عامي
11-05-2013, 04:00 PM
هل يُشهد على من مات على الكفر بالنار؟
طلع علينا في هذا الزمان بعض من يزعم السلفية: بأنه لا يجوز الحكم على من مات على الشرك بالنار، ولو كان من أئمة الكفر، من النصارى واليهود ونحوهم... فتحيرنا، وحق لنا هذا.
فهم لا يريدون تكفير المعين من المشركين، ولا يريدون تحقيق البراءة منهم، ثم من مات أيضًا على كفره، ولو كان مباينًا لملة المسلمين لا يريدون أن نحكم عليه أيضًا بالنار.
ثم تراهم قد توغلوا بعنف في الحكم على كثير من مناطات الشرك الأكبر بأنه من الشرك الأصغر العملي، الذي لا يخرج صاحبه من الملة.
ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل قاموا بشن الغارة على دعاة التوحيد،
ورموهم بالعظائم ونالوا من أعراضهم.
فسبحان الله ما أعظم هذا الإشكال، وما أشد تلك المعضلة.
ولم يدر هؤلاء أنهم يسعون في تهوين أمر الشرك في نفوس العباد شاءوا ذلك أم أبوا، ذاك الذنب الذي حرم الله على أصحابه الجنة، وأوجب لهم به الخلود في النيران، وحجب المولى -جل في علاه- مغفرته العظيمة، وعفوه -الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه- عن أن ينال هذا الذنب الأكبر الأعظم.
واستشهد القوم بقول الإمام الطحاوي في عقيدته: «ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا».
ولو رجعنا إلى قول الإمام الطحاوي، لوجدناه يتحدث عن أهل القبلة، الذين ماتوا في الظاهر على التوحيد والإيمان، فهل بجرؤ أحد على الحكم على أمثال هؤلاء بأنهم من أهل النار، سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-: « و أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ، في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين....
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، ونصلي على من مات منهم.
ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» العقيدة الطحاوية /45.
وقال ابن أبي العز الحنفي مبينًا هذا المعنى في شرحه: «يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر
الصادق صلى الله عليه و سلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم، لأن الحقيقة باطنة، وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين»
شرح العقيدة الطحاوية /378.
فإذا كان هذا في حق من مات من أهل القبلة على التوحيد والإيمان، فلماذا يتوسع هؤلاء -وهذا دأبهم دائمًا في مثل هذه المسائل فانتبه- في جعل هذا الحكم ينطبق على المرتدين، وعلى أئمة الكفر المباينين للملة، فضلاً عن اتباعهم، من المقلدة لهم، والمقتدين لآثارهم.
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: ما قاله صديق الأمة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وجوب الشهادة على أعيان القتلى المرتدين بالنار، وكان في محضر من الصحابة، وانقضى عصرهم، ولم يظهر له مخالف في هذا فكان إجماعًا.
وقد ذكرت هذا الوجه أولاً بسبب وروده في متن الرسالة محل الشرح.
الوجه الثاني: قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113]، فالآية نص في أن الكافر إذا مات على كفره فقد تبين لنا أنه من أهل النار، وأنه يعين بذلك.
قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: «يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه و سلم والذين آمنوا به: (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا) يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم (أُولِي قُرْبَى) ذوي قرابة لهم (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله، وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله» تفسير الطبري (6/487).
وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «ومعنى قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارًا» زاد المسير في علم التفسير (3/509).
والعبرة في هذه المسألة بالخواتيم، فمن مات على الكفر حكمنا به عليه وشهدنا له بالنار في الظاهر، والله يتولى السرائر.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى- في هذه الآية: «ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم عليه به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله» تفسير القرطبي (10/401).
وقال أيضًا -رحمه الله تعالى- مؤكدًا على هذا المعنى في أثناء تفسيره لقوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) [النساء: 94] الآية. بعد عرضه لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل متأولاً الرجل الذي نطق بالشهادتين بعدما علاه بسيفه.
قال القرطبي: «وفي هذه من الفقه باب عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر» تفسير القرطبي (7/51).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في قصة موت أبي طالب: «فهذا شأن من مات على الكفر -أي الخلود في النار- فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلا؛ والأحاديث الصحيحية، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك» الإصابة في تمييز الصحابة.
الوجه الثالث: عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟
قال: «في النار» فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وبوب الإمام النووي له بابًا: «بيان أن من مات على الكفر فهو في النار»، وقال فيه: «أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين» صحيح مسلم بشرح النووي (3/79).
الوجه الرابع: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله: «إن أبي كان يصل الرحم وكان و كان. فأين هو؟ قال: «في النار»، قال: فكأنه وجد من ذلك. فقال يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» قال فأسلم الأعرابي بعد. وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه و سلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار» انظر صحيح ابن ماجة للشيخ الألباني (1278).
وقال الإمام السندي -رحمه الله تعالى- في شرحه لسنن ابن ماجه على هذا الحديث:
والجواب: (-أي من النبي صلى الله عليه و سلم - عام في كل مشرك ) شرح سنن ابن ماجة (1/113).
وقال العلامة علي القاري الحنفي فيه: «وفي هذا التعميم دلالة واضحة، وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار، إلا ما خص منهم بالأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه و سلم » أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول r/75.
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- معلقًا عليه: «وإذا زار قبر الكافر فلا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم » تلخيص أحكام الجنائز/ 83.
وكان سلفنا الصالح، وأئمة الهدى إذا حكموا بالكفر على واحد، حكموا له بالخلود في النيران إذا مات عليه، وأجروا عليه أحكام التكفير، لأن باب الحكم بالكفر على معين، والشهادة له بالنار إن مات عليه واحد.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والجهمية عند كثير من السلف، مثل عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام احمد، وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية.
وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر؛ ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر؛ ونحو ذلك.
ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين:
أحدها: أنه كفر ينقل عن الملة، قال: وهو قول الأكثرين.
والثاني: أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: أن هذا قالوه على سبيل التغليظ.
وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث، كأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد»
مجموع الفتاوى (12/486-487).
وقال الإمام الفقيه ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «ولا تجوز الصلاة على كافر لقول الله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) [التوبة: 84] وقال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى).
ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم نصل عليه. قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي ويشهدهما من أحب» الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل (1/362).
وقال الإمام ابن أبي العز مؤكدًا على أن المعين من الكفار إذا مات على كفره فإنه يشهد له بالنار: «وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنه قال: ناظرت
أبا حنيفة -رحمه الله- مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر؟
فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت» شرح العقيدة الطحاوية/ 316.
فهذه بعض من نصوص السلف في أهل البدع المغلظة.
فمن حكم منهم عليهم بالكفر، حكم للميت على هذه البدعة المكفرة بالخلود في النار، وامتنعوا من الصلاة عليه والدعاء له، ومن دفنه في قبور المسلمين، ومن القيام على قبره، إلى غير ذلك من أحكام الكفر الثابتة من الشرع الحكيم.
وقبل الانتقال من هذه المسألة المهمة، نذكر بأن المحذور فيها هو الشهادة على من مات على الكفر بالنار على وجه القطع واليقين، فهذا لا يكون إلا فيمن أخبر الوحي فيه بذلك.
وأما ما دون ذلك فنحن نشهد له بغلبة الظن لظاهر حاله عند موته، ولأن الأحكام كما قدمنا من قبل منوط إجراؤها بالظواهر وغلبة الظن، دون اليقين والقطع .
كتبه
الشيخ أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج
المرجع
فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
صفحة 278 إلى 286
طلع علينا في هذا الزمان بعض من يزعم السلفية: بأنه لا يجوز الحكم على من مات على الشرك بالنار، ولو كان من أئمة الكفر، من النصارى واليهود ونحوهم... فتحيرنا، وحق لنا هذا.
فهم لا يريدون تكفير المعين من المشركين، ولا يريدون تحقيق البراءة منهم، ثم من مات أيضًا على كفره، ولو كان مباينًا لملة المسلمين لا يريدون أن نحكم عليه أيضًا بالنار.
ثم تراهم قد توغلوا بعنف في الحكم على كثير من مناطات الشرك الأكبر بأنه من الشرك الأصغر العملي، الذي لا يخرج صاحبه من الملة.
ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل قاموا بشن الغارة على دعاة التوحيد،
ورموهم بالعظائم ونالوا من أعراضهم.
فسبحان الله ما أعظم هذا الإشكال، وما أشد تلك المعضلة.
ولم يدر هؤلاء أنهم يسعون في تهوين أمر الشرك في نفوس العباد شاءوا ذلك أم أبوا، ذاك الذنب الذي حرم الله على أصحابه الجنة، وأوجب لهم به الخلود في النيران، وحجب المولى -جل في علاه- مغفرته العظيمة، وعفوه -الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه- عن أن ينال هذا الذنب الأكبر الأعظم.
واستشهد القوم بقول الإمام الطحاوي في عقيدته: «ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا».
ولو رجعنا إلى قول الإمام الطحاوي، لوجدناه يتحدث عن أهل القبلة، الذين ماتوا في الظاهر على التوحيد والإيمان، فهل بجرؤ أحد على الحكم على أمثال هؤلاء بأنهم من أهل النار، سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-: « و أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ، في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين....
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، ونصلي على من مات منهم.
ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» العقيدة الطحاوية /45.
وقال ابن أبي العز الحنفي مبينًا هذا المعنى في شرحه: «يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر
الصادق صلى الله عليه و سلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم، لأن الحقيقة باطنة، وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين»
شرح العقيدة الطحاوية /378.
فإذا كان هذا في حق من مات من أهل القبلة على التوحيد والإيمان، فلماذا يتوسع هؤلاء -وهذا دأبهم دائمًا في مثل هذه المسائل فانتبه- في جعل هذا الحكم ينطبق على المرتدين، وعلى أئمة الكفر المباينين للملة، فضلاً عن اتباعهم، من المقلدة لهم، والمقتدين لآثارهم.
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: ما قاله صديق الأمة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وجوب الشهادة على أعيان القتلى المرتدين بالنار، وكان في محضر من الصحابة، وانقضى عصرهم، ولم يظهر له مخالف في هذا فكان إجماعًا.
وقد ذكرت هذا الوجه أولاً بسبب وروده في متن الرسالة محل الشرح.
الوجه الثاني: قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113]، فالآية نص في أن الكافر إذا مات على كفره فقد تبين لنا أنه من أهل النار، وأنه يعين بذلك.
قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: «يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه و سلم والذين آمنوا به: (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا) يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم (أُولِي قُرْبَى) ذوي قرابة لهم (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله، وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله» تفسير الطبري (6/487).
وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «ومعنى قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارًا» زاد المسير في علم التفسير (3/509).
والعبرة في هذه المسألة بالخواتيم، فمن مات على الكفر حكمنا به عليه وشهدنا له بالنار في الظاهر، والله يتولى السرائر.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى- في هذه الآية: «ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم عليه به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله» تفسير القرطبي (10/401).
وقال أيضًا -رحمه الله تعالى- مؤكدًا على هذا المعنى في أثناء تفسيره لقوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) [النساء: 94] الآية. بعد عرضه لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل متأولاً الرجل الذي نطق بالشهادتين بعدما علاه بسيفه.
قال القرطبي: «وفي هذه من الفقه باب عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر» تفسير القرطبي (7/51).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في قصة موت أبي طالب: «فهذا شأن من مات على الكفر -أي الخلود في النار- فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلا؛ والأحاديث الصحيحية، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك» الإصابة في تمييز الصحابة.
الوجه الثالث: عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟
قال: «في النار» فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وبوب الإمام النووي له بابًا: «بيان أن من مات على الكفر فهو في النار»، وقال فيه: «أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين» صحيح مسلم بشرح النووي (3/79).
الوجه الرابع: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله: «إن أبي كان يصل الرحم وكان و كان. فأين هو؟ قال: «في النار»، قال: فكأنه وجد من ذلك. فقال يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» قال فأسلم الأعرابي بعد. وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه و سلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار» انظر صحيح ابن ماجة للشيخ الألباني (1278).
وقال الإمام السندي -رحمه الله تعالى- في شرحه لسنن ابن ماجه على هذا الحديث:
والجواب: (-أي من النبي صلى الله عليه و سلم - عام في كل مشرك ) شرح سنن ابن ماجة (1/113).
وقال العلامة علي القاري الحنفي فيه: «وفي هذا التعميم دلالة واضحة، وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار، إلا ما خص منهم بالأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه و سلم » أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول r/75.
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- معلقًا عليه: «وإذا زار قبر الكافر فلا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم » تلخيص أحكام الجنائز/ 83.
وكان سلفنا الصالح، وأئمة الهدى إذا حكموا بالكفر على واحد، حكموا له بالخلود في النيران إذا مات عليه، وأجروا عليه أحكام التكفير، لأن باب الحكم بالكفر على معين، والشهادة له بالنار إن مات عليه واحد.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والجهمية عند كثير من السلف، مثل عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام احمد، وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية.
وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر؛ ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر؛ ونحو ذلك.
ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين:
أحدها: أنه كفر ينقل عن الملة، قال: وهو قول الأكثرين.
والثاني: أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: أن هذا قالوه على سبيل التغليظ.
وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث، كأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد»
مجموع الفتاوى (12/486-487).
وقال الإمام الفقيه ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «ولا تجوز الصلاة على كافر لقول الله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) [التوبة: 84] وقال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى).
ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم نصل عليه. قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي ويشهدهما من أحب» الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل (1/362).
وقال الإمام ابن أبي العز مؤكدًا على أن المعين من الكفار إذا مات على كفره فإنه يشهد له بالنار: «وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنه قال: ناظرت
أبا حنيفة -رحمه الله- مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر؟
فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت» شرح العقيدة الطحاوية/ 316.
فهذه بعض من نصوص السلف في أهل البدع المغلظة.
فمن حكم منهم عليهم بالكفر، حكم للميت على هذه البدعة المكفرة بالخلود في النار، وامتنعوا من الصلاة عليه والدعاء له، ومن دفنه في قبور المسلمين، ومن القيام على قبره، إلى غير ذلك من أحكام الكفر الثابتة من الشرع الحكيم.
وقبل الانتقال من هذه المسألة المهمة، نذكر بأن المحذور فيها هو الشهادة على من مات على الكفر بالنار على وجه القطع واليقين، فهذا لا يكون إلا فيمن أخبر الوحي فيه بذلك.
وأما ما دون ذلك فنحن نشهد له بغلبة الظن لظاهر حاله عند موته، ولأن الأحكام كما قدمنا من قبل منوط إجراؤها بالظواهر وغلبة الظن، دون اليقين والقطع .
كتبه
الشيخ أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج
المرجع
فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
صفحة 278 إلى 286