انتهى
وتأمل في قوله رحمه الله, في تفسير " لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا " قال : أي: لا يصل إليها فقه ولا علم, إلا مجرد قيام الحجة.
وهذا حق, فإن الحجة قائمة على من بلغته دعوة الإسلام ولو لم يكن عنده فقه ولا علم . كحال هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام !

أكثر المشركين الذين حكم الله عليهم بالخلود في النار هم من أهل الجهل والتقليد والغفلة :
قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَوَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَمِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَفَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَوَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَقَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَتَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍإِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَوَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ)
فأهل الشرك يعترفون يوم القيامة بأنهم كانوا في ضلال مبين , وقولهم إذ نسويكم برب العالمين , أي في العبادة : المحبة والخوف والرجاء والدعاء والذبح والنذر ..
وإلا فهم مقرون بأن الله هو رب العالمين .
وتأمل في قولهم ( وما أضلنا إلا المجرمون ) فهذا فيه أن مصدر الضلال هم دعاة جهنم من علماء الشرك والخرافة وأمثالهم . وأن طاعة هؤلاء الأتباع لهم في الشرك لم تُخْلِهم من المسؤولية , ولم تكن عذرا لهم في دفع العذاب والنجاة من دخول النار يوم القيامة .
وهذا المعني كثير في القرآن الكريم , حيث يبين الله عز وجل أن التقليد الذي هو إيغال في الجهل ليس عذرا للمشرك يوم القيامة .
ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًاخَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًايَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَاوَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَارَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)
قال الحافظ ابن كثير : قال طاوس : سادتنا : يعني الأشراف . وكبراءنا : يعني العلماء . رواه ابن أبي حاتم .
أي : اتبعنا السادة وهم الأمراء , والكبراء وهم المشيخة , وخالفنا الرسل , واعتقدنا أن عندهم شيئا , وأنهم على شيء , فإذا هم ليسوا على شيء . انتهى
وكذا الشرك الذي طرأ على هذه الأمة , في قرونها المتأخرة , جاء من جهة مشايخ السوء والبدعة والضلالة , ورسخ هذا الشرك وتعزز بسيف السلاطين والأمراء الذين تلبسوا بالشرك وناصروه وشيدوا الأضرحة والقباب ووضعوا عليها السدنة ورصدوا لها الأوقاف ودعوا الناس إلى زيارتها وتعظيمها والتبرك بها , ومن ورائهم علماء الضلالة ومشايخ الخرافة يزينون للناس عبادة هذه الأضرحة بالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة .
فإذا كان يوم القيامة يتبرأ هؤلاء المشركون عباد القبور من الأمراء والعلماء الذين أضلوهم , ويطلبون من الله تعالى أن يُضاعف عليهم العذاب , وأن يلعنهم لعنا كبيرا والعياذ بالله , هذا, ولم تكن طاعة هؤلاء المشركين للعلماء والأمراء عذرا لهم عند الله تعالى في خلاصهم من العذاب . علما بأن أكثر من يطيع العلماء والأمراء هم العوام الجهلة, أهل الغفلة والتقليد .
وهؤلاء السادة والأشراف يحملون يوم القيامة أوزارهم مع أوزار هؤلاء المقلدين الجهلة . كما قال تعالى : (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ)
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن بن سعدي في " تفسيره " :( وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ )أي : من أوزار المقلدين الذين لا علم عندهم إلا ما دعوهم إليه , فيحملون إثم ما دعوهم إليه , وأما الذين يعلمون فكلٌ مستقل بجرمه ؛ لأنه عرف ما عرفوا . انتهى
وقال تعالى : (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)
فتأمل في التفريق بين الضعفاء والمستكبرين , فليس كل المشركين والكفار هم من المعاندين المعارضين , بل أكثرهم من الضعفاء المقلدين , وهم في هذه الآية الكريمة يقرون بالتبعية للمتكبرين , ويطلبون منهم أن يتحملوا عنهم شيئا من عذاب النار, وكأنهم يقولون إننا اتبعناكم وقلدناكم في الدنيا فدخلنا النار بسبب هذه التبعية العمياء , فخففوا عنا شيئا من العذاب , ولم يطلبوا أن يتحملوا عنهم العذاب كله , لأنهم يعلمون أنهم كانوا هم أيضا ظالمين متبعين للهوى في تقليدهم لأولئك المستكبرين , فيرد عليهم الأشراف والسادة بأننا جميعا في النار , فالعذاب الذي يصيبكم يصيبنا , ولو كنا نستطيع الإغناء في هذا الموقف لأغنينا عن أنفسنا .( إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) أي: يقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا، كما قال تعالى: ( قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) .
وقال تعالى : (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ )
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية :وخرجت الخلائق من قبورهم, وظهروا كلهم يوم القيامة لله الواحد القهار; ليحكم بينهم, فيقول الأتباع لقادتهم: إنَّا كنَّا لكم في الدنيا أتباعًا, نأتمر بأمركم, فهل أنتم - اليوم- دافعون عنا من عذاب الله شيئًا كما كنتم تَعِدوننا ؟ فيقول الرؤساء: لو هدانا الله إلى الإيمان لأرشدناكم إليه, ولكنه لم يوفقنا, فضللنا وأضللناكم, يستوي علينا وعليكم الـجَزَع والصبر عليه, فليس لنا مهرب من العذاب ولا منجى . انتهى
قلت : في الآية ما يبين أن الضعفاء كانوا تبعا للمستكبرين في الخير والشر , وهذا حال المقلد الجاهل الأعمى الذي لا يميز بين حق وباطل وبين خير وشر , فإن المستكبرين يعتذرون لهم بأن الله لم يكتب لهم الهداية , ولو أن الله هداهم لهدى هم هؤلاء الضعفاء الجهلة , ما يبين أن الضعفاء قد قلدوا في دينهم هؤلاء المجرمين .
وهل يعني ذلك أن هؤلاء المقلدين الذين لا علم عندهم تسقط عنهم التبعة , ويعذرون بهذا الجهل ؟
والجواب في قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ)
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في " تفسيره " :( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ) أي : وإنما أقاموا على ما هم عليه, تقليدا لإسلافهم, يجادلون بغير علم ولا هدى, وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه , وإنما ذلك لإعراضهم عنه , وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات, لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا, ولهذا قال :( فَهُم مُّعْرِضُونَ) . انتهى
ففي الآية الكريمة دليل على أن المشرك المقلد الجاهل لا يُعذر إذا كان معرضا عن الحق . وهذا حال أكثر أهل الكفر والشرك , والعياذ بالله .
وكل معرض عن الحق – سواء أكان عالما أم جاهلا – فهو متبع لهواه . وهذا هو سبب ضلاله .
قال تعالى : (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)
قال أهل التفسير : هذا مثل ضربه الله تعالى لبيان قبح الشرك , فإن المشرك لا يرضى أن يكون له شريك من مُلْك يمينه , وهو مخلوق مثله , فكيف يرضى أن يكون لله شريك من المخلوقين وهو الخالق سبحانه .
قال الشيخ ابن سعدي في " تفسيره " :وإذا عُلم من هذا المثال أن من اتخذ من دون اللّه شريكا يعبده ويتوكل عليه في أموره، فإنه ليس معه من الحق شيء , فما الذي أوجب له الإقدام على أمر باطل توضح له بطلانه وظهر برهانه ؟
أوجب لهم ذلك اتباع الهوى فلهذا قال :
( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) هويت أنفسهم الناقصة التي ظهر من نقصانها ما تعلق به هواها، أمرا يجزم العقل بفساده والفطر برده بغير علم دلهم عليه ولا برهان قادهم إليه. انتهى
بل دل القرآن الكريم دلالة واضحة صريحة في أن الله تعالى لا يقبل من المشرك يوم القيامة اعتذاره بالغفلة أو التقليد , قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)
قال الإمام ابن القيم في كتاب ( الروح ) :
ذكر سبحانه حكمتين في هذا التعريف والإشهاد ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ )
إحداهما : أن لا يَدَّعوا الغفلة .
الثانية : أن لا يدَعَّوا التقليد .
فالغافل لا شعور له , والمقلد متبع في تقليده لغيره . انتهى

وتدبر في هذا الحوار الجهنمي والعياذ بالله بين ضعفاء الكفار ومستكبريهم , قال تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَوَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
ففي هذا السياق القرآني فوائد :
منها : أن الله عزوجل وصف جميع الكفار بالظلم ؛ الجهال المقلدون والرؤساء المستكبرون . وفي هذا دليل على أن الكافر ظالم ولو كان كفره جهلا وتقليدا .
ومنها : إقرار الرؤساء بأن هؤلاء الضعفاء المقلدين كانوا مجرمين . وفي هذا دليل على أن من اختار الكفر على الإيمان كان مجرما ولو كان جاهلا مقلدا .
ومنها : إقرار الرؤساء بأن هؤلاء الجهال المقلدين بلغتهم الحجة . وحتما أنهم لجهلهم وتقليدهم لم يفهموها , وفي هذا دليل على ان الحجة تقوم على الشخص ولو لم يفهمها . فما يقوله الأئمة في التفريق بين بلوغ الحجة وفهم الحجة حق , وهو ظاهر القرآن كما ترى .
ومنها : إقرار الضعفاء بانهم كانوا ضحية مكر الرؤساء , ولم يكن هذا عذرا لهم في نجاتهم من العذاب , ونحن نقطع بأن أكثر مشركي القبوريين الجهال هم من ضحايا مكر الرؤساء , فهل هذا يكون عذرا لهم ؟

ومن الأدلة البينة في القرآن الكريم على أن جهال المشركين مؤاخذون على شركهم , أن الله تعالى أرسل الرسل إلى أممهم , فكان الذي يعارض ويعاند هم السادة والأشراف أو الملأ كما يسميهم الله في القرآن , كما قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) وقال تعالى : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ومثل ذلك قال في قصة صالح وشعيب عليهما السلام , وهكذا الأمر في كل أمة أن الذي يعارض ويعاند هم الرؤساء , فيتحملون وزر هؤلاء الأتباع يوم القيامة ,كما قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) قال الحافظ ابن كثير: مترفوهاهُمْ أُولُوا النِّعْمَة وَالْحِشْمَة وَالثَّرْوَة وَالرِّيَاسَة. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل عظيم الروم : " أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ‏.‏ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ " أخرجه البخاري .
والأريسيون هؤلاء هم رعايا هرقل النصارى, ومعظمهم من الجهال والعامة والفلاحين , يتحمل هرقل وزرهم يوم القيامة , أما هم فمن سمع بالإسلام منهم وبقي على دينه فكافر مخلد في النار , ومن شك في كفره كفر مثله والعياذ بالله . وكذلك الكفار الجهال في الأمم السابقة كانوا تبعا للملأ , الذين هم الرؤساء , فأوردوهم النار . ومثلهم تماما جهال المشركين من عباد القبور , لهم ملأ رؤساء أضلوهم وزينوا لهم الشرك ودعوهم إلى عبادة الأولياء والصالحين , ونفروهم من التوحيد وأهله وأفهموهم أن الإسلام هو التعلق بالأولياء والصالحين فأطاعوهم وتابعوهم , فكان حالهم كحال جهال المشركين في الأمم السابقة .
ومن أطاع هؤلاء المجرمين من رؤساء أهل الشرك فليس له عذر عند الله تعالى , إذ لم يكن في حالة جهل محض , بل كان في حالة جهل وغفلة وضلال واتباع للهوى وطاعة للسادة والأشراف , وما كان عليه الآباء والأجداد . ولو التفت إلى الحق أدنى التفات – كما قال العلامة ابن سعدي - لعرف ما هو عليه من الضلال .
(وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ)

هذا, وللإمام ابن القيم رحمه الله مطلب عن الكفار من أهل التقليد والجهل , وهو تحقيق نفيس نقله عنه أئمة الدعوة واعتمدوه , وهو في كتابه ( طريق الهجرتين ) حيث قال رحمه الله :
طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصبت له أُولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب .
وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "، فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمنشأ على ما عليه الأبوان.
وصح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم : "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة"، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر .
وأما من لم تبلغه الدعوة( أي لم يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم )فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين.
وقد تقدم الكلام عليهم .
والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاءَ به، فما لم يأْت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل . فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد.
فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم وأنهم يتحاجون في النار وأن الأتباع يقولون: ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ، قَالَ لِكُلِّ ضِعْفٌ وَلِكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) .
ثم فصَّل رحمه الله تفصيلا دقيقا في حال الكفار الجهال , فقال :
لا بد في هذا المقام من تفصيل, به يزول الإشكال، وهو الفرق بين :
1-مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه،
2-ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه،
والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله،
وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة .
الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه .
فالأول يقول : يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي . ( وهذا النوع لا وجود له اليوم , إنما كان في الأمم السابقة أو في العرب قبل الإسلام وهم أهل الفترة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى )
والثاني : راضٍ بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته،
وكلاهما عاجز , وهذا ( أي الراضي بكفره ) لا يجب أن يلحق بالأول ( أي الباحث عن الحقيقة ) لما بينهما من الفرق .
فالأَول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً .
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات في شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض .
فتأمل هذا الموضع، والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول .
هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه .
هذا في أحكام الثواب والعقاب . وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر, فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا, لهم حكم أوليائهم . وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة . انتهى

فإن سأل سائل : وأين يقع عابد القبر من هذا التحقيق ؟
فالجواب : أن الإمام ابن القيم حكم على جهال الكفار بالكفر والهلاك تبعا لرؤسائهم , ولم يستثن من جهال الكفار إلا نوعا واحدا , هم الذين يبحثون عن الحقيقة , وشرح حالتهم بقوله : مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة , يقول : يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي . انتهى
هذا هو الذي لم تقم عليه الحجة من جهال الكفار , ولا أظن مشركا عنده هذا الحب والحرص على معرفة الحق , إنما ينطبق هذا المثال على بعض الأحناف قبل الإسلام أو على بعض اليهود أو النصارى قبل الإسلام أيضا أو قبل أن يسمعوا بالإسلام , ومع ذلك أقول هل تعرفون أو تتصورون قبوريا بهذه الصفة التي ذكرها ابن القيم ؟
هذا لا يمكن أن يكون بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن وظهور هذه الأمة التي هي خير أمة اخرجت للناس .


النظرة القدرية والنظرة الشرعية إلى هؤلاء المشركين :
قال الله عز وجل : (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ)
قال الحافظ ابن كثير :يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته : ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو .
( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) أي: اعف عنهم واصفح، واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم .
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى )
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) أي: بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . انتهى
فلا اعتراض على حكمة الله تعالى في إضلال أكثر الخلق عن الحق .
وهو كما قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
فمن عذر الكفار والمشركين بالجهل فقد دخلت عليه الشبهة التي دخلت على القدرية قديما , حيث نفت القدرية مشيئة الله تعالى وخلقه للمعاصي , خشية أن يُنسب الظلم إلى رب العالمين , حيث قالوا : كيف تكون هذه المعاصي قد شاءها الله وخلقها في بني آدم ثم يعذبهم عليها . وغفلوا عن حكمة الله تعالى في وجود هذه المعاصي وأن الله تعالى شاءها وخلقها , وعلم بها وكتبها قبل أن يخلق الخلق , ولم يجبرهم عليها , بل جعل لكل مخلوق مشيئة وإرادة , وهذه الأعمال التي يعملونها من خير وشر تنسب إليهم , فهي أعمالهم وعليها يحاسبون . ولله الحجة البالغة سبحانه وتعالى .
وكذلك المشركون القبوريون , شاء الله أن يجعلهم ممن حقت عليه الضلالة , فلا عذر لهم عند الله على عبادة الأولياء والصالحين , فهم من اختار لنفسه عبادة غير الله ودعاء غير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله , هم من صرف العبادة للصالحين والأولياء , فالله لم يجبرهم ولم يظلمهم , وهم محاسبون على هذه الأعمال الشركية . كما أن غيرهم من جهال أهل الملل والطوائف محاسبون على أعمالهم الكفرية والشركية . والتفريق بين جهال عباد القبور وجهال عباد الأصنام وجهال الفرق الباطنية , هو تفريق بين متماثلين , فهل جاء نص عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم يستثني عابد القبر الجاهل من الحكم عليه بالشرك ؟
فإن قيل : قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
قلنا : إذن جهال اليهود وجهال النصارى والبوذيين والوثنيين في أطراف الدنيا وأدغال القارات معذرون , فهم أشد جهلا من هذا القبوري الذي يعيش بين ظهراني المسلمين ويسمع القرآن والحديث . فإن عذرتم هؤلاء خالفتم إجماع المسلمين , وإن لم تعذروهم لزمكم ألا تعذروا عابد القبر إذ لا فرق .
أما الآية الكريمة فقد تحقق الشرط الذي فيها ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , فقامت به الحجة على كل من بلغه الإسلام وبلغه القرآن ,
كما قال تعالى (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ )
ومن يعذر عباد القبور بالجهل مقتضى قوله أن الحجة لم تقم بالنبي صلى الله عليه وسلم , ولا بالقرآن , وهذا قول شنيع نسأل الله العافية ,
ثم إن صاحب هذا القول الشنيع لابد أن يتناقض , حيث يقر ولابد أن الحجة قامت على جهال اليهود والنصارى الذين سمعوا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن , ثم يزعم أن هذه الحجة نفسها لم تقم على جهال المشركين من عباد الأضرحة والقبور .
فإن جيء بشبهة علماء القبوريين المعروفة : إن هذا العابد للقبر يصلي ويصوم ويقول لا إله إلا الله وينتسب للإسلام .
فالجواب عن هذه الشبهة من كتاب الله تعالى .
قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
وقال تعالى – بعد أن ذكر الأنبياء – ( ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )
فالشرك لا يصلح ولا يبقى معه عمل مقبول ولا دين صحيح .
قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)
وقال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)
وقال تعالى : (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )
وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)
والمراد بالظلم في هذه الآية الشرك , كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ففي " الصحيحين "عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) . اللفظ لمسلم .
وقال تعالى : (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ)
قال الشيخ ابن سعدي في " تفسيره " :( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله تعالى .
( فَإِنْ فَعَلْتَ ) بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك ( فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها، وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره. انتهى
وهذا جواب مفصل نافع جدا للشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب عن هذه الشبهة, أنقله بتمامه , حيث قال رحمه الله :اعلم أن لهؤلاء ( القبوريين ) شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها. وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن ( من مشركي العرب الأولين ) لا يشهدون أن لا إله إلا الله ، ويكذبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونهسحرا. ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم. فكيف تجعلوننا مثل أولئك.
فالجواب أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج. ولما لم ينقد أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج، أنزل الله في حقهم ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع،وحل دمه وماله كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقا، وأنه يستحق ما ذكر، زالت الشبهة. وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الإحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
ويقال أيضا: إن كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدقبذلك كله لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا. فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأمور كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل. ويقال أيضا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون.
فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل: هذا هو المطلوب،إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف، أو صحابيَاَ، أو نبيا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما اعظم شأنه ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )
ويقال أيضا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم، أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين أم تظنون أن الاعتقاد في " تاج " وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في " علي بن أبي طالب " يُكفر.
ويقال أيضا: بنو عبيد القداح ( المعروفون في التاريخ بالفاطميين ! ) الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدونأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ويقال أيضا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب " باب حكم المرتد " وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه. ثم ذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ) أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون. وكذلك الذين قال الله فيهم: ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفرون من المسلمين أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق . انتهى ( كشف الشبهات )


وقال العلامة المحدث الكبير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه ( تطهير الاعتقاد ) :فإن قلتَ : أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام ؟
قلتُ : نعم ! قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا عليهم في الاعتقاد والانقياد والاستعباد، فلا فرق بينهم .
فإن قلتَ : هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندًّا، والالتجاءُ إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركاً !
قلتُ : نعم ! ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ، لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإنَّ تعظيمَهم الأولياء ونحرَهم النحائر لهم شركٌ، والله تعالى يقول: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) أي: لا لغيره، كما يفيدُه تقديم الظرف ، ويقول تعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً )
وقد عرفتَ بما قدَّمناه قريباً أنَّه صلى الله عليه وسلم قد سمَّى الرياءَ شركاً، فكيف بما ذكرناه ؟!
فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعَلَه المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم : نحن لا نشركُ بالله شيئاً، لأنَّ فعلَهم أَكْذبَ قولَهم .
فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه .
قلتُ : قد صرَّح الفقهاء في كتب الفقه في باب الرِّدة أنَّ مَن تكلَّم بكلمة الكفر يَكفر وإن لَم يقصد معناها ( أي ليس قاصدا للكفر, يعرف قبحها ويجهل أنها كفر) , وهذا دالٌّ على أنَّهم ( يعني القبوريين ) لا يعرفون حقيقةَ الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصليَّا، فإنَّ الله تعالى فَرَضَ على عباده إفرادَه بالعبادة ( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ ) ، وإخلاصها له , ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ،
ومَن نادى الله ليلاً ونهاراً وسرًّا وجهاراً وخوفاً وطمعاً، ثمَّ نادى معه غيرَه فقد أشرك في العبادة، فإنَّ الدعاءَ من العبادة، وقد سمَّاه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) بعد قوله :
( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )
فإن قلتَ : فإذا كانوا مشركين وجَب جهادُهم، والسلوك فيهم ما سلَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين .
قلتُ: إلى هذا ذهب طائفةٌ من أئمَّة العلم، فقالوا: يَجب أوَّلاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانةُ أنَّ ما يعتقدونه ينفعُ ويَضر، لا يغني عنهم من الله شيئاً وأنَّهم أمثالهم ، وأنَّ هذا الاعتقاد منهم فيه شركٌ لا يتم الإيمانُ بما جاءت به الرسلُ إلاَّ بتركه والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقاداً وعملاً لله وحده.
وهذا واجبٌ على العلماء، أي : بيان أنَّ ذلك الاعتقاد الذي تفرَّعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شركٌ محرَّم، وأنَّه عينُ ما كان يفعله المشركون لأصنامهم،
فإذا أبان العلماءُ ذلك للأئمَّة والملوك، وَجَبَ على الأئمة والملوك بعثُ دعاة إلى الناس يَدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله، فمَن رجع وأقرَّ حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومَن أصَرَّ فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين . انتهى , وهو كلام في غاية الوضوح , لم يعذر فيه عباد القبور بالجهل ولم يتأثر فيه الإمام الصنعاني رحمه الله بضغوط الواقع مع ما كان فيه من الغربة الشديدة في دينه وعقيدته, وتسمع اليوم في بلاد التوحيد ( المملكة العربية السعودية ) من يلتمس المعاذير لعباد الأضرحة والقبور .

وقال العلامة القاضي الشوكاني رحمه الله في كتابه ( نيل الأوطار ) :
وَكَمْ قَدْ سَرَى عَنْ تَشْيِيدِ أَبْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَحْسِينِهَا مِنْ مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ،
مِنْهَا اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ : وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَمَلْجَأً لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ وَسَأَلُوا مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إلَيْهَا الرِّحَالَ وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا.
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إلَّا فَعَلُوهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَمَعَ هَذَا الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وَالْكُفْرِ الْفَظِيعِ لَا تَجِدُ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ وَيَغَارُ حَمِيَّةً لِلدِّينِ الْحَنِيفِ لَا عَالِمًا وَلَا مُتَعَلِّمًا وَلَا أَمِيرًا وَلَا وَزِيرًا وَلَا مَلِكًا، وَقَدْ تَوَارَدَ إلَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَقْبُورِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَاجِرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : احْلِفْ بِشَيْخِك وَمُعْتَقَدِكَ الْوَلِيِّ الْفُلَانِيِّ تَلَعْثَمَ وَتَلَكَّأَ وَأَبَى وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ . وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ شِرْكِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ،
فَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَيَا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ، أَيُّ رُزْءٍ لِلْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَيُّ بَلَاءٍ لِهَذَا الدِّينِ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ؟ وَأَيُّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ تَعْدِلُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ ؟ وَأَيُّ مُنْكَرٍ يَجِبُ إنْكَارُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ إنْكَارُ هَذَا الشِّرْكِ الْبَيِّنِ وَاجِبًا .
لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
وَلَوْ نَارًا نَفَخْت بِهَا أَضَاءَتْ ... وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ
انْتَهَى .
قلت : هذه هي نظرة أئمة الدين إلى عباد القبور وكفرهم وشركهم بالله تعالى .
لم يقل أحد منهم إنهم جهال لا نكفرهم حتى نقيم عليهم الحجة , إلا أصحاب الشبه وأعداء دعوة التوحيد .


لا فرق بين مشرك قبل الإسلام ومشرك بعد الإسلام :
إذا كان عابد القبر المشرك يُعذر بجهله فأولى منه بالعذر بالجهل المشرك العربي الجاهل قبل الإسلام .
فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام والأوثان , وكانوا كما وصفهم الله تعالى في ضلال مبين .
قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)
فهؤلاء مشركون أميون لم يُبعث فيهم نبي ولم ينزل عليهم كتاب , ماتوا على الشرك قبل الإسلام فكانوا في النار . والمشركون الذين بُعث فيهم نبي وأنزل عليهم كتاب وعاشوا في ديار الإسلام معذرون بالجهل !
هذا من أفسد الفروق وأبطل التقاسيم على وجه الأرض .
وقد يقول قائل : إذا كان الله تعالى لا يعذب أحدا من بني آدم حتى تقام عليه الحجة الرسالية , ( أي الحجة بإرسال الرسل ) , كما قال تعالى : (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)
فأين هي الحجة التي قامت على هؤلاء العرب الأميين قبل الإسلام ؟
فالجواب : أن هذه الحجة قد اشار الله إليها في قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَإِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِوَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
قال الحافظ ابن كثير : يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد مَن بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها : أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال : ( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان وهي « لا إله إلا الله » أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم، عليه السلام، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي: إليها .
وقال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها. ورُوي نحوه عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: كلمة الإسلام. وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة . انتهى
فكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) كانت باقية في العرب , وفيهم من دان اللهَ بها , منهم : زيد بن عمرو بن نفيل العدوي – والد الصحابي الجليل سعيد بن زيد , أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الل عنه –
قال الحافظ ابن كثير في ( البداية والنهاية 316/3 ) :
وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ تَرَكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَفَارَقَ دِينَهُمْ وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ .
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالَّذِي نَفْسُ زَيْدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحِلَتِهِ .
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَزَادَ وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ،وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا ادْفَعْهَا إِلَيَّ أَكْفُلْهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَخُذْهَا، وَإِنْ شِئْتَ فَادْفَعْهَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَىَّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ . انتهى
فقصة زيد بن عمرو رضي الله عنه , دليل على دين إبراهيم لم يزل في العرب , وأن التوحيد لا يتعذر على الشخص منهم أن يعرفه , لكنهم آثروا الشرك وعبادة الأصنام , وقلد الأبناء فيها الآباء والاجداد .
وكان رئيس قبيلة خزاعة عمرو بن لحي هو الذي أدخل الشرك على العرب , وكانوا قبله على دين أبيهم إسماعيل عليه السلام .
فحجة الله قائمة على عرب الجاهلية بما بقي فيهم من بصيص التوحيد من دين إبراهيم عليه السلام .
ثم يأتي من يزعم ان حجة الله ليست قائمة على جهال القبوريين , في أمة مسلمة بُعث فيه النبي وأنزل فيها القرآن وهي تصلي وتسجد لله , والقرآن يتلى في مساجدها صباح مساء .
ومن الأدلة على أن التوحيد كان معروفا عند العرب الجاهليين انهم كانوا يخلصون الدعاء لله في حالة الشدة , كما قال تعالى : (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)
فهذا إقرار منهم أن أصنامهم لا تنفعهم في مثل هذه الحالة , وأن عبادتهم لها هو اتباع للهوى .
والعجب أن بعض العلماء ذكر أن جماعة من عباد القبور ركبوا البحر فلما غشيهم الموج أخذوا يستغيثون بالشيخ عبدالقادر !
ولهذا نص الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, في ( القواعد الأربع ) على أن شرك أهل زماننا أغلظ من شرك الأولين ؛ لأن الأولين كانوا يشركون في حالة الرخاء ويخلصون في حالة الشدة , كما جاء في القرآن , أما أهل زماننا فشركهم دائم في الرخاء وفي الشدة . ومثله ذكر في ( كشف الشبهات ) وزاد عليه بأن مشركي العرب الأولين كانوا أصح عقولا وأخف شركا من مشركي هذا الزمان , وبيَّن علةَ ذلك .
وقال الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله: وأما مشركوا أهل هذه الأزمان فإنه لا يشتد شركهم إلا إذا وقعت بهم الشدائد، فإنهم ينسون الله، ولا يدعون إلا معبودهم، فشركهم دائم في الرخاء والشدة، وهذا أمر معلوم مشاهد، لا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات. ( الضياء الشارق )
وقال العلامة المحدث الكبير محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله, في رسالته ( تطهير الاعتقاد ) : لقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه , وقال هذه لسيده فلان, يريد صاحب القبر , نصف نهر ابنتي لأني زوجتها وكنت ملكت نصفها فلانا , يريد صاحب القبر .
وهذه النذور بالأموال وجعل قسط منها للقبر , كما يجعلون شيئا من الزرع يسمونه " قلما " في بعض الجهات اليمنية , وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام , وهو داخل تحت قول الله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ) بلا شك ولا ريب . انتهى
فالعجب لا ينقضي حينئذ ممن يعذر صاحب الشرك الأغلظ بالجهل , ولا يعذر به ذاك المشرك الذي يخلص في حالة الشدة , وليس يتوافر له من العلم والهدى ما يتوافر لذاك المشرك شركا مغلظا .
هذا, وليس عند من يعذر صاحب الشرك المغلظ شبهة إلا أنه يصلي ويصوم . . وقد تقدم الجواب عن هذه الشبهة , وأزيد هنا : إن صلاة هذا المشرك وصيامه وتلاوته للقرآن أو سماعه للقرآن أقطع لعذره من ذلك الجاهلي الذي لا يعرف صلاة ولا صياما ولا قرآنا .
فالجاهلي أدخله الله النار على شركه , وهو ليس عنده غير كلمة باقية من دين إبراهيم – عليه السلام - , اقام الله به الحجة عليه , وهذا القبوري المشرك عنده دين نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - كله ولا يكون ذلك حجة عليه ؟


امتثال النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه وتسليمه لحكمه :
إن الله جل وعلا لم يأذن لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه , كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلمعن ‏ ‏أبي هريرة ‏ ‏قال : ‏‏زار النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏قبر أمه فبكى وأبكى من حولهفقال : ‏ " ‏استأذنت ربي في أن أستغفر لهافلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت"
فلم يأذن له رب العالمين بالاستغفار لها , لأنها لم تكن مسلمة ولا موحدة , والاستغفار لا يجوز إلا لأهل التوحيد , فإن الاستغفار نوع من الشفاعة , والشفاعة لا تجوز لمشرك . كما قال تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)
نزلت هذه الآية حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ان يستغفر لعمه أبي طالب الذي توفي على ملة عبدالمطلب , كما في " الصحيحين " عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله عز وجل: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم )وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم بعين القدر إلى أمِّه فرَحِمَها وبكى , ونظر بعين الشرع فالتزم أمر الله تعالى فلم يستغفر لها .
فما بال أقوام اليوم يُبتلى أحدهم بأبٍ مشرك أو أمٍ مشركة أو بقريب مشرك يعبدون الصالحين والأولياء , يهلك أحدهم على هذا العقيدة الوثنية الشركية , والعياذ بالله , فيبقى الولد يستغفر لهذا الوالد المشرك , غير مسلِّم لأمر الله وحكمه كما سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم حين نهاه ربه عن الاستغفار لأمه ولعمه أبي طالب .


أهل الفترة ليسوا مشركين :
فإن قال قائل : أليسوا هؤلاء العرب الجاهليين هم من أهل الفترة , فكيف يعذبون , وقد جاء في النص ان صاحب الفترة لا يُعذب بل يُمتحن يوم القيامة ؟
قيل : ليس كلُ من كان قبل الإسلام هم من أهل الفترة , هذا قول ضعيف , فالمشركون ليسوا من أهل الفترة . بل هم من أهل النار , ودليل ذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه : أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال : " في النار " فلما قفى دعاه فقال : " إن أبي وأباك في النار "
وفي حديثبَنِي الْمُنْتَفِقِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حَيْثُ مَا أَتَيْتَ عَلَى قَبْرِ عَامِرِيٍّ، أَوْ قُرَشِيٍّ مِنْ مُشْرِكٍ قُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ، فَأُبَشِّرُكَ بِمَا يَسُوءُكَ، تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ " وهو حديث طويل جليل تلقاه أئمة الحديث والسنة بالقبول ولم يطعن أحد منهم فيه . ( زاد المعاد 391/3 )
اما صاحب الفترة فهو الذي لم تبلغه دعوة نبي من الأنبياء , وبقي على فطرته , لم يُدنِّس نفسه بالشرك وعبادة غير الله تعالى .
قال النووي رحمه الله, في شرحه على حديث " إن أبي وأباك في النار "
في شرح صحيح مسلم :فِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَةٌ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. انتهى
والعلماء الذين خالفوا دلالة هذا الحديث تعسفوا في الجواب عنه , وهو صحيح ظاهر في المسألة . ويشهد بقوة للقطعة التي ذكرتها من حديث بني المنتفق .


جواب عن شبهة :
قد يكون الدافع لهؤلاء العاذرين في الشرك الأكبر هو عموم البلوى , فإن عبادة القبور والتعلق بأهلها قد تلطخت به غالب بلدان المسلمين , وسقط في عبادتها خلق عظيم من هذه الأمة , فنظر هؤلاء العاذرون إلى هؤلاء الهالكين نظرة رحمة وشفقة فحكموا بإسلامهم , ودافعوا عنهم , وتصدوا لكل من يكفرهم بأنه متشدد وصاحب غلو في التكفير وحدادي وخارجي ..
كما أن بعضهم دافع عن تاركي الصلاة بهذا النظرة القدرية , فقرر أن تارك الصلاة مسلم , إذ لو حكمنا عليه بالكفر لحكمنا على غالب الأمة بالكفر إذ إن أكثر الأمة لا يصلون !
وهؤلاء جهلوا حكمة الله في خلقه , وخالفوا الله تعالى في أمره , فإن لله تعالى حكمة في إضلال أكثر الخلق عن الحق , كما تقدم , فلا اعتراض على حكمته سبحانه وتعالى , وليس لنا من الأمر شيء فنرحم هذا ونشفق على هذا , وقد شاء الله عز وجل هلاكهم والعياذ بالله , كما قال تعالى : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
ونحن يلزمنا أن نطبق حكم الله تعالى في أهل الشرك , كما يلزمنا أن نطبق حكم الله تعالى في تاركي الصلاة , ولا يجوز أن نعطل الحكم الشرعي من أجل الحكم القدري . فإن أول من عطل الحكم الشرعي لأجل الحكم القدري هو إبليس أعاذنا الله منه , حين أمره الله بالسجود لآدم فأبى متحججا بأنه أفضل خلقا من آدم , فكان جزاؤه اللعن والطرد من رحمة الله .
قال تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَوَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)


جواب عن شبهة ثانية :
قد يقول قائل من هؤلاء المجادلين عن المشركين : إن هؤلاء يعني عباد القبور, كثير منهم لا يعلم بضلال ما هم عليه , بل هو ماض في عمله هذا ( الشرك ) ويحسب أنه على خير وأن هذا هو الإسلام .
والجواب : أن هذا هو الضلال بعينه والعياذ بالله , ومعظم أهل الكفر والشرك لا يعلمون بضلال ما هم عليه , فانت حينئذ لا تعذرهم على الجهل , بل تعذرهم على الضلال , وهذه هي الشبهة التي دخلت عليكم أنكم لا تفرقون بين الجاهل والضال , فالجاهل لا يدري ويدري أنه لا يدري , والضال لا يدري ولا يدري أنه لا يدري .
والجاهل إذا عُرض عليه الحق قبله وفرح به لأنه يطلبه أصلا , والضال إذا عُرض عليه الحق رده واستهجنه واستهجن أهله , وعلى هذا عامة القبوريين , عندهم عداء صارخ لدعوة التوحيد , يحاربون دعوة التوحيد التي يسمونها ( الوهابية ) أكثر من محاربة اليهودية والنصرانية , ويتعايشون مع اليهود والنصارى ولا يطيقون أحدا من علماء التوحيد والسنة . والأخبار والقصص في هذا الباب عن عباد القبور , معلومة مشهورة , ثم يزعم مرجئة العصر أن هؤلاء جهال !
قال تعالى مبينا حال هؤلاء الضلال من أهل الشرك :
(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ)
وقال تعالى (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ )
وقال تعالى : ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)


جواب عن شبهة ثالثة :
هذه شبهة سمعتها مرةً من أحد طلاب العلم , كنت أناقشه في مسألة الحكم على عباد القبور, كان هذا قبل سبع سنوات أو أكثر فقال لي : من ثبت عندي إسلامه بيقين فلا أخرجه من الإسلام إلا بيقين .
والجواب عن هذه القاعدة الفاسدة في هذا الموضع بأن يقال له : أثبت أولا أن عباد القبور مسلمون , وقد تقدم في كلام الإمام الصنعاني أنه قال عنهم " لا يعرفون حقيقةَ الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصليَّا " ولم يعذرهم بالجهل . فأين هذا اليقين ؟
ثم إن صاحب هذه القاعدة يجادل عن عباد القبور بأسلوب داود بن جرجيس الذي كان يدعي أن عباد القبور مسلمون , ثم يجادل العلماء بناءً على هذه الدعوى , في حين أنه لا يسلم له بها , وفي هذا يقول الشيخ العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله :ومن عجيب جهل العراقي( داود بن جرجيس ) أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلا، فإن دعوى العراقي لإسلامعبّاد القبور تحتاج دليلا قاطعا على إسلامهم , فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم،والتفريع ( أي تفريع المنع من التكفير بناء على ثبوت الإسلام ) ليس مشكلا . انتهى ( حكم تكفير المعين )


جواب عن شبهة رابعة :
رأيت بعض الناس يقول في الحكم على عباد القبور : نحن نكفرهم بالنوع لا بالعين , فنقول هم مشركون لكن لا نقول لشخص منهم بعينه إنه مشرك إلا بعد البيان والتعريف وإقامة الحجة .
والجواب عن هذه الشبهة في كتاب الله تعالى , قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) فسماه الله مشركا قبل بلوغ القرآن وقبل العلم وإقامة الحجة القرآنية عليه بعينه .
ثم اعلم أن هذه الشبهة هي التي ألف الشيخ العلامة المحدث إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله رسالته المعروفة ( حكم تكفير المعين ) في الجواب عنها . فهي شبهة قديمة من شبهات القوم , ومما قال فيها :
فإن هذا الجواب ( شبهة تكفير النوع دون العين ) من بعض أجوبة العراقي( داود بن جرجيس ) التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عنذلك وعن مستدلهم فقال : نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف، ومستندنا مارأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد ( ابن عبدالوهاب ) ـ قدس الله روحه ـ على أنه امتنع من تكفير من عبدقبة الكلواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبه، فانظر ترى العجب ثم اسأل اللهالعافية وأن يعافيك من الحور بعد الكور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخمحمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيهورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث، حتى جاء بعض الكلمات التي فيها مافيها، فقال الرجل : ما هذه كيف ذلك ؟ فقال الشيخ : قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوملم تفهم ولم تسأل عنه، فلما جاءت هذه السقطة عرفتها، أنت مثل الذباب لا يقع إلا علىالقذر أو كما قال.( يريد أن ابن جرجيس وأمثاله أعرضوا عن كل كتب ورسائل الشيخ التي فيها تقرير التوحيد ثم وقعوا على هذه الكلمة المتشابهة , ثم قال رحمه الله ):ومسألتنا هذه وهىعبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن مَنْ عبد مع الله غيرهفقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسلوأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمةالدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لايذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قديخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة،أو في مسألة خفية كالصرف والعطف وكيف يُعَرَّفون عُبّاد القبورِ وهم ليسوا بمسلمينولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول : ( ولا يدخلونالجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط(( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق(( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبطعمله(إلى غير ذلك من الآيات ،ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول، بل أهلالفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمينبالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة، وهذه الشبهةالتي ذكرنا قد وقع مثلها أو دونها لأناس في زمن الشيخ محمد ( ابن عبدالوهاب ) رحمه الله ولكن مَنْوقعت له يراها شبهة ويطلب كشفها، وأما من ذكرنا فإنهم يجعلونها أصلا ويحكمون علىعامة المشركين بالتعريف ويُجَهِّلون من خالفهم ( واليوم يطلقون عليهم لقب الحدادية التكفيرية ) فلا يوقفون للصواب، لأن لهم في ذلكهوى وهو مخالطة المشركين ( أي أنهم يعذرون القبوريين لأن لهم معه مصالح دنيوية ) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، الله أكبر ما أكثرالمنحرفين وهم لا يشعرون . انتهى المراد نقله . وسيأتي إن شاء الله مزيد من الكلام في دفع هذه الشبهة .


التوجيه الصحيح لقاعدة العذر بالجهل :
قاعدة العذر بالجهل قاعدة صحيحة , ولكن ليست مطردة , ولذلك أجمع العلماء على أن من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ( أكل الربا , السرقة , شرب الخمر . . )
وادعى أنه جاهل , لا يُقبل منه إلا إذا كان حديث عهد بإسلام , أو كان يعيش في بادية بعيدة , يمكن أن يجهل مثله هذه الأحكام . وكذا الجهل يكون عذرا في المسائل الخفية التي قد يلتبس فيها الحق بالباطل على كثير من المؤمنين , كمسائل في أبواب الأسماء والصفات , ومسائل في باب القدر , ونحو ذلك .
فقاعدة العذر الجهل تستعمل في نطاق محدود , وليس في جميع الحالات .
أما الشرك الأكبر فلا يدخل في قاعدة العذر بالجهل بالاتفاق , وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المشركين معاملة الجهال , بل كان يعاملهم معاملة الضلال , بعد أن ظهرت دعوته وبلغهم القرآن .
قال الشيخ العلامة عبدالله أبابُطين رحمه الله, في كتابه ( الانتصار لحزب الله الموحدين والرد عن المجادلين عن المشركين ) :فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذور لجهله , فمن هو الذي لا يعذر ؟ ولازم هذه الدعوى أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند.( قال ): ولازم هذا: أنا لا نكفر جهلة اليهود والنصارى, ولا الذين يسجدون الشمس والقمر والأصنام لجهلهم, ولا الذين حرقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بالنار ؛ لأننا نقطع أنهم جهال,وقد أجمع العلماء على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال .انتهى
قلت : ولهذا يظهر ضعف هذا المجادل عن المشركين القبوريين وتناقضه إذا سئل عن جهال الرافضة والدروز والنصيرية وأمثالهم , بل إذا سئل عن جهال اليهود والنصارى .
فإن حكم على جهال هؤلاء بالكفر نقض أصله ( العذر بالجهل في الكفر والشرك الأكبر ) ولزمه أن يلحق بهم عباد القبور وإلا كان متناقضا .
وإن طرد أصله ولم يكفر جهال الرافضة والدروز والنصيرية وأمثالهم خرق إجماع المسلمين , وبان جهله وضلاله للعالمين .
وسأضرب مثالا واقعيا يتبين من خلاله تناقض وتهافت المجادلين عن عباد القبور : لو جاءنا من الهند رجلان كلاهما جاهل , وكلاهما يصلي ويصوم ويتلو القرآن , أحدهما يستغيث برجل صالح من الأموات عند الشدائد , والآخر يعتقد أن القادياني نبي , فهل : 1- ستحكم على الاثنين بأنهما مسلمان وتعذرهما بالجهل ,
2-أم تحكم على الاثنين بالكفر ولا تعذرهما بالجهل .
3- أم تحكم على القادياني بالكفر وتعذر الآخر ,
فإن أخذت بالأول زِغْتَ وافتضحت حيث خالفت إجماع أهل السنة والجماعة على كفر القادينية , وإن أخذت بالثاني خالفت أصلك الذي هو العذر بالجهل في الشرك الأكبر , وإن أخذت بالثالث تناقضت حيث عذرت بالجهل في موضع ولم تعذر به في موضع مثله بل أشد منه , كما قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب :إذا كان مَن رفع رجلا إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف، أو صحابيَاَ، أو نبيا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما اعظم شأنه ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) . انتهى

وقال الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله , في تلخيص رائق لمسألة العذر بالجهل :
حجة الله هي القرآن فمن بلغه القرآن فلا عذر, وليس كل جهل يكون عذرا لصاحبه , فهؤلاء جهال المقلدين لأهل الكفر كفار بإجماع الأمة اللهم إلا من كان منهم عاجزا عن بلوغ الحق ومعرفته لا يتمكن منه بحال مع محبته له وإرادته وطلبه وعدم المرشد إليه , أو من كان حديث عهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة , فهذا الذي ذكر أهل العلم أنه معذور لأن الحجة لم تقم عليه فلا يكفر الشخص المعين حتى يعرف وتقوم عليه الحجة بالبيان ,وأما التمويه والمغالطة من بعض هؤلاء بأن شيخ الإسلام ( ابن تيمية ) توقف في تكفير المعين الجاهل فهو من التلبيس والتمويه على خفافيش البصائر, فإنما المقصود به في مسائل مخصوصة قد يخفى دليلها على بعض الناس , كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورا كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرا ولا يحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع يمنع منه , كالجهل وعدم العلم بنفس النص أو بدلالته , فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها , ولذلك ذكرها ( أي مسألة العذر بالجهل ) في الكلام على بدع أهل الأهواء , وقد نص ( شيخ الإسلام ابن تيمية ) على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة , قال : وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم الكفر, وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله .
وهؤلاء الأغبياء ( ومنهم المرجئة العصرية ) أجملوا القضية وجعلوا كل جهل عذرا ولم يفصلوا , وجعلوا المسائل الظاهرة الجلية وما يعلم من الدين بالضرورة كالمسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس , وكذلك من كان بين أظهر المسلمين كمن نشأ ببادية بعيدة أو كان حديث عهد بالإسلام فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. انتهى ( كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس )
فهذا إمام من أئمة الدعوة قد حرر المسألة وبين مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة , وعلى هذا التحرير والتقرير أئمة الدعوة رحمة الله عليهم , وخالفهم داود بن جرجيس قديما , ففهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية خلاف ما حرره هؤلاء الأئمة الإعلام , ثم ظهر لنا في هذا العصر من يذهب مذهب داود بن جرجيس في هذه المسألة , ويفهم من كلام شيخ الإسلام الفهم الذي شغب به ابن جرجيس قديما , وهؤلاء ليسوا جماعة من الصوفية أو القبورية , بل جماعة ممن ينتسبون إلى السنة , أصبحوا حربا على أهل التوحيد والسنة , ينبزونهم بالحدادية والتكفيرية .
أما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أشار إليه الشيخ سليمان بن سحمان , ففي ( مجموع الفتاوى 54/4 ) , وكان الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, قد نقله أيضا عن شيخ الإسلام ورد به على من أساء الفهم لكلام شيخ الإسلام , وهذا نص كلام شيخ الإسلام حيث قال رحمه الله بعد أن ذكر شيئا من أنواع الردة والكفر عند المتكلمين :وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى يعلمون: أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفَّر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك ؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام . انتهى
وقد قلت في مقدمة هذا البحث إن أئمة الدعوة اعتنوا بكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة ليردوا على شبهة المتعلقين بكلامه , لا ليستدلوا به في أصل المسألة , فهي ثابتة عندهم بالكتاب والسنة والإجماع , يؤكد ذلك أن إمام الدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله , كان أول من حرر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة ليرد على أهل الشبه , كما في كتابه ( مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ), ثم قال, ونعم ما قال :
على أن الذي نعتقده ونَدينُ اللهَ به ونرجو أن يثبتنا عليهأنه لو غلط هو ( يقصد ابن تيمية ) أو أجلَّ منه في هذه المسألة , وهي مسألة ( الحكم على ) المسلم إذا أشرك بالله بعدبلوغ الحجة ( وليس بعد فهمها فانتبه ! ) ، أو المسلم الذي يفضل هذا ( عمل المشركين ) على الموحدين ، أو يزعم أنه على حـق ، أو غيرذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بيَّنه الله ورسوله وبينه علماء الأمة ، أنا نؤمنبما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط , فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسالة .انتهى
فما أروقَ هذا الكلام وما أجملَه وأقطعَه لحجة المجادل عن عباد القبور الذي يزعم ان الشيخ محمد بن عبدالوهاب لا يكفر المشرك عابد القبر حتى تقوم عليه الحجة بزعمه , والشيخ هنا يحكي الإجماع عليها , ولا يحيد عنها ولو غلط من غلط من العلماء فيها , حتى ولو كان الذي غلط فيها ابن تيمية أو من هو أجل منه , ما يُثبت أن المسألة قطعية عند الشيخ ليست اجتهادية يعذر فيها المخالف . وعلى هذا أئمة الدعوة , يُغلِّظون على المخالف في هذه المسألة , بل يمنعون من الصلاة خلف من لا يكفر عابد القبر , وهذا يبين أنه مبتدع عندهم . ودونك فتواهم في هذه المسألة , كما في الدرر السنية ( 409/4 ), قال جامعها رحمه الله :
وأجاب الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم: ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان : لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية والقبوريين أو يشك في كفرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذكروا ( أي هؤلاء العلماء الثلاثة ) نحواً مما تقدم من كلام الشيخ عبد اللطيف ( في مسألة الصلاة خلف الجهمي ) ، ثم قالوا :وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم من شم رائحة الإيمان؛ وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله، في غير موضع : أن نفي التكفير بالمكفرات قوليها وفعليها، فيما يخفى دليله ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النّزاع بين الأمة
وأما دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم، وقصدهم في الملمات والشدائد، فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه، والحكم بأنه من الشرك الأكبر؛ فليس في تكفيرهم، وتكفير الجهمية قولان . وأما الإباضية في هذه الأزمان، فليسوا كفرقة من أسلافهم، والذي بلغنا أنهم على دين عباد القبور، وانتحلوا أموراً كفرية لا يتسع ذكرها هنا، ومن كان بهذه المثابة، فلا شك في كفره؛فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب في عقله ودينه, ولا تصح ( أي الصلاة ) خلف من لا يرى كفر هؤلاء الملاحدة، أو يشك في كفرهم . انتهى


مذهب شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في هذه المسألة
قد بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله مذهبه في هذه المسألة في أكثر من رسالة له , منها رسالتهإلى الأخوين: عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم،حيث قال رحمه الله :سلام عليكم ورحمة الله.
وبعد، ما ذكرتموه من قول الشيخ ( ابن تيمية ) : كل من جحد كذا وكذا، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة أم لا ؟ فهذا من العجب العجاب . كيف تشكون في هذا وقد وضحته لكم مرارًا ؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرّف. وأما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه،فإن حجة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة.
ولكن أصل الإشكال: أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة ؛ فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله، مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) . انتهى المراد
( مؤلفات الشيخ – الجزء الرابع – المسألة الثالثة )
فهذا مذهب الشيخ رحمه الله في جميع كتبه ورسائله :" حجة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة ", وبدرت منه كلمة في إحدى رسائله فُهم منها أنه لا يكفر جهال عباد القبور , وكلمة أخرى فُهم منها أنه يتوقف في تكفيرهم , طار بها داود بن جرجيس وصار يُشغِّب بها على أئمة الدعوة , فأجابوه عن تين الكلمتين وبينوا وجهها وأنها لا تمثل مذهب الشيخ في هذا المسألة , وعرضوا له أقوال الشيخ الصريحة في هذه المسألة , كقوله السابق , لكن صاحب الهوى لو أقمت له ألف دليل فلن يقبل إلا ما وافق هواه , ثم ظهر في هذا الوقت ربيع المدخلي في أناس آخرين , تلقفوا هذه الكلمات المتشابهات لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, وغيره , فسلكوا مسلك ابن جرجيس في التشغيب بها , ضاربين عرض الحائط بكل ما قاله أئمة الدعوة في بيان مذهب الشيخ, ومأخذ تلك الكلمات , ويلزم على هذا الذي يقول به ربيع المدخلي ومن معه أن يكون أئمة الدعوة من الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمة الله عليهم – مخطئين في هذه المسالة العقدية , وأن الصواب فيها مع المناوئين لهم والمعادين لدعوتهم . وأن ما كان يفهمه ابن جرجيس من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة هو الصواب دون ما كان يفهمه أئمة الدعوة .
ونحن لا نعلق الحق بالأفراد , لكن الذي نحسبه ونجزم به أن أئمة الدعوة من الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب إلى أبنائه وأحفاده, ومن كان معهم أو وافقهم من العلماء, كانوا هم الطائفة المنصورة, وهذا شيء يجزم به كل صاحب سنة, وأن أصحاب البدع هم من ناوأهم وحاربهم وعاداهم , كابن جرجيس وأمثاله ,
فمن الذي قلب المعادلة اليوم وجعل أقوال الطائفة المنصورة أقوال الحدادية التكفيرية, وجعل أقوال ابن جرجيس وعثمان بن منصور ومن لفَّ لفهم أقوال أهل السنة السلفيين ؟
إنها جناية يرتكبها ربيع المدخلي ومن معه من المرجئة في وضح النهار,
وأكثر الناس عنها غافلون , فإنا لله وإنا إليه راجعون !
ولم يكتف ربيع بهذا, بل ذهب يحتج بكلام للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن وبكلام للشيخ سليمان بن سحمان يؤيد به مذهبه الباطل في إعذار المشركين الجهال , وهؤلاء الأئمة ومن كان معهم في عصرهم على عقيدتهم يمنعون من الصلاة خلف من يقول بقول ربيع المدخلي , فاعجب لهذا التلبيس !
وكنت عازما أن أجيب عن الأقوال المتشابهة التي ينقلها هذا الرجل وأشباهه , بيد أنني لا أرى حاجة إلى ذلك بعد هذا البيان الكافي والتوضيح الشافي من هؤلاء الأئمة , والحمد لله رب العالمين ,
وهنا كلمة جميلة ومفيدة قالها الشيخ العلامة المحدث إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله في رسالته المفيدة ( حكم تكفير المعين ) حيث قال: ولا نقول إلا كما قال مشايخنا الشيخ محمد ( ابن عبدالوهاب ) في إفادة المستفيد , وحفيده ( الشيخ عبدالرحمن بن حسن ) في رده علىالعراقي ( داود بن جرجيس ) وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أنالمرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر وهو ما كانعليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك، فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرالا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه، هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعضمصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى
وأعود مذكرا ومنبها ومحذرا أن الخطر عند هؤلاء المرجئة ليس في مخالفتهم في الحكم على عابد القبر فحسب , بل في تصنيف أصحاب القول المخالف لهم, الذي عليه أئمة الدعوة النجدية بأنه قول الحدادية التكفيرية , اللهم هل بلغت , اللهم فاشهد !

الخاتمة :
قد تبين فيما سبق عرضه من آيات القرآن الكريم أن المشرك الذي يدعو غير الله ويذبح لغير الله , ليس عنده جهل فحسب , بل عنده سفه وضلال واتباع للهوى وتنقص لرب العالمين . فإذا كان الشارع الحكيم يعذر بالجهل أحيانا , فهو لا يعذر على السفه والضلال واتباع الهوى وتقليد الأسلاف وطاعة السادة والأشراف والإعراض عن الهدى وتنقص رب العالمين وعبادة الشيطان .
قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌوَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌوَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)
وفي هذا دليل على أن العقل يدرك قباحة الشرك , لكن أنى لهذا العقل ان يتحرك وهو مكبل بأغلال الهوى , ومقيد بقيود التعصب لما عليه الآباء والأجداد والأشياخ .
حقا إن المشرك قد سفه نفسه بعبادة الشيطان , كما قال تعالى : (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) , فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) . ( الحافظ ابن كثير )
هذا, ولم يفرق رب العزة سبحانه, في هذا السفه بين مشرك جاهلي , ومشرك قبوري .فكلاهما قد رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام . ذاك عبد الحجر , وهذا عبد القبر .
بل إن شرار الخلق عند الله يوم القيامة هؤلاء الذين يتخذون القبور مساجد , كما في الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " متفق عليه .
وعباد القبور , بنوا المساجد على قبور الصالحين , أو دفنوا الصالحين في المساجد , واتخذوا تلك القبور أندادا من دون الله , في الحب والخشية والتعظيم والحلف والدعاء والذبح والنذر .. وهذه هي فتنة الشرك التي هي أعظم من فتنة التصوير . فما فعله القبوريون هو عين ما فعله اليهود والنصارى , وإذا كانت التصاوير وسيلة إلى الشرك , فإن القبوريين قد وصلوا إلى الغاية الذي هو الشرك من غير وسيلة التصوير, فدفنوا الصالحين في المساجد وعبدوهم من دون الله .
فيصدق عليهم أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة والعياذ بالله , فيا جهالة وغباوة وصفاقة من يقول عن شرار الخلق إنهم مسلمون !

إن عباد القبور هؤلاء حالهم كما قال الله تعالى :
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)


كتبه : عبدالحميد بن خليوي الجهني
ينبع – السعودية
الاثنين 24 رمضان 1435هـ

12d8c7a34f47c2e9d3==