البلوشي
11-27-2013, 01:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، واشهد ان لا اله الا الله رب السموات والارضين ، واشهد ان محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماً دائماً الى يوم الدين.
اما بعد :
فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الامارة والميدان بحضرة الخلق من الامراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في امر البطائحية - يوم السبت تاسع جمادى الاولى سنة خمس - لتشوق الهمم الى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه، فان من كان غائباً عن ذلك قد يسمع بعض اطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره، لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة وظهور زيف من خرج عن ذلك من اهل البدع المضلة والاحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين.
وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق الشيخ احمد بن الرفاعي وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم، ليتبين ما دخلوا فيه من دين الاسلام وما خرجوا فيه عن دين الاسلام، فان ذلك يطول وصفه في هذا الموضع.
وانما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم.
وذلك اني كنت اعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع وهو : انهم وان كانوا منتسبين الى الاسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم التعبد والتاله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد، فيوجد ايضاً في بعضهم من الشرك وغيره من انواع الكفر ومن الغلو والبدع في الاسلام والاعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف بشريعة الاسلام والكذب والتلبيس واظهار المخارق الباطلة واكل اموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل واحوالهم التي يسمونها الاشارات، وتاب منهم جماعة وادب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق مثل ملابسة النار والحيات واظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وان عامة ذلك عن حيل معروفة واسباب مصنوعة، واراد غير مرة منهم قوم اظهار ذلك فلما راوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على ان استرهم فاجبتهم الى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم باني ادخل معكم النار بعد ان نغتسل بما يذهب الحيلة ومن احترق كان مغلوباً فلما راوا الصدق امسكوا عن ذلك.
وحكى ذلك الشيخ انه كان مرة عند بعض امراء التتر بالمشرق وكان له صنم يعبده، قال: فقال لي: " هذا الصنم ياكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى اثر الاكل في الطعام بينا يرى فيه " ، فانكرت ذلك، فقال لي: " ان كان ياكل انت تموت " ، فقلت: " نعم فاقمت عنده الى نصف النهار ولم يظهر في الطعام اثر فاستعظم التتري ذلك واقسم بايمان مغلظة انه كل يوم يرى فيه اثر الاكل لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك ! " ، فقلت لهذا الشيخ: " انا ابين لك سبب ذلك، ذلك التتري كافر مشرك ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الاثر في الطعام، وانت كان معك من نور الاسلام وتاييد الله تعالى ما اوجب انصراف الشيطان عن ان يفعل ذلك بحضورك، وانت وامثالك بالنسبة الى اهل الاسلام الخالص كالتتري بالنسبة الى امثالك، فالتتري وامثاله سود واهل الاسلام المحض بيض، وانتم بلق فيكم سواد وبياض " ، فاعجب هذا المثل من كان حاضراً.
وقلت لهم في مجلس اخر : لما قالوا: " تريد ان نظهر هذه الاشارات ؟ " .
قلت: " ان عملتوها بحضور من ليس من اهل الشان من الاعراب والفلاحين او الاتراك او العامة او جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك، فمن معه ذهب فليات به الى سوق الصرف الى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش من الصفر، لا يذهب الى عند اهل الجهل بذلك " .
فقالوا : لي: " لا نعمل هذا الا ان تكون همتك معنا " .
فقلت: " همتي ليست معكم، بل انا معارض لكم، مانع لكم، لانكم تقصدون بذلك ابطال شريعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم " .
فان كان، فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة، كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مطوقين باغلال الحديد في اعناقهم وهو واتباعه معروفون بامور، وكان يحضر عندي مرات فاخاطبه بالتي هي احسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين ويتخذونه عبادة وديناً، يوهمون به الناس ان هذا لله سر من اسرارهم وانه سيماء اهل الموهبة الالهية السالكين طريقهم - اعني طريق ذلك الشيخ واتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع .
وقلت: " هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك احد من سلف هذه الامة ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم، ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به الى الله تعالى، لان عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء، للحديث المروي في ذلك، وهو ؛ ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتماً من حديد فقال: " ما لي ارى عليك حلية اهل النار " ، وقد وصف الله تعالى اهل النار بان في اعناقهم الاغلال، فالتشبه باهل النار من المنكرات ".
وقال بعض الناس: " قد ثبت في الصحيح عن ابي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في اخره [ احب القيد واكره الغل، القيد ثبات في الدين ] فاذا كان مكروهاً في المنام فكيف في اليقظة " .
فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من كلام او نحواً منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الاصرار على البدعة، وان ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت اكثره لبعد عهدي به.
وذلك ان الامور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها الى الله، ولا اتخاذها طريقاً الى الله وسبباً لان يكون الرجل من اولياء الله واحبائه، ولا اعتقاد ان الله يحبها او يحب اصحابها كذلك او ان اتخاذها يزداد به الرجل خيراً عند الله وقربة اليه، ولا ان يجعل شعاراً للتائبين المريدين وجه الله الذين هم افضل ممن ليس مثلهم.
فهذا اصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به: وهو ان المباحثات انما تكون مباحة اذا جعلت مباحات، فاما اذا اتخذت واجبات او مستحبات، كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام الا ما حرمه الله، ولا دين الا ما شرعه الله.
ولهذا عظم ذم الله في القران لمن شرع ديناً لم ياذن الله به، ولمن حرم ما لم ياذن الله بتحريمه، فاذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات او المحرمات.
ولهذا كانت هذه الامور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح او مكروه او محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه اذا نذر طاعة الله ان يطيعه، بل عليه كفارة يمين اذا لم يفعل عند احمد وغيره، وعند اخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين.
وعهود اهل الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ليس على الرجل ان يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله الا ما كان ديناً وطاعة لله ورسوله في شرع الله.
لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك، ولهذا امرت غير واحد ان يعدل عما اخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة او مشتملة على انواع من البدع الى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الكتاب والسنة.
اذ كان المسلمون متفقين على انه لا يجوز لاحد ان يعتقد او يقول عن عمل انه قربة وطاعة وبر وطريق الى الله واجب او مستحب الا ان يكون مما امر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وذلك يعلم بالادلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الامة انه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز ان يعتقد او يقال انه قربة وطاعة.
فكذلك هم متفقون على انه لا يجوز قصد التقرب به الى الله ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً ولا عمله من الحسنات فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول ولا بارادة وعمل.
وباهمال هذا الاصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء اذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه، بل يقال انه جائز، لا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم ان اتخاذه ديناً بالاعتقاد او الاقتصاد او بهما وبالقول او بالعمل او بهما من اعظم المحرمات واكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي اعظم من المعاصي التي يعلم انها معاصي سيئات.
فصل
فلما نهيتهم عن ذلك اظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الاصرار على الابتداع في الدين واظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الايقاع بهم، وانا اسلك مسلك الرفق والاناة، وانتظر الرجوع والفيئة، واؤخر الخطاب الى ان يحضر ذلك الشيخ المسجد الجامع.
وكان قد كتب الي كتاباً بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار وعتب واثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل اما احاديث موضوعة او اسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الامر الصد عن سبيل الله واكل اموال الناس بالباطل.
فقلت لهم: " الجواب يكون بالخطاب، فان جواب مثل هذا الكتاب لا يتم الا بذلك " .
وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه.
وهؤلاء هم من اهل الاهواء الذين يتعبدون في كثير من الامور باهوائهم لا بما امر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم: { ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }، ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون.
وفيهم شبه قوي من النصارى الذي قال الله تعالى فيهم { يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }.
ولهذا كان السلف يسمون اهل البدع " اهل الاهواء " .
فحملهم هواهم على ان تجمعوا تجمع الاحزاب ودخلوا الى المسجد الجامع مستعدين للحراب بالاحوال التي يعدونها للغلاب.
فلما قضيت صلاة الجمعة ارسلت الى شيخهم لنخاطبه بامر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم الى قصر الامارة، وكانهم اتفقوا مع بعض الاكابر على مطلوبهم، ثم رجعوا الى مسجد الشاغو - على ما ذكر لي - وهم من الصياح والاضطراب على امر من اعجب العجاب، فارسلت اليهم مرة ثانية لاقامة الحجة والمعذرة وطلباً للبيان والتبصرة ورجاء المنفعة والتذكرة.
فعمدوا الى القصر مرة ثانية، وذكر لي انهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والازباد والارعاد واضطراب الرؤوس والاعضاء والتقلب في نهر بردى واظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى وابراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه اليهم من اضلوا من الجهال.
فلما رأى الامير ذلك هاله ذلك المنظر، وسال عنهم، فقيل له: " هم مشتكون ! " .
فقال : " ليدخل بعضهم " .
فدخل شيخهم واظهر من الشكوى علي ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً - لم يبلغني جميعه -
لكن حدثني من كان حاضراً ان الامير قال لهم: " فهذا الذي يقوله من عنده او يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ".
فقالوا: " بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " .
قال: " فاي شيء يقال له " .
قالوا: " نحن لنا احوال وطريق يسلم الينا " .
قال: " فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه " .
قالوا: " نريد ان تشد منا " .
قال: " لا ، ولكن اشد من الحق سواء كان معكم او معه " .
قالوا: " ولا بد من حضوره ؟ " .
قال: " نعم " .
فكرروا ذلك ، فامر باخراجهم .
فارسل الي بعض خواصه - من اهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم - وعرفني بصورة الحال، وانه يريد كشف امر هؤلاء، فلما علمت ذلك القي في قلبي ان ذلك لامر يريده الله من اظهار الدين وكشف حال اهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في اقطار الارضين.
وما احببت البغي عليهم والعدوان ولا ان اسالك معهم الا ابلغ ما يمكن من الاحسان.
فارسلت اليهم من عرفهم بصورة الحال، واني اذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال وكثر فيكم القيل والقال، وان من قعد او قام قدام رماح اهل الايمان فهو الذي اوقع نفسه في الهوان.
فجاء الرسول واخبر انهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الاسرار، واشاروا عليهم بموافقة ما امروا به من اتباع الشريعة والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة، وقال شيخهم الذي يسيح باقطار الارض - كبلاد الترك ومصر وغيرها - : " احوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله "، وانهم نزعوا الاغلال من الاعناق واجابوا الى الوفاق.
ثم ذكر لي انه جاءهم بعض اكابر غلمان المطاع، وذكر انه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته واستنصرته واستهديته وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى القي في قلبي ان ادخل النار عند الحاجة الى ذلك، وانها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وانه تحرق اشباه الصابئة اهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة اعداء ابراهيم امام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين الى من يضاهيهم من نصارى الدهماء.
وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين الى هذا الدين نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والاسماعيلية يخرجون الى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم الى الاشراك، ثم الى جحود الحق تعالى.
ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات.
والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق، كالملحدين من اهل الاتحاد والغالية من اصناف العباد.
فلما اصبحنا، ذهبت للميعاد، وما احببت ان استصحب احداً للاسعاد، لكن ذهب ايضاً بعض من كان حاضراً من الاصحاب، والله هو المسبب لجميع الاسباب.
وبلغني بعد ذلك انهم طافوا على عدد من اكابر الامراء، وقالوا انواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء الذي استحوذوا به على اكثر اهل الارض من الاكابر والرؤساء.
مثل زعمهم ان لهم احوالاً لا يقاومهم فيها احد من الاولياء، وان لهم طريقاً لا يعرفها احد من العلماء، وان شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وانهم يتقدمون على الخلق بهذه الاخبار المنيفة، وان المنكر عليهم ما هو اخذ بالشرع الظاهر غير واصل الى الحقائق والسرائر، وان لهم طريقاً وله طريق، وهم الواصلون الى كنه التحقيق، واشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق.
وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد واستحواذهم على الملوك والامراء والاجناد لخفاء نور الاسلام واستبدال اكثر الناس بالنور الظلام وطموس اثار الرسول في اكثر الامصار ودروس حقيقة الاسلام في دولة التتار لهم في القلوب موقع هائل ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.
قال المخبر : فغدا اولئك الامراء الاكابر وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم امرهم الباهر، وذكر لي انواعاً من الخطاب - والله تعالى اعلم بحقيقة الصواب - والامير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق.
فاعاد الرسول لي مرة ثانية، فبلغه انا في الطريق، وكان كثير من اهل البدع الاضداد كطوائف من المتفقهة والمتفقرة واتباع اهل الاتحاد مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم مجهزين لمن يعينهم في حضورهم.
فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق الى هذا الاجتماع متطلعين الى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الامراء بعض ما ذكروه من الاقوال المشتملة على الافتراء، وقال انهم قالوا: " انك طلبت منهم الامتحان وان يحموا الاطواق ناراً ويلبسوها " .
فقلت : " هذا من البهتان ".
وها انا ذا اصف ما كان . . .
قلت للامير: " نحن لا نستحل ان نامر احداً بان يدخل ناراً، ولا يجوز طاعة من يامر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد افسدوا من امر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم " ، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الامراء، وانهم لبسوا على الامير المعروف بالايدمري وعلى " قفجق " - نائب السلطنة - وعلى غيرهما، وقد لبسوا ايضاً على الملك العادل كتفاً في ملكه وفي حالة ولاية حماه، وعلى امير السلاح اجل امير بديار مصر.
وضاق المجلس عن حكاية جمع تلبيسهم على الايدمري؛
وانهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن احوال بيته الباطنة ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك.
وانهم وعدوه ان يروه رجال الغيب فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج فجعلوا يمشون على جبل المزة، وذاك يرى من بعيد قوماً يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الارض واخذوا منه مالاً كثيراً ثم انكشف له امرهم.
قلت للامير - وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك وهو ممن حدثني بهذه القصة - :
" واما قفجق ؛
فانهم ادخلوا رجلاً في القبر يتكلم واوهموه ان الموتى تتكلم.
واتوا به في مقابر باب الصغير الى رجل زعموا انه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا ؛ [انه طلب منه جملة من المال] ، فقال قفجق : [ الشيخ يكاشف، وهو يعلم ان خزائني ليس فيها هذا كله ] ، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي الصقوه على جلده من جلد الماعز " .
فذكرت للامير هذا - ولهذا قيل لي انه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب اصحاب قفجق اليه كتاباً وهو نائب السلطنة بحماه يخبره بصورة ما جرى -
وذكرت للامير انهم مبتدعون بانواع من البدع مثل الغلال ونحوها، وانا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة.
فذكر الامير حديث البدعة وسالني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما ساذكره.
قلت للامير: " انا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون ان لهم احوالاً يدخلون بها النار وان اهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا هذه الاحوال التي يعجز عنها اهل الشرع فليس لهم ان يعترضوا علينا بل يسلم الينا ما نحن عليه - سواء وافق الشرع او خالفه - وانا قد استخرت الله سبحانه انهم ان دخلوا النار ادخل انا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوباً، وذلك بعد ان نغسل جسومنا بالخل والماء الحار " .
فقال الامير: " ولم ذاك ؟! " .
قلت: " لانهم يطلون اجسامهم بادوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وانا لا اطلي جلدي بشيء، فاذا اغتسلت انا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق " .
فاستعظم الامير هجومي على النار، وقال: " اتقبل ذلك ؟! " .
فقلت له: " نعم، قد استخرت الله في ذلك والقى في قلبي ان افعله، ونحن لا نرى هذا وامثاله ابتداءً، فان خوارق العادات انما تكون لامة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة او حاجة، فالحجة لاقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء اذا اظهروا ما يسمونه اشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون انها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا ان ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من ارواحنا وجسومنا واموالنا، فلنا حينئذ ان نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيد الله به من الايات، وليعلم ان هذا مثل معارضة موسى السحرة لما اظهروا سحرهم ايد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم " .
فجعل الامير يخاطب من حضره من الامراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكانهم كانوا قد اوهموه ان هؤلاء لهم حال على رده.
وسمعته يخاطب الامير الكبير - الذي قدم من مصر الحاج بهادر - وانا جالس بينهما على راس السماط بالتركي، ما فهمته منه انه قال: " اليوم ترى حرباً عظيماً " ، ولعل ذلك كان جواباً لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الاكابر، فجعلوا يطلبون من الامير الاصلاح واطفاء هذه القضية ويترفقون.
فقال الامير: " انما يكون الصلح بعد ظهور الحق " .
وقمنا الى مقعد الامير بزاوية القصر انا وهو و "بهادر" فسمعته يذكر له ايوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على انه كان عند هذا الامير لهم صورة معظمة، وان له فيهم ظناً حسناً والله اعلم بحقيقة الحال، فانه ذكر لي ذلك، وكان الامير احب ان يشهد "بهادر" هذه الواقعة ليتبين له الحق، فانه من اكابر الامراء واقدمهم واعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الان وهو يحب تاليفه واكرامه .
فامر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية - وهم جماعة كثيرون - وقد اظهروا احوالهم الشيطانية من الازباد والارغاء وحركة الرؤوس والاعضاء والطفر والحبو والتقلب ونحو ذلك من الاصوات المنكرات والحركات الخارجة عن العادات المخالفة لما امر به لقمان لابنه في قوله: { واقصد في مشيك واغضض من صوتك }.
فلما جلسنا، وقد حضر خلق عظيم من الامراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الاول المشتكي، وشيخ اخر يسمى نفسه خليفة سيده احمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب! - ولم اكن اعرف ذلك -
وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، واظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة، فاعطيته طلبته ولم اتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي ان هذا خفي على تلبيسه الى ان غاب، وما يكاد يخفى علي تلبيس احد بل ادركه في اول الامر فبقي، - ذلك في نفسي ولم اره قط - الى حين ناظرته، ذكر لي انه ذاك كان اجتمع بي قديماً ! فتعجبت من حسن صنع الله ! انه هتكه في اعظم مشهد يكون، حيث كتم تلبيسه بيني وبينه .
فلما حضروا تكلم منهم شيخ - يقال له حاتم - بكلام مضمون طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وانا مجيبون الى ما طلب من ترك هذه الاغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة.
فقلت: " اما التوبة فمقبولة، قال الله تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } هذه الى جنب هذه، وقال تعالى: { نبئ عبادي اني انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الاليم } " .
فاخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الاطواق، وذكر ان وهب بن منبه انه كان في بني اسرائيل عابد وانه جعله في عنقه طوقاً، في حكاية من حكايات بين اسرائيل لا تثبت.
فقلت: " لهم ليس لنا ان نتعبد في ديننا بشيء من الاسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الامام احمد في مسنده عن جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: [ امتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ] ، وفي مراسيل ابي داود ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض اصحابه شيئاً من كتب اهل الكتاب فقال: [ كفى بقوم ضلالة ان يتبعوا كتاباً غير كتابهم انزل الى نبي غير نبيهم ]، وانزل الله تعالى: { او لم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }، فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا انه انزل عليهما من عند الله اذا خالف شرعنا، وانما علينا ان نتبع ما انزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به الينا رسولنا، كما قال تعالى: { وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً }، فكيف يجوز لنا ان نتبع عباد بني اسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها، وما علينا من عباد بني اسرائيل { تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون }، هات ما في القران وما في الاحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم " . . . وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.
فقال هذا الشيخ منهم - يخاطب الامير - : " نحن نريد ان تجمع لنا القضاة الاربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية " .
فقلت: " له هذا غير مستحب ولا مشروع عند احد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية " . . . ودعوته وقلت: " يا كمال الدين ما تقول في هذا ؟ " .
فقال: " هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة " - او كما قال -
وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.
وقلت: " ليس لاحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم " - واشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فاني تكلمت بكلام بعد عهدي به -
فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته وقال: " نحن لنا احوال وامور باطنة لا يوقف عليها " ، وذكر كلاماً لم اضبط لفظه مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر ، ومضمونه ؛ ان لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وان لنا امراً لا يقف عليه اهل الظاهر فلا ينكرونه علينا .
فقلت له - ورفعت صوتي وغضبت - : " الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق كل هذا مردود الى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لاحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا من المشايخ والفقراء ولا من الملوك والامراء ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " ، وذكرت هذا ونحوه.
فقال - ورفع صوته - : " نحن لنا الاقوال. . . وكذا وكذا " ، وادعى الاحوال الخارقة - كالنار وغيرها - واختصاصهم بها، وانهم يستحقون تسليم الحال اليهم لاجلها .
فقلت - ورفعت صوتي وغضبت - : " انا اخاطب كل احمدي من مشرق الارض الى مغربها، اي شيء فعلوه في النار، فانا اصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب "، وربما قلت: " فعليه لعنة الله، ولكن بعد ان نغسل جسومنا بالخل والماء الحار " .
فسالني الامراء والناس عن ذلك، فقلت: " لان لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من اشياء من دهن الضفادع وقشر النارنج وحجر الطلق " .
فضج الناس بذلك، فاخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: " انا وانت نلف في بارية بعد ان تطلى جسومنا بالكبريت " .
فقلت: " فقم " ، واخذت احرز عليه في القيام الى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: " لا !! حتى تغتسل في الماء الحار والخل ".
فظهر الوهم - على عادتهم - فقال: " من كان يحب الامير فليحضر خشباً - او قال - حزمة حطب " .
فقلت: " هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وادخل اصبعي واصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت اصبعه فعليه لعنة الله - او قلت - فهو مغلوب " .
فلما قلت ذلك تغير وذل، وذكر لي ان وجهه اصفر.
ثم قلت لهم: " ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم، لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على ابطال الشرع، فان الدجال الاكبر يقول للسماء؛ امطري فتمطر، وللارض انبتي فتنبت، وللخربة اخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه ثم يقول له؛ قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله " ، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.
وذكرت قول ابي يزيد البسطامي: " لو رايتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الاوامر والنواهي ".
وذكرت عن يونس بن عبد الاعلى انه قال للشافعي: " اتدري ما قال صاحبنا - يعني الليث بن سعد - ؟ قال؛ لو رايت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به ؟ " ، فقال الشافعي: " لقد قصر الليث لو رايت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به ".
وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الامير في طلب الصلح، وجعلت الح عليه في اظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة، وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم - وهم عدد كثير - والناس يضجون في الميدان ويتكلمون باشياء لا اضبطها.
فذكر بعض الحاضرين ان الناس قالوا ما مضمونه؛ { فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين }، وذكروا ايضاً ان هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وانه الذي قصدك مرة فاعطيته ثلاثين درهماً.
فقلت: " ظهر لي حين اخذ الدراهم وذهب انه ملبس "، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها؛ انه ادخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي ان لحيته مدهونة، وانه دخل الروم واستحوذ عليهم.
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم، وتلبيسهم وتبين للامراء الذين كانوا يشدون منهم انهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج "بهادر" ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا الى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى.
وسالني الامير عما يطلب منهم، فقلت: " متابعة الكتاب والسنة، مثل ان يعتقد انه لا يجب عليه اتباعهما او انه يسوغ لاحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، او انه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمها ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة، التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه ".
فقالوا: " نحن ملتزمون الكتاب والسنة، اتنكر علينا غير الاطواق نحن نخلعها ".
فقلت: " الاطواق، وغير الاطواق ليس المقصود شيئاً معيناً، وانما المقصود ان يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى تعالى الله عليه وسلم ".
فقال الامير: " فاي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة ؟".
فقلت: " حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود ان يلتزموا هذا التزاماً عاماً، ومن خرج عنه ضربت عنقه " - وكرر ذلك واشار بيده الى ناحية الميدان - وكان المقصود ان يكون هذا حكماً عاماً في حق جميع الناس، فان هذا مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة واهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الامور؛ انه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
قلت: " ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما امر الله ورسول،ه فان من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته حتى انهم بالامس بعد ان اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل احدهم يقول في صلب الصلاة؛ يا سيدي احمد شيء لله، وهذا مع انه مبطل للصلاة، فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي امرنا ان نقول فيها: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وهذا قد فعل بالامس بحضرة شيخهم فامر قائل ذلك لما انكر عليه المسلمون بالاستغفار - على عادتهم في صغير الذنوب - ولم يامره باعادة الصلاة ، وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة " .
فقال: " هذا يغلب على احدهم كما يغلب العطاس ! " .
فقلت: " العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك احدهم دفعه، واما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه " .
ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس انهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى ، مثل :
قول احدهم ؛ انا على بطن امراة الامام، وقول الاخر كذا وكذا من الامام، ونحو ذلك من الاقوال الخبيثة، وانهم اذا انكر عليهم المنكر ترك الصلاة، يصلون بالنوبة، وانا اعلم انهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الاوقات على صيحة او بكاء في الصلاة او غيرها.
فلما اظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان باصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون احوالهم ، قلت له: " اهذا موافق للكتاب والسنة؟ " .
فقال: " هذا من الله حال يرد عليهم " .
فقلت: " هذا من الشيطان الرجيم لم يامر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا احبه الله ولا رسوله ".
فقال: " مافي السموات والارض حركة ولا كذا ولا كذا الا بمشيئته وارادته " .
فقلت له: " هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل مافي العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وارادته، وليس ذلك بحجة لاحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن " .
فقال: " فباي شيء تبطل هذه الاحوال ".
فقلت: " بهذه السياط الشرعية " .
فاعجب الامير وضحـك، وقال: " اي والله، بالسياط الشرعية تبطل هذه الاحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب الى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية " .
وامسكت سيف الامير ، وقلت: " هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه ، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله " .
واعاد الامير هذا الكلام.
واخذ بعضهم يقول: " فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن ؟! " .
فقلت: " اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته " ، فافحموا لذلك.
وحقيقة الامر ان من اظهر منكرًا في دار الاسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا الى بدعة واظهرها لم يقر، ولا يقر من اظهر الفجور، وكذلك اهل الذمة لا يقرون على اظهار منكرات دينهم، ومن سواهم .
فان كان مسلمًا اخذ بواجبات الاسلام وترك محرماته، وان لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو اما مرتد واما مشرك واما زنديق ظاهر الزندقة.
وذكرت ذم المبتدعة ، فقلت: " روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن ابيه ابي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: [ ان اصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الامور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ].
وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كان هذه موعظة مودع فماذا تعهد الينا ؟ ، فقال: [ اوصيكم بالسمع والطاعة فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الامور، فان كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ] ، وفي رواية: [ وكل ضلالة في النار ] " .
فقال لي: " البدعة مثل الزنا " ، وروى حديثًا في ذم الزنا .
فقلت: " هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: [ البدعة احب الى ابليس من المعصية، فان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها ] " .
وكان قد قال بعضهم: " نحن نتوب الناس ؟ .
فقلت: " مماذا تتوبونهم ؟ " .
قال: " من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك " .
فقلت: " حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فانهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون اليه، او ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الاسلام يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت ان هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي ".
قلت - مخاطباً للامير والحاضرين - : " اما المعاصي؛ فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر ابن الخطاب؛ ان رجلاً كان يدعى حماراً وكان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان كلما اتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله ما اكثر ما يؤتى به الى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: [ لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله ]، قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنته.
واما المبتدع فمثل ما اخرجا في الصحيحين عن علي بن ابي طالب وعن ابي سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه اثر السجود وقال ما قال، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: [ يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد ]، وفي رواية: [ لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ]، وفي رواية [ شر قتلى تحت اديم السماء خير قتلى من قتلوه ] ".
قلت: " فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة امر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن ابي طالب ومن معه من اصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته "
واظن اني ذكرت قول الشافعي: " لان يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من ان يبتلى من هذه الاهواء " ، فلما ظهر قبح البدع في الاسلام وانها اظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وانهم مبتدعون بدعاً منكرة فيكون حالهم اسوا من حال الزاني والسارق وشارب الخمر.
اخذ شيخهم عبد الله يقول: " يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز " - يعني اتباع احمد بن الرفاعي -
فقلت - منكراً بكلام غليظ - : " ويحك اي شيء هو الجناب العزيز وجناب من خالفه اولى، بالعزبار والرزجنة تريدون ان تبطلوا دين الله ورسوله ".
فقال: " يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم " !
فقلت: " مثل ما احرقني الرافضة، لما قصدت الصعود اليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول اصحابهم؛ ان لهم سراً مع الله، فنصر الله واعان عليهم ".
وكان الامراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في امر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: " يا شبه الرافضة يا بيت الكذب "- فان فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك او يساوونهم او يزيدون عليهم فانهم من اكذب الطوائف حتى قيل فيهم؛ لا تقولوا اكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا؛ اكذب من الاحمدية على شيخهم-
وقلت لهم: " انا كافر بكم وباحوالكم { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } ".
ولما رددت عليهم الاحاديث المكذوبة اخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، واعيد الكلام انه؛ من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، واعاد الامير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك .
والحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده
هذا اخر ما جرى مع البطائحية
لشيخ الاسلام وامام الائمة الاعلام
الشيخ تقي الدين احمد الشهير بابن تيمية
قدس الله روحه ونور ضريحه ورضي عنه
[مجموع الفتاوى| المجلد الحادي عشر]
الحمد لله رب العالمين ، واشهد ان لا اله الا الله رب السموات والارضين ، واشهد ان محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماً دائماً الى يوم الدين.
اما بعد :
فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الامارة والميدان بحضرة الخلق من الامراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في امر البطائحية - يوم السبت تاسع جمادى الاولى سنة خمس - لتشوق الهمم الى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه، فان من كان غائباً عن ذلك قد يسمع بعض اطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره، لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة وظهور زيف من خرج عن ذلك من اهل البدع المضلة والاحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين.
وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق الشيخ احمد بن الرفاعي وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم، ليتبين ما دخلوا فيه من دين الاسلام وما خرجوا فيه عن دين الاسلام، فان ذلك يطول وصفه في هذا الموضع.
وانما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم.
وذلك اني كنت اعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع وهو : انهم وان كانوا منتسبين الى الاسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم التعبد والتاله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد، فيوجد ايضاً في بعضهم من الشرك وغيره من انواع الكفر ومن الغلو والبدع في الاسلام والاعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف بشريعة الاسلام والكذب والتلبيس واظهار المخارق الباطلة واكل اموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل واحوالهم التي يسمونها الاشارات، وتاب منهم جماعة وادب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق مثل ملابسة النار والحيات واظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وان عامة ذلك عن حيل معروفة واسباب مصنوعة، واراد غير مرة منهم قوم اظهار ذلك فلما راوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على ان استرهم فاجبتهم الى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم باني ادخل معكم النار بعد ان نغتسل بما يذهب الحيلة ومن احترق كان مغلوباً فلما راوا الصدق امسكوا عن ذلك.
وحكى ذلك الشيخ انه كان مرة عند بعض امراء التتر بالمشرق وكان له صنم يعبده، قال: فقال لي: " هذا الصنم ياكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى اثر الاكل في الطعام بينا يرى فيه " ، فانكرت ذلك، فقال لي: " ان كان ياكل انت تموت " ، فقلت: " نعم فاقمت عنده الى نصف النهار ولم يظهر في الطعام اثر فاستعظم التتري ذلك واقسم بايمان مغلظة انه كل يوم يرى فيه اثر الاكل لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك ! " ، فقلت لهذا الشيخ: " انا ابين لك سبب ذلك، ذلك التتري كافر مشرك ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الاثر في الطعام، وانت كان معك من نور الاسلام وتاييد الله تعالى ما اوجب انصراف الشيطان عن ان يفعل ذلك بحضورك، وانت وامثالك بالنسبة الى اهل الاسلام الخالص كالتتري بالنسبة الى امثالك، فالتتري وامثاله سود واهل الاسلام المحض بيض، وانتم بلق فيكم سواد وبياض " ، فاعجب هذا المثل من كان حاضراً.
وقلت لهم في مجلس اخر : لما قالوا: " تريد ان نظهر هذه الاشارات ؟ " .
قلت: " ان عملتوها بحضور من ليس من اهل الشان من الاعراب والفلاحين او الاتراك او العامة او جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك، فمن معه ذهب فليات به الى سوق الصرف الى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش من الصفر، لا يذهب الى عند اهل الجهل بذلك " .
فقالوا : لي: " لا نعمل هذا الا ان تكون همتك معنا " .
فقلت: " همتي ليست معكم، بل انا معارض لكم، مانع لكم، لانكم تقصدون بذلك ابطال شريعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم " .
فان كان، فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة، كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مطوقين باغلال الحديد في اعناقهم وهو واتباعه معروفون بامور، وكان يحضر عندي مرات فاخاطبه بالتي هي احسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين ويتخذونه عبادة وديناً، يوهمون به الناس ان هذا لله سر من اسرارهم وانه سيماء اهل الموهبة الالهية السالكين طريقهم - اعني طريق ذلك الشيخ واتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع .
وقلت: " هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك احد من سلف هذه الامة ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم، ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به الى الله تعالى، لان عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء، للحديث المروي في ذلك، وهو ؛ ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتماً من حديد فقال: " ما لي ارى عليك حلية اهل النار " ، وقد وصف الله تعالى اهل النار بان في اعناقهم الاغلال، فالتشبه باهل النار من المنكرات ".
وقال بعض الناس: " قد ثبت في الصحيح عن ابي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في اخره [ احب القيد واكره الغل، القيد ثبات في الدين ] فاذا كان مكروهاً في المنام فكيف في اليقظة " .
فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من كلام او نحواً منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الاصرار على البدعة، وان ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت اكثره لبعد عهدي به.
وذلك ان الامور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها الى الله، ولا اتخاذها طريقاً الى الله وسبباً لان يكون الرجل من اولياء الله واحبائه، ولا اعتقاد ان الله يحبها او يحب اصحابها كذلك او ان اتخاذها يزداد به الرجل خيراً عند الله وقربة اليه، ولا ان يجعل شعاراً للتائبين المريدين وجه الله الذين هم افضل ممن ليس مثلهم.
فهذا اصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به: وهو ان المباحثات انما تكون مباحة اذا جعلت مباحات، فاما اذا اتخذت واجبات او مستحبات، كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام الا ما حرمه الله، ولا دين الا ما شرعه الله.
ولهذا عظم ذم الله في القران لمن شرع ديناً لم ياذن الله به، ولمن حرم ما لم ياذن الله بتحريمه، فاذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات او المحرمات.
ولهذا كانت هذه الامور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح او مكروه او محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه اذا نذر طاعة الله ان يطيعه، بل عليه كفارة يمين اذا لم يفعل عند احمد وغيره، وعند اخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين.
وعهود اهل الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ليس على الرجل ان يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله الا ما كان ديناً وطاعة لله ورسوله في شرع الله.
لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك، ولهذا امرت غير واحد ان يعدل عما اخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة او مشتملة على انواع من البدع الى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الكتاب والسنة.
اذ كان المسلمون متفقين على انه لا يجوز لاحد ان يعتقد او يقول عن عمل انه قربة وطاعة وبر وطريق الى الله واجب او مستحب الا ان يكون مما امر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وذلك يعلم بالادلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الامة انه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز ان يعتقد او يقال انه قربة وطاعة.
فكذلك هم متفقون على انه لا يجوز قصد التقرب به الى الله ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً ولا عمله من الحسنات فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول ولا بارادة وعمل.
وباهمال هذا الاصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء اذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه، بل يقال انه جائز، لا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم ان اتخاذه ديناً بالاعتقاد او الاقتصاد او بهما وبالقول او بالعمل او بهما من اعظم المحرمات واكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي اعظم من المعاصي التي يعلم انها معاصي سيئات.
فصل
فلما نهيتهم عن ذلك اظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الاصرار على الابتداع في الدين واظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الايقاع بهم، وانا اسلك مسلك الرفق والاناة، وانتظر الرجوع والفيئة، واؤخر الخطاب الى ان يحضر ذلك الشيخ المسجد الجامع.
وكان قد كتب الي كتاباً بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار وعتب واثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل اما احاديث موضوعة او اسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الامر الصد عن سبيل الله واكل اموال الناس بالباطل.
فقلت لهم: " الجواب يكون بالخطاب، فان جواب مثل هذا الكتاب لا يتم الا بذلك " .
وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه.
وهؤلاء هم من اهل الاهواء الذين يتعبدون في كثير من الامور باهوائهم لا بما امر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم: { ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }، ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون.
وفيهم شبه قوي من النصارى الذي قال الله تعالى فيهم { يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }.
ولهذا كان السلف يسمون اهل البدع " اهل الاهواء " .
فحملهم هواهم على ان تجمعوا تجمع الاحزاب ودخلوا الى المسجد الجامع مستعدين للحراب بالاحوال التي يعدونها للغلاب.
فلما قضيت صلاة الجمعة ارسلت الى شيخهم لنخاطبه بامر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم الى قصر الامارة، وكانهم اتفقوا مع بعض الاكابر على مطلوبهم، ثم رجعوا الى مسجد الشاغو - على ما ذكر لي - وهم من الصياح والاضطراب على امر من اعجب العجاب، فارسلت اليهم مرة ثانية لاقامة الحجة والمعذرة وطلباً للبيان والتبصرة ورجاء المنفعة والتذكرة.
فعمدوا الى القصر مرة ثانية، وذكر لي انهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والازباد والارعاد واضطراب الرؤوس والاعضاء والتقلب في نهر بردى واظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى وابراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه اليهم من اضلوا من الجهال.
فلما رأى الامير ذلك هاله ذلك المنظر، وسال عنهم، فقيل له: " هم مشتكون ! " .
فقال : " ليدخل بعضهم " .
فدخل شيخهم واظهر من الشكوى علي ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً - لم يبلغني جميعه -
لكن حدثني من كان حاضراً ان الامير قال لهم: " فهذا الذي يقوله من عنده او يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ".
فقالوا: " بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " .
قال: " فاي شيء يقال له " .
قالوا: " نحن لنا احوال وطريق يسلم الينا " .
قال: " فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه " .
قالوا: " نريد ان تشد منا " .
قال: " لا ، ولكن اشد من الحق سواء كان معكم او معه " .
قالوا: " ولا بد من حضوره ؟ " .
قال: " نعم " .
فكرروا ذلك ، فامر باخراجهم .
فارسل الي بعض خواصه - من اهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم - وعرفني بصورة الحال، وانه يريد كشف امر هؤلاء، فلما علمت ذلك القي في قلبي ان ذلك لامر يريده الله من اظهار الدين وكشف حال اهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في اقطار الارضين.
وما احببت البغي عليهم والعدوان ولا ان اسالك معهم الا ابلغ ما يمكن من الاحسان.
فارسلت اليهم من عرفهم بصورة الحال، واني اذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال وكثر فيكم القيل والقال، وان من قعد او قام قدام رماح اهل الايمان فهو الذي اوقع نفسه في الهوان.
فجاء الرسول واخبر انهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الاسرار، واشاروا عليهم بموافقة ما امروا به من اتباع الشريعة والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة، وقال شيخهم الذي يسيح باقطار الارض - كبلاد الترك ومصر وغيرها - : " احوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله "، وانهم نزعوا الاغلال من الاعناق واجابوا الى الوفاق.
ثم ذكر لي انه جاءهم بعض اكابر غلمان المطاع، وذكر انه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته واستنصرته واستهديته وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى القي في قلبي ان ادخل النار عند الحاجة الى ذلك، وانها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وانه تحرق اشباه الصابئة اهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة اعداء ابراهيم امام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين الى من يضاهيهم من نصارى الدهماء.
وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين الى هذا الدين نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والاسماعيلية يخرجون الى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم الى الاشراك، ثم الى جحود الحق تعالى.
ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات.
والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق، كالملحدين من اهل الاتحاد والغالية من اصناف العباد.
فلما اصبحنا، ذهبت للميعاد، وما احببت ان استصحب احداً للاسعاد، لكن ذهب ايضاً بعض من كان حاضراً من الاصحاب، والله هو المسبب لجميع الاسباب.
وبلغني بعد ذلك انهم طافوا على عدد من اكابر الامراء، وقالوا انواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء الذي استحوذوا به على اكثر اهل الارض من الاكابر والرؤساء.
مثل زعمهم ان لهم احوالاً لا يقاومهم فيها احد من الاولياء، وان لهم طريقاً لا يعرفها احد من العلماء، وان شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وانهم يتقدمون على الخلق بهذه الاخبار المنيفة، وان المنكر عليهم ما هو اخذ بالشرع الظاهر غير واصل الى الحقائق والسرائر، وان لهم طريقاً وله طريق، وهم الواصلون الى كنه التحقيق، واشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق.
وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد واستحواذهم على الملوك والامراء والاجناد لخفاء نور الاسلام واستبدال اكثر الناس بالنور الظلام وطموس اثار الرسول في اكثر الامصار ودروس حقيقة الاسلام في دولة التتار لهم في القلوب موقع هائل ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.
قال المخبر : فغدا اولئك الامراء الاكابر وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم امرهم الباهر، وذكر لي انواعاً من الخطاب - والله تعالى اعلم بحقيقة الصواب - والامير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق.
فاعاد الرسول لي مرة ثانية، فبلغه انا في الطريق، وكان كثير من اهل البدع الاضداد كطوائف من المتفقهة والمتفقرة واتباع اهل الاتحاد مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم مجهزين لمن يعينهم في حضورهم.
فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق الى هذا الاجتماع متطلعين الى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الامراء بعض ما ذكروه من الاقوال المشتملة على الافتراء، وقال انهم قالوا: " انك طلبت منهم الامتحان وان يحموا الاطواق ناراً ويلبسوها " .
فقلت : " هذا من البهتان ".
وها انا ذا اصف ما كان . . .
قلت للامير: " نحن لا نستحل ان نامر احداً بان يدخل ناراً، ولا يجوز طاعة من يامر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد افسدوا من امر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم " ، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الامراء، وانهم لبسوا على الامير المعروف بالايدمري وعلى " قفجق " - نائب السلطنة - وعلى غيرهما، وقد لبسوا ايضاً على الملك العادل كتفاً في ملكه وفي حالة ولاية حماه، وعلى امير السلاح اجل امير بديار مصر.
وضاق المجلس عن حكاية جمع تلبيسهم على الايدمري؛
وانهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن احوال بيته الباطنة ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك.
وانهم وعدوه ان يروه رجال الغيب فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج فجعلوا يمشون على جبل المزة، وذاك يرى من بعيد قوماً يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الارض واخذوا منه مالاً كثيراً ثم انكشف له امرهم.
قلت للامير - وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك وهو ممن حدثني بهذه القصة - :
" واما قفجق ؛
فانهم ادخلوا رجلاً في القبر يتكلم واوهموه ان الموتى تتكلم.
واتوا به في مقابر باب الصغير الى رجل زعموا انه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا ؛ [انه طلب منه جملة من المال] ، فقال قفجق : [ الشيخ يكاشف، وهو يعلم ان خزائني ليس فيها هذا كله ] ، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي الصقوه على جلده من جلد الماعز " .
فذكرت للامير هذا - ولهذا قيل لي انه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب اصحاب قفجق اليه كتاباً وهو نائب السلطنة بحماه يخبره بصورة ما جرى -
وذكرت للامير انهم مبتدعون بانواع من البدع مثل الغلال ونحوها، وانا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة.
فذكر الامير حديث البدعة وسالني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما ساذكره.
قلت للامير: " انا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون ان لهم احوالاً يدخلون بها النار وان اهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا هذه الاحوال التي يعجز عنها اهل الشرع فليس لهم ان يعترضوا علينا بل يسلم الينا ما نحن عليه - سواء وافق الشرع او خالفه - وانا قد استخرت الله سبحانه انهم ان دخلوا النار ادخل انا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوباً، وذلك بعد ان نغسل جسومنا بالخل والماء الحار " .
فقال الامير: " ولم ذاك ؟! " .
قلت: " لانهم يطلون اجسامهم بادوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وانا لا اطلي جلدي بشيء، فاذا اغتسلت انا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق " .
فاستعظم الامير هجومي على النار، وقال: " اتقبل ذلك ؟! " .
فقلت له: " نعم، قد استخرت الله في ذلك والقى في قلبي ان افعله، ونحن لا نرى هذا وامثاله ابتداءً، فان خوارق العادات انما تكون لامة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة او حاجة، فالحجة لاقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء اذا اظهروا ما يسمونه اشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون انها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا ان ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من ارواحنا وجسومنا واموالنا، فلنا حينئذ ان نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيد الله به من الايات، وليعلم ان هذا مثل معارضة موسى السحرة لما اظهروا سحرهم ايد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم " .
فجعل الامير يخاطب من حضره من الامراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكانهم كانوا قد اوهموه ان هؤلاء لهم حال على رده.
وسمعته يخاطب الامير الكبير - الذي قدم من مصر الحاج بهادر - وانا جالس بينهما على راس السماط بالتركي، ما فهمته منه انه قال: " اليوم ترى حرباً عظيماً " ، ولعل ذلك كان جواباً لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الاكابر، فجعلوا يطلبون من الامير الاصلاح واطفاء هذه القضية ويترفقون.
فقال الامير: " انما يكون الصلح بعد ظهور الحق " .
وقمنا الى مقعد الامير بزاوية القصر انا وهو و "بهادر" فسمعته يذكر له ايوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على انه كان عند هذا الامير لهم صورة معظمة، وان له فيهم ظناً حسناً والله اعلم بحقيقة الحال، فانه ذكر لي ذلك، وكان الامير احب ان يشهد "بهادر" هذه الواقعة ليتبين له الحق، فانه من اكابر الامراء واقدمهم واعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الان وهو يحب تاليفه واكرامه .
فامر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية - وهم جماعة كثيرون - وقد اظهروا احوالهم الشيطانية من الازباد والارغاء وحركة الرؤوس والاعضاء والطفر والحبو والتقلب ونحو ذلك من الاصوات المنكرات والحركات الخارجة عن العادات المخالفة لما امر به لقمان لابنه في قوله: { واقصد في مشيك واغضض من صوتك }.
فلما جلسنا، وقد حضر خلق عظيم من الامراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الاول المشتكي، وشيخ اخر يسمى نفسه خليفة سيده احمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب! - ولم اكن اعرف ذلك -
وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، واظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة، فاعطيته طلبته ولم اتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي ان هذا خفي على تلبيسه الى ان غاب، وما يكاد يخفى علي تلبيس احد بل ادركه في اول الامر فبقي، - ذلك في نفسي ولم اره قط - الى حين ناظرته، ذكر لي انه ذاك كان اجتمع بي قديماً ! فتعجبت من حسن صنع الله ! انه هتكه في اعظم مشهد يكون، حيث كتم تلبيسه بيني وبينه .
فلما حضروا تكلم منهم شيخ - يقال له حاتم - بكلام مضمون طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وانا مجيبون الى ما طلب من ترك هذه الاغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة.
فقلت: " اما التوبة فمقبولة، قال الله تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } هذه الى جنب هذه، وقال تعالى: { نبئ عبادي اني انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الاليم } " .
فاخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الاطواق، وذكر ان وهب بن منبه انه كان في بني اسرائيل عابد وانه جعله في عنقه طوقاً، في حكاية من حكايات بين اسرائيل لا تثبت.
فقلت: " لهم ليس لنا ان نتعبد في ديننا بشيء من الاسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الامام احمد في مسنده عن جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: [ امتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ] ، وفي مراسيل ابي داود ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض اصحابه شيئاً من كتب اهل الكتاب فقال: [ كفى بقوم ضلالة ان يتبعوا كتاباً غير كتابهم انزل الى نبي غير نبيهم ]، وانزل الله تعالى: { او لم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }، فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا انه انزل عليهما من عند الله اذا خالف شرعنا، وانما علينا ان نتبع ما انزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به الينا رسولنا، كما قال تعالى: { وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً }، فكيف يجوز لنا ان نتبع عباد بني اسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها، وما علينا من عباد بني اسرائيل { تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون }، هات ما في القران وما في الاحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم " . . . وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.
فقال هذا الشيخ منهم - يخاطب الامير - : " نحن نريد ان تجمع لنا القضاة الاربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية " .
فقلت: " له هذا غير مستحب ولا مشروع عند احد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية " . . . ودعوته وقلت: " يا كمال الدين ما تقول في هذا ؟ " .
فقال: " هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة " - او كما قال -
وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.
وقلت: " ليس لاحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم " - واشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فاني تكلمت بكلام بعد عهدي به -
فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته وقال: " نحن لنا احوال وامور باطنة لا يوقف عليها " ، وذكر كلاماً لم اضبط لفظه مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر ، ومضمونه ؛ ان لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وان لنا امراً لا يقف عليه اهل الظاهر فلا ينكرونه علينا .
فقلت له - ورفعت صوتي وغضبت - : " الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق كل هذا مردود الى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لاحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا من المشايخ والفقراء ولا من الملوك والامراء ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " ، وذكرت هذا ونحوه.
فقال - ورفع صوته - : " نحن لنا الاقوال. . . وكذا وكذا " ، وادعى الاحوال الخارقة - كالنار وغيرها - واختصاصهم بها، وانهم يستحقون تسليم الحال اليهم لاجلها .
فقلت - ورفعت صوتي وغضبت - : " انا اخاطب كل احمدي من مشرق الارض الى مغربها، اي شيء فعلوه في النار، فانا اصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب "، وربما قلت: " فعليه لعنة الله، ولكن بعد ان نغسل جسومنا بالخل والماء الحار " .
فسالني الامراء والناس عن ذلك، فقلت: " لان لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من اشياء من دهن الضفادع وقشر النارنج وحجر الطلق " .
فضج الناس بذلك، فاخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: " انا وانت نلف في بارية بعد ان تطلى جسومنا بالكبريت " .
فقلت: " فقم " ، واخذت احرز عليه في القيام الى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: " لا !! حتى تغتسل في الماء الحار والخل ".
فظهر الوهم - على عادتهم - فقال: " من كان يحب الامير فليحضر خشباً - او قال - حزمة حطب " .
فقلت: " هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وادخل اصبعي واصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت اصبعه فعليه لعنة الله - او قلت - فهو مغلوب " .
فلما قلت ذلك تغير وذل، وذكر لي ان وجهه اصفر.
ثم قلت لهم: " ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم، لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على ابطال الشرع، فان الدجال الاكبر يقول للسماء؛ امطري فتمطر، وللارض انبتي فتنبت، وللخربة اخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه ثم يقول له؛ قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله " ، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.
وذكرت قول ابي يزيد البسطامي: " لو رايتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الاوامر والنواهي ".
وذكرت عن يونس بن عبد الاعلى انه قال للشافعي: " اتدري ما قال صاحبنا - يعني الليث بن سعد - ؟ قال؛ لو رايت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به ؟ " ، فقال الشافعي: " لقد قصر الليث لو رايت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به ".
وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الامير في طلب الصلح، وجعلت الح عليه في اظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة، وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم - وهم عدد كثير - والناس يضجون في الميدان ويتكلمون باشياء لا اضبطها.
فذكر بعض الحاضرين ان الناس قالوا ما مضمونه؛ { فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين }، وذكروا ايضاً ان هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وانه الذي قصدك مرة فاعطيته ثلاثين درهماً.
فقلت: " ظهر لي حين اخذ الدراهم وذهب انه ملبس "، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها؛ انه ادخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي ان لحيته مدهونة، وانه دخل الروم واستحوذ عليهم.
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم، وتلبيسهم وتبين للامراء الذين كانوا يشدون منهم انهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج "بهادر" ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا الى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى.
وسالني الامير عما يطلب منهم، فقلت: " متابعة الكتاب والسنة، مثل ان يعتقد انه لا يجب عليه اتباعهما او انه يسوغ لاحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، او انه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمها ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة، التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه ".
فقالوا: " نحن ملتزمون الكتاب والسنة، اتنكر علينا غير الاطواق نحن نخلعها ".
فقلت: " الاطواق، وغير الاطواق ليس المقصود شيئاً معيناً، وانما المقصود ان يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى تعالى الله عليه وسلم ".
فقال الامير: " فاي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة ؟".
فقلت: " حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود ان يلتزموا هذا التزاماً عاماً، ومن خرج عنه ضربت عنقه " - وكرر ذلك واشار بيده الى ناحية الميدان - وكان المقصود ان يكون هذا حكماً عاماً في حق جميع الناس، فان هذا مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة واهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الامور؛ انه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
قلت: " ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما امر الله ورسول،ه فان من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته حتى انهم بالامس بعد ان اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل احدهم يقول في صلب الصلاة؛ يا سيدي احمد شيء لله، وهذا مع انه مبطل للصلاة، فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي امرنا ان نقول فيها: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وهذا قد فعل بالامس بحضرة شيخهم فامر قائل ذلك لما انكر عليه المسلمون بالاستغفار - على عادتهم في صغير الذنوب - ولم يامره باعادة الصلاة ، وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة " .
فقال: " هذا يغلب على احدهم كما يغلب العطاس ! " .
فقلت: " العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك احدهم دفعه، واما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه " .
ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس انهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى ، مثل :
قول احدهم ؛ انا على بطن امراة الامام، وقول الاخر كذا وكذا من الامام، ونحو ذلك من الاقوال الخبيثة، وانهم اذا انكر عليهم المنكر ترك الصلاة، يصلون بالنوبة، وانا اعلم انهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الاوقات على صيحة او بكاء في الصلاة او غيرها.
فلما اظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان باصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون احوالهم ، قلت له: " اهذا موافق للكتاب والسنة؟ " .
فقال: " هذا من الله حال يرد عليهم " .
فقلت: " هذا من الشيطان الرجيم لم يامر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا احبه الله ولا رسوله ".
فقال: " مافي السموات والارض حركة ولا كذا ولا كذا الا بمشيئته وارادته " .
فقلت له: " هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل مافي العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وارادته، وليس ذلك بحجة لاحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن " .
فقال: " فباي شيء تبطل هذه الاحوال ".
فقلت: " بهذه السياط الشرعية " .
فاعجب الامير وضحـك، وقال: " اي والله، بالسياط الشرعية تبطل هذه الاحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب الى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية " .
وامسكت سيف الامير ، وقلت: " هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه ، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله " .
واعاد الامير هذا الكلام.
واخذ بعضهم يقول: " فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن ؟! " .
فقلت: " اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته " ، فافحموا لذلك.
وحقيقة الامر ان من اظهر منكرًا في دار الاسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا الى بدعة واظهرها لم يقر، ولا يقر من اظهر الفجور، وكذلك اهل الذمة لا يقرون على اظهار منكرات دينهم، ومن سواهم .
فان كان مسلمًا اخذ بواجبات الاسلام وترك محرماته، وان لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو اما مرتد واما مشرك واما زنديق ظاهر الزندقة.
وذكرت ذم المبتدعة ، فقلت: " روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن ابيه ابي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: [ ان اصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الامور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ].
وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كان هذه موعظة مودع فماذا تعهد الينا ؟ ، فقال: [ اوصيكم بالسمع والطاعة فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الامور، فان كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ] ، وفي رواية: [ وكل ضلالة في النار ] " .
فقال لي: " البدعة مثل الزنا " ، وروى حديثًا في ذم الزنا .
فقلت: " هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: [ البدعة احب الى ابليس من المعصية، فان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها ] " .
وكان قد قال بعضهم: " نحن نتوب الناس ؟ .
فقلت: " مماذا تتوبونهم ؟ " .
قال: " من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك " .
فقلت: " حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فانهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون اليه، او ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الاسلام يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت ان هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي ".
قلت - مخاطباً للامير والحاضرين - : " اما المعاصي؛ فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر ابن الخطاب؛ ان رجلاً كان يدعى حماراً وكان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان كلما اتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله ما اكثر ما يؤتى به الى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: [ لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله ]، قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنته.
واما المبتدع فمثل ما اخرجا في الصحيحين عن علي بن ابي طالب وعن ابي سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه اثر السجود وقال ما قال، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: [ يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القران لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد ]، وفي رواية: [ لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ]، وفي رواية [ شر قتلى تحت اديم السماء خير قتلى من قتلوه ] ".
قلت: " فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة امر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن ابي طالب ومن معه من اصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته "
واظن اني ذكرت قول الشافعي: " لان يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من ان يبتلى من هذه الاهواء " ، فلما ظهر قبح البدع في الاسلام وانها اظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وانهم مبتدعون بدعاً منكرة فيكون حالهم اسوا من حال الزاني والسارق وشارب الخمر.
اخذ شيخهم عبد الله يقول: " يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز " - يعني اتباع احمد بن الرفاعي -
فقلت - منكراً بكلام غليظ - : " ويحك اي شيء هو الجناب العزيز وجناب من خالفه اولى، بالعزبار والرزجنة تريدون ان تبطلوا دين الله ورسوله ".
فقال: " يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم " !
فقلت: " مثل ما احرقني الرافضة، لما قصدت الصعود اليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول اصحابهم؛ ان لهم سراً مع الله، فنصر الله واعان عليهم ".
وكان الامراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في امر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: " يا شبه الرافضة يا بيت الكذب "- فان فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك او يساوونهم او يزيدون عليهم فانهم من اكذب الطوائف حتى قيل فيهم؛ لا تقولوا اكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا؛ اكذب من الاحمدية على شيخهم-
وقلت لهم: " انا كافر بكم وباحوالكم { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } ".
ولما رددت عليهم الاحاديث المكذوبة اخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، واعيد الكلام انه؛ من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، واعاد الامير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك .
والحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده
هذا اخر ما جرى مع البطائحية
لشيخ الاسلام وامام الائمة الاعلام
الشيخ تقي الدين احمد الشهير بابن تيمية
قدس الله روحه ونور ضريحه ورضي عنه
[مجموع الفتاوى| المجلد الحادي عشر]