المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التدابير الزجرية والوقاية في التشريع الإسلامي وتطبيقها للعلامة أسماعيل الأنصاري


كيف حالك ؟

هادي بن علي
05-26-2013, 05:29 PM
التدابير الزجرية والوقاية في التشريع الإسلامي وتطبيقها للعلامة أسماعيل الأنصاري

أوضحت الشريعة الإسلامية المحرمات ومنعت منها منعا يثير في النفوس شدة الخوف من الإقدام عليها ، واتخذت للزجر عنها وللوقاية من أضرارها التدابير التالية :
(1) سد باب الوسائل والذرائع المفضية إلى ارتكاب تلك المحرمات بتحريم تلك الوسائل والنهي عنها ، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرم تلك الطرق والوسائل ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ، إذ لو أباح الوسائل والذرائع المفضية إلى المحرم كان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به ، وذلك يأباه علمه تعالى وحكمته كل الإباء ، كما أوضحه الإمام ابن القيم في ( ج3 "إعلام الموقعين" ص 13 ط مكتبة الكليات الأزهرية ) وأتبع لك قوله : " بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه عد متناقضا ، وحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده ، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه ، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة ؟ التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال .
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها " وذكر ابن القيم في صفحة 159 أن سد الذرائع
هو أحد أرباع التكليف ، وأوضح ذلك بقوله رحمه الله : " فإنه - أي التكليف - أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما مقصود لنفسه ، والثاني وسيلة إلى المقصود . والنهي نوعان : أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين " . وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "إقامة الدليل على إبطال التحليل ج / 3 من الفتاوى المصرية ، ص / 140 " أن شواهد قاعدة سد باب الذرائع المفضية إلى المحرمات أكثر من أن تحصر ، وسرد منها ثلاثين شاهدا ، قال صفحة 145 بعد سردها : " لم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه ، أو منصوص عليه ، أو مأثور عن الصدر الأول " . وذكر تلميذه العلامة شمس الدين ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" منها تسعة وتسعين شاهدا منها نهي الشارع عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة ، وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة ؛ سدا لذريعة الفساد والشر الكثير الذي يحصل بقتالهم ، وذكر أنه قد حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه . قال ابن القيم " والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن " .

2) إيجاب الكفارة على مرتكب ما يوجبها قال ابن القيم في ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، ص 153 ط مطبعة أمين عبد الرحمن ، شارع محمد علي بمصر ) : " شرع - سبحانه وتعالى - الكفارات في ثلاثة أنواع : أحدها ما كان مباح الأصل ، ثم عرض تحريمه فباشره في الحالة التي عرض فيها التحريم كالوطء في الإحرام والصيام ، وطرده الوطء في الحيض والنفاس بخلاف الوطء في الدبر . ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصح ؛ فإنه لا يباح في وقت دون وقت فهو بمنزلة التلوط وشرب المسكر .
النوع الثاني : ما عقد لله من نذر أو ما لله من يمين أو حرمة الله ، ثم أراد حله فشرع الله سبحانه حله بالكفارة وسماها تحلة ، وليست هذه الكفارة ماحية لهتك حرمة الإثم بالحنث كما ظنه بعض الفقهاء ؛

فإن الحنث قد يكون واجبا ، وقد يكون مستحبا ، وقد يكون مباحا ، وإنما الكفارة حل لما عقده .
النوع الثالث : ما تكون فيه جابرة لما فات ككفارة قتل الخطأ وإن لم يكن هناك إثم وكفارة قتل صيد الخطأ ، فإن ذلك من باب الجوابر ، والنوع الأول من باب الزواجر ، والنوع الوسط من باب التحلة لما صنعه العقد " . ذكر ابن القيم هذا ثم قال : " لا يجتمع الحد والكفارة في معصية بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها ، وما فيه كفارة فلا حد عليه " . وذكر من النوع الذي تجب فيه الكفارة الظهار .
) عقوبات مقدرة من الشارع على بعض الجرائم كالجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال ، كالقتل والجراح والقذف والسرقة ، وتعرف هذه العقوبات باسم الحد ، قال الإمام ابن القيم في كلامه على عقوبات تلك الجنايات في ( إعلام الموقعين ج 2 ص 114 ) : " أحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام ، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع ، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان والقتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس ، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله ؛ لتزول النوائب ، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غيره حقه ، قال : ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة ، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته ، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك . ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم ، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات ، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من

الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب ، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال ، ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة ، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة ، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أحوال : قتل ، وقطع ، وجلد ، ونفي ، وتغريم مال وتعزير " .
ثم بين ابن القيم حكمة كل عقوبة من تلك العقوبات التي رتبتها الشريعة على كل جناية من تلك الجنايات ،


وذكر أن الجناية على الدين والطعن فيه والارتداد عنه من الجرائم التي توجب القتل ، وقال فيها : " هذه الجناية أولى بالقتل وكف عداون الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم ، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة ، فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم ، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين " .
كما استوفى ابن القيم الكلام على جريمة الزنا ، وبيان الحكمة فيما رتبه الشرع عليها من العقاب .

ومما له صلة بوجوه الزجر الرادعة عنه ما ذكره العلامة القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي في كتابه ( تبصرة الحكام بمناهج الأقضية وأصول الأحكام " ج 2 بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد عليش ص 121 - 123 ) ذكر أن لما شرع من الأحكام للسياسة والزجر ستة أصناف وبينها بقوله :
1 - الصنف الأول شرع لصيانة الوجود كالقصاص في النفوس والأطراف ، فمن ذلك قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . معناه أن القصاص الذي كتبته عليكم إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل ، قال ابن الفَرَس في أحكام القرآن : في هذه الآية الكريمة تنبيه على الحكمة في شرع القصاص وإبانة الغرض منه . وقال قتادة : جعل الله تعالى هذا القصاص حياة ونكالا وعظة لأهل الجهل ، فكم رجل هَمَّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن القصاص حجز بعضهم عن بعض ، وخص أولي الألباب وإن كان الخطاب عاما ؛ لأنهم أصحاب العقول الذين ينظرون في العواقب ، ثم قال : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني الدماء . وأما القصاص في الأطراف فقوله تعالى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .

الآية ؛ ليزدجر الناس عن الإقدام على شيء من ذلك .
ومن ذلك قتال الخوارج والمحاربين والكفار ، قال الله تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ . الآية ، وفي قتال الكفار زيادة معنى ، وهو إعلاء كلمة الحق ومحو الشرك به .
2 - الصنف الثاني من الأحكام شرع لحفظ الأنساب كحد الزنا قال الله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ . وبينت السنة حكم التغريب وحد الزاني الثيب .
3 - الصنف الثالث من الأحكام شرع لصيانة الأعراض ؛ لأن صيانتها من أكبر الأغراض ، قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً . وألحق الشرع بذلك التعزير على السب والأذى بالقول على حسب اجتهاد الإمام في ذلك .
4 - الصنف الرابع من الأحكام شرع لصيانة الأموال كحد السرقة وحد الحرابة ، قال الله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . ويلتحق بذلك تعزير الغصاب ونحوهم .
5 - الصنف الخامس من الأحكام شرع لحفظ العقل كحد الخمر ، وقد نهى الله عنه في قوله تعالى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله :

فَاجْتَنِبُوهُ ثم قال تعالى : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . ووردت السنة بحد الشارب .

- الصنف السادس من الأحكام شرع للردع والتعزير نحو قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ أي : ليذوق جزاء فعله ، وقوله تعالى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إلى قوله : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ثم شرع كفارة ذلك في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ إلى قوله : وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وقوله تعالى : : وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ الآية ، وقصة الثلاثة الذين خلفوا ، وغير ذلك مما ورد به القرآن العظيم وأطال ابن فرحون بعد هذا في إيراد ما ورد في باب الردع والتعزير من السنة وما جاء فيه عن الصحابة رضي الله عنهم .
ذكر ابن فرحون جميع ذلك في فصل عقده للدلالة على مشروعية السياسة العادلة من الكتاب والسنة بعد أن قال : " السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشرع يحرمها ، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم ، وتدفع كثيرا من المظالم ، وتردع أهل الفساد ، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية ، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها ، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام ، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد ، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب

سفك الدماء وأخذ الأموال بغير الشريعة ، ولهذا سلكت فيه طائفة مسلك التفريط المذموم فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قَلَّ ، ظنا منهم أن تعاطي ذلك مخالفة للقواعد الشرعية فسدوا من طرق الحق سبيلا واضحة ، وعدلوا إلى طريق للعناد فاضحة ؛ لأن في إنكار السياسة الشرعية والنصوص الشريفة تغليطا للخلفاء الراشدين ، وطائفة سلكت في هذا الباب مسلك الإفراط فتعدوا حدود الله تعالى ، وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة - أي غير الشرعية - وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة ، وهو جهل وغلط فاحش ، فقد قال عز من قائل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فدخل في هذا جميع مصالح العباد الدينية والدنيوية على وجه الكمال ، وقال صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله وسنتي . وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع فقمعوا الباطل ودحضوه ، ونصبوا الشرع ونصروه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . اهـ .

مجلة البحوث الإسلامية العدد الثالث والعشرون>الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1408هـ 1409هـ

هادي بن علي
05-26-2013, 05:34 PM
هذا ومما يجب للتنبه له أن الدافع إلى ارتكاب الجريمة في بعض الأحيان قد يكون عذرا ، فلا توقع العقوبة لمرتكبيه لدلالة ذلك الدافع على أن الارتكاب ليس بخبث الطوية وإثارة الفوضى ، ومن أدلة ذلك :
(1) ما رواه البيهقي في باب من زنى بامرأة مستكرهة من " السنن الكبرى " ج 8 قال : " أخبرني أبو القاسم زيد بن جعفر بن محمد العلوي بالكوفة وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي بنيسابور ، قالا : أنبأنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم ، ثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي ، أنبأنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة جهدها العطش فمرت على راع فاستسقت ،

فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت ، فتشاور الناس في رجمها ، فقال علي رضي الله عنه : هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها . ففعل " . قال ابن القيم في ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 48 مطبعة الاتحاد الشرقي ) قلت : " والعمل على هذا لو اضطرت المرأة إلى طعام أو شراب عند رجل فمنعها إلا بنفسها وخافت الهلاك فمكنته من نفسها فلا حد عليها " . ثم قال ابن القيم : " فإن قيل : فهل يجوز لها في هذه الحالة أن تمكن من نفسها ؟ أم يجب عليها أن تصبر ولو ماتت ؟ قلت : هذه حكمها حكم المكرهة على الزنا التي يقال لها : إن مكنت من نفسك وإلا قتلتك ، والمكرهة لا حد عليها ولها أن تفتدي من القتل بذلك ، ولو صبرت لكان أفضل لها ، ولا يجب عليها أن تمكن من نفسها ، كما لا يجب على المكره على الكفر أن يتلفظ به ، وإن صبر حتى قتل لم يكن آثما ، فالمكرهة على الفاحشة أولى .
2 - ما رواه السعدي ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز ، ثنا علي بن المبارك ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال : ( لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة ) . قال السعدي : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال : العذق النخلة وعام سنة المجاعة ، فقلت لأحمد : تقول به ؟ فقال : أي لعمري . قلت : إن سرق في مجاعة لا تقطعه ؟ فقال : لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة . قال : قال السعدي : وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب .
ثنا أبو النعمان عارم ، ثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن ابن حاطب ( أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر فأقروا ، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له : إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم ، فقال عمر : يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم . فلما ولى بهم ردهم عمر ، ثم قال : أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم ، وايم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ، ثم قال :

يا مزني ، بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربعمائة . قال عمر : اذهب فأعطه ثمانمائة ) .
وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفعلين جميعا . ففي مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه ، فقال : فيه الثمن مرتين وضرب نكالا . وقال : وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا عليه الغرم . وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي ، وهذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع ؛ فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد رمقه ، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانا ، على خلاف في ذلك ، والصحيح وجوب بذله مجانا لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك ، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج ، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت ، فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد ، وكون أصله على الإباحة كالماء وشبهة القطع به مرة وشبهة دعوى ملكه بلا بينة وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع ، وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه ، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية ؟ لا سيما وهو مأذون في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه ، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع " . كلام ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 3 ص 10 - 12 مكتبة الكليات الأزهرية ) .

- عقوبات غير مقدرة من الشارع ، وإنما يعرض الأمر فيها إلى ولي الأمر ، وتعرف هذه العقوبات باسم التعزير ، وهو مشروع في كل معصية ليس فيها

حد ولا كفارة باتفاق العلماء ، قال الإمام ابن القيم في ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 106 مطبعة الإتحاد الشرقي ) وهي : " أي تلك المعصية نوعان : -
ترك واجب ، أو فعل محرم ، فمن ترك الواجب مع القدرة عليه كقضاء الديون وأداء الأمانات من الوكالات والودائع وأموال اليتامى ، والوقوف والأموال السلطانية ، ورد المغصوب والمظالم ، فإنه يعاقب حتى يؤديها .
وكذلك من وجب عليه إحضار نفس لاستيفاء حق وجب عليها مثل من يقطع الطريق ويلتجئ إلى من يمنعه ويذب عنه ، فهذا يعاقب حتى يحضره ، فما وجب إحضاره من النفوس أو الأموال استحق الممتنع من إحضاره العقوبة ، أما إذا كان إحضاره إلى من يظلمه أو إحضار المال إلى من يأخذه بغير حق فهذا لا يجب بل لا يجوز ؛ فإن الإعانة على الظلم ظلم " .
وعد ابن القيم في موضع آخر من ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ) سرقة ما لا قطع فيه والنظر إلى الأجنبية من المعاصي التي يستحق صاحبها التعزير ، كما ذكر أن اليمين الغموس منها عند أحمد وداود كما مثل في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 2 ص 118 مكتبة الكليات الأزهرية ) " بوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره وقبلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير " وأفاد شيخ الإسلام ابن تيمية في ( إقامة الدليل على بطلان التحليل) ص 144 ج 3 من الفتاوى المصرية ) أن في ارتكاب ما لا تتقاضاه الطباع من المعاصي التعزير ونصه : " لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزير " اهـ .
هذا وهناك أمران يتطلب موضوع التعزير البحث فيهما ، أحدهما : هل هو كالحد لا يجوز للإمام تركه ؟ أم هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه ؟
الثاني : هل مقدار التعزير بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة ؟ وهل يبلغ بالتعزير في المعصية قدر الحد فيها .
وكيف الجواب لمن يرى الزيادة على عشرة
أسواط في التعزير عن حديث : لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله .
وقد تناول الإمام ابن القيم جميع ذلك بالبحث ، وأجاد فقال في الأمر الأول في كتابه ( إعلام الموقعين عن رب العالميين ج 2 ص 118 ط مكتبة الكليات الأزهرية ) قال في ارتكاب المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة : " فيه التعزير قولا واحدا ، لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه ؟ أم هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه ؟ كما يرجع إلى اجتهاده في قدره على قولين للعلماء : الثاني قول الشافعي ، والأول قول الجمهور " .
وقال في الأمر الثاني المتعلق بمقدار التعزير قال في ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 107 طبعة مطبعة الاتحاد الشرقي ) : " وقد اختلف الفقهاء في مقدار التعزير على أقوال : -
أحدهما : أنه بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر .
الثاني : وهو أحسنها أنه لا يبلغ في التعزير في معصية قدر الحد فيها فلا يبلغ في التعزير على النظر والمباشرة حد الزنا ، ولا على السرقة من غير حرز حد القطع ، ولا على الشتم بدون القذف حد القذف . وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد .
والقول الثالث : أنه يبلغ بالتعزير أدنى الحدود إما أربعين أو ثمانين ، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة .
والقول الرابع : أنه لا يزاد في التعزيز على عشرة أسواط وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره .
وعلى القول الأول : هل يجوز أن يبلغ بالتعزير القتل ؟ في قولان أحدهما : يجوز كقتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله ، وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد واختاره ابن عقيل . وقد ذكر بعض

أصحاب الشافعي وأحمد نحو ذلك في قتل الداعية إلى البدعة كالتجهم والرفض وإنكار القدر ، وقد قتل عمر بن عبد العزيز غيلان القدري ؛ لأنه كان داعية إلى بدعته وهذا مذهب مالك رحمه الله ، وكذلك قتل من لا يزول إفساده إلا بقتله ، وصرح به أصحاب أبي حنيفة في قتل اللوطي ، إذا أكثر من ذلك تعزيرا ، وكذلك قالوا إذا قتل بالمثقل فللإمام أن يقتله تعزيرا ، وإن كان أبو حنيفة لا يوجب الحد في هذا ولا القصاص في هذا ، وصاحباه يخالفانه في المسألتين ، وهما مع جمهور الأمة .
هكذا استعرض الإمام ابن القيم هذه الأقوال في مقدار التعزير ، ثم قال : " والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم يوافق القول الأول ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الذي وطئ جارية امرأته وقد أحلتها له مائة ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أمرا بجلد من وجد مع امرأة أجنبية في فراش مائة جلدة . وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الذي زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة ثم في اليوم الثاني مائة ثم في اليوم الثالث مائة .
قال ابن القيم : " وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد في الثالثة أو في الرابعة فاقتلوه فأمر بقتله إذا أكثر منه ، ولو كان ذلك حدا لأمر به في المرة الأولى " .
وقد أجاد ابن القيم في زاد المعاد الكلام على حديث قتل شارب الخمر في الرابعة أو الخامسة حيث قال : " وصح عنه - أي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة ، واختلف الناس في ذلك فقيل : هو منسوخ وناسخه حديث : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . وقيل : هو محكم ، ولا تعارض بين الخاص والعام ، ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام . وقيل : ناسخه حديث عبد الله بن حمار فإنه أتي به مرارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله . وقيل : قتله تعزيرا حسب المصلحة ، فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرا لا حدا ، وقد صح عن عبد الله بن

عمر رضي الله عنهما أنه قال : " إيتوني به في الرابعة فعَلِّي أن أقتله لكم ) وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم معاوية وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو ، وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم ، وحديث قبيصة فيه دلالة على أن القتل ليس بحد وأنه منسوخ ، فإنه قال فيه : فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فجلده ، ثم أتي به فجلده ، ثم أتي به فجلده ، ورفع القتل وكانت رخصة رواه أبو داود .
قال ابن القيم : فإن قيل فما تصنعون بالحديث المتفق عليه ، عن علي كرم الله وجهه أنه قال : ما كنت لأرى من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئا إنما هو شيء قلناه نحن لفظ أبي داود ، ولفظهما : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنه قيل : المراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه بقوله تقديرا لا يزاد عليه ولا ينقص كسائر الحدود ، وإلا فعلي رضي الله عنه قد شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب فيها أربعين ، وقوله : إنما هو شيء قلناه نحن يعني : التقدير بثمانين ؛ فإن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فأشاروا بثمانين فأمضاها ، ثم جلد علي كرم الله وجهه في خلافته أربعين ، وقال : هذا أحب إلي .
ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد ، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم ، والقتل إما منسوخ وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها ، فإذا رأى قتل واحد ؛ لينزجر الباقون فله ذلك ، وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرب ، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق " . اهـ . كلام ابن القيم في ( زاد المعاد ج 3 ص 210 ط المؤسسة العربية للطباعة والنشر ببيروت ) .
ومما يتعلق بالتعزير ما اختاره الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم في الجزء الثاني من ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ص 48 ) أن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم قال : " بل هو يحسب الجريمة في صفتها وكبرها وصغرها ، وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة بحلق الرأس ،

وتارة بالنفي ، وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وتارة بتحريق حانوت الخمار ، وكذلك تعزير الغالّ ، وقد جاءت السنة بتحريق متاعه ، وتعزير مانع الصدقة بأخذها وأخذ شطر ماله معها ، وتعزير كاتم الضالة الملتقطة بإضعاف الغرم عليه ، وكذلك عقوبة سارق ما لا قطع فيه يضعف عليه الغرم ، وكذلك قاتل الذمي عمدا ، أضعف عليه عمر وعثمان ديته ، وذهب إليه أحمد وغيره " اهـ .
وسلك ذلك المسلك في التعزير أيضا العلامة القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي ، قال في كتابه ( تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ج 2 / ص 260 - 262 ) " والتعزير لا يختص

بفعل معين ، ولا قول معين ، فقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجر ، وذلك في قضية الثلاثة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم ، فهجروا خمسين يوما لا يكلمهم أحد ، وقضيتهم مشهورة في الصحاح . وعزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي فأمر بإخراج المخنثين من المدينة ونفيهم ، وكذلك الصحابة من بعده ، ونذكر من ذلك بعض ما وردت به السنة مما قال ببعضه أصحابنا ، وبعضه خارج المذهب ، فمنها أمر عمر بن الخطاب بهجر صبيغ الذي كان يسأل عن الذاريات وغيرها ، ويسأل الناس عن مشكلات القرآن ، فضربه ضربا وجيعا ونفاه إلى البصرة أو الكوفة ، وأمر بهجره ، فكان لا يكلمه أحد حتى تاب ، وكتب عامل البلد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بتوبته ، فأذن للناس في كلامه ، ومنها أن عمر رضي الله عنه حلق رأس نصر بن حجاج ونفاه من المدينة لما شبب النساء به في الأشعار وخشي الفتنة به .
ومنها ما فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم للمرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها . ومنها أن أبا بكر رضي الله عنه استشار الصحابة في رجل يُنكح كما تنكح المرأة ، فأشاروا بحرقه في النار ، فكتب أبو بكر رضي الله عنه بذلك إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه ، ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته ، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك ، وهو رأي ابن حبيب من أصحابنا ، ذكره في مختصر الواضحة .
ومنها أن أبا بكر رضي الله عنه حرق جماعة من أهل الردة ، ومنها إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده ، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها ، ومنها أمره لعبد الله بن عمر رضي الله عنه بتحريق الثوبين المعصفرين ومنها أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم ، فدل على جواز الأمرين ؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة ، ومنها هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة ، ومنها إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر .
ومنها إضعاف الغرم على كاتم الضالة ، ومنها أخذه شطر مال مانع الزكاة

عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى ، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه فلم يعرض له أحد ، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم .
ومنها تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر ، ومنها تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره ، ومنها مشاطرة عمر بن الخطاب عماله بأخذ شطر أموالهم فقسمها بينهم وبين المسلمين ، ومنها أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه وأخذ شيئا من بيت المال مائة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ، ومنها أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة ، ومنها أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش وغير ذلك مما يكثر تعداده ، قال ابن فرحون بعد عرض هذه القضايا الدالة على أن التعزير لا يختص بفعل معين ولا قول معين ، قال : " وهذه قضايا صحيحة معروفة ، قال ابن قيم الجوزية : وأكثر هذه المسائل شائعة في مذهب أحمد رضي الله عنه ، وبعضها شائع في مذهب مالك رضي الله عنه .
ومن قال أن العقوبة المالية منسوخة فقد غلط على مذهب الأئمة نقلا واستدلالا وليس يسهل دعوى نسخها ، وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل لدعوى نسخها والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم إلا أن يقول أحدهم : مذهب أصحابنا لا يجوز فمذهب أصحابه عنده عيار على القبول والرد " انتهى .
وأما حديث : لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله . فيقول فيه الإمام ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ج2 ص48) نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة ، ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرنا - أي مما يدل على الزيادة في التعزير على عشرة أسواط - فإن الحد في لسان

الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء ؛ فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة ، والحد في لسان الشارع أعم من ذلك ؛ فإنه يراد به هذه العقوبة تارة ، ويراد به نفس الجناية تارة كقوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا وقوله : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا فالأول حدود الحرام ، والثاني حدود الحلال ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفي حديث النواس بن سمعان الذي تقدم في أول الكتاب : والسوران حدود الله ، ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة ، فقوله صلى الله عليه وسلم : لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله يريد به الجناية التي هي حق الله .
قال - أي ابن القيم - فإن قيل : فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية ؟ قيل : في ضرب الرجل امرأته وعبده ، وولده وأجيره للتأديب ونحوه ؛ فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط . فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث وبالله التوفيق . اهـ . كلام ابن القيم ، وحيث إنه قد أشار فيه إلى هناك تخريجات لحديث : لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل فقد استحسنا إيرادها ، فنقول وبالله التوفيق : قال الحافظ المنذري في ( مختصر سنن أبي داود ج6 ص 294 طبعة السنة المحمدية) قال : " تأوله بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على أن الزيادة على الجلدات العشر إلى ما دون الأربعين لا يكون بالأسواط لكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإمام .
وتأوله غيرهم على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر ، وقيل : المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : في حد من حدود الله أي : حق من حقوقه ، وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها ؛ لأن المحرمات كلها من حدود الله .
وقال بظاهر الحديث أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأشهب في بعض الروايات عنه أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط ، ومذاهب العلماء في تقدير التعزير كثيرة . قال : وذكر ابن المنذر أن في إسناد الحديث مقالا ، وقال أبو محمد الأصيلي : اضطرب إسناد حديث

عبد الرحمن بن جابر فوجب تركه لاضطرابه ، وقول ابن المنذر يرجع إلى ما ذكره الأصيلي من الاضطراب ؛ فإن رجال إسناده ثقات ، والاضطراب الذي أشار إليه هو أنه روي عن عبد الرحمن بن جابر وأبيه جميعا ، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الطرق كلها مخرجة في الصحيحين على الاتفاق والانفراد .
وروي أيضا عن عبد الرحمن بن جابر ، عن رجل من الأنصار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا الاختلاف لم يؤثر عند البخاري ومسلم ؛ لأنه يجوز أن يكون سمعه من أبيه عن أبي بردة فحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا . وقوله : " عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم " يريد به أبا بردة . وقوله : " عن رجل من الأنصار " يريد به أيضا أبا بردة ؛ فإنه وإن كان قضاعيا بلويا فإنه حليف للأنصار فنسبه إليهم ، وهو مشهور بالنسبة إليهم ، وقد ذكر أبو الحسن الدارقطني أن حديث عمر بن الحارث المصري الذي قال فيه : " عن أبيه " صحيح ؛ لأنه ثقة وقد زاد رجلا وتابعه أسامة بن زيد . فهذا الدارقطني قد صحح الحديث بعد وقوفه على الاختلاف ، وجنح إلى ما جنح إليه صاحبا الحديث رضي الله عنهما والله عز وجل أعلم " أ هـ كلام الحافظ المنذري في الحديث ، وتتضح به مسالك العلماء في الحديث التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .

ومن فوائد إقامة العقوبات الشرعية رفع العقوبات القدرية أو تخفيفها كما أوضحه الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " حيث قال ص 10 : " عقوبات الذنوب نوعان شرعية وقدرية ، فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها ، ولا يكاد الرب تعالى يجمع على عبده بين العقوبتين إلا إذا لم تف إحداهما برفع موجب الذنب ، ولم يكن فيه زوال دائه ، وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية ، وربما كانت أشد من الشرعية وربما كانت دونها ، ولكنها تعم والشرعية تمضي ؛ فإن الرب تبارك وتعالى لا يعاقب شرعا إلا من باشر الجناية أو تسبب إليها ، وأما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة ؛ فإن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ،

وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة ، وإن رأى الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه " .
وقد أجاد ابن القيم في كتابه المذكور الكلام على العقوبات القدرية ، وعلى العقوبات الشرعية ، وعلى الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ، وأتى في ذلك بما لا يستغنى عنه لولا الإطالة .
هذا وفي نهاية هذا المقال لا يفوتنا إيراد كلمة قيمة للتاج ابن السبكي في كتابه " معيد النعم ومبيد النقم " في إيجاب العمل بالشرع على من يفصل في القضايا لأهميتها فنقول : قال التاج ص 40 - 42 " عليه - أي على على من يفصل في القضايا - رفع الأمور إلى الشرع ، وأن يعتقد أن السياسة - أي غير الشرعية - لا تنفع شيئا بل تضر البلاد والرعايا وتوجب الهرج والمرج ، ومصلحة الخلق فيما شرعه الخالق الذي هو أعلم بمصالحهم ومفاسدهم ، وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متكفلة بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم ، ولا يأتي الفساد إلا من الخروج عنها ، ومن لزمها صلحت أيامه واطمأنت ، ولم يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحبه حتى أكمل الله لنا ديننا " .
قال التاج : " وقد اعتبرت - ولاينبئك مثل خبير - فما وجدت ولا رأيت ولا سمعت بسلطان ولا نائب سلطان ولا أمير ولا حاجب ولا صاحب شرطة يلقي الأمور إلى الشرع إلا وينجو بنفسه من مصائب هذه الدنيا ، وتكون مصيبته أبدا أخف من مصيبة غيره ، وأيامه أصلح وأكثر أمنا وطمأنينة وأقل مفاسد ، وأنت إذا شئت فانظر تواريخ الملوك والآمراء العادلين والظالمين ، وانظر أي الدولتين أكثر طمأنينة وأطول أياما ، وكذلك اعتبرت فلم أر ولم أجد من يظن أنه يعلم الدنيا بعقله ويدبر البلاد برأيه وسياسته ، ويتعدى حدود الله وزواجره إلا كانت عاقبته وخيمة ، وأيامه منغصة منكدة وعيشه قلقا ، وتفتح عليه أبواب الشرور ويتسع الخرق على الراقع ، فلا يسد ثلمة إلا وتنفتح ثلامات ، ولا يرقع فتنة إلا وينشأ بعدها فتن كثيرة وعلى مثله يصدق قول الشاعر :




نـــــرقع دنيانـــــا بتمـــــزيق ديننـــــا فلا ديننـــــا يبقــــى ولا مــــا نــــرقع

وبهذا ينتهي البحث والله ولي التوفيق


إسماعيل الأنصاري
العدد الثالث والعشرون>الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1408هـ 1409هـ

12d8c7a34f47c2e9d3==