المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أقوال العلماء في فضل عبادة الصيام


كيف حالك ؟

بو زيد الأثري
07-10-2013, 10:04 AM
أقوال العلماء في فضل عبادة الصيام


أولاً: فضيلة الشيخ العلامة ابن عثيمين – رحمه الله-:

إخْوانِي: اعلمُوا أنَّ الصومَ من أفضَلِ العباداتِ، وأجلِّ الطاعاتِ جاءَتْ بفضلِهِ الآثار، ونُقِلَتْ فيه بينَ الناسِ الأَخبار.

فَمِنْ فضائِلِ الصومِ أنَّ اللهَ كتبَه على جميعِ الأُمم، وَفَرَضَهُ عَلَيْهم:

قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، [البقرة: 183]. ولَوْلاَ أنَّه عبادةٌ عظيمةٌ لاَ غِنَى لِلْخلقِ عن التَّعَبُّد بها للهِ، وعما يَتَرَتَّب عليها مِنْ ثوابٍ ما فَرَضَهُ الله عَلَى جميعِ الأُمَمِ.

ومِنْ فضائل الصومِ في رَمضانَ: أنَّه سببٌ لمغفرة الذنوبِ وتكفيرِ السيئاتِ، ففي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ صَامَ رمضان إيماناً واحْتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم مِن ذنبه» يعني: إيماناً باللهِ ورضاً بفرضيَّةِ الصَّومِ عليهِ، واحتساباً لثَوابه وأجرهِ، لم يكنْ كارِهاً لفرضهِ ولا شاكّاً فيَ ثوابه وأجرهِ، فإن الله يغْفِرُ له ما تقدَم من ذنْبِه.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصَّلواتُ الخَمْسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ مُكفِّراتٌ مَا بينهُنَّ إذا اجْتُنِبت الْكَبَائر».

ومِنْ فضائِل الصوم أنَّ ثوابَه لا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعيَّنٍ بل يُعطَى الصائمُ أجرَه بغير حسابٍ. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ. والصِّيامُ جُنَّةٌ فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فَلاَ يرفُثْ ولا يصْخَبْ فإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أو قَاتله فَليقُلْ إِني صائِمٌ، والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدهِ لخَلُوفُ فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله مِن ريح المسك، لِلصائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهما؛ إِذَا أفْطَرَ فرحَ بِفطْرهِ، وإِذَا لَقِي ربَّه فرح بصومِهِ».

وَفِي رِوَايِةٍ لمسلم: «كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ لَهُ يُضَاعفُ الحَسَنَة بعَشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائِة ضِعْفٍ، قَالَ الله تعالى إِلاَّ الصَومَ فإِنه لِي وأَنَا أجْزي به يَدَعُ شهْوَتَه وطعامه من أجْلِي».

وَهَذَا الحديثُ الجليلُ يدُلُّ على فضيلةِ الصومِ من وجوهٍ عديدةٍ:

الوجه الأول: أن الله اختصَّ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال، وذلك لِشرفِهِ عنده، ومحبَّتهِ له، وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: «يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي». وتظهرُ فائدةُ هذا الاختصاص يوم القيامَةِ كما قال سَفيانُ بنُ عُييَنة رحمه الله: إِذَا كانَ يومُ القِيَامَةِ يُحاسِبُ الله عبدَهُ، ويؤدي ما عَلَيْه مِن المظالمِ مِن سائِر عمله، حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلاَّ الصومُ يتحملُ اللهُ عنه ما بقي من المظالِم، ويُدخله الجنَّةَ بالصوم.

الوجه الثاني: أن الله قال في الصوم: «وأَنَا أجْزي به». فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ؛ لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].

الوجه الثالث: أن الصَّومَ جُنَّةٌ: أي وقايةٌ وستْرٌ يَقي الصَّائِمَ من اللَّغوِ والرَّفثِ، ولذلك قال: «فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ وَلاَ يَصْخبْ»، ويقيه من النَّار. ولذلك روى الإِمام أحمدُ بإسْناد حَسَنٍ عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الصيام جُنَّةٌ يَسْتجِنُّ بها العبدُ من النار».

الوجه الرابع: أنَّ خَلوفَ فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسْكِ لأنَّها من آثارِ الصيام، فكانت طيِّبةً عندَ الله سبحانه ومحْبُوبةً له. وهذا دليلٌ على عَظِيمِ شأنِ الصيامِ عند الله حَتَّى إنَّ الشيء المكروهَ المُسْتخْبَثَ عند الناس يَكونُ محبوباً عندَ الله وطيباً لكونِهِ نَشَأ عن طاعَتِهِ بالصيام.

الوجه الخامس: أن للصائِمِ فرْحَتينْ: فَرحَةً عند فِطْرِهِ، وفَرحةً عنْد لِقاءِ ربِّه. أمَّا فَرحُهُ عند فِطْرهِ فيَفرَحُ بِمَا أنعمَ الله عليه مِنَ القيام بعبادِة الصِّيام الَّذِي هُو من أفضلِ الأعمالِ الصالِحة، وكم أناسٍ حُرِمُوْهُ فلم يَصُوموا. ويَفْرَحُ بما أباحَ الله له مِنَ الطَّعامِ والشَّرَابِ والنِّكَاحِ الَّذِي كان مُحَرَّماً عليه حال الصوم. وأمَّا فَرَحهُ عنْدَ لِقَاءِ ربِّه فَيَفْرَحُ بِصَوْمِهِ حين يَجِدُ جَزاءَه عند الله تعالى مُوفَّراً كاملاً في وقتٍ هو أحوجُ ما يكون إِلَيْهِ حينَ يُقالُ: «أينَ الصائمون ليَدْخلوا الجنَّةَ من بابِ الرَّيَّانِ الَّذِي لاَ يَدْخله أحدٌ غيرُهُمْ». وفي هذا الحديث إرشادٌ للصَّائِمِ إذا سَابَّهُ أحدٌ أو قَاتله أن لا يُقابِلهُ بالمثْلِ لِئَلا يزدادَ السِّبابُ والقِتَالُ، وأن لا يَضْعُف أمامه بالسكوت بل يخبره بأنه صائم، إشارة إلى أنه لن يقابله بالمثل احتراماً للصوم لا عجزاً عن الأخذ بالثأر وحيئنذٍ ينقطع السباب والقتال: {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35].

ومِنْ فَضائِل الصَّومِ أنَّه يَشْفَع لصاحبه يومَ القيامة. فعَنْ عبدالله بن عَمْرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصِّيامُ والْقُرآنُ يَشْفَعَان للْعبدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصيامُ: أي ربِّ مَنَعْتُه الطعامَ والشَّهْوَة فشفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ منعتُه النوم بالليلِ فشَفِّعْنِي فيهِ، قَالَ فَيشْفَعَانِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ.

إخْوانِي: فضائلُ الصوم لا تدركُ حَتَّى يَقُومَ الصائم بآدابه. فاجتهدوا في إتقانِ صيامِكم وحفظِ حدوده، وتوبوا إلى ربكم من تقصيركم في ذلك.

اللَّهُمَّ احفظْ صيامَنا واجعلْه شافعاً لَنَا، واغِفْر لَنَا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلَّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

( من كتاب مجالس شهر رمضان، لفضيلة الشيخ العلامة ابن عثيمين – رحمه الله- )


ثانياً: سماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ:

إنَّ المسلم حينَما يتأمَّل الصيامَ وفوائدَه ليعلَم حقًّا أنّه من أقوى الأسبابِ المحقِّقة للتقوى في قلب المؤمِن. التقوَى حقيقتُها امتثال أوامرِ الله على بصيرة من أمرِه واجتنابُ نواهي الله على علمٍ وبصيرة، يمتثِل الأوامرَ يرجو بها ثوابَ الله، وينتهي عن النواهِي يخاف [بفِعلِها] من عقابِ الله.

الصائِمُ حينما يمتنِع عن الطعام والماءِ ومواقعةِ النساء منذ طلوع الفجرِ الثاني إلى غروبِ الشمس ما الذي دعاه لهذا الانقياد؟! ما الذي فرضَ عليه هذا؟! أَحميَةً التَزمَها أم مجرَّد عادةٍ فعلها؟! لا، إنما كان امتناعُه عن ملذّات النفس وما تدعو إليه النفسُ وما تميل إليه النفس بطَبعِها من ماءٍ وطعامٍ ونِساء إنما ترَك ذلك لأجلِ الله، إنما امتَنع عنها في نهارِ الصّيام تقرُّبًا إلى اللهِ، إنَّ الذي دعاه خوفُه من الله وخوفُه من المقام بين يدَيِ الله: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، [الرحمن:46].

الصّائِم قد يظهَر للناس أنه صائم وهو في داخِلِ منزله آكلٌ شاربٌ آتٍ للنّساء، وأمَامَ الناس إنّه الصائم المتعبِّد، قد يكون هذا، لكن المؤمِن حقًّا بعكس هذا، حينَما تدعوه النفسُ إلى ما تميلُ إليه من طعامٍ وشرابٍ ونساء يترُكها لما قام بقلبِه من اليقين الجازِمِ أنَّ الله مطَّلِعٌ عليه وعالِم بسرِّه وعلانِيتِه: ( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)، [آل عمران:29]. إذًا ففي الصّيام تقويةٌ لجانب الإخلاص، وفي الصيام تقويَة لصِدقِ التعامل مع الله، وفي الصّيام إظهارُ الخضوع والذلِّ لله جلّ وعلا.

إنّ الصائم والماءُ والشراب والمُتَع بين يديه، ينظر إليها بعَينَيه، وبإمكانِهِ تَناوُلُ ما شاء منها، إذًا فيدعوه عندما يؤلمه الجوعُ والظّمأ إلى شُكر الله على النّعمة التي هي عندَه وما ترَكَها إلاّ طاعةً لله، فيتصوَّر عظيمَ نِعَم الله عليه: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)، [إبراهيم:34]،( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ) [النحل:53]. والنّعَم إنَّما يعرف قدرَها من فقَدَها، وهذا ليس فاقدًا لها، هي متواجِدة عنده لكنّه تركها لله، فيشكُر اللهَ ويزداد شكرًا لله وثَناء عليه.

إنّها تذكِّره بحال المعوِزِين والمحتاجين وبحال من تمرُّ الليالي والأيام والشهور وهم في بأساء وضرّاء وفاقةٍ وفَقر وعريّ، فيدعوه إلى رِقّة قلبِه ولين يدِه، فيمدّ يدَ الإحسان إلى الفقراءِ والمساكين والمعوِزين.

إنّه يربِّي في النفس قوّةَ الإرادة وتحمّل المشاقِّ والصبر على المتاعِبِ حينما يمتدُّ طولُ النهار وهو صائم لله جلّ وعلا، يعلِّمُه الصبرَ الحقيقيّ؛ الصبرَ على طاعةِ الله وعَدَم الملَل والضجَر، يعلِّمه الانضِباطَ في المواعيد، يعلِّمه قوّةَ الإرادةِ والتغلُّب على الهوَى وملذّاتِ النّفس.

إنّه صِحّةٌ للبدن، ينقِّيه من فضلات الطعامِ والشراب، ويهيِّئُه للمستقبل لحياةٍ طيبة.

إنّه دواءٌ للعبد، دواء لأمراضِ القلوبِ، عندَما يصوم المؤمِن رمضانَ فرمضانُ يكفِّر ما مضَى من الذّنوبِ، فيعِدّه لرمضانَ آخر وهو لا يزال في طُهرَة رَمضانَ ونقاءِ رمضان، ((الصلوات الخمس والجُمُعة إلى الجمعةِ ورَمضان إلى رمضانَ مكفِّراتٌ ما بينهنَ إذا اجتنبت الكبائر)).

يَصوم رمضانَ بإيمانٍ واحتساب تَصديقًا لإخبار الصادقِ المصدوقِ : ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه))، إيمانًا بوجوبِه واحتسابَ الثوابِ وطلبه من ربِّ العالمين.

إّنه الصيامُ الذي يهذِّب السلوكَ، يهذِّب سلوكَ العبد، ويروِّضه على الخير، يهذِّب أقواله وأعمالَه، فهو يدعوه إلى الحِلم والأناءةِ والصفحِ والإعراضِ عنِ الجاهلين وعَدمِ مجاراةِ السفهاء في سَفَههم، يقول : ((فإذا كان [يوم] صومُ أحدِكم فلا يرفُث ولا يسخَب، وإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقُل: إنِّي امرؤٌ صائم، إني امرؤٌ صائم)).

أيّها المسلِم: أبوابُ الجنّة الثمانية تفتَّح لك في هذا الشهرِ لأهل الإسلامِ لقوّةِ الطاعةِ وكَثرتها ونُدور الإجرامِ من أهل الإيمانِ، وتُغلق فيه أبوابُ النار، وينادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ من النار في كلِّ ليلةٍ.

أيّها المسلم: شهرٌ عظيم من أشهرِ الله، هو سيِّد الشهور عند الله، يقول يومًا لأصحابِه: ((أتاكم رمضانُ شهرُ بركةٍ، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمةَ، ويحطّ الخطيئةَ، ويستجيب الدعاءَ، ينظر الله إلى تَنافسِكم فيه، فيباهِي بكم ملائكتَه، فأروا الله من أنفسِكم خيرًا، فإنّ المحرومَ فيه من حرِم فضلَ الله)).

أيّها المسلِم: احفَظ حدودَ هذا الشهرِ، والتزِمِ الأدبَ الشرعيّ فيه؛ ليكونَ الصيام بتوفيقٍ مِن الله صِيامًا كامِلاً، في الحديث: ((من صامَ رمضانَ وعرَف حدودَه وتحصَّن ممّا ينبغي أن يُتَحصَّن منه كفَّر ما قبله)) .

إنَّ الله يكتب نوافلَ هذا الشهرِ قبل أن يدخِلَه، ويكتبُ وزرَه وشقاءه قبل أن يدخِلَه، كما قال ذلك محمّد حيث يقول: ((أتاكم رَمضانُ، ما مرَّ بالمسلمين شهرٌ هو خير لهم منه بِمحلوفِ رسول الله ، ولا مرَّ بالمنافقين شهرٌ هو شرّ لهم منه بمحلوفِ رسول الله ، إنَّ الله يكتُب أجرَه ونوافلَه قبل أن يدخلَه، ويكتب شقاءَه ووزرَه قبل أن يدخِلَه، وذلك أنَّ المؤمنَ يعِدّ فيه القوَّةَ للعبادَة، ويعدّ فيه الفاجر تَتُبّع غفلاتِ المسلمين وعوراتهم، فهو غنمٌ للمؤمن يغتَنِمه الفاجر)) .

كان نبيُّكم يبشِّر أصحابَه بهذا الشهرِ، ويعُدّ لهم خصالَ الخير فيه تَرغيبًا لهم في الفضلِ وشحذًا لهِمَمِهم لكَي يزدادوا خيرًا، يُروَى عن سلمانَ الفارسيّ عن رسول الله مرفوعًا قال: خَطَبنا نبيُّنا في آخرِ يومٍ من شعبانَ ثمّ قال: ((قد أَظلَّكم شهرٌ عظيم مبارَك، شَهر جعَل الله صيامَه فريضةً وقيامَ ليلِه تطوّعًا، من تقرَّب فيه بخصلةٍ مِن خِصال الخير كانَ كمَن أدّى فيهِ فريضةً، ومَن أدّى فيهِ فَريضةً كان كَمَن أدّى سَبعين فرِيضةً فيما سِواه، وهو شَهرُ الصبر والصّبرُ ثوابُه الجنّة، وشَهر المواساةِ وشَهرٌ يزادُ في رزق المؤمنِ فيه، شَهرٌ أوّلُه رَحمة، وأَوسطه مغفِرَة، وآخِرُه عِتقٌ مِنَ النار، مَن فطَّر فيه صَائمًا كان مَغفِرةً لذنوبه وعِتقَ رقَبتِه منَ النار، وكان له مِن الأجرِ مثلُ أجرِ الصائم من غيرِ أن ينقُص من أجرِ الصائم شيءٌ، ومَن خفَّف فيه عن مملوكِه أعتقَه الله من النّار، من سقَى فيه صائِمًا شربةَ ماءٍ سَقاه الله مِن حوضي شربةً لا يظمَأ بعدها حتى يدخُلَ الجنّة، فاستكثِروا فيه مِن أربعِ خِصالٍ، خصلتَين تُرضون بهما ربَّكم، وخَصلتَين لا غِناءَ بكم عنهما، فأمّا اللّتان ترضونَ بهما ربَّكم فشهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وتستغفرونَه، وأمّا الخصلَتان اللتان لا غِناءَ بكم عنهما فتَسألونَ الله الجنّةَ وتستعيذون به منَ النّار)) .

هَذا شهرُ رَمضَان، شَهر الصيامِ والقيامِ، شَهر تكفَّر فيه الذنوب والخطايا، وشهرٌ تجَاب فيه الدعواتُ، وشهر ينَال فيه المسلمون عظيمَ الخيراتِ.

يا أخي المسلِم: احمَد الله وأنت في عِداد الأحياء صَحيحًا مسلِمًا قادرًا على الصّيام، وتذكَّر حالَ من فقَدتَهم في مثلِ هذه الأيّام، تذكَّر من غيَّب الثرى أجسادَهم، تذكَّر أناسًا صَحِبتهم ثم فارَقوكَ، فاحمدِ الله على هذهِ النّعمة وتقرَّب إلى الله بالعَمَل الصالح. فرصةٌ للتائبين والنادمين، فرصةٌ للمخطئِين والمذنِبِين؛ أن يتوبوا إلى رَبهم في هذه الأيام والليالِي المباركةِ، فرصةٌ للمفرِّطين في أعمالهم أن يتدارَكوا نقصَهم، ويستعِينوا بالله على طاعَتِه، ويتوبوا إلى ربِّهم توبةً نصوحًا يَمحو الله بها ما مضَى من الذنوب، ويوفِّقهم فيها لعملٍ صالح يرضَاه عنهم.

يا أخِي: استبشِر بهذا الشهرِ، وافرَح به، واحمدِ الله على نِعمتِه، واعلم أنّ الله أحكَمُ منك وأرحَم، ما ابتَلاكَ لأجل أن تتركَ الطّعام والشّرابَ، ولكن ابتلاك لأن يَكونَ تركُك لهذه الملذّات سببًا لقوّةِ نفسك، لقوّةِ إيمانِك وإرادتك، لثباتِك على الحقِّ واستقامتك عليه.

أسأل الله الذي لا إلهَ غيره إِذ قرَّبنا مِن أيّامه أن يبلِّغَنا صيامه وقيامَه، وأن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، وأن يجعلَنا وإياكم فيه من الفائزِين برضوانه الناجين من عذابه المستغفِرين من الزلَل والخطَأ، إنّه على كل شيء قدير.

أقول قولي هَذا، وأستَغفِر الله العَظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغَفور الرّحيم.

( من خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ بعنوان: " انه الصيام " )



ثالثاً : معالي فضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان :

أيها المسلمون: نذكركم بفضيلة هذا الشهر المبارك ونسأل الله أن يوفقنا لاغتنام أوقاته بالعمل الصالح وأن يتقبل منا، ويغفر لنا خطايانا إنه سميع مجيب.

فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" [أخرجه البخاري رقم 1894، 1904 ومسلم رقم 1151]، فهذا الحديث الشريف يدل على جملة فضائل ومزايا للصيام من بين سائر الأعمال منها:

أن مضاعفته تختلف عن مضاعفة الأعمال الأخرى، فمضاعفة الصيام لا تنحصر بعدد، بينما الأعمال الأخرى تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

ومنها أن الإخلاص في الصيام أكثر منه في غيره من الأعمال لقوله: "ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي".

ومنها أن الله اختص الصيام لنفسه من بين سائر الأعمال، وهو الذي يتولى جزاء الصائم لقوله: "الصوم لي وأنا أجزي به".

ومنها: حصول الفرح للصائم في الدنيا والآخرة، فرح عند فطره بما أباح الله له، وفرح الآخرة بما أعد الله له من الثواب العظيم، وهذا من الفرح المحمود لأنه فرح بطاعة الله كما قال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}، [يونس 85].

ومنها: ما يتركه الصيام من آثار محبوبة عند الله وهي تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام، وهي آثار نشأت عن الطاعة فصارت محبوبة عند الله تعالى "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

ومن فضائل الصيام: أن الله اختص الصائمين بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم إكراما لهم كما في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" [أخرجه البخاري 1896 ومسلم 1152].

ومن فضائل الصيام: أنه يقي صاحبه مما يؤذيه من الآثام ويحميه من الشهوات الضارة، ومن عذاب النار، كما ورد في الأحاديث أن الصيام جُنَّة ـ بضم الجيم والنون المشددة المفتوحة ـ أي ستر حصين من هذه الأخطار.

ومن فضائل الصيام: أن دعاء الصائم مستجاب فقد أخرج ابن ماجة والحاكم عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد" [أخرجه ابن ماجة رقم 1753 والحاكم في المستدرك 1/422]، وقد قال الله تعالى في أثناء آيات الصيام: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} ، [البقرة 186] ليرغب الصائم بكثرة الدعاء.

ومن فضائله: أنه يجعل كل أعمال الصائم عبادة كما روى أبو داود الطيالسي والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا: "صمت الصائم تسبيح ونومه عبادة ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف" [أخرجه الديلمي في مسند الفردوس 3576 والهندي في كنز العمال وعزاه إلى أبي زكريا بن منده في أماليه رقم 23602].

ومن فضائل الصيام: أنه جزء من الصبر، فقد أخرج الترمذي وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام نصف الصبر" [أخرجه أحمد 4/ 260، والبهقي في شعب الايمان 7 / 177 رقم 3297، وابن ماجة رقم 1745] وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب.

ومن فضائل الصوم وفوائده الطبية أنه يسبب صحة البدن كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا تصحوا" رواه السني وأبو نعيم [ذكره الهندي في كنز العمال رقم 32605 وعزاه إلى ابن السني وأبي نعيم وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء 3 / 75، رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من خديث أبي هريرة بسند ضعيف، وقال الصاغاني موضوع]، وذلك لأن الصوم يحفظ الأعضاء الظاهرة والباطنة، ويحمي من تخليط المطاعم الجالب للأمراض، هذا وللصيام فوائد كثيرة لا يمكننا استيفاؤها، ولكن الغرض التنبيه على بعضها، وفي هذا القدر كفاية إن شاء الله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

( من كتاب إتحاف أهل الإيمان بدروس رمضان ، للشيخ الدكتور صالح الفوزان )

12d8c7a34f47c2e9d3==