البلوشي
08-12-2013, 04:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة مواصلة العمل الصالح بعد رمضان لسماحة العلامة صالح الفوزان
الحمد لله الواحد القهار، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مسمى، ألا هو العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعتبروا بسرعة مرور الليالي والأيام، فإنها من أعماركم، وهي خزائن أعمالكم، وفي يوم القيامة تُفتّح هذه الخزائن لكم، فالمؤمنون يجدون في خزائنهم العزة والكرامة، والمفرطون يجدون في خزائنهم الذلة والإهانة، فاملؤوا هذه الخزائن بتقوى الله سبحانه وبالأعمال الصالحة قبل أن تغلق بانتهاء آجالكم، بالأمس القريب كنتم تعيشون في شهر عظيم، وموسمٍ كريم، وهو شهر رمضان المبارك، فانطوت أيامه، وتصرمت أوقاته، فانظروا ماذا أودعتم فيه من الأعمال، فما شهر رمضان إلا زيادة في عمر المسلم وفي عمله، يغتنمه في الخير، فلينظر كلٌ منا ما مر به عليه شهر رمضان من عمل صالح أو من تفريط، فإن كان عمِل فيه عملاً صالحاً فليحمد الله وليواصل عمله في بقية عمره ولا ينتهي عند رمضان، ومن كان مفرطاً في رمضان فباب التوبة مفتوح فلا يقنط من رحمة الله فليتب إلى الله عز وجل وليُصلح عمله في المستقبل، فإن الله يتوب على من تاب، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25]، (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، وليس عمل المسلم مقصوراً على شهر رمضان، وإنما عمل المسلم مستمر من حين يبلغ الحلم إلى أن يتوفاه الله، قال الله جل وعلا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، يعني الموت، فليس لعمل المسلم غاية دون الموت، قال بعض السلف: أدركت أقواماً لا يزيد دخول رمضان من أعمالهم شيئاً، ولا ينقص خروجه من أعمالهم شيئاً، لأنهم كانوا مجتهدين في العبادة في كل حياتهم في رمضان وفي غيره، ولكنَّ الله جعل شهر رمضان زيادة في عمل المسلم يُضيفه إلى عمله الصالح زيادة خير إلى خير، وجعله فرصةً للمفرّط ليتوب إلى الله عز وجل ويستدرك ما فاته، فهو خير كله على المسلمين، المؤمن يفرح بانتهاء شهر رمضان لأن الله وفقه لصيامه وقيامه واستكمله في طاعة الله، فهو يفرح بذلك أن مكنه الله من جميع الشهر في العمل الصالح، وأما المنافق والفاسق فهما يفرحان بانتهاء شهر رمضان لينطلقوا إلى شهواتهم، وملذاتهم، وغفلاتهم، لأنهم كانوا في سجن وفي أسر في شهر رمضان فلما انتهى ينطلقون إلى غفلتهم وسهوتهم، يسرحون ويمرحون في هذه الحياة إلى أن يأتيهم الموت إلا من وفقه الله جل وعلا وتاب إلى الله قبل مماته، فإن الله يتوب على من تاب، أيها المسلمون، إن من علامة قبول شهر رمضان أن تكون حال المسلم بعده أحسن من حاله قبل رمضان لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، والعمل الصالح يدعو إلى العمل الصالح، ورمضان شهر يعوّد المسلم على فعل الخير ويربيه على الطاعة، فهو بعد رمضان يستمر على طاعة الله ويتلذذ بها، إن مجال العمل الصالح مفتوحٌ آناء الليل والنهار في كل السنة، فإن أردت القيام فقيام الليل مشروعٌ في كل السنة، تقوم ما يسر الله لك، وتحافظ على ذلك وتداوم عليه، إن أردت الصيام فالصيام مشروع ومستحب في سائر السنة، في أيام معينة بينتها السُنَّة فحافظ على ذلك، إن أردت تلاوة القرآن فالقرآن ميسر في كل وقت (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]، فداوم على تلاوة القرآن فإنه حبل الله المتين بيدك، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]، وكذلك من اعتاد في شهر رمضان وألِف المساجد فإن المساجد مفتوحة ولله الحمد في سائر السنة، مفتوحة على مصراعيها، مهيأة للجلوس فيها، والصلاة فيها، وذكر الله فيها، لا سيما المحافظة على الصلوات الخمس، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38]، والمساجد هي بيوت الله، وهي قرة عيون المؤمنين، يترددون إليها، ويجلسون فيها، ويألفون فيها، وفي الحديث: "من ألِف المسجد ألِفه الله"، أو كما جاء، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلُه "ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد"، كلما خرج منها يرجع إليها، يتردد عليها في اليوم والليلة خمس مرات للصلوات المفروضة، ويجلس فيها ما تيسر له، والجلوس فيها اعتكاف، اعتكاف على طاعة الله سبحانه وتعالى، فهي بيوت الله، وهي مشع الأنوار، وهي مستقر الملائكة، ومستقر الرحمة، وهي حياة المسلمين في عباداتهم، وفي تعلمهم، وفي ذكرهم لله عز وجل، فهي أكبر نعمة أنعم الله بها على عباده، تُبنى بين بيوتهم، وفي حاراتهم، لا يتكلفون مشقة ً في الذهاب إليها، فهي نعمة من الله بين أظهركم، فاعمروها بطاعة الله سبحانه وتعالى، يا من تعودت على حفظ لسانك من الغيبة، والنميمة، والشتم، وقول الزور في شهر رمضان، حافظ على ذلك بعد رمضان، فأمسك لسانك فإن أطلقته قتلك، قتلك بالكلام السيء، بالغيبة، بالنميمة، بكل كلام محرم، أما إذا أمسكته واستعملته في ذكر الله أصبح خادماً لك في ذكر الله سبحانه وتعالى، يا من صُنت سمعك في رمضان عن استماع المعازف، والمزامير، والملاهي، صُن سمعك بعد رمضان عن ذلك، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء:36]، يا من تعودت حفظ نظرك عن النظر إلى الحرام في شهر رمضان، غُضَّ بصرك، وغُضَّ طرفك عما حرم الله، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:30-31]، فالله جل وعلا أمرنا بغضَّ الأبصار عما حرّم الله، عن النظر إلى النساء، عن النظر إلى الصور الفاتنة، عن النظر في الشاشات الخبيثة، الهابطة، التي تعرض السوء، وتعرض الفحش، وتعرض ما يخدش الحياء، ويخدش الإيمان، فلنحفظ أبصارنا عن هذه القنوات التي انتشرت بين الناس ودخلت كثيراً من البيوت، فعلينا أن نغضَّ أبصارنا عنها، فإن النظر سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فحافظ على غضَّ بصرك في سائر أيامك، كما غضضته في شهر رمضان، فما شهر رمضان إلا مربٍ لك، ما شهر رمضان إلا فترة ودورة تمر بك على الأعمال الصالحة تتربى عليها وتعتادها، فحافظ عليها، ولا تكن كالتي تقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، لأن بعض الناس يجتهد في رمضان، لكن إذا خرج رمضان عاد إلى التفريط، وعاد إلى المعاصي، فمحا ما كان عمله في شهر رمضان من خير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ* لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ) [الحشر:18-20]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد أيها الناس اتقوا الله واشكروه على نِعمه حيث بلغكم شهر رمضان، وأكمله لكم، ومكنكم فيه من الطاعة، وفعل الخير، ثم اعلموا رحمكم الله أن فضل الله يتوالى عليكم، فما انتهى شهر رمضان إلا وأعقبته أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة:197]، وهي شهر شوال، وشهر ذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، هذه أشهر الحج، وهي أيام مباركة، متى أحرم المسلم فيها بالحج انعقد إحرامه، وتبدأ من يوم العيد، من يوم عيد الفطر، أول يوم من شوال، فرمضان يؤدى فيه ركن الصيام، وأشهر الحج يؤدى فيها ركن الحج، فنِعم الله تتوالى على العباد، فلله الحمد والمنة على فضله وإحسانه، ثم اعلموا عباد الله أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، إنك على كل شيء قدير، اللهم إن أعداء الدين من الكفرة والمنافقين استطالوا على عبادك، وطغوا، وبغوا، وساموا عبادك المؤمنين سوء العذاب، شردوهم من ديارهم، قتلوهم في بيوتهم، دمروا اقتصادهم، كل ذلك من الكيد للإسلام والمسلمين، اللهم وأنت العزيز الجبار المنتقم، اللهم عاجلهم بالعقوبة، اللهم عاجلهم بالعقوبة، اللهم عاجلهم بالعقوبة، اللهم إنهم طغوا وبغوا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم لا تسلطهم علينا بذنوبنا، اللهم اكفنا شرهم، اللهم أضعف قوتهم، اللهم فرق جماعتهم، اللهم شتت شملهم، اللهم خالف بين قلوبهم، اللهم سلط بعضهم على بعض، واكفنا شرهم، وكف عنا كيدهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، وولاة أمور المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح بطانتهم، وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل:90-91]، فاذكروا اللهَ يذكرْكم، واشكُروا نِعمَه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
خطبة الجمعة مواصلة العمل الصالح بعد رمضان لسماحة العلامة صالح الفوزان
الحمد لله الواحد القهار، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مسمى، ألا هو العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعتبروا بسرعة مرور الليالي والأيام، فإنها من أعماركم، وهي خزائن أعمالكم، وفي يوم القيامة تُفتّح هذه الخزائن لكم، فالمؤمنون يجدون في خزائنهم العزة والكرامة، والمفرطون يجدون في خزائنهم الذلة والإهانة، فاملؤوا هذه الخزائن بتقوى الله سبحانه وبالأعمال الصالحة قبل أن تغلق بانتهاء آجالكم، بالأمس القريب كنتم تعيشون في شهر عظيم، وموسمٍ كريم، وهو شهر رمضان المبارك، فانطوت أيامه، وتصرمت أوقاته، فانظروا ماذا أودعتم فيه من الأعمال، فما شهر رمضان إلا زيادة في عمر المسلم وفي عمله، يغتنمه في الخير، فلينظر كلٌ منا ما مر به عليه شهر رمضان من عمل صالح أو من تفريط، فإن كان عمِل فيه عملاً صالحاً فليحمد الله وليواصل عمله في بقية عمره ولا ينتهي عند رمضان، ومن كان مفرطاً في رمضان فباب التوبة مفتوح فلا يقنط من رحمة الله فليتب إلى الله عز وجل وليُصلح عمله في المستقبل، فإن الله يتوب على من تاب، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25]، (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، وليس عمل المسلم مقصوراً على شهر رمضان، وإنما عمل المسلم مستمر من حين يبلغ الحلم إلى أن يتوفاه الله، قال الله جل وعلا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، يعني الموت، فليس لعمل المسلم غاية دون الموت، قال بعض السلف: أدركت أقواماً لا يزيد دخول رمضان من أعمالهم شيئاً، ولا ينقص خروجه من أعمالهم شيئاً، لأنهم كانوا مجتهدين في العبادة في كل حياتهم في رمضان وفي غيره، ولكنَّ الله جعل شهر رمضان زيادة في عمل المسلم يُضيفه إلى عمله الصالح زيادة خير إلى خير، وجعله فرصةً للمفرّط ليتوب إلى الله عز وجل ويستدرك ما فاته، فهو خير كله على المسلمين، المؤمن يفرح بانتهاء شهر رمضان لأن الله وفقه لصيامه وقيامه واستكمله في طاعة الله، فهو يفرح بذلك أن مكنه الله من جميع الشهر في العمل الصالح، وأما المنافق والفاسق فهما يفرحان بانتهاء شهر رمضان لينطلقوا إلى شهواتهم، وملذاتهم، وغفلاتهم، لأنهم كانوا في سجن وفي أسر في شهر رمضان فلما انتهى ينطلقون إلى غفلتهم وسهوتهم، يسرحون ويمرحون في هذه الحياة إلى أن يأتيهم الموت إلا من وفقه الله جل وعلا وتاب إلى الله قبل مماته، فإن الله يتوب على من تاب، أيها المسلمون، إن من علامة قبول شهر رمضان أن تكون حال المسلم بعده أحسن من حاله قبل رمضان لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، والعمل الصالح يدعو إلى العمل الصالح، ورمضان شهر يعوّد المسلم على فعل الخير ويربيه على الطاعة، فهو بعد رمضان يستمر على طاعة الله ويتلذذ بها، إن مجال العمل الصالح مفتوحٌ آناء الليل والنهار في كل السنة، فإن أردت القيام فقيام الليل مشروعٌ في كل السنة، تقوم ما يسر الله لك، وتحافظ على ذلك وتداوم عليه، إن أردت الصيام فالصيام مشروع ومستحب في سائر السنة، في أيام معينة بينتها السُنَّة فحافظ على ذلك، إن أردت تلاوة القرآن فالقرآن ميسر في كل وقت (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]، فداوم على تلاوة القرآن فإنه حبل الله المتين بيدك، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]، وكذلك من اعتاد في شهر رمضان وألِف المساجد فإن المساجد مفتوحة ولله الحمد في سائر السنة، مفتوحة على مصراعيها، مهيأة للجلوس فيها، والصلاة فيها، وذكر الله فيها، لا سيما المحافظة على الصلوات الخمس، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38]، والمساجد هي بيوت الله، وهي قرة عيون المؤمنين، يترددون إليها، ويجلسون فيها، ويألفون فيها، وفي الحديث: "من ألِف المسجد ألِفه الله"، أو كما جاء، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلُه "ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد"، كلما خرج منها يرجع إليها، يتردد عليها في اليوم والليلة خمس مرات للصلوات المفروضة، ويجلس فيها ما تيسر له، والجلوس فيها اعتكاف، اعتكاف على طاعة الله سبحانه وتعالى، فهي بيوت الله، وهي مشع الأنوار، وهي مستقر الملائكة، ومستقر الرحمة، وهي حياة المسلمين في عباداتهم، وفي تعلمهم، وفي ذكرهم لله عز وجل، فهي أكبر نعمة أنعم الله بها على عباده، تُبنى بين بيوتهم، وفي حاراتهم، لا يتكلفون مشقة ً في الذهاب إليها، فهي نعمة من الله بين أظهركم، فاعمروها بطاعة الله سبحانه وتعالى، يا من تعودت على حفظ لسانك من الغيبة، والنميمة، والشتم، وقول الزور في شهر رمضان، حافظ على ذلك بعد رمضان، فأمسك لسانك فإن أطلقته قتلك، قتلك بالكلام السيء، بالغيبة، بالنميمة، بكل كلام محرم، أما إذا أمسكته واستعملته في ذكر الله أصبح خادماً لك في ذكر الله سبحانه وتعالى، يا من صُنت سمعك في رمضان عن استماع المعازف، والمزامير، والملاهي، صُن سمعك بعد رمضان عن ذلك، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء:36]، يا من تعودت حفظ نظرك عن النظر إلى الحرام في شهر رمضان، غُضَّ بصرك، وغُضَّ طرفك عما حرم الله، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:30-31]، فالله جل وعلا أمرنا بغضَّ الأبصار عما حرّم الله، عن النظر إلى النساء، عن النظر إلى الصور الفاتنة، عن النظر في الشاشات الخبيثة، الهابطة، التي تعرض السوء، وتعرض الفحش، وتعرض ما يخدش الحياء، ويخدش الإيمان، فلنحفظ أبصارنا عن هذه القنوات التي انتشرت بين الناس ودخلت كثيراً من البيوت، فعلينا أن نغضَّ أبصارنا عنها، فإن النظر سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فحافظ على غضَّ بصرك في سائر أيامك، كما غضضته في شهر رمضان، فما شهر رمضان إلا مربٍ لك، ما شهر رمضان إلا فترة ودورة تمر بك على الأعمال الصالحة تتربى عليها وتعتادها، فحافظ عليها، ولا تكن كالتي تقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، لأن بعض الناس يجتهد في رمضان، لكن إذا خرج رمضان عاد إلى التفريط، وعاد إلى المعاصي، فمحا ما كان عمله في شهر رمضان من خير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ* لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ) [الحشر:18-20]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد أيها الناس اتقوا الله واشكروه على نِعمه حيث بلغكم شهر رمضان، وأكمله لكم، ومكنكم فيه من الطاعة، وفعل الخير، ثم اعلموا رحمكم الله أن فضل الله يتوالى عليكم، فما انتهى شهر رمضان إلا وأعقبته أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة:197]، وهي شهر شوال، وشهر ذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، هذه أشهر الحج، وهي أيام مباركة، متى أحرم المسلم فيها بالحج انعقد إحرامه، وتبدأ من يوم العيد، من يوم عيد الفطر، أول يوم من شوال، فرمضان يؤدى فيه ركن الصيام، وأشهر الحج يؤدى فيها ركن الحج، فنِعم الله تتوالى على العباد، فلله الحمد والمنة على فضله وإحسانه، ثم اعلموا عباد الله أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، إنك على كل شيء قدير، اللهم إن أعداء الدين من الكفرة والمنافقين استطالوا على عبادك، وطغوا، وبغوا، وساموا عبادك المؤمنين سوء العذاب، شردوهم من ديارهم، قتلوهم في بيوتهم، دمروا اقتصادهم، كل ذلك من الكيد للإسلام والمسلمين، اللهم وأنت العزيز الجبار المنتقم، اللهم عاجلهم بالعقوبة، اللهم عاجلهم بالعقوبة، اللهم عاجلهم بالعقوبة، اللهم إنهم طغوا وبغوا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم لا تسلطهم علينا بذنوبنا، اللهم اكفنا شرهم، اللهم أضعف قوتهم، اللهم فرق جماعتهم، اللهم شتت شملهم، اللهم خالف بين قلوبهم، اللهم سلط بعضهم على بعض، واكفنا شرهم، وكف عنا كيدهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، وولاة أمور المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح بطانتهم، وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل:90-91]، فاذكروا اللهَ يذكرْكم، واشكُروا نِعمَه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.