المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كشف الخفاء عن مسألة محدثة استقوى بها الإرجاء للشيخ أبي مالك عبدالحميد بن خليوي الجهني


كيف حالك ؟

متبع السنة
07-03-2014, 06:43 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

كشف الخفاء عن مسألة محدثة استقوى بها الإرجاء



الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ,

أما بعد :

فإن من غربة السنة في هذا الزمن المتأخر أن بعض المسائل التي أجمع عليها السلف الصالح من الصحابة والتابعين , صار الخلاف فيها خلافا معتبرا , بل صار القول المخالف لإجماع السلف هو القول الراجح عند بعض من ينتسب إلى السنة , وأصبح من يدعو إلى إحياء السنن وفقه الصحابة رضي الله عنهم, وطرح الأقوال المخالفة لأقوالهم, غريبا , كأنه جاء ببدعة أو دعا إلى ضلالة , وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

وكما تسلط المتكلمون المبتدعة من عهد قديم على مسائل العقيدة فثبتوا مسائلهم المبتدَعة في الكتب والرسائل حتى نَسي غالب الناس أنها مسائل محدثة ليست من علوم الصحابة رضي الله عنهم , فصارت أقوال أهل البدع أقوال معتبرة وتساق لها الأدلة بل تُرجح على أقوال السلف , وتسلطوا على علم أصول الفقه فأدخلوا فيه كثيرا من مسائل علم الكلام المذموم , ومع ذلك فإن كتب هؤلاء المتكلمين في أصول الفقه هي العمدة عند أكثر الناس منذ المائة الثالثة , وتسلطوا على علوم الحديث فأدخلوا شيئا من مسائلهم الكلامية المبتدعة , كقولهم إن خبر الآحاد يفيد الظن – كذا بإطلاق – وهذا هو الأصل الذي ألغى عندهم الاحتجاج بالسنة النبوية في مسائل العقيدة , وقد اشتدت الغربة في بعض الأزمنة حتى صارت أقوال السلف جرما, يعاقب عليها بالسجن والجلد وربما بالقتل , كما سُجن شيخ الإسلام ابن تيمية من أجل اعتقاده السلفي , وسُجن معه لهذا السبب تلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما . ولما ظهر الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ودعا الناس إلى أصل الإسلام وأساسه وقاعدته , دعا الناس إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى , عارضه أكثر الخلق , وفيهم كثير من العلماء , وهكذا كلما اشتدت الغربة, اشتد بُعْدُ الناس عن علوم الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة , وأضحت مذاهب السلف غريبة منكرة عند كثير من المنتسبين إلى العلم .



هذا, ومن المسائل المحدثة التي ليست من أقوال الصحابة ولا التابعين , وراجت رواجا كبيرا عند المتأخرين : الحكم على تارك الصلاة بأنه مسلم , ذهب إلى هذا عدد قليل من علماء القرن الثالث , ولم يصح هذا القول عن أحد من علماء القرن الثاني , ثم شاع الخلاف وانتشر , حين شاعت بدعة الإرجاء وانتشرت في صفوف الفقهاء والمؤلفين بعد القرون المفضلة .

ولا أحد ينكر أن أكثر المصنفين في الفقه والخلاف بعد القرن الثالث هم على العقيدة الأشعرية أو العقيدة الماتريدية , وهؤلاء مرجئة في باب الإيمان , لا يرون الإعمال داخلة فيه , وعليه فتارك الصلاة ليس كافرا عندهم , وهؤلاء هم الذين أشاعوا الخلاف في هذه المسألة وأعطوه زخما واعتبارا , حتى صارت هذه المسألة من مسائل الفقه الإسلامي , يبحثها الفقهاء في مصنفاتهم , وتعرض أدلة الفريقين ويرجح بين القولين , ولشهرة هذا القول عند أتباع المذاهب الفقهية نسبوه إلى الجمهور! ونسي أغلب الناس أو تناسى أن هذه المسألة فيها إجماع سلفي , يجب الرجوع فيها إلى الإجماع الأول , لكن المرجئة لم ترفع رأسا لهذا الإجماع , لغاية في نفسها , وجلبت عليه شبهات من أدلة شرعية , استدلوا بها على أن تارك الصلاة ليس كافرا , ونسبوا القول بعدم التكفير إلى مالك والشافعي – ولم يثبت عنهما كما سيأتي إن شاء الله تعالى - حتى صدَّق أكثر الناس أن المسألة فيها خلاف معتبر .



وعند النظر والتدقيق في هذا الخلاف, نجد أن المرجئة المعاصرة القائلين بأن تارك أعمال الجوارح لا يكفر, قد استقوت بهذا الخلاف أيما استقواء , وشغبت به على مذهب السلف في باب الإيمان , فتبين أن ما قرره وثبته وأشاعه المرجئة السلف قد أفاد منه الخلف , فالمرجئة القديمة ضربت إجماع السلف الصالح على كفر تارك الصلاة , والمرجئة المعاصرة ضربت إجماع السلف الصالح على كفر تارك العمل , والمسألتان متلازمتان , كما سيأتيك إن شاء الله .



أما الإجماع على كفر تارك الصلاة فقد حكاه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما , والحسن البصري , وأيوب السختياني , وعبدالله بن شقيق العقيلي , وإسحاق بن راهويه , ومحمد بن نصر المروزي , رحمة الله عليهم , هذا فيما وقفت عليه , وواحد من هؤلاء لو حكى الإجماع لكان حجة فكيف بهم جميعا . ودونك البيان :

سأل مجاهد بن جبر جابر بن عبدالله رضي الله عنه : ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

قال : الصلاة . ( تعظيم قدر الصلاة 892 والإبانة الكبرى لابن بطة 672/2وإسناده حسن )

وقال الحسن البصري ت110: بلغني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر .

( الإبانة الكبرى لابن بطة 673/2 بإسناد صحيح )

وقال عبدالله بن شقيق العقيلي - التابعي الجليل ت108- : كان أصحاب محمد - صلى الله عليه و سلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غيرالصلاة .

( الترمذي 2622 وتعظيم قدر الصلاة 948 بإسناد صحيح )

وقال أيوب السختياني – تابعي من أعلام أئمة السلف ت131- : ترك الصلاة كفر , لا يختلف فيه . ( تعظيم قدر الصلاة 978 بإسناد صحيح )

وقال إسحاق بن راهويه – الإمام الحافظ الحجة أحد الأعلام قرين أحمد بن حنبل ت238- : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن تارك الصلاة كافر. وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عَمْداً من غير عُذر حتى يذهب وقتها، كافر .

( تعظيم قدر الصلاة 990 ينقله عنه تلميذه الحافظ ابن نصر مباشرة , قال : سمعت إسحاق وكذا جميع أقوال إسحاق في هذا الكتاب منقولة عنه مباشرة )

وقال الإمام الحافظ الحجة محمد بن نصر المروزي ت294: قد ذكرنا في كتابنا هذا ( تعظيم قدر الصلاة ) ما دل عليه كتاب الله تعالى , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعظيم قدر الصلاة , وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها , والتغليظ بالوعيد على من ضيعها , والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل وعظيم القدر .

ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها , وإخراجه إياه من الملة , وإباحة قتال من امتنع من إقامتها , ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك , ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك . ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم , ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في إكفار تاركها , وإيجاب القتل على من امتنع من إقامتها . انتهى

( تعظيم قدر الصلاة 2/925 )

ففي كلام ابن نصر هذا فوائد :

- الكتاب والسنة على كفر تارك الصلاة .

- الصحابة على وفق الكتاب والسنة في هذه المسألة .

- إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة .

- أن الخلاف في هذه المسألة حدث بعد عصر الصحابة .



فهذا الذي أريد أن يعرفه طالب العلم المتبع للسنة أن هذه المسألة محدثة , لم يعرفها السلف الأولون , أي الحكم على تارك الصلاة بأنه مسلم , شهد بهذا الحافظ محمد بن نصر وهم منقطع النظير في اطلاعه على الأقوال والمذاهب , حتى قال ابن حزم الظاهري في بعض تواليفه : أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن , وأضبطهم لها , وأذكرهم لمعانيها , وأدراهم بصحتها , وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه.

قال : وما نعلم هذه الصفة - بعد الصحابة - أتم منها في محمد بن نصر المروزي , فلو قال قائل : ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر , لما أبعد عن الصدق .

نقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 14/40 ) وقال :

قلت : هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر , ويمكن ادعاء ذلك لمثل أحمد بن حنبل ونظرائه , والله أعلم . اهـ



قلت : فمن كان عنده علم يفوق علم الإمام محمد بن نصر , فليأت به , وهيهات !



وقد جعل الشارع الحكيم الصلاة الركن الأعظم من أعمال الإيمان الظاهرة , عليها يتوقف قبول العمل أو رده , وعيها تتوقف صحة الإعمال وبطلانها , كما جاء في الحديث الشريف : " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته , فإن صلحت فقد أفلح وأنجح , وإن فسدت فقد خاب وخسر " أخرجه الخمسة من حديث أبي هريرة , وهو حديث صحيح .

ودلت النصوص الشرعية على أن الصلاة يتوقف عليها الحكم على الشخص بأنه مسلم أو غير مسلم , كما في قوله صلى الله عليه وسلم لرجل : " ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم ؟ " الحديث , أخرجه مالك في الموطأ , وأحمد والنسائي .

قال الإمام ابن القيم : فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة . وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث : إنك لو كنت مسلما لصليت . وهذا كما تقول : مالك لا تتكلم, ألست بناطق ؟ ومالك لا تتحرك, ألست بحي ؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة لما قال لمن رآه لا يصلي : " ألست برجل مسلم " . انتهى

( كتاب الصلاة وحكم تاركها ص46 )

والأدلة على هذا الحكم كثيرة في الكتاب والسنة , في كون الإسلام لا يثبت مع ترك الصلاة . وكيف يثبت وهي عموده , كما في الحديث الصحيح : " رأس الأمر الإسلام , وعموده الصلاة , وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله "

قال الإمام ابن القيم رحمه الله : وجه الاستدلال به ( على كفر تارك الصلاة ) أنه أخبر ان الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة , فكما تسقط الخيمة بسقوط عمودها , فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة . وقد احتج أحمد بهذا بعينه . انتهى ( السابق ص44)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن شعار المسلمين : الصلاة , ولهذا يُعبر عنهم بها فيقال : اختلف أهل الصلاة , واختلف أهل القبلة . والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون : " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " . وفي " الصحيح " : " من صلى صلاتنا , واستقبل قبلتنا , وأكل ذبيحتنا , فذلك المسلم , له ما لنا , وعليه ما علينا " وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة . انتهى

( المجموع 7/613 )

قلت : لو لم يكن في الباب إلا قوله صلى الله عليه وسلم – فيما أخرجه مسلم - : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " , لكان كافيا ووافيا , وقاطعا للنزاع , فكيف وفي الباب آيات قرآنية وأحاديث نبوية وإجماعات محكية وآثار سلفية , إذا وقف عليها طالب الحق المتبصر أيقن أن ترك الصلاة كفر أكبر مخرج من الملة , لا يشك في ذلك ولا يرتاب .

قال الإمام أبو عبدالله بن بطه – بعد أن ذكر جملة من الأحاديث والآثار في كفر تارك الصلاة - :

فهذه الأخبار والآثار والسنن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة والتابعين كلها تدل العقلاء ومن كان بقلبه أدنى حياء على تكفير تارك الصلاة , وجاحد الفرائض , وإخراجه من الملة . ( الإبانة الكبرى 683-684/2 )



ومن عجائب المرجئة المعاصرة أنها تترك هذا الكلام الواضح الصريح في كفر تارك الصلاة من الإمام ابن بطة , ثم تذهب تحتج بأن الفقهاء نقلوا في مصنفاتهم عن ابن بطة القول بعدم التكفير, هكذا نقلا مجردا من غير زمام ولا خطام . وهكذا فعلوا مع الإمام الشافعي , كما سيأتي إن شاء الله تعالى .



والمقصود أن الخلاف في مسألة ترك الصلاة خلاف حادث ضعيف , لم يكن معروفا في زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم .

ثم ظهر في هذا الوقت فئة تنتسب إلى السلفية تبنت مذهبا إرجائيا مغلفا بغلاف السنة ( كما بينته في مقالتي حوار مباشر بين مرجئ قديم ومرجئ معاصر )

نظر هؤلاء المتلبسون بالإرجاء فرأوا أن الخلاف في تارك الصلاة هو المتنفس الوحيد لهم لإنعاش ما هم عليه من الإرجاء , فأجلبوا بخيلهم ورجلهم على قول السلف , ونصروا قول الخلف في هذه المسألة , ليسلم لهم مذهبهم الإرجائي . وليلبسوا على صغار الطلاب بأن مذهبهم في الإيمان مذهب معتبر ذهب إليه بعض علماء السلف .

وذلك أن السني إذا سلّم للمرجئة بصحة الخلاف في تارك الصلاة , وأنه خلاف واقع بين أئمة السلف , قالوا له :

فمن لا يكفر تارك الصلاة من الأئمة لا يكفر تارك العمل .

وهذا اللازم صحيح . فحينئذ يقع السني في مأزق بسبب تسليمه للمرجئة بصحة الخلاف في حكم تارك الصلاة , فإما أن يرمي هؤلاء العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة بالإرجاء لكونهم لا يكفرون تارك العمل , وحينئذ يصيح به المرجئة صيحتهم المعروفة في التشنيع والتقريع , وأنه يجب احترام الأئمة , ويعقدون له فصلا في ثناء الشافعي على أحمد , وفصلا في ثناء أحمد على الشافعي !

وإما أن يقول بمسألة " جنس العمل " أي : إن العمل المشروط في الإيمان الشرعي يتحقق بأي عمل صالح يعمله المسلم , وهذا قول ضعيف متهافت , لا يقل ضعفا عن القول بإسلام تارك الصلاة , استطالت بسببه المرجئة على أتباع السلف في باب الإيمان .

وصارت المرجئة تتضاحك علي أتباع السلف, في تحديد هذا العمل , وصاروا يتندرون على قول بعض أتباع السلف : مسحة على رأس اليتيم تكفي !

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حينما استعمل هذا المصطلح , ما أراد أن العمل المشروط في الإيمان الشرعي يتحقق بأي عمل صالح – فهو أعلم وأفقه وأجل من أن يذهب هذا المذهب - بل أراد الرد على المرجئة القدامى الذين يجعلون الإيمان في القلب إيمانا كاملا من غير عمل . حيث قال رحمه الله : وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب , وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الإعمال الظاهرة ممتنع , سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءا من الإيمان . انتهى ( المجموع 7/616 )

أما القول بأن السلف أجمعوا على أن ترك العمل كفر , واختلفوا في ترك الصلاة , فهذا عند التحقيق كلام ينقض بعضه بعضا , إذ إن تارك الصلاة هو تارك للعمل , وهل دخلت علينا المرجئة العصرية إلا من هذا الباب , باب التفريق بين الصلاة والعمل , وليت شِعْري ما هو العمل الصالح الذي يكون مقبولا عند الله إذا لم يكن صاحبه من أهل الصلاة ؟

وقد قلت في مقالتي ( حوار مباشر بين مرجئ قديم ومرجئ معاصر ) : ولهذا كان من فقه السلف أن الصلاة هي ملاك العمل , فمن تركها فقد ترك العمل , والأدلة الشرعية في الكتاب والسنة طافحة بتكفير تارك الصلاة . ولا يُعرف عن صحابيواحد القول بخلافها , بل جاء التابعون – وهم أعلم الناس بالصحابة – وحكوا إجماعهمعلى تكفير تارك الصلاة .



والمقصود أن المرجئة استقوت واستطالت على أتباع السلف في باب الإيمان من خلال تسليم هؤلاء لهم بصحة الخلاف المحدث في الإسلام في حكم تارك الصلاة .

بل إن المرجئة العصرية لم تكتف بتصحيح هذا الخلاف , بل ذهبت أبعد من ذلك , حيث صححت مذهب الخلف في أن تارك الصلاة مسلم !

ورجعتْ إلى النصوص الشرعية فأولتها كما فعلت المرجئة قبلهم , ورجعوا إلى الإجماع المحكي عن الصحابة فضعفوه , مع كونه واردا من وجوه مختلفة لا يمكن تضعيفها دفعة واحدة , ثم اخترعوا لهم شبهة من أحاديث الشفاعة , استدلوا بها أولا على أن تارك الصلاة ليس بكافر , ثم تدرجوا فاستدلوا بها على أن تارك العمل ليس كافرا . وهكذا يكون الترتيب عندهم , العمل على أن تارك الصلاة ليس كافرا , فإذا فرغوا من هذه , انتقلوا إلى التي بعدها : تارك العمل ليس كافرا . ومن سلَّم لهم في الأولى, ألزموه بالثانية , فإن نازعهم أوقعوه في التهافت والاضطراب , هذا – باختصار – حقيقة ما يجري بين أتباع السلف والمرجئة في هذا الوقت .



ولأجل ذلك أشاعوا القول بعدم كفر تارك الصلاة ونصروه , حتى أن بعضهم ممن يسير في ركابهم أعلن رجوعه عن القول بكفر تارك الصلاة !

فلما استقر في أذهان كثير من الشباب السلفيين أن تارك الصلاة مسلم , دخل عليهم الإرجاء من أوسع أبوابه , وهم معذرون في ذلك , لأنهم يقولون إذا كان ترك الصلاة ليس كفرا فما بقي من الأعمال من باب أولى .

وليس عند السلفي في باب الإيمان جواب سليم عن هذا الإيراد , لأنه سلّم لهم أن تارك الصلاة ليس كافرا عند بعض أئمة السلف . وهذا سر استطالت المرجئة واستقوائهم على أتباع السلف في باب الإيمان .

ومن عجائب المرجئة المعاصرة أنها قامت بحملة شديدة لإخراج مسألة ترك الصلاة من باب الإرجاء , ووصمت من يُدخل هذه المسألة في باب الإرجاء بأنه حدادي خارجي تكفيري . وجهلت المرجئة أن رب العالمين في كتابه الكريم قد أطلق اسم الإيمان على الصلاة , وذلك في قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي صلاتكم إلى بيت المقدس . كما في " صحيح البخاري " من حديث البراء رضي الله عنه .

قال الإمام الآجُري رحمه الله : من لم يصل فلا إيمان له ولا إسلام , قد سمى اللهفي كتابه الصلاة : إيمانا ، وذلك أن الناس كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، إلى أن حولوا إلى الكعبة , ومات قوم على ذلك ، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قال قوم : يا رسول الله ، فكيف بمن مات من إخواننا ممن كان يصلي إلى بيت المقدس ؟

فأنزل الله( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس .

( الشريعة ص128 )

وكان أئمة الحديث يعقدون الأبواب ويخرجون الأحاديث المتعلقة بترك الصلاة في كتاب الإيمان , كما فعل الإمام مسلم في " صحيحه " والإمام أبو داود في " سننه " والإمام الترمذي في " جامعه " والإمام أبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه " والإمام أبوعوانة في " مستخرجه " .

ثم تأتي المرجئة في هذا العصر تريد الفصل بين الإيمان والصلاة , لترسيخ الإرجاء بين شباب أهل السنة والجماعة .

وخفي على المرجئة أيضا أن الصلاة – من شدة ارتباطها بالإيمان – أنها تقوم مقام الإقرار في صحة الإيمان , فمن عرفناه كافرا ثم رأيناه يصلي حكمنا بإسلامه ولو لم نسمع إقراره بالشهادتين , وهذه خصوصية للصلاة وحدها لا تشاركها فيها الزكاة ولا الصيام ولا الإحرام بالحج , أجمع على ذلك العلماء , حكى هذا الإجماع الإمام إسحاق بن راهويه , واحتج به على كفر تارك الصلاة , بطريق القياس , حيث قال : فمن كان موقع الصلاة من بين سائر الفرائض عنده كذلك أن يصير الكافر بصلاته خارجا من كفره , ولم ير المؤمن بتركه الصلوات عمره كافرا إذا لم يجحد بها , فقد أخطأ وصار ناقضا لقوله بقوله . اهـ ( تعظيم قدر الصلاة رقم 995 )

قلت : وبذلك يكون كفر تارك الصلاة قد دل عليه : الكتاب والسنة والإجماع والقياس .



ولله در السلف ! ما أعظم فقههم وعلمهم , حيث أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل , فكان لابد أن يجمعوا على أن تارك الصلاة كافر , وهو الإجماع الصحيح الثابت عنهم , وإلا تناقضوا بين قولهم في الإيمان , وقولهم في الصلاة . وهذا الذي تسعى إليه المرجئة المعاصرة : إثبات أن السلف اختلفوا في حكم تارك الصلاة لتضرب من خلاله إجماعهم على أن الإيمان قول وعمل لا يصح الإيمان إلا بهما .



فنصيحتي لك أيها السني , إذا قال لك المرجئ المعاصر : ما تقول في تارك الصلاة تهاونا وكسلا ؟

فاعلم أن له قصدا من ذلك , فاقطع عليه طريق التشغيب وقل له :

هو كافر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس . والخلاف في هذه المسألة خلاف محدث لا قيمة لها عندي , وإن ذهب إليه من ذهب من المتأخرين .

فإنك إن سلمت له بصحة هذا الخلاف واعتباره , ردك إلى مذهبه الإرجائي , أو انتزع منك اقرارا بصحة ما هو عليه من الإرجاء . أو أوقعك في التهافت .

فإن قال لك : قد ذهب إلى عدم تكفير تارك الصلاة مالك والشافعي وأحمد في رواية .

فقل له : بيني وبينك الأسانيد , فأين الإسناد عن مالك أوعن الشافعي , وهذه كتب مالك والشافعي ليس فيها شيء من ذلك , وأما الإمام أحمد رحمه الله فهو أبعد الثلاثة عن هذا القول لكثرة الروايات عنه في كفر تارك الصلاة .

و سبحان الله ! أيحكي إسحاق الإجماع ويخالف أحمد !

وأما الشافعي رحمه الله فقد نقل عنه تلميذه المزني – وهو أعلم الناس به – القول بكفر تارك الصلاة .

قال المزني في " المختصر " ص53 : قال الشافعي : "يقال لمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها بلا عذر : لا يصليها غيرك , فإن صليت وإلا استتبناك , فإن تبت وإلا قتلناك كما يكفر فنقول : إن آمنت وإلا قتلناك . وقد قيل يستتاب ثلاثا فإن صلى فيها ، وإلا قتل وذلك حسن إن شاء الله .

قال المزني : قد قال في المرتد : إن لم يتب قتل ولم ينتظر به ثلاثا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) :" من ترك دينه فاضربوا عنقه" وقد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان فله حكمه في قياس قوله لأنه عنده مثله ولا ينتظر به ثلاثا. انتهي

فتأمل في قول المزني " وقد جعل ( الإمام الشافعي ) تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان .. "

فهذا نص مسند صحيح عن الإمام الشافعي رحمه الله , يوافق فيه إجماع الصحابة رضي الله عنهم , ثم هم ينسبون إلى الشافعي القول المحدث , والله المستعان .

فإن قيل : إن محمد بن نصر قد نسب إلى الشافعي القول بعدم التكفير.

فالجواب : أن محمد بن نصر لم يذكر إسناده إلى الشافعي . فإسناده إلى الشافعي مجهول , ولا يترك الشيء المعلوم للشيء المجهول . بل قال الفقهاء " المجهول كالمعدوم "

فإن أبت المرجئة المعاصرة إلا الاعتماد على كلام محمد بن نصر , فيما نسبه إلى الإمام الشافعي , فيقال لهم : هذا الحافظ الطحاوي , معاصر لمحمد بن نصر , وأقرب منه إلى الشافعي , حيث أخذ فقه الشافعي عن خاله المزني تلميذ الشافعي , ينقل في كتابه " شرح مشكل الآثار 205/8 " عن الشافعي القول بكفر تارك الصلاة . وليس ما عزاه ابن نصر بأولى مما عزاه الطحاوي , بل هذا أولى وأقرب , فإن الطحاوي كان شافعيا أول أمره , ثم تحول حنفيا . وهو ينقل قول الشافعي عن المزني صاحب الشافعي .

هذا, ولم يزل أصحاب الشافعي من علماء الحديث على مذهب السلف في هذه المسألة , فهذا الحافظ الكبير أبو عوانة الاسفراييني , صاحب المستخرج على صحيح مسلم , قال عنه الذهبي في " سير أعلام النبلاء " : وكان رحمه الله, أول من أدخل إسفرايين مذهب الشافعي وكتبه , حملها عن الربيع المرادي والمزني . انتهى

عقد أبو عوانة بابا في كتابه " المستخرج على صحيح مسلم 63/1 " في كتاب الإيمان . قال فيه : باب : أفضل الأعمال , والدليل على أن الإيمان قول وعمل , وأن من ترك الصلاة فقد كفر , والدليل على أنها أعلى الأعمال إذ تاركها يصير بتركها كافرا . اهـ

فهذا هو مذهب الشافعي وأصحابه , لخصها أبو عوانة في هذا التبويب الفريد , وهو حتما لا يروق للمرجئة , لأنه ربط بين الإيمان والصلاة . وجعل مسألة ترك الصلاة في كتاب الإيمان .

فإذا كانت المرجئة المعاصرة تأخذ مذهب الشافعي في هذه المسألة من كتب الشافعية الأشعرية فهذا شأنهم , لكن لا يحل لهم أن ينسبوا قولا للشافعي , قد نص الشافعي وأصحابه المتقدمون على خلافه , خصوصا في مسألة متعلقة بالعقيدة , تنسب إلى الشافعي اعتمادا على كتب الأشاعرة . كما صنع الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على شرح مشكل الآثار للطحاوي , حيث عزا الطحاوي القول بتكفير تارك الصلاة إلى الشافعي . فعلق الشيخ شعيب على كلام الطحاوي بان الطحاوي لم يحقق القول عن الشافعي ! ( قلت : فالتحقيق إذن يكون بالنقل عن كتب الشافعي المعروفة أو عن أحد أصحابه المعروفين ) , لكن الشيخ شعيبا لم يذكر شيئا من ذلك , بل ترك عصر الشافعي وترك عصر الطحاوي وقفز قفزة هائلة إلى القرن السابع, حيث عصر النووي , ونقل عنه القول بان الشافعي لا يكفر تارك الصلاة . فإين النووي من الطحاوي ؟

إن الطحاوي يأخذ عن أصحاب الشافعي مباشرة , وكان قد تتلمذ عليهم أولا قبل أن يتحول إلى المذهب الحنفي , فهو حجة في نقل أقوال الشافعي . أما النووي فشيخ المذهب في عصره , ولكن بينه وبين الشافعي أكثر من أربعمائة سنة .

ومن الطريقة المعروفة عند فقهاء المذاهب, أنهم ينسبون المسألة إلى إمام المذهب قياسا على بعض أقواله في مسائل أخرى , ما يسمى عندهم بالتخريج , وأحيانا يقع الخلط بين قول صاحب المذهب, وقول بعض علماء المذهب المقدمين فيه , ما يسمى عندهم بالوجه . وينقل اللاحق عن السابق من غير تحقيق ولا تدقيق , وهذه أشياء معروفة , وعليه فلا نقبل قولا منسوبا إلى إمام من أئمة المسلمين مالم يكن صحيح النسبة إليه .

ومن عجائب المرجئة المعاصرة أنها تنسب إلى الشافعي قولا بإسلام تارك الصلاة , لا يوجد في كتبه , بل نص في مختصر المزني على خلافه , ثم هي في الوقت نفسه تنفي عنه الإجماع الذي نقله في الإيمان , قد عزاه اثنان من أئمة المسلمين , اللآلكائي وابن تيمية إلى كتاب " الأم " فشككت المرجئة المعاصرة في نقل هذين الإمامين السلفيينِ, ثم في الوقت نفسه تقبل نقل الأشاعرة عن الإمام الشافعي في شيء لا يوجد أصلا في كتبه , بل نص على خلافه . بل لو وجد القول المخالف لإجماع الصحابة منسوبا إلى الإمام الشافعي في بعض كتب العلماء السلفيين كابن قدامة وأمثاله , لم يكن ذلك كافيا في نسبته إلى الشافعي , كما هو معروف عند الباحثين . لاسيما في مسألة نص الشافعي على خلافها .

وليعذرني القارئ الكريم في هذا التطويل في تحقيق مذهب الشافعي في هذه المسألة , لأن المرجئة المعاصرة تصر على حشر الإمام الشافعي في صفوفها , وهو الذي حكى الإجماع على أن الإيمان لا يجزئ من غير عمل . فالمرجئة لا تقبل منه هذا الإجماع الذي حكاه وأقره عليه اللآلكائي وابن تيمية , وتنسب إليه قولا لا يصح عنه في أن تارك الصلاة مسلم . فالمرجئة العصرية تقبل ما لها , وإن كان ضعيفا . وتترك ما عليها , وإن كان ثابتا . وهذ هو اتباع الهوى بعينه , نسأل الله العافية .



فهذا ما يخص الشافعي رحمه الله , وأما مالك رحمه الله فهو أبعد من تلميذه الشافعي عن هذا القول المحدث , وقد بحث الباحثون فلم يقف أحد منهم على نص للإمام مالك محفوظ في هذه المسألة , وإنما هو تخريج من بعض أصحابه , ويظهر أنه أمسك عن هذه المسألة فلم يذكرها في كتابه " الموطأ " لأنها لم تكن معروفة في عصره إلا عند المرجئة , فقد سئل عبدالله بن المبارك ( وهو من أجل تلاميذ مالك بن أنس ) إن هؤلاء ( المرجئة ) يقولون : من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به , فهو مؤمن , مستكمل الإيمان ( أو ناقص الإيمان على مذهب المرجئة المعاصرة , ولا فرق بين المذهبين عند التحقيق )

قال عبدالله : لا نقول نحن كما يقول هؤلاء , من ترك الصلاة متعمدا من غير علة , حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر . ( تعظيم قدر الصلاة 981 )

فلو قال قائل إن ابن المبارك يريد بقوله ( نحن ) أي أهل السنة , ومنهم شيخه مالك بن أنس , لكان قولا حسنا مقبولا , تشهد له دلائل كثيرة .

ومن ذلك أن سفيان بن عيينة – قرين مالك بن أنس وصنوه في الإمامة والعلم – سئل عن المرجئة فقال : يَقُولُونَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ ، وَنَحْنُ نَقُولُ الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، وَالْمُرْجِئَةُ أَوْجَبُوا الْجَنَّةَ لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُصِرًّا بِقَلْبِهِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ ، وَسَمُّوا تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَنْبًا بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِ الْمَحَارِمِ وَلَيْسَ بِسَوَاءٍ لأَنَّ رُكُوبَ الْمَحَارِمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلالٍ مَعْصِيَةٌ ، وَتَرْكُ الْفَرَائِضِ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ وَلا عُذْرٍ هُوَ كُفْرٌ . .

( السنة لعبدالله بن أحمد 347-348/1 )

ففي كلام سفيان بن عيينة : أن القول بإسلام تارك الفرائض هو قول المرجئة . ما يؤكد لك أن المبارك يريد بقوله ( نحن ) أي أهل السنة . أفكان مالك بن أنس , وهو الأثري الصرف يقول بقول المرجئة ! تالله إن هذا إلا اختلاق !

والملاحظ أن هذا القول الذي نسبه سفيان للمرجئة هو بعينه قول المرجئة المعاصرة . لتعلم أن القوم يسيرون على خطى الأولين .

ثم إن هذا الذي قاله سفيان رحمه الله فيه رد على المرجئة المعاصرة التى نسبت إلى الزهري أنه لا يكفر تارك الصلاة , وهذا تلميذه سفيان يجعل هذا القول من أقوال المرجئة في عصره .

وقد نظرت في النص الذي احتجوا به عن الزهري , حيث أخرجه عنه محمد بن نصر في (تعظيم قدر الصلاة 1035 ) من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب ( الزهري ) أنه سئل عن الرجل يترك الصلاة ؟ فقال : إن كان إنما تركها أنه ابتدع دينا غير دين الإسلام قتل . وإن كان إنما هو فاسق , ضرب ضربا مبرحا , وسجن .

وهذا النص ليس صريحا في أن الزهري يرى إسلام تارك الصلاة , ولهذا لم يذكر الحافظ ابن نصر الزهري في العلماء الذين يرون إسلام تارك الصلاة . ولا أظن أن القول بإسلام تارك الصلاة كان يدور بخلد الزهري , وهو القائل رحمه الله : " نرى أن الإسلام الكلمة , والإيمان العمل " ( السنة لعبدالله بن أحمد351/1 )

فالذي يجعل الإيمان هو العمل أيمكن أن يجعل تارك الصلاة مؤمنا ؟

بل إن الزهري جعل الإرجاء أضر بدعة على أهل الإسلام , فقد روى عنه الأوزاعي أنه قال : " ما ابتُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه , يعني الإرجاء " ( الإبانة الكبرى 885/2 )



ومهما يكن من شيء , فالعجب من المرجئة المعاصرة حين تترك الكتاب والسنة والإجماع والقياس , ثم تتعلق بأهداب هذا الأثر عن الزهري – وهو من صغار التابعين – على طريقة أهل الزيغ – والعياذ بالله – يتركون المحكم ويتبعون المتشابه . ثم يرمون من يسمونهم بالحدادية بأنهم أهل غلو في الأثار ! ولا أعلم أكثر غلوا في الآثار ممن يقدمها على الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح .

وخلاصة القول في مذهب مالك رحمه الله, أنه ما كان لمثل الإمام مالك أن يخالف النص والإجماع وما كان عليه سلفه من العلماء , وهو الذي روى في كتابه " الموطأ " قول عمر رضي الله عنه : " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " ومثل مالك في علمه وفضله وإمامته , لا يفهم من هذا النص العمري إلا كفر تارك الصلاة . ليس على طريقة المتأخرين الذين ما تركوا في هذا الباب آية أو حديثا أو أثرا إلا حرفوه عن دلالته ومعناه .



وعلى فرض أن أحد العلماء في القرن الثاني أو القرن الثالث خالف , فإن هذا لا يقدح في الإجماع . فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشافعي حكى الإجماع على تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على سائر الصحابة رضى الله عنهم , وذكر أن خلافا حدث من جهة الحسن بن صالح بن حي – أحد العلماء في القرن الثاني - حيث نُقل عنه أنه كان يقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وقيل إن هذا كذب عليه .

قال شيخ الإسلام : ولو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي من الإجماع , فإن الحسن بن صالح لم يكن من التابعين ولا من الصحابة , والشافعي ذكر إجماع الصحابة والتابعين على تقديم أبي بكر , ولو قاله الحسن , فإذا أخطأ واحد من مائة ألف إمام أو أكثر , لم يكن ذلك بمنكر . انتهى ( منهاج السنة 7/286 )

فإذا كان خلاف أحد العلماء المتقدمين لا يقدح في إجماع ينقله الشافعي , فكيف بإجماع ينقله من هو أجل وأفضل من الشافعي .





ثم إن هؤلاء المرجئة إذا ضاقت بهم السبل شغبوا على أتباع السلف بأنهم لا يحترمون العلماء الذين قالوا بإسلام تارك الصلاة , ويتهمونهم بأنهم مرجئة !

وهذه شِنْشِنة نعرفها من أخزم , ولو كان عند القوم مسكة من عقل لعرفوا أن الشخص إذا أخذ بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس الصحيح , لا يجوز امتحانه بفلان وفلان , فهذا ديدن أهل البدع , قال الإمام ابن القيم , رحمه الله :

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فلان

ونحن لو أردنا امتحان هؤلاء المرجئة العصرية لكان في وسعنا أن نطرح عليهم السؤال التالي :

هل من الممكن أن نجد قولا خارجا عن أقوال الصحابة رضي الله عنهم , يكون هذا القول هو القول الراجح في الإسلام ؟

فإن قلتم : نعم . وقعتم في البدعة والضلالة , حيث جهّلتم الصحابة وفضلتم من جاء بعدهم عليهم .

وإن قلتم : لا يمكن أن يكون . فقد رددتم على أنفسكم بأنفسكم .

لكن المرجئة العصرية لما أحست بهذه الورطة ذهبت تجالد بالسيوف على أن مسألة ترك الصلاة ليس فيها إجماع للصحابة , فوقعت في ورطة أخرى حيث حكمت على جابر رضي الله عنه ومن معه من التابعين والأئمة الذين حكوا هذا الإجماع إما بالكذب وإما بالوهم .

وهكذا من يخالف الصواب وما كان عليه الأصحاب رضوان الله عليهم لابد أن يقع في مثل هذه الورطات والتناقضات .



وفي الختام أقول لطلاب العلم من أهل السنة : إن بقيتم تنظرون إلى الخلاف في حكم تارك الصلاة إلى أنه خلاف معتبر , وأن القول بإسلام تارك الصلاة قول سلفي معتبر , فقد أنعشتم الإرجاء , ولم يبق عندكم حجة تدفعون بها صولة الإرجاء التي اجتاحت شبابكم في هذه الأيام , فانتبهوا إلى مقاصد أهل الإرجاء فإنهم لا يبحثون هذه المسألة بحثا فقهيا خالصا كما يفعل كثير من العلماء والمؤلفين , بل المرجئة لها قصد آخر في بحث هذه المسألة , يريدون تصحيح ما هم عليه من الإرجاء من خلال تصحيح وتثبيت هذه المسألة , فإذا سلّم لهم السني بذلك أفرحهم وأنعشهم فاستأسدوا عليه وعلى عقيدته السلفية , أما إذا احتج عليهم بإجماع الصحابة المدعوم بالنصوص ولم يجعل للقول المخالف أي اعتبار عنده , فقد قطع عنهم الحبل الذي يتعلقون بأوصاله , وفصل عنهم الأنبوب الذي يتنفسون من خلاله . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .



كتبه

أبو مالك

عبدالحميد بن خليوي الجهني

ينبع – السعودية

الخميس 28 شعبان 1435هـ

ابو موسى
07-04-2014, 12:21 AM
بحث قيم جزى الله كاتبه خير الجزاء ونفع به ينبع وما حولها من القرى

12d8c7a34f47c2e9d3==