هادي بن علي
09-14-2007, 04:45 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: وما جرى من البحث في مسألة الهلال، راجعت كلام بعض العلماء، وأحببت نقله لك، والمذاكرة معك. فقال في المغني: فصل: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً ولم يروا هلال شوال، أفطروا وجهاً واحداً. انتهى. وذكر مثله في الشرح الكبير، وزاد: لأن الشهر لا يزيد على ثلاثين، ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.، انتهى.
فأطلقا ولم يقيداه بالغيم، فظهر عدم الفرق; وحديث عبد الرحمن بن زيد الذي أشار إليه الشارح، هو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا شهد شاهدان ذوا عدل، فصوموا وأفطروا " 1.
[ الصيام بشهادة الشهود ]
وقال في الفروع: فصل: ومن صام بشاهدين ثلاثين يوماً، ولم يره إذاً أحد، أفطر، وقيل: لا، مع صحوه; واختاره في المستوعب، وأبو محمد الجوزي، لأن عدم الهلال يقين، فيقدم على الظن، وهي الشهادة. انتهى. وبعد حكاية صاحب التصحيح ما تقدم في الفروع، وذكر الخلاف فيما إذا صاموا بشهادة واحد، وأن عدم الإفطار حينئذ هو أحد الوجهين، قال: وظاهر كلامه في الحاويين، أن على هذا الأصحاب، فإنه قال فيهما: ومن صام بشهادة اثنين ثلاثين يوماً، ولم يره مع الغيم، أفطر، ومع الصحو يصوم الحادي والثلاثين؛ هذا هو الصحيح. وقال أصحابنا: له الفطر بعد إكمال الثلاثين، صحواً كان أو غيماً. انتهى.
فقد ظهر: أن قول الأصحاب هو: الفطر فيها، إذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، سواء كان صحواً أو غيماً، خلافاً لأبي محمد الجوزي، وخلافاً لتصحيح صاحب الحاويين; وقدمه في الفروع أيضاً، كما تقدم، وذكر بعده الصيام مع الصحو، بصيغة التمريض.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصر الشرح: وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه،
أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد; وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما: لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم; وقال في المحرر للمجد: وإذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال، لم يفطروا، كالصوم بالغيم، وقيل: يفطرون كالصوم بقول عدلين. انتهى. فذكر الخلاف في الفطر برؤية الواحد، ولم يذكر خلافاً في الفطر برؤية اثنين، ولم يفرق بين الصحو والغيم.
وقال في شرح العمدة: مسألة: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم. واستقصاء عبارات الأصحاب في ذلك يصعب، ولا أعلم لأئمة هذه الدعوة شيئاً يخالف ذلك؛ بل الذي يظهر موافقتهم في ذلك; قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره إن شاء الله. انتهى. وإن وجدت ما يخالف ذلك عمن ذكرنا أو غيرهم فاذكره، لأن القصد من المذاكرة معرفة الحكم للجميع. وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة مثل كلام الأصحاب، إلا أنه أوضح وأجلى وأشمل، فلأجل وضوحه وشموله إكمال شعبان، وإكمال رمضان، أسوقه.
قال، رحمه الله، في شرح العمدة: أما إذا صاموا بشهادة
اثنين، ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال، أفطروا، لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين، وذلك جائز، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا " 1 يقتضي ذلك؛ ولا يقال قد تبين غلطهما، لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع، لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام قبل، فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه. وأما إذا صاموا لإغمام الهلال، لم يفطروا، إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال بأن يشهد به شاهدان، أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين، قولاً واحداً، لما تقدم من الحديث والأثر. انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شهادة الأعراب؟
فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم بشهادة مجهول الحال. والأعرابي الذي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله. والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية.
وسئل: عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان... إلخ؟
فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر; وهو قول
مالك، وأبي حنيفة، وهو مروي عن عمر وعائشة، لحديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 1. وقيل: يفطر سراً، وهو قول الشافعي؛ قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع.
وكذلك الحكم إذا رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل أحد؛ وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين. واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر، لحديث: " وإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا " 2، رواه أحمد وغيره.
وأجاب أيضاً: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين، فالمشهور في مذهب أحمد أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع. وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعاً.
وأجاب أيضاً: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر.
وسئل: عن حديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 3
فأجاب: استدل به من يقول: إنه لو رأى هلال شوال وحده، لم يفطر إلا مع الناس، وهو قول الأكثر. وقيل: يفطر سراً، وهو قول طائفة من العلماء. وأما إذا رأى هلال رمضان، ورُدت شهادته، لزمه الصوم عند الأربعة. وعن أحمد رواية: لا يلزمه الصوم، اختاره الشيخ تقي الدين للحديث.
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا رئي الهلال في بلد... إلخ؟
فأجاب: وأما الهلال إذا ثبت أنه رئي في بعض بلاد المسلمين، عند مفت يعمل بما أثبت، لزم صيام الغرة 1. وأما بعض النواحي التي ظاهر فيها الكفر، فلا يعمل بها.
[ متى يؤمر الصبي بالصيام ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المميز، متى يؤمر بالصيام؟
فأجاب: أما الصبي الذي لم يبلغ، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه، أي على تركه.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يجب على الصبي الصوم؟
فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها، ويألف الخير.
[ نزول دم الحيض قبل الغروب ]
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم قبل غروب الشمس، هل تعتد بصومها؟
فأجاب: صومها ذلك اليوم غير تام.
[ صيام رمضان في السفر ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهما الأجر والثواب: عن صيام رمضان في السفر، مع إقامة المسافر في الجهاد بإزاء العدو؟ فإنه ربما حصلت المشقة بالصيام، مع الإقامة في شدة الحر، والمشي في الشمس، فهل ترى جواز الصيام؟ وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على إقامة مدة غير معلومة؟ وعلى القول بعدم الوجوب، فهل ترى استحبابه، أم الجواز فقط؟ فإن كان في المسألة آثار عن السلف، وما يستدل به من حديث، فأفيدونا به، شكر الله سعيكم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما المسألة الأولى، وهي: هل يجوز الصيام في سفر الجهاد، مع الإقامة في بلد أو مكان، مدة غير معلومة المقدار، مع وجود مشقة الصيام، لا سيما في شدة الحر والمشي في الشمس؟ فيجوز الفطر والحالة هذه، والدليل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}إلى قوله:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 183-184]. فهذا نص صريح لا يحتمل التأويل: أن المريض والمسافر يفطران في رمضان، ويقضيان عدة ما أفطرا من أيام أخر.
وقد ذكر المفسرون: أن هذه الآية الكريمة، أول ما نزل في فرض الصيام، ففرض الله فيه على المؤمنين الصيام، كما فرضه على من قبلهم، وبين أن ذلك أياماً معدودات، تسهيلاً على المؤمنين، بأن هذه الأيام يحصرها العد، ليست بالكثير التي تفوت العد؛ ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود، كناية عن القلائل، كقوله في أيام معدودة:{ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً } [سورة البقرة آية: 80]،{ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [سورة يوسف آية: 20]؛ هذا إن كان ما فرض صومه هنا رمضان، فيكون قوله هنا:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] عنى به رمضان؛ قال أبو حيان: وهو قول ابن أبي ليلى، وجمهور المفسرين.
وإن كان ما فرض صومه، هو: ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة، ويوم عاشوراء، كما كان ذلك فرضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: عنى بها هذه الأيام؛ قال: وإلى هذا ذهب ابن عباس وعطاء، قال ابن عباس وعطاء وقتادة، هي: أيام البيض. قال أبو حيان: قال أبو عبد الله، محمد بن أبي الفضل المريسي: في رأيي: الظلمات، احتج من قال: إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: " صوم رمضان نسخ كل صوم " فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعد، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى:{ فِدْيَةٌ }يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، وكان غيره.
وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [سورة البقرة آية: 183] يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله{شَهْرُ رَمَضَانَ } ، وإذا أمكن حمله على رمضان، فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ. وأما الخبر، فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الأمة. وما ذكر من التكرار، فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض، في رمضان، في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليه القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل إلى التخيير عن التضييق يعم الكل، حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنْزلة المقيم، من حيث تغير الحكم في الصوم؛ فبين أن حالة المريض والمسافر في الرخصة والإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم، لأن قوله تعالى:{ فِدْيَةٌ} يدل على التخيير... إلخ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً.
وعلى كلا القولين: لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني، فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، وكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النّزول. انتهى كلامه.
وقال في الفتح، أول كتاب الصيام، لما ذكر احتجاج البخاري بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }الآية [سورة البقرة آية: 183]، قال: أشار بذلك إلى مبدإ فرض الصيام، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه فيه شيء، فأورد ما يشير إلى المراد؛ فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث: حديث طلحة الدال على أنه لا فرض إلا رمضان، وحديث ابن عمر وعائشة المتضمن الأمر بصيام عاشوراء، وكأن المصنف أشار إلى أن الأمر في روايتهم محمول على الندب، بدليل حصر الفرض في رمضان، وهو ظاهر الآية لأنه تعالى قال:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [سورة البقرة آية: 183]، ثم بينه فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ}
وقد اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور، وهو المشهور عند الشافعية: أنه لم يجب قط صوم قبل رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية، أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية: حديث معاوية مرفوعاً: " لم يكتب الله عليكم صياماً " 1، وسيأتي في آخر الصيام. ومن أدلة الحنفية: ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة، المذكورين في هذا الباب بلفظ الأمر، وحديث الربيع بنت معوذ عند مسلم: " من أصبح صائماً، فليتم صومه " 2. قلت فلم نزل نصوم ونصوّم صبياننا وهم صغار، حتى فرض رمضان... الحديث، وحديث أم سلمة مرفوعاً: " من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " 3 الحديث، وبنوا على هذا الخلاف: هل يشترط في صحة الصوم الواجب،
بنية من الليل أم لا؟ انتهى. هذا ما يتعلق بقوله تعالى:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184].
ثم قال تبارك وتعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [سورة البقرة آية: 184]؛ فأباح سبحانه للمريض والمسافر، الفطر في رمضان، لوجود المشقة فيه غالباً، رحمة منه وتفضلاً على عباده المؤمنين، وأوجب عليهما قضاء ذلك إذا زال المرض والسفر اللذان علق بهما جواز الفطر عند الجمهور، أو وجوبه عند بعض السلف والخلف، وأخبر أنه عدة من أيام أخر؛ فدل على عدم وجوب التتابع. ثم قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، فأباح سبحانه وتعالى للذين يطيقون الفطر، وإن كانوا صحيحين مقيمين، وأوجب عليهم فدية طعام مسكين لكل يوم؛ وهذا على القراءة المشهورة، وهي الموجودة في المصاحف اليوم، وهذا قول معاذ بن جبل، وغير واحد من السلف والخلف. وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع: أنها نزلت:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها. وروى أيضاً من حديث نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة. وروى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }فقال ابن عباس: " ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ".
فحاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصوم عليه، بقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، وأما الشيخ الفاني الهرم، الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة أم لا؟ فيه قولان للعلماء; والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نص على جواز الفطر في رمضان للمريض والمسافر؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء فيما علمناه، مع وجوب القضاء عليهما.
فصل
وأما إن كان المسافر مقيماً مدة غير معلومة، بل لا يدري متى تنقضي حاجته، فمتى انقضت سار من مكانه إلى مقصوده الذي يريده، فهو في حكم السفر؛ على الصحيح من أقوال العلماء، بل قد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون. انتهى.
وقد اختلف العلماء في عدد المدة التي إذا أجمع المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام والصيام اختلافاً كثيراً: فالمشهور في مذهب أحمد: أنه إذا نوى الإقامة أكثر من
إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر؛ قال في الشرح الكبير: المشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام، إذا نوى الإقامة فيها أكثر من إحدى وعشرين صلاة، رواه الأثرم وغيره، وهو الذي ذكره الخرقي; وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، ثم حكى هذا أبو الخطاب، وابن عقيل. وعنه: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وروي عن عثمان وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعاً فصل أربعاً، لأن الثلاثة حد القلة، لقوله عليه السلام: " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " 1، فدل أن الثلاثة في حكم السفر، وما زاد في حكم الإقامة.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دونه قصر؛ ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد، لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: " إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمسة عشر ليلة، فأكمل الصلاة "، ولا يعرف لهما مخالف. وروي عن علي قال: " يتم الصلاة الذي يقيم عشراً، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غداً ". وعن ابن عباس أنه قال: " يقصر إذا أقام تسعة عشر يوماً، ويتم إذا زاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين؛ قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا "، رواه البخاري.
وقال? الحسن: " صل ركعتين ركعتين، إلا أن تقدم مصراً فأتم الصلاة وصم "، وقالت عائشة: " إذا وضعت الزاد والمزاد، فأتم الصلاة ". وكان طاووس إذا قدم مكة صلى أربعاً.
ولنا ما روى أنس، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نصلي ركعتين حتى رجع، وأقام بمكة عشراً يقصر الصلاة " 1، متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يؤم الناس؛ وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام "، وقد أجمع على إقامتها؛ فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع أكثر من ذلك أتم.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام لا يفقهه كل أحد، فقوله: أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة، وخامسة وسادسة وسابعة، ثم قال: وثامنة يوم التروية، وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس: أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة؛ فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام، وهو صريح في خلاف قول من حد بأربعة أيام.
وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف من الصحابة،
لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم. وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة، قال أحمد: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة، لأنه أراد حنيناً ولم يكن ثَمَّ أجمع المقام؛ وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على قول الحسن. انتهى كلامه.
وقد حمل الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس على غير ما حمله أحمد، وأن مراد ابن عباس بذلك تحديد مدة الإقامة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، فقال، رحمه الله: باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر; قوله: " ونحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا "، ظاهِرُه: أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد; وقد صرح أبو يعلى في روايته عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: " وإذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر "، ويؤيده صدر الحديث، وهو قوله: " أقام "; وللترمذي من وجه آخر عن عاصم: " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً " .
قوله في حديث أنس: " أقمنا بها عشراً " لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، ثم قال: وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة... " الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابعة عشر، فيكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما
قال أنس، ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى؛ ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا قام ببلد أربعة أيام قصر، وقال أحمد إحدى وعشرين صلاة.
وأما قول ابن رشد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس، في أن إقامته عشرة داخل في إقامته تسعة عشر، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان؛ فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لا ينوي الإقامة، بل كان متردداً حتى تهيأ له فراغ حاجته ويرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة.
ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: أنه لما كان أن الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر; وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلدة على ما جاورها وقرب منها، لأن منى وعرفة ليسا من مكة، ثم ذكر كلام أحمد في حديث أنس المتقدم.
وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة لأن هذه مواضع النسك، وهي في حكم التابع بمكة، لأنها المقصودة بالأصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد، والله أعلم.
وقال أيضاً قبل ذلك في حديث ابن عباس: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً بلياليها " 1، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده بمكة، فكذا رواه ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ: " سبعة عشر "، بلفظ تقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم، وقال عباد عن عكرمة: " تسعة عشر "، كذا ذكرها معلقة، وقد وصلها البيهقي.
ولأبي داود أيضاً من حديث عمران بن حصين: " غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين " 2، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري: عن عبد الله بن عباس: " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة " 3.
وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة، حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة، عد أحدهما. وأما رواية: خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق؛ وقد أخرجها النسائي في رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك; وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة؛ واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات،
وبها أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة.
وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة بكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن يزمع 1 الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه في دخول يوم الدخول والخروج فيها أو لا، وحجته حديث أنس الذي يليه. انتهى. وفيه نوع تلخيص وتقديم وتأخير.
وأنت، رحمك الله، إذا تأملت هديه صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وأنه يقيم في بعضها المدة الطويلة والقصيرة، بحسب الحاجة والمصلحة، ولم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقام أحدكم أربعة أيام في مكان أو بلد أو أكثر أو أقل من ذلك، فليتم صلاته وليصم، ولا يترخص برخص السفر التي جاءت بها الشريعة السمحة، مع أن الله سبحانه وتعالى فرض عليه البلاغ المبين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، تبين لك: أن الصواب في هذه المسألة، ما اختاره غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن المسافر يجوز له القصر والفطر ما لم يجمع
على إقامة أو يستوطن، فحينئذ يزول عنه حكم السفر، ويكون حكمه حكم المقيم.
هذا هو الذي دل عليه هديه صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكلام على فوائد غزوة تبوك، قال: ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر رجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة؛ وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجه عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة في ذلك الموضع. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين " 1 الحديث.
وظاهر كلام أحمد: أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح، فإنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنيناً، ولم يكن ثم أجمع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس; وقال غيره: بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك، كما قال جابر: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة " 2، رواه الإمام أحمد.
وقال المسور بن مخرمة: " أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة، يقصرها سعد ونتمها ". وقال نافع: " أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر فصلى ركعتين، وقد حال الثلج
بينه وبين القفول ". وقال حفص بن عبد الله: " أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة مسافر ". وقال أنس: " أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ". وقال الحسن: " أقمنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل، يقصر الصلاة ولا يجمع ". وقال إبراهيم: " كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين وأكثر من ذلك، لا يجمعون ولا يشرقون "؛ فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصواب.
ثم ذكر مذاهب الناس التي تقدمت، وأن أحمد حمل الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعُوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج; وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي؟ وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام، ويهدم قواعد الشرك، ويمهد ما حولها من العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام، ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو; ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل تحتاج إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر، يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومعلوم أن مثل هذا الثلج لا يذوب ويتحلل في أربعة أيام، بحيث تنفتح الدروب، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر الصلاة، وإقامة الصحابة برامهرمز
سبعة أشهر يقصرون؛ ومعلوم أن مثل هذا الجهاد والحصار يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام.
وقد قال أصحاب أحمد: لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة؛ وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا: شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهي: ما دون الأربعة الأيام. فيقال: من أين لكم هذا الشرط؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام زيادة على الأربعة الأيام يقصر بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتداء الصحابة بعده، ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك.
ثم ذكر أقوال الناس، ثم قال: والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا قول الشافعي في أحد قوليه: فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر، أو ثماني عشر، ولا يقصر بعدها. وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. انتهى. وهذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فيه نظر
لا يخفى، وأظن أن مراده بذلك إجماع الجمهور، والله أعلم.
فصل
الذين يجوز لهم الفطر في رمضان
والذين يجوز لهم الفطر في رمضان أنواع: النوع الأول: المجمع عليه، وهو ما نص الله عليه في كتابه، في قوله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [سورة البقرة آية: 184]، وهو المريض، والمسافر؛ فهذان نوعان، مجمع على جواز الفطر لهما في الجملة. النوع الثالث: ما فهمه الصحابة، رضوان الله عليهم، من قوله تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، وما فهموا من القراءة الأخرى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يكلفونه ويشق عليهم؛ وهم أنواع كثيرة:
الأول: الحامل التي تخاف على نفسها وولدها.
الثاني: المرضع التي تخاف على ولدها، سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، والولد لها أو لغيرها.
الثالث: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، اللذين يشق عليهما الصيام.
الرابع: صاحب العطش الذي يشق عليه الصيام.
فكل هؤلاء الأنواع الأربعة، ثبت عن الصحابة جواز الفطر لهم؛ فمنهم من أوجب القضاء على هؤلاء مع الفدية، ومنهم من أوجب الفدية دون القضاء. قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها، تفطر وتقضي وتطعم، أذهب إلى حديث أبي هريرة.
وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تقضي،
وكان ابن عباس يقرؤها: { يطوّقونه } قال: يكلفونه، ومن قرأ: { يطيقونه } فإنها منسوخة، نسخها قوله:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فقد ثبت عن ثلاثة من الصحابة وجوب الفدية، ولا يعرف لهم مخالف، واختلفوا في القضاء; وعن عطاء عن ابن عباس، كان يرخص في الفطر في رمضان للشيخ الكبير والحامل، والمرضع، ولصاحب العطش، أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، رواه سعيد.
وأما الظئر التي ترضع ولدها بأجرة أو بدونها، فذكر ابن عقيل أنها تستبيح الفطر، كاستباحته لولدها، لأن أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق، فهي كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه، وطرده العمل في الصنائع الشاقة، إذا بلغت منه الجهد؛ وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإفطار لم يبح في حقه، ولا في حق غيره. ومن لم يمكنه إنجاء شخص من المهلكة إلا بالفطر، مثل أن يكون غريقاً، أو يريد أحد أن يقاتله أفطر. وكذلك إذا أحاط العدو ببلد، وكان الصوم المفروض يضعفهم، فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين، ذكرهما الخلال في كتاب السير.
وقال في الإنصاف: ونقل حنبل إذا كانوا بأرض العدو، وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. واختار الشيخ تقي الدين: الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب; قال: ولو خاف بالصوم ذهاب ماله، يعني أفطر; وقال في الشرح الكبير:
والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في إباحة الفطر، لأنه في معناه; قال الإمام أحمد فيمن به شهوة غالبة، يخاف أن تنشق أنثياه، فله الفطر.
وقال في الجارية: تصوم، فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض، يعني إذا حاضت وهي صغيرة؛ قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام، فيباح لها الفطر، وإلا فلا. وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة حديثاً يشهد لهذه الرواية، وهو عن أبي العلاء ابن الشخير عن عائشة: " أنه أجهدها العطش وهي صائمة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يوماً "، قال: رواه حرب بإسناد جيد. انتهى. والله سبحانه أعلم.
فصل
فظهر بما ذكرناه الجواب عن قول السائل ألهمه الله الصواب: وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على الإقامة مدة غير معلومة؟ أن ذلك لا يجب على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وإنما الإشكال في الاستحباب أو الجواز، فإذا تقرر أن إقامة المسافر في مدة غير معلومة، أو معلومة لكنه لم ينو الاستقرار والاستيطان، أن ذلك لا يقطع حكم السفر؛ بقي الكلام في استحباب الصيام في السفر أو جوازه.
فاعلم أن هذه مسألة اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً: فذهب عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، أن ذلك لا يجوز، فإن صام أمر بالإعادة؛ قال أحمد، رحمه الله: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة. وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنه قال: " الصيام في السفر كالفطر في الحضر "، وهو قول أبي محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصوم في السفر " 1، متفق عليه. ولأنه صلى الله عليه وسلم " أفطر في السفر، فلما بلغه أن قوماً صاموا، قال: أولئك العصاة " 2. وروى ابن ماجة بإسناده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " 3.
قال في الشرح: وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول، قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف، هجره الفقهاء كلهم، والسنة ترده، وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فصم " 4، متفق عليه. وحديث أنس: " كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 5، متفق عليه. قال: وأخبارهم محمولة على تفضيل الفطر. انتهى.
ففي هذا دليل على أن الشارح وغيره من الأصحاب، وافقوا على نفي الاستحباب; ومن تأمل أدلة الفريقين حق
التأمل، وترك التعصب والتقليد، تبين له أن غاية الأمر هو الجواز، مع ما يعارضه من الأدلة، التي هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، كما قاله الزهري وغيره في هذه المسألة; وأما الاستحباب: فالأدلة الصحيحة الصريحة تدل على نفي ذلك لمن تأمل، مع أنه قد قال بذلك طائفة من السلف.
وقد قال أبو محمد ابن حزم في المحلى: فأما قولنا إنه لا يجوز الصوم في السفر، فإن الناس اختلفوا: فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة لا بد له من الفطر، لا يجزيه صوم. ثم افترق القائلون بتخييره: فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم، ولا بد له من الفطر. فروينا القول الأول عن علي، من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال: " من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر، فقد لزمه الصوم، لأن الله تعالى قال:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } "، وعن عبيدة مثله، ومن طريق ابن عباس مثله، وروي عن عائشة أم المؤمنين: " أنها نهت عن السفر في رمضان "، وعن أبي مجلز، وإبراهيم النخعي مثله.
وأما الطائفة المجيزة للصوم والفطر، المختارة للصوم،
فهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، فشغبوا بقول الله تعالى:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 184]، واحتجوا بأخبار، منها حديث سلمة ابن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه " 1، ومن طريق ابن سعيد وأبي الدرداء وجابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالفطر وهو صائم، فترددوا، فأفطر هو عليه السلام "، وذكروا عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها " أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ". وعن أبي موسى " أنه كان يصوم في رمضان في السفر "، وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: الصوم أفضل، وعن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله، وعن طاووس: الصوم أفضل، وعن الأسود بن يزيد مثله.
واحتج مَن رأى الأمرين سواء، بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: " يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة " 2، وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون " أن رجلين سافرا، فصام أحدهما وأفطر الآخر، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما أصاب " ، وبحديث أبي سعيد وجابر: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 3، وعن عطاء: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 4.
وأما من رأى الفطر أفضل، فاحتجوا بحديث حمزة بن عمرو: " هي رخصة من الله تعالى؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن
أحب أن يصوم فلا جناح عليه " 1.
وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم: سعد بن أبي وقاص؛ وصح عن ابن عمر: " أنه كان لا يصوم في السفر، وكان معه رفيق، وكان يقول: يا نافع، اصنع له سحوره. قال نافع: كان ابن عمر يقول: رخصة ربي أحب إلي، وإن آجر لك أن تفطر في السفر ".
قال أبو محمد: ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال، فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض، لأن كلها متفقة على جواز الصوم في رمضان في السفر، وهو خلاف قولنا؛ وإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك؛ فنقول وبالله نتأيد ونستعين:
أما قول الله تعالى:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 184]؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، وكذب كذباً فاحشاً، من احتج بها في إباحة الصوم في السفر، لأنه حرف كلام الله عن مواضعه؛ نعوذ بالله من مثل هذا، وهذا عار لا يرضاه محقق، لأن نص الآية:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلى قوله:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 183-184]. وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة، وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان: من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم مسكيناً، وكان الصوم أفضل، هذا نص الآية؛ وليس للسفر فيها مدخل أصلاً، ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلاً، وبهذا جاءت السنن. ثم ذكر الأحاديث، والآثار في ذلك.
ثم قال: وأما حديث ابن المحبق: " من كانت له
حمولة... إلخ "، فحديث ساقط، لأنه من رواية عبد الصمد بن حبيب، وهو بصري لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق، وهو مجهول. وأما حديث الغطريف وأبي عياض، فمرسلان، ولا حجة في مرسل. وأما حديث حمزة بن عمرو، فإنه من رواية ابن ابنه: حمزة بن محمد بن حمزة، وهو ضعيف، وأبوه كذلك؛ وإنما الثابت من حديث حمزة، هو كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما حديث أبي سعيد، وأبي الدرداء، وجابر، فلا حجة لهم في شيء منها، لوجهين: أحدهما: أنه ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائماً رمضان؛ وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن، وقد يمكن أن يكون صائماً متطوعاً. والثاني: أنه لو كان ذلك فيها نصاً لما كان لهم فيه حجة، لأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيجاب الفطر في رمضان في السفر؛ فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحاً لكان منسوخاً بآخر أمره عليه الصلاة والسلام، كما نذكره إن شاء الله.
وأما احتجاج من أوجب الصوم في السفر، لمن أهل عليه الشهر في الحضر، بقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فلا حجة لهم في هذه الآية، لأن الله تعالى لم يقل: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصمه، وإنما أوجب تعالى صيامه على من شهد الشهر، لا على من شهد بعضه.
ثم يبطل قولهم أيضاً: قول الله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]؛ فجعل السفر والمرض ناقلين عن الصوم فيه إلى الفطر، وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سافر في رمضان عام الفتح فأفطر، وهو أعلم بمراد ربه تعالى.
قال أبو محمد: فإذا لم يبق لهم حجة لا من قرآن، ولا من سنة، فلنذكر البراهين على حجة قولنا بحمد الله تعالى وقوته. ثم ذكر حجته بالآية:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]، قال: وهذه الآية محكمة بإجماع أهل الإسلام، لا منسوخة ولا مخصوصة، ثم ذكر حديث جابر: ?" أولئك العصاة "، وقوله: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، وحديث عبد الله بن الشخير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد دعاه إلى الغداء: أتدري ما وضع الله عن المسافر؟ قلت: ما وضع الله عن المسافر؟ قال: الصوم وشطر الصلاة ". قال: وهذه آثار متواترة متظاهرة، لم يأت شيء يعارضها؛ فلا يجوز الخروج عنها.
فإن قيل: فإن هذه الأخبار مانعة كلها بعمومها من كل صوم في السفر، وأنتم تبيحون فيه كل صوم إلا رمضان وحده، قلنا: نعم، لأن النصوص قد جاءت بمثل ما قلنا، لأن الله تعالى قال:{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [سورة البقرة آية: 196]؛ فافترض تعالى صوم الثلاثة الأيام في
السفر ولا بد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصوم يوم عرفة، ما سنذكره إن شاء الله، وهو في السفر لمن كان حاجاً، وقال عليه الصلاة والسلام: " إن أفضل الصيام صيام داود: يصوم يوماً ويفطر يوماً " 1؛ فعم ولم يخص. وقال عليه الصلاة والسلام: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه " 2؛ فحض على الصوم في السفر، فوجب الأخذ بجميع النصوص.
فخرج رمضان في السفر بالمنع وحده، وبقي سائر الصوم واجبه وتطوعه على جوازه في السفر؛ ولا يجوز ترك نص لآخر. ثم ذكر الآثار عن عمر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والزهري وعلي بن الحسين ومحمد ابنه والقاسم بن محمد ويونس بن عبيد، أنهم أنكروا الصيام في السفر؛ فمنهم من يأمره بالقضاء، ومنهم من ينكره ولم يذكر عنه الأمر بالقضاء. انتهى ملخصاً.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد عليه الحر: " ليس من البر الصيام في السفر " 3، لما ذكر أقوال الناس في المسألة، قال: والذي يترجح: قول الجمهور؛ لكن يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة؛ وقد روى أحمد بن حنبل من طريق أبي طعمة، قال: " قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له
ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "؛ وهذا محمول على من رغب عن الرخصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 1.
وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له; وقد أزال ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد، قال: " إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ادفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم؛ فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك "، ومن طريق مجاهد أيضاً عن جنادة بن أبي أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وستأتي في الجهاد، ومن طريق مورق عن أنس نحو هذا مرفوعاً، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في المفطرين لما خدموا الصيام: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " 2.
واحتج من منع الصوم أيضاً بما وقع في الحديث الماضي، أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ.
وتعقب أولاً: بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونسب من صام إلى العصيان؛ ولا حجة في شيء من ذلك، لأن مسلماً أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم
صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنَزَلنا منـزلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا؛ وكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر "، وهذا الحديث نص في المسألة؛ ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه، وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو.
وروى الطبراني في تهذيبه، من طريق خيثمة: " سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر؟ فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، فقلت له: أين هذه الآية:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعاً، وننْزل على غير شبع; وأما اليوم، نرتحل شباعاً، وننْزل على شبع "، وأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.
وأما الحديث المشهور: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " 1 فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعاً، من حديث ابن عمر، بسند ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق أبي سلمة عن عائشة أيضاً، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعاً، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً، كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وعلى
تقدير صحته، فهو محمول على ما تقدم أولاً، حيث يكون الفطر أولى من الصوم، والله أعلم.
وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، فسلك المجيزون فيه طرقاً: فقال بعضهم: قد خرج على سبب فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله؛ وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، وكذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب، من رواية كعب بن عاصم الأشعري، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كهيئة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم؟ أيّ وجع به؟ قالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم ". قال: فكان قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان في مثل تلك الحال.
وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة: أن كراهية الصوم في السفر مختصة لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينْزل قوله: " ليس من البر الصوم في السفر " 2 على مثل هذه الحال، قال: والمانعون من الصيام في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين الأدلة، السبب والسياق والقرائن، على تخصيص العام، وعلى مراد
المتكلم، وبين مجرد حمل ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنُزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان؛ وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم، فهو المرشد لبيان المجملات وتعيين المحملات، كما في حديث الباب. وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث، على من أبى قبول الرخصة، قال: ويحتمل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم؛ وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.
وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا الكامل، الذي هو أعلى مراتب البر؛ وليس المراد به إخراج الصوم عن أن يكون براً، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين بالطواف " 1، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غناء يغنيه، ويستحي أن يسأل، ولا يفطن له. انتهى، وفيه بعض تلخيص.
ولا يخفى ضعف هذا المسلك، الذي سلكه الطحاوي في هذا الموضع، وقد شنع ابن حزم في شرح المحلى على قائل ذلك، وقال: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار، بنص قوله عليه السلام؛ وليس إذا وجد نص قد جاء نص آخر أو إجماع بإخراجه عن ظاهره، وجب أن يبطل جميع النصوص،
وتخرج عن ظاهرها. ويقال له: إذا قلت هذا، فقله أيضاً في قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [سورة البقرة آية: 177]، ولا فرق. انتهى.
وقول الحافظ، رحمه الله، في حديث أبي سعيد: أنه نص في المسألة، من العجب، لأن أبا سعيد لم يذكر أن ذلك الصيام الذي فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النهي كان في رمضان؛ فهو محتمل لأن يكون صيام تطوع.
وقوله: ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه؛ وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه؛ فأي شاهد في قوله: " أولئك العصاة " في أن الفطر أفضل من الصيام، والصيام جائز لكن الفطر أفضل، وهو صريح في أنهم عصاة لله ورسوله حين صاموا، وقد نهاهم عن ذلك وأمرهم بالفطر.
والمقصود: أن القائلين باستحباب الصيام ليس معهم حجة صحيحة أصلًا، بل الأدلة الدالة على النهي عنه أظهر؛ وغاية الأدلة أن تدل على الجواز، وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره، وأما الاستحباب فبعيد جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأجاب أيضاً: أما جواز الإفطار في رمضان، فيجوز الصيام والإفطار، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم وأفطر في السفر.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: أما
مسألة الفطر للمسافر في رمضان والصيام، فالذي دلت عليه الأحاديث: أن المسافر إذا كان سفره مباحاً، أنه يخير بين الفطر والصيام؛ فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر. روى الترمذي عن عائشة، رضي الله عنها: " أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 1، قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح. وأخرج أبو داود عن أبي سعيد، قال: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فما يعاب على الصائم صومه، ولا على المفطر فطره " 2؛ وفيه أحاديث غير هذين الحديثين.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة، في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن فطر من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟
فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن لا يعتاش إلا من الحشيش وأشباهه، ولا يقدر إلا مفطراً؟
فأجاب: إذا صار رجلاً ضعيفاً، ويعتاش من الكلإ
حشيشاً وأشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطراً، فإن كان يقدر أن يعتاش بلا حرفته هذه فلا يفطر; فإن كان ليس له ما يقوم به إلا حرفته هذه، ولو يتركها لحقه الضرر، فأرجو أنه يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات. وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا له عذر، والذي يعتاش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار، إلا إن كان مثل هذا عندكم لو ما يفطر تلفت نفسه، أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: أما الراعي إذا لم يتعمد الفطر، ووجد مشقة تفضي إلى الخطر على نفسه جاز له الفطر.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا صاموا رمضان وخافوا من شدة العطش، فلا بأس أن يفطروا؛ ولكن لا يفطروا حتى يشتد بهم العطش، وأما ظن وجود ذلك فلا يكفي.
وأجاب أيضاً: الذي يرعى الإبل أو غيرها، أو يكون في عمل شاق فيعطش في نهار رمضان، فالظاهر من أصول الشرع: أن الضرورة تبيح مثل هذا، وهو: ما إذا كان صائماً فعطش فخاف إن بقي على صيامه من التلف أو حدوث علة، فحينئذ يباح له الفطر ويقضي; والفطر الذي يباح له هو الذي يسد رمقه، بمنْزلة الأكل من الميتة. وأما ترك التكسب
من أجل خوف المشقة فلا يترك، بل يسعى في طلب المعيشة ويصبر، فإن عرض له أمر ضروري فيعمل بما ذكرنا.
[ وقت النية للصوم ]
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن أوجب النية للصوم الواجب من الليل، هل محلها الليل كله؟ أم تختص بوقت منه؟
فأجاب: قال في الشرح الكبير: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وفي الكافي: عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يبيِّت الصيام، فلا صيام له " 1، رواه أبو داود. وفي المبدع: لا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، لما روى ابن عمر عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " 2، رواه الخمسة. وعن عائشة مرفوعاً: " من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له " 3، رواه الدارقطني. وظاهره: أنه في أي وقت من الليل نوى أجزأه، لإطلاق الخبر؛ وسواء وجد بعدها ما يبطل الصوم، كالجماع والأكل، أو لا، نص عليه. انتهى. فقد عرفت: أنه متى نوى من الليل قبل الفجر في الصوم الواجب صحت منه.
[ حكم السحور ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السحور... إلخ؟
فأجاب: وأما السحور، فهو مسنون وإن قل، كما في الحديث: " ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " 4.
من يجهر بالإفطار ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أكل في رمضان؟
فأجاب: والذي يأكل في رمضان أو يشرب، يؤدب.
[ مسائل متعلقة بصحة الصيام وبطلانه ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً فوجد طعمه في حلقه نهاراً... إلخ؟
فأجاب: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً، فوجد طعمه نهاراً في حلقه، أرجو أنه لا يضره.
وسئل: عن وجود روائح الأشياء... إلخ؟
فأجاب: روائح الأشياء إذا شمها الصائم فلا بأس بذلك إلا الدخان، إذا شمه الصائم متعمداً لشمه، فإنه يفطر بقصد شم الدخان، أيّ دخان كان؛ وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمه لم يفطر، لمشقة التحرز منه.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الفصد والكحل في نهار رمضان؟
فأجاب: قال في الإقناع وغيره: ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف; وقال في الكافي: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر، لأن العين منفذ، فإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه، ولم يجد طعمه، لم يفطر؛ نص عليه. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل؛ واختاره الشيخ تقي الدين. فقد عرفت: أن الأحوط تركهما في نهار رمضان.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الوارد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتحل إذا أراد أن ينام، ثلاثاً في هذه، وثلاثاً في هذه؛ واتباعه هو السنة. وأما الاكتحال في نهار رمضان، فالزاعم أنه سنة يطالب بالحجة، فهل يجد أنه اكتحل في نهار رمضان؟ كما ورد في السواك للصائم، وقلنا به لورود الأثر به، وتركنا كلام الفقهاء أنه يترك بعد الزوال; وقال شيخ الإسلام وابن القيم: لا يكره، فأخذنا بذلك. وأما الكحل: فلا حاجة إليه، ولم يزل أهل التحقيق يتقون مسائل الخلاف، ما لم يكن معهم نص يتركون قول المخالف له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 1؛ فالأولى بل الواجب: اجتنابه في حق الصائم، لأن وصوله إلى الحلق متحقق بالتجربة.
سئل الشيخ أبا بطين: عمن قبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى... إلخ؟
فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفاقاً لمالك؛ واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يفطر بذلك، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الترعة؟
فأجاب: إذا كان صائماً فلا يدخلها؛ إذا وصلت الفم يتركها تخرج.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جماعة أفطروا في يوم غيم قبل غروب الشمس؟
فأجاب: الأحوط القضاء، وهو الذي نحب.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: من أكل أو شرب ظاناً بقاء الليل، فبان بالعكس، ففي وجوب القضاء عليه اختلاف في مذهب أحمد وغيره؛ واختار الشيخ تقي الدين أن لا قضاء عليه، فنأمره بالقضاء احتياطاً، لا وجوباً.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تقليد المؤذن... إلخ؟
فأجاب: وأما تقليد المؤذن، إذا كان في السماء غيم ونحوه، فلا ينبغي تقليده، لأنه يؤذن عن اجتهاد فلا يقلد؛ بل يجتهد الإنسان لنفسه، فلا يفطر حتى يتيقن أو يغلب على ظنه الغروب، فيجوز له الفطر مع غلبة الظن. وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن قول من قال: إنه لا يجوز لأحد أن يفطر بعد مغيب الشمس، حتى يذهب شعاع الشمس من الأفق، يعني الحمرة الشديدة، التي تبقى بعد غيوب القرص؟
فأجاب: هذا القائل جاهل مركب، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ وهذا المذهب الذي يحض عليه من
تأخير الأذان والفطر إلى ذهاب شعاع الشمس من الأفق، هو مذهب الرافضة، فإنهم يؤخرون الفطور إلى هذا الوقت; وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور " 1.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: عن غروب الشمس، أيجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب بقوله: الحمد لله، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص، ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم " 2. فتأمل ما ذكره، رحمه الله، من أنه إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، وأنه لا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
فإذا عرفت هذا، عرفت أن من نهى الناس عن الأذان، وعن الإفطار، إلا بعد ذهاب هذا الشعاع والحمرة الشديدة، فقد نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بسلوك طريقة الأرفاض، في تأخير الأذان والفطر إلى ظهور النجم وذهاب الحمرة؛ وقد أفصح، رحمه الله، بما يزيل الإشكال، بقوله: إذا غاب جميع القرص، فالحكم منوط بغيبوبة القرص جميعه، لا بذهاب الحمرة الشديدة، فإنه لا عبرة بوجودها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن جامع في نهار رمضان؟
فأجاب: الذي يجامع فيه يقضي، وتلزمه الكفارة بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر فإطعام ستين مسكيناً.
وأجاب أيضاً: الذي وقع على امرأته بعدما تبين الفجر وهو ناس لصومه، فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن أحمد: أحدها: أن الناسي كالعامد يقضي ويكفّر؛ وهو قول مالك والظاهرية. الثاني: لا يكفّر وليس عليه إلا القضاء؛ اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك. الثالث: لا يقضي ولا يكفّر؛ اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي؟ أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة. وبعض الفقهاء فرق بين من يكون جاهلاً بالحكم، أو جاهلاً بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقداً أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع.
ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى; قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً، ولا كفارة أيضاً.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، بعد ذكر صوم يوم الشك الذي تقدم قوله: ولا تثبت بقية توابعه، يعني وجوب الكفارة بوطء فيه، وحلول الآجال والمعلقات ونحوه، إذا ثبت هذا، فاعلم أن المجامع يوم الشك لا كفارة عليه، وإنما عليه الصوم، لأنه إذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، أي قضاء ذلك اليوم، لقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }الآية.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الجماع يوم الشك، وهو آخر يوم من شعبان، إذا غم على الهلال، أو حال دون منظره غيم أو قتر، فهي مسألة نزاع؛ وجمهور الفقهاء على وجوب الكفارة، وكلام شيخ الإسلام مشهور في عدم الوجوب، بناء على أصل، وهو أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، واحتج على ذلك بحجج من أشهرها: قصة تحويل القبلة، والرجل الذي أتى إلى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول إلى الكعبة، أو كما قال، فاستداروا إلى الكعبة كما هم، وصلوا إليها بقيه صلاتهم، فقال: هذه حجة أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، لأنهم صلوا أول الصلاة يقيناً بعد نسخ القبلة، لكن لم يبلغهم، فاجتزوا بها ولم يعيدوها.
لكن يقال: مثل وجوب الكفارة في هذه المسألة، يسوغ لمن أحسن الاجتهاد أن يفتي فيها بما بلغ اجتهاده; والرخصة في ذلك للناس في هذه المسألة، والمجاهرة بذلك، جهل قبيح عند أهل التحقيق؛ والذي يتبع الرخص زنديق، لأنه متلاعب بالشريعة، ولم نزل نرى مشائخنا يحذرونا عن ذلك، شيخنا عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وغيرهم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: من جامع يوم الشك، فالصحيح من أقوال العلماء: أن لا قضاء عليه ولا كفارة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقاً وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟
فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب: وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد؛ وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه؛ اختاره ابن بطة. وعنه: لا قضاء، اختاره الآجري والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه.
والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتكفّر في إحدى
الروايتين؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرواية الأخرى: لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي. وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي. وعلى القول بفساده، فنص أحمد: لا كفارة عليها؛ وهو قول الأكثرين. وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل؛ وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور: لا كفارة عليها.
وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء; وقوله: من بين جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لا كفارة على من جامع وهو صائم في قضاء رمضان، لعدم حرمة الزمان؛ قال في الكافي: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان. وقال في الزبد وشرحه، لما ذكر الكفارة على من أفسد صوم رمضان بالجماع: فلا كفارة على من أفسده
بغير جماع، أو بجماع في غير رمضان، كنذر وقضاء، لأن النص إنما ورد في إفساد صوم رمضان بجماع.
سئل الشيخ حسين بن علي بن حسين: عن رجل مرض في رمضان ثم عوفي مدة يسيرة، ثم أتاه مرض ثان ومات فيه... إلخ؟
فأجاب: إذا مات رجل في رمضان، فلا يقضى عنه، إلا إذا عوفي بعد رمضان، ومضى وقت يمكنه فيه الأداء ولا فعل، فهو يقضى عنه، أو يكفّر عنه، على ما فيه من الخلاف.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا يقضى، يعني صيام الفرض إذا مات في مرضه، وأما النذر إذا كان عليه صيام نذر، لزم وليه صيامه عنه.
وأجاب أيضاً: إذا ترك المريض الصلاة مدة، فإن كان لا يشعر بذلك لأجل المرض، فهو مرفوع عنه الوجوب، وإن كان يصلي ولا يعلم بينه وبين نفسه فيحمل ذلك على أنه مصل، ولا تقضى عنه الصلاة؛ هذا الظاهر وهو الأصح. وكذلك الصوم لا يقضى، وأما النذر فهو يقضى على الأصح.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: من أفطر أياماً من رمضان لعذر، ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فيطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه، لأن قضاء الصوم عن الميت يخص المنذور فقط. وأما من استمر عذره حتى مات فلا شيء عليه.
وأجاب بعضهم: وأما من دخل عليه رمضان آخر، وفي ذمته قبله قضاء من رمضان الأول، وتأخيره من غير عذر، فيطعم مع صيام ما عليه كل يوم مسكيناً، ربع صاع براً أو نصفه من غير البر. والظاهر من مذهب الشافعية: أن الإطعام يتكرر كل عام بالتأخير.
[ التتابع في قضاء رمضان ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟
فأجاب: وأما قضاء رمضان فلا يجب فيه التتابع.
[ هلال المحرم إذا حصل فيه شك ]
سئل أيضاً، رحمه الله: إذا حصل شك في هلال المحرم... إلخ؟
فأجاب: روي عن أحمد قال: إذا اشتبه علينا أول الشهر صمنا ثلاثة أيام، وأما البيض فالأمر فيها واسع، إذا حصل صيام ثلاثة أيام، حصل المطلوب من صوم ثلاثة أيام.
[ ما يفعل من الصيام والنحر في السابع والعشرين من رجب وليلة النصف من شعبان ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما يخص به يوم المولد من النحر، وما يفعل في السابع والعشرين من رجب من تخصيصه بالصوم والنحر، وما يفعل في ليلة النصف من شعبان من النحر وصيام اليوم، وما يخص به يوم عاشوراء من النحر؟
فأجاب: هذه الأمور المذكورة من البدع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وقوله في الحديث: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل
محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1؛ والعبادات مبناها على الأمر والنهي والاتباع، وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة والتابعون; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ وهذه الأمور ليس عليها أمره صلى الله عليه وسلم، فتكون به مردودة يجب إنكارها، لدخولها فيما أنكر الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [سورة الشورى آية: 21]؛ وهذه الأمور مما أحدثها الجهال بغير هدى من الله. وأما حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فضعفه شيخ الإسلام، لكن يحصل التوسعة بدون اتخاذه عيداً.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحديث المروي عن آدم، في فضل يوم النصف من رجب كذب لا أصل له. وأما صيام يوم النصف من شعبان فغير مشروع، وإن كانت تلك الليلة فيها فضل. وأما نهار الليلة التي يدعون أنها ليلة المعراج فلم يرد فيه شيء، وتخصيصه بالصيام بدعة.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره؛ وظاهر كلام الشيخ بل صريحه: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى.
[ ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر ]
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر؟ فأجاب: ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى: أن ليلة القدر تنقل في الوتر من العشر الأواخر.
[ خروج المعتكف لغسل الجمعة ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج المعتكف لغسل الجمعة؟
فأجاب: وأما خروج المعتكف لغسل الجمعة فلا يخرج له، ولا لغيره من السنن، إلا أن يشترط ذلك في أول اعتكافه، فيجوز له الخروج، ويصح شرطه.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية
مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام
جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله (1312-1392 هـ)
قال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: وما جرى من البحث في مسألة الهلال، راجعت كلام بعض العلماء، وأحببت نقله لك، والمذاكرة معك. فقال في المغني: فصل: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً ولم يروا هلال شوال، أفطروا وجهاً واحداً. انتهى. وذكر مثله في الشرح الكبير، وزاد: لأن الشهر لا يزيد على ثلاثين، ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.، انتهى.
فأطلقا ولم يقيداه بالغيم، فظهر عدم الفرق; وحديث عبد الرحمن بن زيد الذي أشار إليه الشارح، هو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا شهد شاهدان ذوا عدل، فصوموا وأفطروا " 1.
[ الصيام بشهادة الشهود ]
وقال في الفروع: فصل: ومن صام بشاهدين ثلاثين يوماً، ولم يره إذاً أحد، أفطر، وقيل: لا، مع صحوه; واختاره في المستوعب، وأبو محمد الجوزي، لأن عدم الهلال يقين، فيقدم على الظن، وهي الشهادة. انتهى. وبعد حكاية صاحب التصحيح ما تقدم في الفروع، وذكر الخلاف فيما إذا صاموا بشهادة واحد، وأن عدم الإفطار حينئذ هو أحد الوجهين، قال: وظاهر كلامه في الحاويين، أن على هذا الأصحاب، فإنه قال فيهما: ومن صام بشهادة اثنين ثلاثين يوماً، ولم يره مع الغيم، أفطر، ومع الصحو يصوم الحادي والثلاثين؛ هذا هو الصحيح. وقال أصحابنا: له الفطر بعد إكمال الثلاثين، صحواً كان أو غيماً. انتهى.
فقد ظهر: أن قول الأصحاب هو: الفطر فيها، إذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، سواء كان صحواً أو غيماً، خلافاً لأبي محمد الجوزي، وخلافاً لتصحيح صاحب الحاويين; وقدمه في الفروع أيضاً، كما تقدم، وذكر بعده الصيام مع الصحو، بصيغة التمريض.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصر الشرح: وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه،
أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد; وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما: لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم; وقال في المحرر للمجد: وإذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال، لم يفطروا، كالصوم بالغيم، وقيل: يفطرون كالصوم بقول عدلين. انتهى. فذكر الخلاف في الفطر برؤية الواحد، ولم يذكر خلافاً في الفطر برؤية اثنين، ولم يفرق بين الصحو والغيم.
وقال في شرح العمدة: مسألة: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم. واستقصاء عبارات الأصحاب في ذلك يصعب، ولا أعلم لأئمة هذه الدعوة شيئاً يخالف ذلك؛ بل الذي يظهر موافقتهم في ذلك; قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره إن شاء الله. انتهى. وإن وجدت ما يخالف ذلك عمن ذكرنا أو غيرهم فاذكره، لأن القصد من المذاكرة معرفة الحكم للجميع. وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة مثل كلام الأصحاب، إلا أنه أوضح وأجلى وأشمل، فلأجل وضوحه وشموله إكمال شعبان، وإكمال رمضان، أسوقه.
قال، رحمه الله، في شرح العمدة: أما إذا صاموا بشهادة
اثنين، ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال، أفطروا، لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين، وذلك جائز، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا " 1 يقتضي ذلك؛ ولا يقال قد تبين غلطهما، لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع، لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام قبل، فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه. وأما إذا صاموا لإغمام الهلال، لم يفطروا، إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال بأن يشهد به شاهدان، أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين، قولاً واحداً، لما تقدم من الحديث والأثر. انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شهادة الأعراب؟
فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم بشهادة مجهول الحال. والأعرابي الذي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله. والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية.
وسئل: عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان... إلخ؟
فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر; وهو قول
مالك، وأبي حنيفة، وهو مروي عن عمر وعائشة، لحديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 1. وقيل: يفطر سراً، وهو قول الشافعي؛ قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع.
وكذلك الحكم إذا رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل أحد؛ وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين. واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر، لحديث: " وإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا " 2، رواه أحمد وغيره.
وأجاب أيضاً: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين، فالمشهور في مذهب أحمد أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع. وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعاً.
وأجاب أيضاً: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر.
وسئل: عن حديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 3
فأجاب: استدل به من يقول: إنه لو رأى هلال شوال وحده، لم يفطر إلا مع الناس، وهو قول الأكثر. وقيل: يفطر سراً، وهو قول طائفة من العلماء. وأما إذا رأى هلال رمضان، ورُدت شهادته، لزمه الصوم عند الأربعة. وعن أحمد رواية: لا يلزمه الصوم، اختاره الشيخ تقي الدين للحديث.
سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا رئي الهلال في بلد... إلخ؟
فأجاب: وأما الهلال إذا ثبت أنه رئي في بعض بلاد المسلمين، عند مفت يعمل بما أثبت، لزم صيام الغرة 1. وأما بعض النواحي التي ظاهر فيها الكفر، فلا يعمل بها.
[ متى يؤمر الصبي بالصيام ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المميز، متى يؤمر بالصيام؟
فأجاب: أما الصبي الذي لم يبلغ، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه، أي على تركه.
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يجب على الصبي الصوم؟
فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها، ويألف الخير.
[ نزول دم الحيض قبل الغروب ]
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم قبل غروب الشمس، هل تعتد بصومها؟
فأجاب: صومها ذلك اليوم غير تام.
[ صيام رمضان في السفر ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهما الأجر والثواب: عن صيام رمضان في السفر، مع إقامة المسافر في الجهاد بإزاء العدو؟ فإنه ربما حصلت المشقة بالصيام، مع الإقامة في شدة الحر، والمشي في الشمس، فهل ترى جواز الصيام؟ وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على إقامة مدة غير معلومة؟ وعلى القول بعدم الوجوب، فهل ترى استحبابه، أم الجواز فقط؟ فإن كان في المسألة آثار عن السلف، وما يستدل به من حديث، فأفيدونا به، شكر الله سعيكم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما المسألة الأولى، وهي: هل يجوز الصيام في سفر الجهاد، مع الإقامة في بلد أو مكان، مدة غير معلومة المقدار، مع وجود مشقة الصيام، لا سيما في شدة الحر والمشي في الشمس؟ فيجوز الفطر والحالة هذه، والدليل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}إلى قوله:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 183-184]. فهذا نص صريح لا يحتمل التأويل: أن المريض والمسافر يفطران في رمضان، ويقضيان عدة ما أفطرا من أيام أخر.
وقد ذكر المفسرون: أن هذه الآية الكريمة، أول ما نزل في فرض الصيام، ففرض الله فيه على المؤمنين الصيام، كما فرضه على من قبلهم، وبين أن ذلك أياماً معدودات، تسهيلاً على المؤمنين، بأن هذه الأيام يحصرها العد، ليست بالكثير التي تفوت العد؛ ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود، كناية عن القلائل، كقوله في أيام معدودة:{ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً } [سورة البقرة آية: 80]،{ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [سورة يوسف آية: 20]؛ هذا إن كان ما فرض صومه هنا رمضان، فيكون قوله هنا:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] عنى به رمضان؛ قال أبو حيان: وهو قول ابن أبي ليلى، وجمهور المفسرين.
وإن كان ما فرض صومه، هو: ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة، ويوم عاشوراء، كما كان ذلك فرضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: عنى بها هذه الأيام؛ قال: وإلى هذا ذهب ابن عباس وعطاء، قال ابن عباس وعطاء وقتادة، هي: أيام البيض. قال أبو حيان: قال أبو عبد الله، محمد بن أبي الفضل المريسي: في رأيي: الظلمات، احتج من قال: إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: " صوم رمضان نسخ كل صوم " فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعد، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى:{ فِدْيَةٌ }يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، وكان غيره.
وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [سورة البقرة آية: 183] يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله{شَهْرُ رَمَضَانَ } ، وإذا أمكن حمله على رمضان، فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ. وأما الخبر، فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الأمة. وما ذكر من التكرار، فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض، في رمضان، في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليه القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل إلى التخيير عن التضييق يعم الكل، حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنْزلة المقيم، من حيث تغير الحكم في الصوم؛ فبين أن حالة المريض والمسافر في الرخصة والإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم، لأن قوله تعالى:{ فِدْيَةٌ} يدل على التخيير... إلخ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً.
وعلى كلا القولين: لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني، فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، وكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النّزول. انتهى كلامه.
وقال في الفتح، أول كتاب الصيام، لما ذكر احتجاج البخاري بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }الآية [سورة البقرة آية: 183]، قال: أشار بذلك إلى مبدإ فرض الصيام، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه فيه شيء، فأورد ما يشير إلى المراد؛ فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث: حديث طلحة الدال على أنه لا فرض إلا رمضان، وحديث ابن عمر وعائشة المتضمن الأمر بصيام عاشوراء، وكأن المصنف أشار إلى أن الأمر في روايتهم محمول على الندب، بدليل حصر الفرض في رمضان، وهو ظاهر الآية لأنه تعالى قال:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [سورة البقرة آية: 183]، ثم بينه فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ}
وقد اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور، وهو المشهور عند الشافعية: أنه لم يجب قط صوم قبل رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية، أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية: حديث معاوية مرفوعاً: " لم يكتب الله عليكم صياماً " 1، وسيأتي في آخر الصيام. ومن أدلة الحنفية: ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة، المذكورين في هذا الباب بلفظ الأمر، وحديث الربيع بنت معوذ عند مسلم: " من أصبح صائماً، فليتم صومه " 2. قلت فلم نزل نصوم ونصوّم صبياننا وهم صغار، حتى فرض رمضان... الحديث، وحديث أم سلمة مرفوعاً: " من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " 3 الحديث، وبنوا على هذا الخلاف: هل يشترط في صحة الصوم الواجب،
بنية من الليل أم لا؟ انتهى. هذا ما يتعلق بقوله تعالى:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184].
ثم قال تبارك وتعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [سورة البقرة آية: 184]؛ فأباح سبحانه للمريض والمسافر، الفطر في رمضان، لوجود المشقة فيه غالباً، رحمة منه وتفضلاً على عباده المؤمنين، وأوجب عليهما قضاء ذلك إذا زال المرض والسفر اللذان علق بهما جواز الفطر عند الجمهور، أو وجوبه عند بعض السلف والخلف، وأخبر أنه عدة من أيام أخر؛ فدل على عدم وجوب التتابع. ثم قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، فأباح سبحانه وتعالى للذين يطيقون الفطر، وإن كانوا صحيحين مقيمين، وأوجب عليهم فدية طعام مسكين لكل يوم؛ وهذا على القراءة المشهورة، وهي الموجودة في المصاحف اليوم، وهذا قول معاذ بن جبل، وغير واحد من السلف والخلف. وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع: أنها نزلت:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها. وروى أيضاً من حديث نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة. وروى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }فقال ابن عباس: " ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ".
فحاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصوم عليه، بقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، وأما الشيخ الفاني الهرم، الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة أم لا؟ فيه قولان للعلماء; والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نص على جواز الفطر في رمضان للمريض والمسافر؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء فيما علمناه، مع وجوب القضاء عليهما.
فصل
وأما إن كان المسافر مقيماً مدة غير معلومة، بل لا يدري متى تنقضي حاجته، فمتى انقضت سار من مكانه إلى مقصوده الذي يريده، فهو في حكم السفر؛ على الصحيح من أقوال العلماء، بل قد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون. انتهى.
وقد اختلف العلماء في عدد المدة التي إذا أجمع المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام والصيام اختلافاً كثيراً: فالمشهور في مذهب أحمد: أنه إذا نوى الإقامة أكثر من
إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر؛ قال في الشرح الكبير: المشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام، إذا نوى الإقامة فيها أكثر من إحدى وعشرين صلاة، رواه الأثرم وغيره، وهو الذي ذكره الخرقي; وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، ثم حكى هذا أبو الخطاب، وابن عقيل. وعنه: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وروي عن عثمان وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعاً فصل أربعاً، لأن الثلاثة حد القلة، لقوله عليه السلام: " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " 1، فدل أن الثلاثة في حكم السفر، وما زاد في حكم الإقامة.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دونه قصر؛ ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد، لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: " إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمسة عشر ليلة، فأكمل الصلاة "، ولا يعرف لهما مخالف. وروي عن علي قال: " يتم الصلاة الذي يقيم عشراً، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غداً ". وعن ابن عباس أنه قال: " يقصر إذا أقام تسعة عشر يوماً، ويتم إذا زاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين؛ قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا "، رواه البخاري.
وقال? الحسن: " صل ركعتين ركعتين، إلا أن تقدم مصراً فأتم الصلاة وصم "، وقالت عائشة: " إذا وضعت الزاد والمزاد، فأتم الصلاة ". وكان طاووس إذا قدم مكة صلى أربعاً.
ولنا ما روى أنس، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نصلي ركعتين حتى رجع، وأقام بمكة عشراً يقصر الصلاة " 1، متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يؤم الناس؛ وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام "، وقد أجمع على إقامتها؛ فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع أكثر من ذلك أتم.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام لا يفقهه كل أحد، فقوله: أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة، وخامسة وسادسة وسابعة، ثم قال: وثامنة يوم التروية، وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس: أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة؛ فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام، وهو صريح في خلاف قول من حد بأربعة أيام.
وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف من الصحابة،
لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم. وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة، قال أحمد: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة، لأنه أراد حنيناً ولم يكن ثَمَّ أجمع المقام؛ وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على قول الحسن. انتهى كلامه.
وقد حمل الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس على غير ما حمله أحمد، وأن مراد ابن عباس بذلك تحديد مدة الإقامة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، فقال، رحمه الله: باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر; قوله: " ونحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا "، ظاهِرُه: أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد; وقد صرح أبو يعلى في روايته عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: " وإذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر "، ويؤيده صدر الحديث، وهو قوله: " أقام "; وللترمذي من وجه آخر عن عاصم: " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً " .
قوله في حديث أنس: " أقمنا بها عشراً " لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، ثم قال: وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة... " الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابعة عشر، فيكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما
قال أنس، ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى؛ ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا قام ببلد أربعة أيام قصر، وقال أحمد إحدى وعشرين صلاة.
وأما قول ابن رشد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس، في أن إقامته عشرة داخل في إقامته تسعة عشر، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان؛ فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لا ينوي الإقامة، بل كان متردداً حتى تهيأ له فراغ حاجته ويرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة.
ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: أنه لما كان أن الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر; وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلدة على ما جاورها وقرب منها، لأن منى وعرفة ليسا من مكة، ثم ذكر كلام أحمد في حديث أنس المتقدم.
وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة لأن هذه مواضع النسك، وهي في حكم التابع بمكة، لأنها المقصودة بالأصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد، والله أعلم.
وقال أيضاً قبل ذلك في حديث ابن عباس: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً بلياليها " 1، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده بمكة، فكذا رواه ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ: " سبعة عشر "، بلفظ تقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم، وقال عباد عن عكرمة: " تسعة عشر "، كذا ذكرها معلقة، وقد وصلها البيهقي.
ولأبي داود أيضاً من حديث عمران بن حصين: " غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين " 2، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري: عن عبد الله بن عباس: " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة " 3.
وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة، حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة، عد أحدهما. وأما رواية: خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق؛ وقد أخرجها النسائي في رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك; وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة؛ واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات،
وبها أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة.
وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة بكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن يزمع 1 الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه في دخول يوم الدخول والخروج فيها أو لا، وحجته حديث أنس الذي يليه. انتهى. وفيه نوع تلخيص وتقديم وتأخير.
وأنت، رحمك الله، إذا تأملت هديه صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وأنه يقيم في بعضها المدة الطويلة والقصيرة، بحسب الحاجة والمصلحة، ولم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقام أحدكم أربعة أيام في مكان أو بلد أو أكثر أو أقل من ذلك، فليتم صلاته وليصم، ولا يترخص برخص السفر التي جاءت بها الشريعة السمحة، مع أن الله سبحانه وتعالى فرض عليه البلاغ المبين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، تبين لك: أن الصواب في هذه المسألة، ما اختاره غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن المسافر يجوز له القصر والفطر ما لم يجمع
على إقامة أو يستوطن، فحينئذ يزول عنه حكم السفر، ويكون حكمه حكم المقيم.
هذا هو الذي دل عليه هديه صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكلام على فوائد غزوة تبوك، قال: ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر رجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة؛ وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجه عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة في ذلك الموضع. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين " 1 الحديث.
وظاهر كلام أحمد: أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح، فإنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنيناً، ولم يكن ثم أجمع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس; وقال غيره: بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك، كما قال جابر: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة " 2، رواه الإمام أحمد.
وقال المسور بن مخرمة: " أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة، يقصرها سعد ونتمها ". وقال نافع: " أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر فصلى ركعتين، وقد حال الثلج
بينه وبين القفول ". وقال حفص بن عبد الله: " أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة مسافر ". وقال أنس: " أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ". وقال الحسن: " أقمنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل، يقصر الصلاة ولا يجمع ". وقال إبراهيم: " كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين وأكثر من ذلك، لا يجمعون ولا يشرقون "؛ فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصواب.
ثم ذكر مذاهب الناس التي تقدمت، وأن أحمد حمل الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعُوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج; وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي؟ وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام، ويهدم قواعد الشرك، ويمهد ما حولها من العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام، ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو; ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل تحتاج إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر، يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومعلوم أن مثل هذا الثلج لا يذوب ويتحلل في أربعة أيام، بحيث تنفتح الدروب، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر الصلاة، وإقامة الصحابة برامهرمز
سبعة أشهر يقصرون؛ ومعلوم أن مثل هذا الجهاد والحصار يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام.
وقد قال أصحاب أحمد: لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة؛ وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا: شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهي: ما دون الأربعة الأيام. فيقال: من أين لكم هذا الشرط؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام زيادة على الأربعة الأيام يقصر بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتداء الصحابة بعده، ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك.
ثم ذكر أقوال الناس، ثم قال: والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا قول الشافعي في أحد قوليه: فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر، أو ثماني عشر، ولا يقصر بعدها. وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. انتهى. وهذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فيه نظر
لا يخفى، وأظن أن مراده بذلك إجماع الجمهور، والله أعلم.
فصل
الذين يجوز لهم الفطر في رمضان
والذين يجوز لهم الفطر في رمضان أنواع: النوع الأول: المجمع عليه، وهو ما نص الله عليه في كتابه، في قوله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [سورة البقرة آية: 184]، وهو المريض، والمسافر؛ فهذان نوعان، مجمع على جواز الفطر لهما في الجملة. النوع الثالث: ما فهمه الصحابة، رضوان الله عليهم، من قوله تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [سورة البقرة آية: 184]، وما فهموا من القراءة الأخرى:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يكلفونه ويشق عليهم؛ وهم أنواع كثيرة:
الأول: الحامل التي تخاف على نفسها وولدها.
الثاني: المرضع التي تخاف على ولدها، سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، والولد لها أو لغيرها.
الثالث: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، اللذين يشق عليهما الصيام.
الرابع: صاحب العطش الذي يشق عليه الصيام.
فكل هؤلاء الأنواع الأربعة، ثبت عن الصحابة جواز الفطر لهم؛ فمنهم من أوجب القضاء على هؤلاء مع الفدية، ومنهم من أوجب الفدية دون القضاء. قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها، تفطر وتقضي وتطعم، أذهب إلى حديث أبي هريرة.
وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تقضي،
وكان ابن عباس يقرؤها: { يطوّقونه } قال: يكلفونه، ومن قرأ: { يطيقونه } فإنها منسوخة، نسخها قوله:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فقد ثبت عن ثلاثة من الصحابة وجوب الفدية، ولا يعرف لهم مخالف، واختلفوا في القضاء; وعن عطاء عن ابن عباس، كان يرخص في الفطر في رمضان للشيخ الكبير والحامل، والمرضع، ولصاحب العطش، أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، رواه سعيد.
وأما الظئر التي ترضع ولدها بأجرة أو بدونها، فذكر ابن عقيل أنها تستبيح الفطر، كاستباحته لولدها، لأن أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق، فهي كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه، وطرده العمل في الصنائع الشاقة، إذا بلغت منه الجهد؛ وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإفطار لم يبح في حقه، ولا في حق غيره. ومن لم يمكنه إنجاء شخص من المهلكة إلا بالفطر، مثل أن يكون غريقاً، أو يريد أحد أن يقاتله أفطر. وكذلك إذا أحاط العدو ببلد، وكان الصوم المفروض يضعفهم، فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين، ذكرهما الخلال في كتاب السير.
وقال في الإنصاف: ونقل حنبل إذا كانوا بأرض العدو، وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. واختار الشيخ تقي الدين: الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب; قال: ولو خاف بالصوم ذهاب ماله، يعني أفطر; وقال في الشرح الكبير:
والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في إباحة الفطر، لأنه في معناه; قال الإمام أحمد فيمن به شهوة غالبة، يخاف أن تنشق أنثياه، فله الفطر.
وقال في الجارية: تصوم، فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض، يعني إذا حاضت وهي صغيرة؛ قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام، فيباح لها الفطر، وإلا فلا. وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة حديثاً يشهد لهذه الرواية، وهو عن أبي العلاء ابن الشخير عن عائشة: " أنه أجهدها العطش وهي صائمة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يوماً "، قال: رواه حرب بإسناد جيد. انتهى. والله سبحانه أعلم.
فصل
فظهر بما ذكرناه الجواب عن قول السائل ألهمه الله الصواب: وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على الإقامة مدة غير معلومة؟ أن ذلك لا يجب على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وإنما الإشكال في الاستحباب أو الجواز، فإذا تقرر أن إقامة المسافر في مدة غير معلومة، أو معلومة لكنه لم ينو الاستقرار والاستيطان، أن ذلك لا يقطع حكم السفر؛ بقي الكلام في استحباب الصيام في السفر أو جوازه.
فاعلم أن هذه مسألة اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً: فذهب عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، أن ذلك لا يجوز، فإن صام أمر بالإعادة؛ قال أحمد، رحمه الله: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة. وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنه قال: " الصيام في السفر كالفطر في الحضر "، وهو قول أبي محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصوم في السفر " 1، متفق عليه. ولأنه صلى الله عليه وسلم " أفطر في السفر، فلما بلغه أن قوماً صاموا، قال: أولئك العصاة " 2. وروى ابن ماجة بإسناده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " 3.
قال في الشرح: وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول، قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف، هجره الفقهاء كلهم، والسنة ترده، وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فصم " 4، متفق عليه. وحديث أنس: " كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 5، متفق عليه. قال: وأخبارهم محمولة على تفضيل الفطر. انتهى.
ففي هذا دليل على أن الشارح وغيره من الأصحاب، وافقوا على نفي الاستحباب; ومن تأمل أدلة الفريقين حق
التأمل، وترك التعصب والتقليد، تبين له أن غاية الأمر هو الجواز، مع ما يعارضه من الأدلة، التي هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، كما قاله الزهري وغيره في هذه المسألة; وأما الاستحباب: فالأدلة الصحيحة الصريحة تدل على نفي ذلك لمن تأمل، مع أنه قد قال بذلك طائفة من السلف.
وقد قال أبو محمد ابن حزم في المحلى: فأما قولنا إنه لا يجوز الصوم في السفر، فإن الناس اختلفوا: فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة لا بد له من الفطر، لا يجزيه صوم. ثم افترق القائلون بتخييره: فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم، ولا بد له من الفطر. فروينا القول الأول عن علي، من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال: " من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر، فقد لزمه الصوم، لأن الله تعالى قال:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } "، وعن عبيدة مثله، ومن طريق ابن عباس مثله، وروي عن عائشة أم المؤمنين: " أنها نهت عن السفر في رمضان "، وعن أبي مجلز، وإبراهيم النخعي مثله.
وأما الطائفة المجيزة للصوم والفطر، المختارة للصوم،
فهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، فشغبوا بقول الله تعالى:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 184]، واحتجوا بأخبار، منها حديث سلمة ابن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه " 1، ومن طريق ابن سعيد وأبي الدرداء وجابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالفطر وهو صائم، فترددوا، فأفطر هو عليه السلام "، وذكروا عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها " أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ". وعن أبي موسى " أنه كان يصوم في رمضان في السفر "، وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: الصوم أفضل، وعن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله، وعن طاووس: الصوم أفضل، وعن الأسود بن يزيد مثله.
واحتج مَن رأى الأمرين سواء، بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: " يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة " 2، وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون " أن رجلين سافرا، فصام أحدهما وأفطر الآخر، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما أصاب " ، وبحديث أبي سعيد وجابر: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 3، وعن عطاء: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 4.
وأما من رأى الفطر أفضل، فاحتجوا بحديث حمزة بن عمرو: " هي رخصة من الله تعالى؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن
أحب أن يصوم فلا جناح عليه " 1.
وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم: سعد بن أبي وقاص؛ وصح عن ابن عمر: " أنه كان لا يصوم في السفر، وكان معه رفيق، وكان يقول: يا نافع، اصنع له سحوره. قال نافع: كان ابن عمر يقول: رخصة ربي أحب إلي، وإن آجر لك أن تفطر في السفر ".
قال أبو محمد: ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال، فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض، لأن كلها متفقة على جواز الصوم في رمضان في السفر، وهو خلاف قولنا؛ وإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك؛ فنقول وبالله نتأيد ونستعين:
أما قول الله تعالى:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 184]؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، وكذب كذباً فاحشاً، من احتج بها في إباحة الصوم في السفر، لأنه حرف كلام الله عن مواضعه؛ نعوذ بالله من مثل هذا، وهذا عار لا يرضاه محقق، لأن نص الآية:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلى قوله:{ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [سورة البقرة آية: 183-184]. وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة، وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان: من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم مسكيناً، وكان الصوم أفضل، هذا نص الآية؛ وليس للسفر فيها مدخل أصلاً، ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلاً، وبهذا جاءت السنن. ثم ذكر الأحاديث، والآثار في ذلك.
ثم قال: وأما حديث ابن المحبق: " من كانت له
حمولة... إلخ "، فحديث ساقط، لأنه من رواية عبد الصمد بن حبيب، وهو بصري لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق، وهو مجهول. وأما حديث الغطريف وأبي عياض، فمرسلان، ولا حجة في مرسل. وأما حديث حمزة بن عمرو، فإنه من رواية ابن ابنه: حمزة بن محمد بن حمزة، وهو ضعيف، وأبوه كذلك؛ وإنما الثابت من حديث حمزة، هو كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما حديث أبي سعيد، وأبي الدرداء، وجابر، فلا حجة لهم في شيء منها، لوجهين: أحدهما: أنه ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائماً رمضان؛ وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن، وقد يمكن أن يكون صائماً متطوعاً. والثاني: أنه لو كان ذلك فيها نصاً لما كان لهم فيه حجة، لأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيجاب الفطر في رمضان في السفر؛ فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحاً لكان منسوخاً بآخر أمره عليه الصلاة والسلام، كما نذكره إن شاء الله.
وأما احتجاج من أوجب الصوم في السفر، لمن أهل عليه الشهر في الحضر، بقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [سورة البقرة آية: 185]، فلا حجة لهم في هذه الآية، لأن الله تعالى لم يقل: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصمه، وإنما أوجب تعالى صيامه على من شهد الشهر، لا على من شهد بعضه.
ثم يبطل قولهم أيضاً: قول الله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]؛ فجعل السفر والمرض ناقلين عن الصوم فيه إلى الفطر، وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سافر في رمضان عام الفتح فأفطر، وهو أعلم بمراد ربه تعالى.
قال أبو محمد: فإذا لم يبق لهم حجة لا من قرآن، ولا من سنة، فلنذكر البراهين على حجة قولنا بحمد الله تعالى وقوته. ثم ذكر حجته بالآية:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184]، قال: وهذه الآية محكمة بإجماع أهل الإسلام، لا منسوخة ولا مخصوصة، ثم ذكر حديث جابر: ?" أولئك العصاة "، وقوله: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، وحديث عبد الله بن الشخير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد دعاه إلى الغداء: أتدري ما وضع الله عن المسافر؟ قلت: ما وضع الله عن المسافر؟ قال: الصوم وشطر الصلاة ". قال: وهذه آثار متواترة متظاهرة، لم يأت شيء يعارضها؛ فلا يجوز الخروج عنها.
فإن قيل: فإن هذه الأخبار مانعة كلها بعمومها من كل صوم في السفر، وأنتم تبيحون فيه كل صوم إلا رمضان وحده، قلنا: نعم، لأن النصوص قد جاءت بمثل ما قلنا، لأن الله تعالى قال:{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [سورة البقرة آية: 196]؛ فافترض تعالى صوم الثلاثة الأيام في
السفر ولا بد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصوم يوم عرفة، ما سنذكره إن شاء الله، وهو في السفر لمن كان حاجاً، وقال عليه الصلاة والسلام: " إن أفضل الصيام صيام داود: يصوم يوماً ويفطر يوماً " 1؛ فعم ولم يخص. وقال عليه الصلاة والسلام: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه " 2؛ فحض على الصوم في السفر، فوجب الأخذ بجميع النصوص.
فخرج رمضان في السفر بالمنع وحده، وبقي سائر الصوم واجبه وتطوعه على جوازه في السفر؛ ولا يجوز ترك نص لآخر. ثم ذكر الآثار عن عمر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والزهري وعلي بن الحسين ومحمد ابنه والقاسم بن محمد ويونس بن عبيد، أنهم أنكروا الصيام في السفر؛ فمنهم من يأمره بالقضاء، ومنهم من ينكره ولم يذكر عنه الأمر بالقضاء. انتهى ملخصاً.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد عليه الحر: " ليس من البر الصيام في السفر " 3، لما ذكر أقوال الناس في المسألة، قال: والذي يترجح: قول الجمهور؛ لكن يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة؛ وقد روى أحمد بن حنبل من طريق أبي طعمة، قال: " قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له
ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "؛ وهذا محمول على من رغب عن الرخصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 1.
وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له; وقد أزال ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد، قال: " إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ادفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم؛ فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك "، ومن طريق مجاهد أيضاً عن جنادة بن أبي أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وستأتي في الجهاد، ومن طريق مورق عن أنس نحو هذا مرفوعاً، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في المفطرين لما خدموا الصيام: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " 2.
واحتج من منع الصوم أيضاً بما وقع في الحديث الماضي، أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ.
وتعقب أولاً: بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونسب من صام إلى العصيان؛ ولا حجة في شيء من ذلك، لأن مسلماً أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم
صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنَزَلنا منـزلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا؛ وكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر "، وهذا الحديث نص في المسألة؛ ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه، وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو.
وروى الطبراني في تهذيبه، من طريق خيثمة: " سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر؟ فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، فقلت له: أين هذه الآية:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعاً، وننْزل على غير شبع; وأما اليوم، نرتحل شباعاً، وننْزل على شبع "، وأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.
وأما الحديث المشهور: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " 1 فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعاً، من حديث ابن عمر، بسند ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق أبي سلمة عن عائشة أيضاً، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعاً، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً، كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وعلى
تقدير صحته، فهو محمول على ما تقدم أولاً، حيث يكون الفطر أولى من الصوم، والله أعلم.
وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، فسلك المجيزون فيه طرقاً: فقال بعضهم: قد خرج على سبب فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله؛ وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، وكذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب، من رواية كعب بن عاصم الأشعري، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كهيئة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم؟ أيّ وجع به؟ قالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم ". قال: فكان قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان في مثل تلك الحال.
وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة: أن كراهية الصوم في السفر مختصة لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينْزل قوله: " ليس من البر الصوم في السفر " 2 على مثل هذه الحال، قال: والمانعون من الصيام في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين الأدلة، السبب والسياق والقرائن، على تخصيص العام، وعلى مراد
المتكلم، وبين مجرد حمل ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنُزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان؛ وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم، فهو المرشد لبيان المجملات وتعيين المحملات، كما في حديث الباب. وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث، على من أبى قبول الرخصة، قال: ويحتمل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم؛ وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.
وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا الكامل، الذي هو أعلى مراتب البر؛ وليس المراد به إخراج الصوم عن أن يكون براً، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين بالطواف " 1، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غناء يغنيه، ويستحي أن يسأل، ولا يفطن له. انتهى، وفيه بعض تلخيص.
ولا يخفى ضعف هذا المسلك، الذي سلكه الطحاوي في هذا الموضع، وقد شنع ابن حزم في شرح المحلى على قائل ذلك، وقال: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار، بنص قوله عليه السلام؛ وليس إذا وجد نص قد جاء نص آخر أو إجماع بإخراجه عن ظاهره، وجب أن يبطل جميع النصوص،
وتخرج عن ظاهرها. ويقال له: إذا قلت هذا، فقله أيضاً في قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [سورة البقرة آية: 177]، ولا فرق. انتهى.
وقول الحافظ، رحمه الله، في حديث أبي سعيد: أنه نص في المسألة، من العجب، لأن أبا سعيد لم يذكر أن ذلك الصيام الذي فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النهي كان في رمضان؛ فهو محتمل لأن يكون صيام تطوع.
وقوله: ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه؛ وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه؛ فأي شاهد في قوله: " أولئك العصاة " في أن الفطر أفضل من الصيام، والصيام جائز لكن الفطر أفضل، وهو صريح في أنهم عصاة لله ورسوله حين صاموا، وقد نهاهم عن ذلك وأمرهم بالفطر.
والمقصود: أن القائلين باستحباب الصيام ليس معهم حجة صحيحة أصلًا، بل الأدلة الدالة على النهي عنه أظهر؛ وغاية الأدلة أن تدل على الجواز، وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره، وأما الاستحباب فبعيد جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأجاب أيضاً: أما جواز الإفطار في رمضان، فيجوز الصيام والإفطار، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم وأفطر في السفر.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: أما
مسألة الفطر للمسافر في رمضان والصيام، فالذي دلت عليه الأحاديث: أن المسافر إذا كان سفره مباحاً، أنه يخير بين الفطر والصيام؛ فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر. روى الترمذي عن عائشة، رضي الله عنها: " أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 1، قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح. وأخرج أبو داود عن أبي سعيد، قال: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فما يعاب على الصائم صومه، ولا على المفطر فطره " 2؛ وفيه أحاديث غير هذين الحديثين.
وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة، في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن فطر من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟
فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن لا يعتاش إلا من الحشيش وأشباهه، ولا يقدر إلا مفطراً؟
فأجاب: إذا صار رجلاً ضعيفاً، ويعتاش من الكلإ
حشيشاً وأشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطراً، فإن كان يقدر أن يعتاش بلا حرفته هذه فلا يفطر; فإن كان ليس له ما يقوم به إلا حرفته هذه، ولو يتركها لحقه الضرر، فأرجو أنه يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات. وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا له عذر، والذي يعتاش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار، إلا إن كان مثل هذا عندكم لو ما يفطر تلفت نفسه، أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: أما الراعي إذا لم يتعمد الفطر، ووجد مشقة تفضي إلى الخطر على نفسه جاز له الفطر.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا صاموا رمضان وخافوا من شدة العطش، فلا بأس أن يفطروا؛ ولكن لا يفطروا حتى يشتد بهم العطش، وأما ظن وجود ذلك فلا يكفي.
وأجاب أيضاً: الذي يرعى الإبل أو غيرها، أو يكون في عمل شاق فيعطش في نهار رمضان، فالظاهر من أصول الشرع: أن الضرورة تبيح مثل هذا، وهو: ما إذا كان صائماً فعطش فخاف إن بقي على صيامه من التلف أو حدوث علة، فحينئذ يباح له الفطر ويقضي; والفطر الذي يباح له هو الذي يسد رمقه، بمنْزلة الأكل من الميتة. وأما ترك التكسب
من أجل خوف المشقة فلا يترك، بل يسعى في طلب المعيشة ويصبر، فإن عرض له أمر ضروري فيعمل بما ذكرنا.
[ وقت النية للصوم ]
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن أوجب النية للصوم الواجب من الليل، هل محلها الليل كله؟ أم تختص بوقت منه؟
فأجاب: قال في الشرح الكبير: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وفي الكافي: عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يبيِّت الصيام، فلا صيام له " 1، رواه أبو داود. وفي المبدع: لا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، لما روى ابن عمر عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " 2، رواه الخمسة. وعن عائشة مرفوعاً: " من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له " 3، رواه الدارقطني. وظاهره: أنه في أي وقت من الليل نوى أجزأه، لإطلاق الخبر؛ وسواء وجد بعدها ما يبطل الصوم، كالجماع والأكل، أو لا، نص عليه. انتهى. فقد عرفت: أنه متى نوى من الليل قبل الفجر في الصوم الواجب صحت منه.
[ حكم السحور ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السحور... إلخ؟
فأجاب: وأما السحور، فهو مسنون وإن قل، كما في الحديث: " ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " 4.
من يجهر بالإفطار ]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أكل في رمضان؟
فأجاب: والذي يأكل في رمضان أو يشرب، يؤدب.
[ مسائل متعلقة بصحة الصيام وبطلانه ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً فوجد طعمه في حلقه نهاراً... إلخ؟
فأجاب: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً، فوجد طعمه نهاراً في حلقه، أرجو أنه لا يضره.
وسئل: عن وجود روائح الأشياء... إلخ؟
فأجاب: روائح الأشياء إذا شمها الصائم فلا بأس بذلك إلا الدخان، إذا شمه الصائم متعمداً لشمه، فإنه يفطر بقصد شم الدخان، أيّ دخان كان؛ وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمه لم يفطر، لمشقة التحرز منه.
وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الفصد والكحل في نهار رمضان؟
فأجاب: قال في الإقناع وغيره: ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف; وقال في الكافي: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر، لأن العين منفذ، فإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه، ولم يجد طعمه، لم يفطر؛ نص عليه. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل؛ واختاره الشيخ تقي الدين. فقد عرفت: أن الأحوط تركهما في نهار رمضان.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الوارد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتحل إذا أراد أن ينام، ثلاثاً في هذه، وثلاثاً في هذه؛ واتباعه هو السنة. وأما الاكتحال في نهار رمضان، فالزاعم أنه سنة يطالب بالحجة، فهل يجد أنه اكتحل في نهار رمضان؟ كما ورد في السواك للصائم، وقلنا به لورود الأثر به، وتركنا كلام الفقهاء أنه يترك بعد الزوال; وقال شيخ الإسلام وابن القيم: لا يكره، فأخذنا بذلك. وأما الكحل: فلا حاجة إليه، ولم يزل أهل التحقيق يتقون مسائل الخلاف، ما لم يكن معهم نص يتركون قول المخالف له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 1؛ فالأولى بل الواجب: اجتنابه في حق الصائم، لأن وصوله إلى الحلق متحقق بالتجربة.
سئل الشيخ أبا بطين: عمن قبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى... إلخ؟
فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفاقاً لمالك؛ واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يفطر بذلك، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الترعة؟
فأجاب: إذا كان صائماً فلا يدخلها؛ إذا وصلت الفم يتركها تخرج.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جماعة أفطروا في يوم غيم قبل غروب الشمس؟
فأجاب: الأحوط القضاء، وهو الذي نحب.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: من أكل أو شرب ظاناً بقاء الليل، فبان بالعكس، ففي وجوب القضاء عليه اختلاف في مذهب أحمد وغيره؛ واختار الشيخ تقي الدين أن لا قضاء عليه، فنأمره بالقضاء احتياطاً، لا وجوباً.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تقليد المؤذن... إلخ؟
فأجاب: وأما تقليد المؤذن، إذا كان في السماء غيم ونحوه، فلا ينبغي تقليده، لأنه يؤذن عن اجتهاد فلا يقلد؛ بل يجتهد الإنسان لنفسه، فلا يفطر حتى يتيقن أو يغلب على ظنه الغروب، فيجوز له الفطر مع غلبة الظن. وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة.
سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن قول من قال: إنه لا يجوز لأحد أن يفطر بعد مغيب الشمس، حتى يذهب شعاع الشمس من الأفق، يعني الحمرة الشديدة، التي تبقى بعد غيوب القرص؟
فأجاب: هذا القائل جاهل مركب، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ وهذا المذهب الذي يحض عليه من
تأخير الأذان والفطر إلى ذهاب شعاع الشمس من الأفق، هو مذهب الرافضة، فإنهم يؤخرون الفطور إلى هذا الوقت; وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور " 1.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: عن غروب الشمس، أيجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب بقوله: الحمد لله، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص، ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم " 2. فتأمل ما ذكره، رحمه الله، من أنه إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، وأنه لا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
فإذا عرفت هذا، عرفت أن من نهى الناس عن الأذان، وعن الإفطار، إلا بعد ذهاب هذا الشعاع والحمرة الشديدة، فقد نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بسلوك طريقة الأرفاض، في تأخير الأذان والفطر إلى ظهور النجم وذهاب الحمرة؛ وقد أفصح، رحمه الله، بما يزيل الإشكال، بقوله: إذا غاب جميع القرص، فالحكم منوط بغيبوبة القرص جميعه، لا بذهاب الحمرة الشديدة، فإنه لا عبرة بوجودها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن جامع في نهار رمضان؟
فأجاب: الذي يجامع فيه يقضي، وتلزمه الكفارة بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر فإطعام ستين مسكيناً.
وأجاب أيضاً: الذي وقع على امرأته بعدما تبين الفجر وهو ناس لصومه، فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن أحمد: أحدها: أن الناسي كالعامد يقضي ويكفّر؛ وهو قول مالك والظاهرية. الثاني: لا يكفّر وليس عليه إلا القضاء؛ اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك. الثالث: لا يقضي ولا يكفّر؛ اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي؟ أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة. وبعض الفقهاء فرق بين من يكون جاهلاً بالحكم، أو جاهلاً بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقداً أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع.
ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى; قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً، ولا كفارة أيضاً.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، بعد ذكر صوم يوم الشك الذي تقدم قوله: ولا تثبت بقية توابعه، يعني وجوب الكفارة بوطء فيه، وحلول الآجال والمعلقات ونحوه، إذا ثبت هذا، فاعلم أن المجامع يوم الشك لا كفارة عليه، وإنما عليه الصوم، لأنه إذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، أي قضاء ذلك اليوم، لقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }الآية.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الجماع يوم الشك، وهو آخر يوم من شعبان، إذا غم على الهلال، أو حال دون منظره غيم أو قتر، فهي مسألة نزاع؛ وجمهور الفقهاء على وجوب الكفارة، وكلام شيخ الإسلام مشهور في عدم الوجوب، بناء على أصل، وهو أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، واحتج على ذلك بحجج من أشهرها: قصة تحويل القبلة، والرجل الذي أتى إلى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول إلى الكعبة، أو كما قال، فاستداروا إلى الكعبة كما هم، وصلوا إليها بقيه صلاتهم، فقال: هذه حجة أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، لأنهم صلوا أول الصلاة يقيناً بعد نسخ القبلة، لكن لم يبلغهم، فاجتزوا بها ولم يعيدوها.
لكن يقال: مثل وجوب الكفارة في هذه المسألة، يسوغ لمن أحسن الاجتهاد أن يفتي فيها بما بلغ اجتهاده; والرخصة في ذلك للناس في هذه المسألة، والمجاهرة بذلك، جهل قبيح عند أهل التحقيق؛ والذي يتبع الرخص زنديق، لأنه متلاعب بالشريعة، ولم نزل نرى مشائخنا يحذرونا عن ذلك، شيخنا عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وغيرهم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: من جامع يوم الشك، فالصحيح من أقوال العلماء: أن لا قضاء عليه ولا كفارة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقاً وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟
فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب: وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد؛ وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه؛ اختاره ابن بطة. وعنه: لا قضاء، اختاره الآجري والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه.
والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتكفّر في إحدى
الروايتين؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرواية الأخرى: لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي. وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي. وعلى القول بفساده، فنص أحمد: لا كفارة عليها؛ وهو قول الأكثرين. وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل؛ وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور: لا كفارة عليها.
وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء; وقوله: من بين جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لا كفارة على من جامع وهو صائم في قضاء رمضان، لعدم حرمة الزمان؛ قال في الكافي: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان. وقال في الزبد وشرحه، لما ذكر الكفارة على من أفسد صوم رمضان بالجماع: فلا كفارة على من أفسده
بغير جماع، أو بجماع في غير رمضان، كنذر وقضاء، لأن النص إنما ورد في إفساد صوم رمضان بجماع.
سئل الشيخ حسين بن علي بن حسين: عن رجل مرض في رمضان ثم عوفي مدة يسيرة، ثم أتاه مرض ثان ومات فيه... إلخ؟
فأجاب: إذا مات رجل في رمضان، فلا يقضى عنه، إلا إذا عوفي بعد رمضان، ومضى وقت يمكنه فيه الأداء ولا فعل، فهو يقضى عنه، أو يكفّر عنه، على ما فيه من الخلاف.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا يقضى، يعني صيام الفرض إذا مات في مرضه، وأما النذر إذا كان عليه صيام نذر، لزم وليه صيامه عنه.
وأجاب أيضاً: إذا ترك المريض الصلاة مدة، فإن كان لا يشعر بذلك لأجل المرض، فهو مرفوع عنه الوجوب، وإن كان يصلي ولا يعلم بينه وبين نفسه فيحمل ذلك على أنه مصل، ولا تقضى عنه الصلاة؛ هذا الظاهر وهو الأصح. وكذلك الصوم لا يقضى، وأما النذر فهو يقضى على الأصح.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: من أفطر أياماً من رمضان لعذر، ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فيطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه، لأن قضاء الصوم عن الميت يخص المنذور فقط. وأما من استمر عذره حتى مات فلا شيء عليه.
وأجاب بعضهم: وأما من دخل عليه رمضان آخر، وفي ذمته قبله قضاء من رمضان الأول، وتأخيره من غير عذر، فيطعم مع صيام ما عليه كل يوم مسكيناً، ربع صاع براً أو نصفه من غير البر. والظاهر من مذهب الشافعية: أن الإطعام يتكرر كل عام بالتأخير.
[ التتابع في قضاء رمضان ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟
فأجاب: وأما قضاء رمضان فلا يجب فيه التتابع.
[ هلال المحرم إذا حصل فيه شك ]
سئل أيضاً، رحمه الله: إذا حصل شك في هلال المحرم... إلخ؟
فأجاب: روي عن أحمد قال: إذا اشتبه علينا أول الشهر صمنا ثلاثة أيام، وأما البيض فالأمر فيها واسع، إذا حصل صيام ثلاثة أيام، حصل المطلوب من صوم ثلاثة أيام.
[ ما يفعل من الصيام والنحر في السابع والعشرين من رجب وليلة النصف من شعبان ]
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما يخص به يوم المولد من النحر، وما يفعل في السابع والعشرين من رجب من تخصيصه بالصوم والنحر، وما يفعل في ليلة النصف من شعبان من النحر وصيام اليوم، وما يخص به يوم عاشوراء من النحر؟
فأجاب: هذه الأمور المذكورة من البدع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وقوله في الحديث: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل
محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1؛ والعبادات مبناها على الأمر والنهي والاتباع، وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة والتابعون; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ وهذه الأمور ليس عليها أمره صلى الله عليه وسلم، فتكون به مردودة يجب إنكارها، لدخولها فيما أنكر الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [سورة الشورى آية: 21]؛ وهذه الأمور مما أحدثها الجهال بغير هدى من الله. وأما حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فضعفه شيخ الإسلام، لكن يحصل التوسعة بدون اتخاذه عيداً.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحديث المروي عن آدم، في فضل يوم النصف من رجب كذب لا أصل له. وأما صيام يوم النصف من شعبان فغير مشروع، وإن كانت تلك الليلة فيها فضل. وأما نهار الليلة التي يدعون أنها ليلة المعراج فلم يرد فيه شيء، وتخصيصه بالصيام بدعة.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره؛ وظاهر كلام الشيخ بل صريحه: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى.
[ ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر ]
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر؟ فأجاب: ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى: أن ليلة القدر تنقل في الوتر من العشر الأواخر.
[ خروج المعتكف لغسل الجمعة ]
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج المعتكف لغسل الجمعة؟
فأجاب: وأما خروج المعتكف لغسل الجمعة فلا يخرج له، ولا لغيره من السنن، إلا أن يشترط ذلك في أول اعتكافه، فيجوز له الخروج، ويصح شرطه.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية
مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام
جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله (1312-1392 هـ)