المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دعوة للرد على -توضيح المقال في بيان الفرق بين أهل الاعتدال من منهج أهل الاستئصال


كيف حالك ؟

أبو عبد الكريم الأثري
01-11-2013, 10:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
المقال فيه الكثير من التلبيسات فندعوا إخواننا أهل السنة الأقحاح للرد على هذا المقال الذي احتوى على الكثير من التدليس، خاصة إذا علمنا أنهم جعلوا أقوال بعض أهل العلم الذين جانبوا الصواب في مقابل الإجماع الذي نقله الشافعي رحمه الله وغيره من كبار العلماء وبالتالي ادعوا بأن الشيخ الألباني لم ينفرد بهذا القول (العمل شرط في كمال الإيمان ) ولا شك أن هذا من المضحكات المبكيات ، و أيضا دلسوا كثيرا حين لم يفرقوا عمدا بين آحاد الأعمال و جنس العمل في أقوال العلماء الذين نسبوا إليهم هذا القول زورا و بهتانا ، أسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لاستخراج كل التلبسات
توضيح المقال
في بيان الفرق بين أهل الاعتدال
من منهج أهل الاستئصال



بعد صدور كلام الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس -حفظه الله- في كتابه «مجالس تذكيرية» دفاعا عن الشيخ الألباني -رحمه الله- ممن اتهمه بالإرجاء، تجاسر بعض الجهال المتسترين بالأسماء المستعارة في المنتديات واصفا شيخنا بالإرجاء، متهما إياه بعدم فهم كلام السلف في مسائل الإرجاء، وبالكذب في نقله عنهم.

وهذا نص الطعن:

«قال فركوس...: «..بل متى ترك العمل فإن إيمانه ناقص ويأثم ويستحق العقاب والعذاب إلا أنه لا يخلد في النار، الإيمان عنده يزيد وينقص ولا ريب أن هذا مخالف تماما لقول المرجئة» اﻫ. هذا دليل بأنه يرى عدم دخول الأعمال عن مسمى الإيمان. أليس هذه عقيدة المرجئة ؟!

وقال: «ثم إن الشيخ الألباني – رحمه الله – لم ينفرد بهذا القول أي بأن الأعمال كمالية دون سائر أهل السنة أجمعين وإنما في مقالة أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان وكذلك ما ورد عن الحافظ بن رجب في فتح الباري ما فيه إشارة إلى هذا القول» اﻫ. وهذا كذب على أهل السنة والجماعة».

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فإنَّ إدارة الموقع الرسمي للشيخ أبي عبد المعز محمَّد علي فركوس -حفظه الله- حيث لقيت طعنًا لاذعًا في دفاعه عن الشيخ العلاّمة الألباني -رحمه الله- وتلامذته ممن وصفوهم بالإرجاء، فإنها تحاول أن تنير عقول الطاعنين إن كانوا جاهلين غير مغرضين بقيام الفرق بين الموقف الشخصي وبين حمل موقف غيره -إن كانت سيرته حسنة- على أحسن المحامل، وأولى الوجوه رضًى، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: 58]، وعادة الملبّسين يخلطون بين المسائل والقضايا بسبب ضعف المستوى العلمي، أو لقلة التثبت والتحقق مع أهلها أو لحاجة في نفوسهم مهملين استثمار معارف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المفيدة في إنارة العقول وتزكية النفوس وتقويم الأعمال.

وما ذكره أهل التلبيس والتحريف عن الشيخ أبي عبد المعز محمّد علي فركوس -حفظه الله- إنما هو موقفه مع غيره في إرادة العمل على الإنصاف والعدل المأمور به في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].

فمن جهة إرادة الإنصاف لمعتقد الشيخ الألباني -رحمه الله- في مسألة العلم في الإيمان التي لمزوه بها ووصفوه بالإرجاء وتلامذته مرجئة الفقهاء، فإنّ الواجب على كلّ داعية يحب أهل السنة والجماعة أن يعمل على تحقيق المعنى المتضمّن في قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: 12]، أي بإخوانهم خيرًا، فكيف إذا كان الأمر يخصّ أحد رموز الدعوة السلفية، وصاحب الفضل في العناية بالسنة المطهرة تخريجًا وتحقيقا وتنقيحًا، وفي بيان أصول المنهج السوي، والداعي إلى الانتساب إليه سلوكًا وأخلاقًا وتربية؟!

هذا، وإنّ إدارة الموقع الرسمي للشيخ محمّد علي فركوس -حفظه الله- إذ تقرّر معتقده صراحة بما هو ثابت في موقعه(١) منذ عهد بعيد، حيث قال -حفظه الله-: «فبغضّ النظر عن حكم تكفير تارك الصلاة من عدم تكفيره، فإنّ جنس العمل عند أهل السنة والجماعة هو من حقيقة الإيمان وليس شرطًا فقط، فالإيمان هو: قول وعمل واعتقاد لا يصحّ بها إلاّ مجتمعة، ولذلك كان الإمام الشافعي -رحمه الله- يرى عدم تكفير تارك الصلاة مع حكايته الإجماع أنه لا يجزئ إيمان بلا عمل، والفرق بين الخوارج والمعتزلة الذين يقررون أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، أنّ الإيمان -عندهم- يزول بزوال العمل مطلقًا، بخلاف أهل السنة ففيه من الأعمال ما يزول الإيمان بزواله سواء كان تركًا -كترك الشهادتين، وجنس العمل اتفاقًا، أو ترك الصلاة على اختلاف بين أهل السنة، أو كان فعلاً كالذبح لغير الله والسجود للصنم ونحو ذلك، والعمل في هذا القسم شرط في صحته، وفيه من العمل ما ينقص الإيمان بزواله ولا يزول كليًّا، أي يبقى معه مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق مثل الذنوب دون الكفر، فالعمل -في هذا القسم- شرط في كماله.قال حكمي-رحمه الله-: «إنَّ السلف لم يجعلوا كلَّ الأعمال شرطًا في الصحة، بل جعلوا كثيرًا منها شرطًا في الكمال، كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: «مَنِ استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان»، والمعتزلة جعلوها كلَّها شرطًا في الصحة»(٢).

وعليه، فخلوُّ إيمانِ القلب الواجب من جميع أعمال الجوارح ممتنع وغير متصور، وضمن هذا التقرير يصرِّح ناشر مذهب السلف شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بقوله: «إنَّ جنس الأعمال من لوازم الإيمان، وإنَّ إيمان القلب التامَّ بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءًا من الإيمان»(٣).

كما يؤكد الشيخ محمّد علي فركوس -حفظه الله- في هذا الجانب الإيماني أن الإيمان مركب من أجزاء، والأعمال داخلة في حقيقة الإيمان ومسماه، وأنّ الإيمان قول وعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وأنه لا يكون إسلام بلا إيمان، ولا إيمان بلا إسلام، أنه لا يقبل قول إلا بعمل ولا يقبل عمل إلا بقول، وأن ترك الفرائض ليس بمنـزلة ركوب المحارم، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأنّ أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ولازمة لها.

غير أنه لا يمنعه ذلك من بيان الجانب الإيماني الذي يعتقده الشيخ الألباني -رحمه الله- من كون العمل يدخل في مسمى الإيمان إلا أنه كواجبات الصلاة لا كأركانها، وأنّ الإيمان لا ينعدم بانتفاء الأعمال، فإنّ ما انتهجه الشيخ الألباني -رحمه الله- ليس قولاً انفرد به أو شذّ عن مقالة أهل السنة حتى يقع في الإرجاء أو يوصف به، إذ لا تتطابق مع المرجئة لأنهم جعلوا العمل خارجًا عن حقيقة الإيمان وأنكروا جزئيته وهدروه، حيث يعتقدون أنّ الناطق بالشهادتين مؤمن مستكمل الإيمان، والعامل ومقترف السيئات والموبقات جميعهم إيمانهم واحد لا يزيد ولا ينقص، وهذا لم يقل به الشيخ الألباني -رحمه الله- ولا تلامذته الكرام وإنما يقرروه بالعكس وهو: «الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه اعتقاد وقول وعمل، وقد نقل عن الإمام أحمد والبربهاري وغيرهما من أهل السنة أن من قال: «الإيمان يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء كله أوله وآخره»(٤).

كما أنَّ قوله -رحمه الله-لم يوافق الخوارج والمعتزلة؛ لأنّ الأعمال -عندهم ركن الإيمان كأركان الصلاة.

ولا شكّ أنّ ما ذهب إليه الأئمة الثلاث، مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أصحاب الحديث هو الصحيح، إلاّ أنّ جملة من مقالات علماء أهل السنة السابقين لا تختلف مقالاتهم عمّا ذكره الألباني في تقرير هذا الاعتقاد، ومن هذه المقالات ما يأتي:

- قول ابن أبي العز الحنفي في «شرح العقيدة الطحاوية» (2/463): «وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد» ا.ﻫ.

- قول ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (1/112): «ومعلوم أنّ الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان، وبها يخرج من يخرج أهل النار، فيدخل الجنة» ا.ﻫ.

- قول أبي عبيد في كتابه «الإيمان» (34): «فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا، أنّ الإيمان بالنية والقول والعمل جميعًا، وأنه درجات بعضها فوق بعض؛ إلاّ أنّ أولها وأعلاها: الشهادة باللسان، كما قال رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءًا، فإذا نطق بها القائل وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيمانًا» ا.ﻫ.

- قول السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (1/405): «السلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بزيادة الإيمان ونقصه، والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرامية قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفرق بينهم وبين السلف: أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله» ا.ﻫ.

- قول المباركفوري عبيد الله في «مرعاة المفاتيح» (1/36-37): «وقال المرجئة: هو اعتقاد فقط، والإقرار باللسان ليس ركنًا فيه ولا شرطًا، فجعلوا العمل خارجًا عن حقيقة الإيمان كالحنفية وأنكروا جزئيته إلا أن الحنفية اهتموا به وحرّضوا عليه، وجعلوه سببًا ساريًا في نماء الإيمان، وأمّا المرجئة فهدروه، وقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فلا يضر المعصية عندهم مع التصديق.

وقال الكرامية: هو نطق فقط، فالإقرار باللسان يكفي للنجاة عندهم، سواء وجد التصديق أم لا.

وقال السلف من الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أصحاب الحديث: هو اعتقاد بالقلب، ونطق بالسان، وعمل بالأركان، فالإيمان –عندهم- مركب ذو أجزاء، والأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقصان بحسب الكمية، واحتجوا لذلك بالآيات والأحاديث، وقد بسطها البخاري في «جامعه» والحافظ ابن تيمية في كتاب «الإيمان».

وقيل: وهو مذهب المعتزلة والخوارج إلاّ أن السلف لم يجعلوا أجزاء الإيمان متساوية الأقدام، فالأعمال –عندهم كواجبات الصلاة لا كأركانها، فلا ينعدم الإيمان بانتفاء الأعمال، بل يبقى مع انتفائها ويكون تارك العمل -وكذا صاحب الكبيرة- مؤمنًا فاسقًا لا كافرًا، بخلاف جزئية: التصديق والإقرار، فإنّ فاقد التصديق وحده منافق، والمخل بالإقرار وحده كافر، وأما المخل بالعمل -وحده- ففاسق ينجو من الخلود في النار، ويدخل الجنة.

وقال الخوارج والمعتزلة: تارك الأعمال خارج من الإيمان لكون أجزاء الإيمان المركب متساوية الأقدام في انتفاء بعضها -أي بعض كان- يستلزم انتفاء الكل، فالأعمال -عندهم- ركن من أركان الإيمان كأركان الصلاة.

ثمّ اختلف هؤلاء، فقالت الخوارج: صاحب الكبيرة، وكذا تارك الأعمال كافر مخلد في النار، والمعتزلة أثبتوا الواسطة، فقالوا لا يقال مؤمن ولا كافر، بل يقال: فاسق مخلد في النار!

وقد ظهر من هذا الاختلاف بين الحنفية وأصحاب الحديث اختلاف معنوي حقيقي لا لفظي كما توهم بعض الحنفية، والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة والمحدثون لظاهر النصوص القرآنية والحديثية» ا.ﻫ.

هذا، وليس معنى قول الشيخ الألباني وتلامذته السنيين أنّ الإيمان شرط في كماله الواجب، أنهم يعتقدون بأن الإيمان قول بلا عمل كما يظنه عنهم الجاهلون، كلا بل عندهم الإيمان قد يصحّ ولا يكون كاملاً؛ لأنه يقبل التبعيض والتجزئة، وأنّ قليله -ولو مثقال ذرة- يخرج الله به من النار من دخلها كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة.

أمّا نسبة الكذب للشيخ أبي عبد المعز محمّد علي فركوس –حفظه الله- في عدم وجود علماء سنيين من قال بمقالة الشيخ الألباني -رحمه الله- ومن تبعه عليها في تقرير هذا الاعتقاد، فإن هذه بعض النقول السابقة عن هؤلاء الأئمة الفحول ردٌّ على مفتري الكذب وصاحب التلبيس والتهويس، الساعي به ليوقع فتنة بين أهل السنة وينشر الفساد.

ولا شكّ أن مثل هذه المساعي في تفريق الأمة، والاختلاف على ورثة الأنبياء والصالحين من عباد الله المخلصين، لتنم عن نفس بغيضة لا تحب الخير لأهل الإسلام ولا تعذرهم، ولم تربَّ على إيثار الحق بالبرهان وحسن الأدب، وحب المعروف والفضيلة، والرغبة في الخير، والإنصاف والعدل، ومن جعل الفضائل الخلقية طبعًا له سارت نفسه نحو الكمال الخلقي كما أخبر النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في قوله: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ أَخْلاَقًا»(٥).

أمَّا إذا ربِّيت تربية نتنة أحبّت كل نكير وبغيض شرعًا، وانقلبت النفس ترى الجميل حقيرًا، والطيب مبغوضًا، والقبيح محبوبًا، وأصبحت الرذائل والنقائص تصدر عنها بدون رقيب يخشى أو نفس تنهى، كان ذلك علامة على التدني الأدبي والانحطاط الخلقي، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10].

هذا، وإن كان أصحاب المقالات السابقة قد حادوا عن الصواب فإنما ينسب إليهم الخطأ في تقرير المعتقد الصحيح في هذه المسألة، ولا ينسب إليهم الإرجاء ولا يلمزوهم بأنهم مرجئة لبعدهم عنه، وضمن هذا المنظور يقول ابن القيم -رحمه الله-: «.. فلو كان كلّ من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها»(٦).

لكن أصحاب المنهج الاستئصالي الذين شنوا حربًا -اسمًا ومعنى- على الدعاة السلفيين، وأشربوا في قلوبهم حب القضاء على كلّ داعية إلى الله من أهل السنة فيقدحون في علمه وتقواه، بل يطعون في إيمانه حتى يكادوا يخرجونه من دائرة الإيمان بلا تعظيم للحق ولا رحمة للخلق، وهذا الصنيع علامة بارزة على أهل الأهواء والبدع.

ونختم بكلام شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكره في «منهاج السنة النبوية» [4/543] ما نصه: «..أنّ الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظنّ، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين:

- طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه.

- وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في برّه، وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.

والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحقّ التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أنّ الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه.

هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم».

وأخيرًا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعزّ أولياءه، وأن يذل أعداءه، ويهدينا الحقّ فهو حسبنا ونعم الوكيل، وبكل جميل كفيل، وعليه الاتكال في الحال والمآل.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

إدارة الموقع


الجزائر في 20 رجب 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 23 جويلية 2008م


١- انظر الفتوى برقم: 204، تحت عنوان: «دخول الأعمال في مسمى الإيمان» المؤرخة بتاريخ: 09 ربيع الأول 1426ﻫ الموافق ﻟ: 18أفريل 2005م.

٢- «معارج القبول» للحكمي: (2/602).

٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (7/616).

٤- «مجمل رسائل الإيمان العلمية» (28).

٥- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه: (4682)، والترمذي في «سننه» كتاب باب ما جاء في حق المرأة على زوجها: (1162)، وأحمد في «مسنده»: (7354)، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (13/133)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (284).

٦- «مدارج السالكين» لابن القيم: (2/39).

أبو عبد الكريم الأثري
01-13-2013, 12:18 AM
- قول ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (1/112): «ومعلوم أنّ الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان، وبها يخرج من يخرج أهل النار، فيدخل الجنة» ا.ﻫ.
قولهم هذا قد رد عليه الكثير من الإخوة و لا أريد تكرار المكرر و إليكم الرد على هذه الشبهة :
بسم الله الرحمن الرحيم

تاسعا : توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام ابن رجب الحنبلي رحمه الله


1- قال ابن رجب رحمه الله :
(ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبـهما يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة ) فتح الباري ( مكتبة الغرباء الأثرية ، 1/ 121 ) .
2- وقال بعد أن ساق حديث الشفاعة :
( والمراد بقوله " لم يعملوا خيراً قط " من أعمال الجوارح وإن كان أصل التوحيد معهم ، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه لم يعمل خيراً قط غير التوحيد ...ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال : " فأقول يارب ائذن لي فيمن يقول : لا إله إلا الله فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من قال : لا إله إلا الله " خرجاه في الصحيحين وعند مسلم " فيقول ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك " وهذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا خيراً قط بجوارحهم ) كتاب التخويف من النار طبعة دار الإيمان الباب الثامن والعشرون ص285 .
النقل الأول استشهد به عدنان عبد القادر في كتابه ص 62 ، والزهراني في حواره مع الأخ العبد الكريم - في منتدى الفوائد-.
والنقل الثاني ذكره عدنان في كتابه ص 62 ، 82 ، وذكره الزهراني مؤخرا في شبكة سحاب ، وقال : (عندما استدللنا بحديث الشفاعة في خروج الموحدين من النار ولو لم يكن معهم عمل صالح قيل هذا تفسير المرجئة ، فإليكم أيها الإخوة تفسير أحد الأئمة ( لعله بعد هذا يصبح عند البعض : تأثر بالمرجئة ) وهو ابن رجب ، قال...).
والجواب :
أولا : أن حديث "لم يعملوا خيرا قط" سبق الجواب عنه من سبعة أوجه ، جاء فيها :
(الوجه السابع : أن من أهل العلم من رأى حمل هذا الحديث على حالة خاصة تلائم النصوص المحكمة وما أجمع عليه السلف الصالح من أن الإيمان قول وعمل .
وهذا ما ذهبت إليه اللجنة الدائمة في فتواها المفصلة عن الإرجاء ( فتوى رقم 21436 وتاريخ 8/4/1421 ه
حيث جاء فيها : ( وأما ما جاء في الحديث إن قوما يدخلون الجنة لم يعملوا خيرا قط ، فليس هو عاما لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه ، وإنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من العمل ، أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة ، وما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب )).
وقد أثبتُّ في الأوجه الأخرى أن هؤلاء من أهل الصلاة ، بدلالة الحديث نفسه ، وبدلالة الروايات الأخرى لحديث الشفاعة، كما بينت أن " الجهنميين " يخرجون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري.
ومن قال من شراح الحديث وغيرهم إن هؤلاء " الجهنميين " لم يعملوا شيئا من أعمال الجوارح ، لم يكن هذا القول منهم دليلا على أن ترك هذا العمل بالكلية - مع القدرة - ليس كفرا ؛ إذ من المحتمل أنهم يرون هذه حالة خاصة مستثناة مما أجمع عليه السلف من كون القول والتصديق لا يجزئ بدون عمل الجوارح.
وخير شاهد على ذلك مسلك علمائنا في اللجنة الدائمة - حفظهم الله - فمع منعهم لكتاب الزهراني ثم عدنان ، وجعلهم من قال بإسلام تارك عمل الجوارح داعية إلى مذهب الإرجاء ، حملوا هذا الحديث على حالة خاصة ، احتف بها عذر منع من العمل.
وسيتضح هذا أيضا عند ذكر كلام الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله - في الجزء الثالث إن شاء الله-.
وعلى هذا فلا يشكل على طالب العلم أن يجد من شراح الحديث - كابن رجب والقرطبي والزركشي والقاضي عياض وغيرهم- من يقول إن هذه الفئة لم تعمل شيئا من أعمال الجوارح ، فمجرد هذا التفسير للحديث لا يعني تبني مذهب المرجئة القائلين بإسلام من ترك أعمال الجوارح بالكلية مع القدرة وعدم المانع.
أما من استدل بهذا الحديث ليؤصل قاعدة ، ويقرر مذهبا كالذي ينصره الزهراني ، فهذا الذي يصاح به من أقطار الأرض : لقد نصرت قول المرجئة !
ثانيا: أما قول ابن رجب : ( و معلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبـهما يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة ).
فلا ينقضي عجبي ممن يستشهد بهذا الكلام مقرا له ، مع دعواه أن ترك عمل القلب كفر!
وترى هؤلاء يلهثون خلف كل نقل لا يشترط عمل الجوارح لحصول النجاة من الخلود في النار ، ولو كان هذا النقل لا يشترط عمل القلب أيضا.
إنه لغريب حقا أن يظل هؤلاء متمسكين باشتراطهم عمل القلب ، وإن ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي نرى فيه من يقول : من أتى بالقول والتصديق فهو مسلم ناج تحت المشيئة.
وهذا هو لازم مذهبهم ولاشك ، فإن تقدير وجود عمل القلب مع انتفاء عمل الجوارح ممتنع.
وأيضا فجميع ما يستدلون به من نصوص ليس فيه ذكر لعمل القلب.
أما كلام ابن رجب رحمه فله تتمة لم يذكرها الزهراني ، وهي قوله رحمه الله ( كما سبق ذكره).
والذي سبق ذكره ، هو ما جاء في (1/95) من فتح الباري :
(كلمة التوحيد والإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه الغرماء بمظالمهم؛ بل يبقى على صاحبه؛ لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخلد بعض أهل التوحيد وصار مسلوباً ما في قلبه من التصديق، وما قاله بلسانه من الشهادة وإنما يخرج عصاة الموحدين من النار بهذين الشيئين).
فتقريره أن أهل النار يخرجون منها بشهادة اللسان وتصديق القلب ، لا يعني أن هؤلاء قد لقوا الله تعالى بلا عمل !!
وإنما مراده أن أعمالهم اقتسمها الغرماء ، وبقي لهم التصديق والقول ، ولو اقتُسم هذا لهلكوا.
وهذا واضح والحمد لله ، ومن عجيب صنع الأخ عدنان أنه جمع بين كلام ابن رجب في موضع واحد ، لكن يبدو أنه لم يفطن لما فيه.
ومثل هذا نقوله لمن استشهد بقول العلماء : يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان . فإن هذا حق دلت عليه النصوص ، وهو لا ينفي أن يكون لهؤلاء أعمال عظيمة ، اقتسمها غرماؤهم ، ولا ينفي أن يكونوا من أهل الصلاة ، كما لا ينفي أن يكون لديهم المحبة والانقياد والخوف والرجاء وغير ذلك من عمل القلب اللازم - كما يقر به المخالف - ويكون المراد : الخير الزائد على أصل الإيمان ، المتضمن التصديق، وعمل القلب ، وفعل الصلاة .
ولهذا لم تشكل هذه الأحاديث على جمهور السلف القائلين بكفر تارك الصلاة ، وقد مضى بيان هذا مفصلا ، والحمد لله.
ثالثا : الظاهر من كلام ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم أنه يقول بكفر تارك الصلاة ، وهذا يبطل اعتماد المخالف عليه في هذه المسألة رأسا، ويؤكد ما ذكرته من أن الحكم على الجهنميين بأنهم لم يعملوا شيئا من أعمال الجوارح ، لا يعني جعل ذلك قاعدة ، وإنما هي حالة خاصة.
قال في جامع العلوم والحكم في شرح الحديث الثالث :
( والمقصود تمثيل الإسلام بالبنيان ودعائم البنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان فإذا فقد منها شيء نقص البنيان وهو قائم لا ينقص بنقص ذلك بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال،
وكذلك يزول بفقد الشهادتين والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله ...
وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة" وروى مثله من حديث بريدة وثوبان وأنس وغيرهم،
وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تترك الصلاة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد خرج من الملة" وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة"
فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه).
ثم ذكر الآثار عن : عمر وسعد وعلي ، ثم عبد الله بن شقيق وأيوب السختياني .
ثم قال (وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم وقال محمد بن نصر المروزي هو قول جمهور أهل الحديث).
ولم يعرج على القول المخالف ولا أدلته .
ولهذا جزم شيخنا الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل في رسالته : منهج الحافظ بن رجب في العقيدة بأن ابن رجب يكفر تارك الصلاة .

والله أعلم.

كتبه ... الموحد

أبو عبد الكريم الأثري
01-13-2013, 12:52 AM
- قول ابن أبي العز الحنفي في «شرح العقيدة الطحاوية» (2/463): «وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد» ا.ﻫ.
سادسا : توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام الإمام ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية .


قال رحمه الله : (وأجمعوا على أنّه لو صدّق بقلبه وأقرّ بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه : أنّه عاص لله ورسوله مستحقّ للوعيد ).

هذا النقل احتج به الأخ أحمد بن صالح الزهراني مؤلف كتاب " ضبط الضوابط " في حواره مع الأخ العبد الكريم في منتدى الفوائد.
كما احتج به العنبري في أصل كتابه " الحكم بغير ما انزل الله " ، فقد نقل العبارة ثم قال عقبها : " غير أنه ليس بكافر". وعلق في الهامش بقوله : " وفي نقل الإجماع نظر لا يخفى ". ( الحاكمية وأصول التكفير 1/161).
وسئل الأخ أحمد الخشاب ( أبو اليسر ) في حوار أجري معه في شبكة سحاب : ما معنى هذه العبارة ومن الذين أجمعوا ؟
فأجاب : (معنى العبارة أنه لا يخرج من دائرة الإسلام ما دام مصدقاً بقلبه ومقراً بلسانه وأن امتناعه معصية و يناقش و يطالب بالعمل.
والذين اجمعوا يعني: أهل السنة.) انتهى كلامه.
وبطلان هذا الكلام الأخير ظاهر لا يحتاج إلى تطويل.
فالذين أجمعوا هو أهل السنة ومرجئة الفقهاء.
وظاهر كلامه أن من لم يأت بعمل القلب ، وأتى بالتصديق وقول اللسان أنه لا يكفر ، وهذا بين الفساد ، بل يقر بفساده ويبرأ منه الزهراني وغيره.
وليس في كلام ابن أبي العز ما يصلح مستندا للقول بنجاة من ترك عمل الجوارح بالكلية ، وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أن قوله : " أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد " لا تنافي الحكم بكفره ، فالكافر والمشرك والمنافق ، جميعهم عصاة لله ورسوله مستحقون للوعيد.
الثاني : أنه لو فسر قوله " عاص " بأنه : لا يكفر ، كما فهم هؤلاء ، لكان هذا الإجماع باطلا ، لا يشك في بطلانه من يعلم اختلاف الفقهاء في تكفير تارك الصلاة ، واختلاف السلف في تكفير تارك المباني الأربعة !
فإنه يلزم على تفسيرهم : أن يَدعى الإجماع على أن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر عمل الجوارح أنه لا يكفر .
وبطلان هذا لا يخفى على من له أدنى حظ من النظر في هذه المسائل.
ولهذا رأينا العنبري يقول : (وفي نقل الإجماع نظر لا يخفى ) !!
وفي هذا نسبة شارح الطحاوية إلى الوهم والخطأ ، في أمر معلوم مشهور ، وكان الأحرى به أن يتهم فهمه ، وأن يدرك أن قوله " عاص " لا تعارض الحكم بالكفر.
وقد علقت سابقا على فهمه لكلام عبد الله بن شقيق ، وعلى ما نسبه إلى الحنابلة في مسألة تارك الصلاة ، وأضيف هنا شيئا للاعتبار :
قال العنبري ( 1/185 ) : ( وقال ابن قدامة " وإن ترك شيئا من العبادات الخمسة تهاونا لم يكفر" . كذا في المقنع . وقال في المغني ...).
وعلق العنبري في الحاشية بقوله : ( اصطلح غير واحد من العلماء على تسمية الأركان الأربعة بالخمسة [!!!!!] ولا مشاحة في الاصطلاح ، ولعل ذلك إشارة منهم إلى أن مقصودهم الأركان التي ذكرت في حديث ابن عمر وغيره " بني الإسلام على خمس ... " الحديث .) انتهى كلام العنبري !!
قلت : ليته استشكل العبارة وصمت .
قال العلامة ابن مفلح في الفروع (1/297) : ( ومن فرض المسألة في ترك العبادات الخمس ، فمراده - والله أعلم - الطهارة ؛ لأنها كالصلاة ، ولا يلزم بقية الشرائط لعدم اعتبار النية لها ، ولهذا صنف أبو الخطاب : العبادات الخمس ، وقال الفقهاء : ربع العبادات ، وحمل الكلام على الصحة أولى ومتعين).
وقال الحجاوي في الإقناع : ( وإن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئا منها ، ومنها الطهارة ، ...). وانظر كشاف القناع 6/219
وفي منتهى الإرادات : ( أو جحد ربوبيته ... أو وجوب عبادة من الخمس ، ومنها الطهارة ، أو حكما ظاهرا مجمعا عليه ...) . منتهى الإرادات مع حاشية المنتهى لعثمان النجدي 5/168
وكذا في غاية المنتهى 3/ 354 . وهذا هو الصواب الذي يتعين الأخذ به ، خلافا لمن قال : " ومنها الطهارة " أي مثلها.
واصطلح الحنفية على أن العبادات الخمس : المباني الأربعة والجهاد.
الثالث : أن ابن أبي العز قال هذا مدللا على أن الخلاف الواقع بين أبي حنيفة والجمهور خلاف صوري .
فقد يخيل لمن يقف على كلام الحنفية في إخراج العمل من مسمى الإيمان ، وقولهم بتساوي أهل الإيمان في أصله ، أنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، وأن أهل المعاصي ليسوا معرضين للوعيد.
وقد بين رحمه الله أن الخلاف يكون صوريا إذا قرر أن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، وهذا ما قرره شيخ الإسلام في مواضع يأتي ذكر بعضها ، فلا يكون الخلاف صوريا مع من يقول ببقاء إيمان القلب عند انتفاء عمل الجوارح ، فانتبه لهذا الموضع .
قال ابن أبي العز " والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلاف صوري . فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءا من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه : نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد . والقائلون بكفر تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى ، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقا . ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل .
لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان ؟
أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازا ؟ هذا محل النزاع .
وقد أجمعوا على أنه لو صدق ... " الخ كلامه وقد سبق.
وفي هذا الكلام رد على المرجة والخوارج . فالمرجئة - ممن نزاعه مع أهل السنة حقيقي - لا يرون عمل الجوارح جزءا ولا لازما لإيمان القلب ، وإنما يرونه ثمرة كما مضى معنا في أول البحث ، واللازم يلزم من انتفاه انتفاء الملزوم ، بخلاف الثمرة .
وانتفاء الإيمان عند انتفاء جميع أعمال الجوارح لا إشكال فيه وهو إجماع أهل السنة وهو مقتضى التلازم المذكور ، لكن قد يفهم من كون الأعمال جزءا أو لازما التكفير بترك آحاد العمل ، فنبه الشارح رحمه الله على حكم مرتكب الكبيرة وأنه تحت المشيئة ، وليس كافرا كما تقول الخوارج . ثم أشار إلى أن تكفير تارك الصلاة - وإن كان تكفيرا بآحاد العمل - إلا أنه مبني على أدلة أخرى ، لا كما يعتقد الخوارج أن الإيمان إذا زال بعضه زال كله .
وتحقيق مسالة الخلاف بين أهل السنة ، والحنفية القائلين بأن العمل لازم لإيمان القلب ، هل هو حقيقي أو صوري ، ليس هذا موضعه .
الرابع : أن للشارح رحمه الله كلاما حسنا في تقرير مسألتنا ، قال رحمه الله ص 341 ( ط. المكتب الإسلامي ) :
(ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة. قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس".
وقال ص 339
(ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح فإن هذه من لوازم الإيمان التام وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
ونقول إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ولكن الشارع زاد فيه أحكاما، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع . وهذه الأقوال لمن سلك الطريق).
وهذا الموضع يؤكد ما قلته سابقا من أن " الإيمان التام " يستعمل بمعنى " الإيمان الصحيح " ؛ إذ لا يصح تفسير " التام " هنا بالكامل ؛ لأنه يلزم من ذلك بقاء التصديق وصحته مع انتفاء عمل القلب والجوارح . فانتبه !

تنبيه : ما ذكره ابن أبي العز رحمه الله من كون الخلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة صوريا ، هو ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع ، واتفق كلامهما في تصوير هذا الخلاف الصوري اللفظي ، وأنه مع من يقر بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، وأن انتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ، لا مع كل مرجئ يخرج العمل عن الإيمان ويراه ثمرة ، يبقى إيمان القلب بدونها.
وإليك طرفا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :
1- قال رحمه الله ( 7/202 ) :
( وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب " الموجز " ؛ وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ولم يقل : إن هذه الأعمال من الإيمان . قالوا : فنحن نقول : من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه . والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها :
أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب ; وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي . الثاني : أن نصوصا صرحت بأنها جزء كقوله ...).الخ
2- وقال شيخ الإسلام ( 7/577)
(وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي : فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل : حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك ).
3- وقــال : ( 7/554)
(و المرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان ; فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين .
ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن.
فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان .)
4- وقال في شرح الأصفهانية ص 181 ( طبعة الرشد) :
(ولما كان إيمان القلب له موجَبات في الظاهر كان الظاهر دليلا على إيمان القلب ثبوتا وانتفاء كقوله تعالى "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" ، وقوله جل وعز " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" وأمثال ذلك. وبعد هذا فنزاع المنازع في أن الإيمان في اللغة هل هو اسم لمجرد التصديق دون مقتضاه أو اسم للأمرين يؤول إلى نزاع لفظي ، وقد يقال إن الدلالة تختلف بالإفراد والاقتران. والناس منهم من يقول إن أصل الإيمان في اللغة التصديق ، ثم يقول : والتصديق يكون باللسان ويكون بالجوارح ، والقول يسمى تصديقا ، والعمل يسمى تصديقا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم " العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصد ذلك أو يكذبه"
وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل .
ومنهم من يقول بل الإيمان هو الإقرار وليس هو مرادفا للتصديق ... والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير وبعضه لفظي ولم يعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة)
5- وقال في مجموع الفتاوى (7/621) :
(وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله لم يخرج بذلك من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجارها محمد. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له ، أو جزءا منه فهذا نزاع لفظي كان مخطئا خطئا بينا وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها ).

وقد سبق بيان أن المراد بالإيمان الواجب هنا : الإيمان الصحيح المجزئ ، والسياق يوضح ذلك بجلاء.
وقد عد شيخ الإسلام رحمه الله ما عليه مرجة الفقهاء من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد ، قال في ( 7/394) :
(ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين.
ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء ، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد ، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب ، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم ، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم فى العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم يعنى المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ...).

وقد أطلت الكلام في هذا التنبيه لأدفع شبهة دخلت على البعض ، حاصلها أن مرجة الفقهاء يرون حصول النجاة بدون عمل الجوارح ، وقد صرح شيخ الإسلام بأن النزاع معهم لفظي .
وقد ظهر - ولله الحمد - أن شيخ الإسلام لا يجعل النزاع لفظيا مع كل مرجئ يخرج العمل عن مسمى الإيمان ، وإنما هذا لمن أقر بأن عمل الجوارح لازم لإيمان القلب ، بحيث إذا انتفى اللازم دل على انتفاء الملزوم ، وقد سار شارح الطحاوية على نفس المنهاج .

والله أعلم.

كتبه ... الموحد

أبو محمد الجزائري
01-13-2013, 04:50 PM
السلام عليكم و رحمة الله

مقالتهم تلك لا تستحق أن نعطيها وقتنا أصلا، فضلا عن الرد عليها، لأنها مقالة نكرة كتبها بعض المتعالمين الأغبياء ممن تلوث بشبهة الإرجاء و التجهم، فكلام أهل العلم العام و المنتشر يكفي في الرد عليها و بيان إنحرافها، و ما فيها من الكذب على الأئمة خاصة الكذب على الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله فالكذب عليه و تأويل كلامه و تحريفه أكثر من أن يحصى.

المهم بارك الله فيك على التنبيه

أبو عبد الكريم الأثري
01-15-2013, 11:01 PM
- قول أبي عبيد في كتابه «الإيمان» (34): «فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا، أنّ الإيمان بالنية والقول والعمل جميعًا، وأنه درجات بعضها فوق بعض؛ إلاّ أنّ أولها وأعلاها: الشهادة باللسان، كما قال رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءًا، فإذا نطق بها القائل وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيمانًا» ا.ﻫ.
نقل الإجماع على أن العمل ركن عند أهل السنة وبيان مقصود أبي عبيد رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

تحرير المقال في مسألة ترك عمل الجوارح


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . أما بعد :
فقد لا حظت كثرة المواضيع التي تتحدث عن مسألة عمل الجوارح ، وحكم تاركه بالكلية . ورأيت أن كثيرا من المشاركات متقاربة ، ربما يفصل بينها خيط دقيق .
والملاحظ أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كان له الحظ الأوفر في النقل . ولا غرابة في ذلك ، فشيخ الإسلام رحمه الله هو فارس هذا الميدان .
ومما لا حظته أيضا أن جل من كتب في هذه المسألة خارج الانترنت وداخلة ، يقر بالتلازم بين الظاهر والباطن . لكن يبقى الخلاف في حدود هذا التلازم .
فالذين يرون كفر تارك عمل الجوارح بالكلية يقولون : إذا انتفى العمل الظاهر انتفى عمل القلب وذهب الإيمان ، فكان الكفر.
والذين يرون نجاة تارك العمل الظاهر يتكئون على نحو قول شيخ الإسلام : دل على عدمه أو ضعفه . ، أو أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف .
وأيضا : فربما حمل هؤلاء كثيرا من عبارات شيخ الإسلام على أنها تعني انتفاء الإيمان الكامل أو الواجب .
ولهذا رأيت أن مما يعين على رفع هذا النزاع أن يقف الجميع على عبارات للسلف ولشيخ الإسلام تنص على شيء مما يلي :
1- أن انتفاء عمل الجوارح لا ينفع معه التصديق وقول اللسان .
2- أن انتفاء عمل الجوارح يلزم منه انتفاء إيمان القلب .
3- أن انتفاء عمل الجوارح يلزم منه ألا يبقى في القلب إيمان.
4- أن ترك عمل الجوارح كفر.
فمثل هذه الجمل الصريحة تقضي على العبارات المحتملة ، كقوله : دل على عدمه أو ضعفه ، مع أن في هذه العبارة التسليم بأن ذهاب عمل الجوارح قد يدل على عدم الإيمان الذي في القلب . وهذه الحالة لا يسلم بها المخالف.
وكذلك قول شيخ الإسلام : إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف ، لا يمكن أن تقاوم عبارات صريحة كالتي مضى ذكرها.
وأحب أن أنبه إلى أمر آخر ، وهو ضرورة التفريق بين مسائل الإجماع ومسائل الخلاف ، ولا شك أن كون الإيمان قول وعمل ، مما اتفقت عليه كلمة أهل السنة والجماعة على مر العصور.
وقولهم هذا ظاهر في التسوية بين القول والعمل ، بل صرحوا أيضا بأنه لا ينفع ولا يستقيم قول بلا عمل . وهذه التسوية ليست في التعريف واللفظ كما فهم بعض الإخوة ، بل هي تسوية في الرتبة والمنزلة .
ولهذا سأبدأ هذا المقال بحكاية إجماع أهل السنة على أنه لا يجزيء قول اللسان والتصديق دون عمل الجوارح .
ثم أشرع في نقل عبارت شيخ الإسلام – ولغيره - التي تبين حدود التلازم بين الظاهر والباطن ، والتي تقضي بأن انتفاء العمل الظاهر كلية يعني انتفاء إيمان القلب الصحيح ، كما يعني الكفر .
تحرير محل النزاع :
1- المسألة مفروضة في رجل شهد شهادة الحق بلسانه ، وصدق بقلبه ، وأتى بعمل القلب اللازم ، من المحبة والخوف والانقياد والتسليم ، وعاش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يفعل شيئا من الفرائض ، ولا النوافل ، ولا يتقرب الى الله بعمل ، مع تمكنه من ذلك ، وعلمه بما أوجب الشرع عليه في ذلك . فهل ينفعه قول اللسان وقول القلب وعمله ، مع انتفاء عمل الجوارح ؟
وهل يحكم لهذا الرجل بالكفر ، أم هو مسلم تحت المشيئة ؟
وهل عمل الجوارح – في الجملة – ركن من أركان الإيمان ، تتوقف صحة الإيمان على وجوده ، كتوقفها على بقية الأركان ؟
2- والبحث هنا في حكم هذا الرجل بالنظر إلى ما عند الله ، أي في باب الحكم على الحقيقة ، وليس باعتبار الحكم عليه في الظاهر ؛ لأنه يصعب – غالبا- الحكم على شخص ما بأنه لم يأت بشيء من أعمال الجوارح مع القدرة والتمكن .
وأقول : مع القدرة والتمكن ، لأن إمكان الاطلاع على صورة ترك العمل مع عدم التكمن حاصلة ، كأن ينطق كافر بالشهادتين ثم يموت ، فهذا معذور لعدم تمكنه من العمل .
3- والكلام مقيد بمن بلغته الشريعة ، وثبت في حكمه الخطاب ، أما من لم تبلغه الأحكام فهو خارج عن محل النزاع .
4- لا خلاف في أن انتفاء تصديق القلب موجب للكفر على الحقيقة ، وقد يحكم له في الظاهر بالإسلام لعدم تلبسه بناقض ظاهر ، وهذا حال المنافقين .
5- ولا خلاف أيضا في أن ذهاب عمل القلب موجب لذهاب الإيمان وعدم الانتفاع بالنطق والتصديق ، وهذا من باب الحكم على الحقيقة أيضا ، أي بالنظر إلى ما عند الله .
6- ثمرة هذه المسألة هي الوقوف على منزلة عمل الجوارح عند أهل السنة ، وفهم قولهم : الإيمان قول وعمل ، والتفريق بين مذهبهم ومذهب المرجئة و الخوارج والمعتزلة ، وليس للمسألة تعلق بتكفير أحد من الناس ، وقد نبهت على ذلك من قبل ، ولا مانع من تكراره لأن بعض الجهلة إذا قرأ ( كفر... وإيمان ) ظن أن القضية إنما هي انشغال بالتكفير ، ودعوة إليه .
ولا مرية في أن السلف لم يغفلوا هذه المسألة ، ولم يقصروا في بيانها ، وبين يدي شيء كثير من كلامهم وبيانهم ، لكن الأخ أبا عمر رغب في بحث المسألة بالدليل من الكتاب والسنة ، ثم أبدى قبوله للاستدلال عليها بالقياس وبفهم السلف الذي ليس له مخالف.
ولست أستدل لهذه المسألة إلا بدليلين : أولهما الإجماع ، وثانيهما : علاقة الظاهر بالباطن ، القاضية بانتفاء عمل القلب عند انتفاء عمل الجوارح . وهذا الدليل استدل به شيخ الإسلام لإثبات كفر تارك الصلاة في الباطن ( على الحقيقة ) ( 7/611 ) وكلام شيخ الإسلام مستفيض في الحكم بانتفاء إيمان القلب عند انتفاء عمل الجوارح .
أما الإجماع ، فهو ما نقله الشافعي رحمه الله ، عن الصحابة والتابعين:
قال " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية لا بجزيء واحد من الثلاث إلا بالآخر "
شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 5/956 ، مجموع الفتاوى 7/209.
ولا يتم الاستدلال بهذا الاجماع على المطلوب إلا ببيان المراد بالعمل في قول الشافعي : قول وعمل ونية ، وقبل ذلك أشير الى ثبوت هذا الاجماع عنه رحمه الله .
أولا : ثبوت هذا الإجماع :
قال الامام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد اهل السنة والجماعة 5/956
" قال الشافعي رحمه الله في كتاب الام في باب النية في الصلاة : نحتج بأن لا تجزيء صلاة الا بنية لحديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) ثم قال :
وكان الاجماع من الصحابة والتابعين .... " الخ .
وهكذا نقله شيخ الاسلام أيضا عن كتاب الأم .
فهذا نقل عن كتاب ، لا يحتاج إلى بحث في الإسناد .
وكون هذا النص ليس موجودا الآن في كتاب الام كما قال محقق كتاب اللالكائي ، لا يعني عدم وجوده فيه في عصر اللكائي ، وعصر شيخ الإسلام ، بل لو كان مفقودا في زمن شيخ الإسلام لأحال في نقله على الللاكائي ، كما يفعل ذلك كثيرا في كتبه رحمه الله .
بل هذا الإجماع الذي يحكيه الشافعي ذكره الرازي عنه واستشكله :
قال شيخ الإسلام ( 7/511)
" وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين ، حيث قالوا : الإيمان قول وعمل ، وقالوا مع ذلك : لا يزول بزوال بعض الأعمال !
حتى ان ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضا في ذلك ، فإن الشافعي كان من أئمة السنة ، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور ، وقد ذكر في كتاب الطهارة من " الأم " إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة ، فلما صنف ابن الخطيب تصنيفا فيه ، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي استشكل قول الشافعي ورآه متناقضا " اه
فثبوت هذا الاجماع عن الشافعي رحمه الله لا شك فيه ، وهو ثابت عن غيره أيضا ، وهو قولهم : الايمان قول وعمل ، لكن ما نقله الشافعي يبين منزلة عمل الجوارح ، وأن الاجزاء الاخرى لا تنفع بدونه .
وقد أشار الى هذا الاجماع ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (1/104 ت : شعيب الارناؤوط)
ثانيا : ما المقصود بالعمل في هذا الاجماع ؟
والجواب : المقصود بذلك عمل الجوارح جزما ، وبيان ذلك بأمرين :
الأول :
أن قوله " ونية " اشارة الى عمل القلب ، فتعين حمل قوله " وعمل " على عمل الجوارح . كما ان قوله " قول " شامل لقول اللسان وقول القلب .
والنية هي الاخلاص وهو عمل القلب ، وتمثيل الائمة لعمل القلب بالنية او الإخلاص أمر شائع مشهور ، وتأمل هذا النقل عن الامام ابي عبيد القاسم بن سلام ( 157ه-224ه) في كتابه الإيمان ص 9،10 لترى استعماله لنفس عبارة الشافعي ، مع التعبير عن النية بالإخلاص ، وعن العمل بعمل الجوارح ، في حكاية قول أهل السنة :
قال " اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الامر فرقتين :
فقالت إحداهما : الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب
وشهادة الالسنة
وعمل الجوارح .
وقالت الفرقة الاخرى : بل الايمان بالقلوب والالسنة فأما الاعمال فإنما هي تقوى وبر وليست من الايمان . وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين ، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان :
بالنية
والقول
والعمل ،جميعا ، وينفيان ما قالت الاخرى " انتهى .
وهنا عبر الامام ابوعبيد عن حقيقة مذهب اهل السنة بتعبيرين :
الاخير منهما هو تعبير الشافعي رحمه الله ،
فدل على ان العمل : هو عمل الجوارح
وان النية : هي الاخلاص ، وهو من عمل القلب .
وانظر في التمثيل لعمل القلب بالنية :
الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 46 حيث قال " عمل القلب : نيته واخلاصه "
و معارج القبول 2/589 .
الأمر الثاني :
الذي يدل على أن العمل هنا هو عمل الجوارح :
أن من العلماء من حكى الاجماع بلفظ قريب من لفظ الشافعي وصرح بأن العمل هو عمل الجوارح :
قال الإمام الآجري في الشريعة ص 125(ط.دار الكتب العلمية ، ت: محمد بن الحسن اسماعيل ) بعد ذكر المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء :
وهو في الطبعة المحققة للدكتور الدميجي 2/686
" بل نقول – والحمد لله – قولا يوافق الكتاب والسنة وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم وقد تقدم ذكرنا لهم : ان الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، لا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة ، لا يجزي بعضها عن بعض ، والحمد لله على ذلك " انتهى .

قد يقال : هذا الاجماع كاف في المسألة ومصرح بأن الثلاثة لا يجزي بعضها عن بعض ، فلم التركيز على ما نقله الشافعي ؟
والجواب : ان الآجري متوفي سنة 360 ه ، وقد يقال انه ينقل الاجماع عن اهل عصره ، اما الشافعي فإنه يحكي اجماع الصحابة والتابعين ، فلا مجال لنقض هذا الاجماع الا بإثبات مخالف له من الصحابة !

ولتمام الفائدة أنقل إجماعا آخر حكاه الآجري أيضا
قال ص 102 ( 2/611 ت: الدميجي )
" قال محمد بن الحسين : اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم : أن الذي عليه علماء المسلمين أن الايمان واجب على جميع الخلق ، وهو تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح .
ثم اعلموا أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق الا ان يكون معه الايمان باللسان نطقا ،
ولا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح ،
فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا .
دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين " .
ودفعا لما قد يتوهمه البعض ، ومنعا لتطويل النقاش بغير فائدة أقول : وقفت على من حاول تأويل قول الشافعي – ومثله قول الآجري هنا - : " لا يجزي "
وأقول : تأمل جيدا قوله (لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق الا ان يكون معه الايمان باللسان نطقا)
يظهر لك جليا أن الإجزاء هنا بمعنى الصحة والقبول ، إذ لا يصح الايمان مع ترك قول اللسان بإجماع اهل السنة !!!!
وقوله بعد ذلك : "لا تنفعه " صريح في اثبات المطلوب .
وقال الآجري في ايضاح الاجماع الذي حكاه : ص 103 ( 2/614 ت: الدميجي )
" فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للايمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق الايمان بجوارحه : مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ،
ورضي من نفسه بالمعرفة والقول : لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعـــــــــه المعرفة والقول ، وكان تركه العمل تكذيبا منه لايمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لايمانه ، وبالله تعالى التوفيق " انتهى كلام الآجري.

وقال أيضا في كتابه الاربعين حديثا ، المطبوع مع الشريعة ص 422
" اعلموا رحمنا الله واياكم ان الذي عليه علماء المسلمين واجب على جميع الخلق : وهو تصديق القلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح . ثم إنه لا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح . فإذا اكتملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا ، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين ... ولا ينفع القول اذا لم يكن القلب مصدقا بما ينطق به اللسان مع القلب ...
وإنما الايمان بما فرض الله على الجوارح تصديقا لما أمر الله به القلب ، ونطق به اللسان ، لقوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) وقال عز وجل ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )
وفي غير موضع من القرآن ، ومثله فرض الحج وفرض الجهاد على البدن بجميع الجوارح . والاعمال بالجوارح تصديق عن الايمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذه ، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا .
ومن لم يعتقد المعرفة والقول كان تركه للعمل تكذيبا منه لايمانه [كذا ]
وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لايمانه ، فاعلم ذلك .
هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا ،
فمن قال غير هذا فهو مرجيء خبيث ، فاحذره على دينك ، والدليل عليه قوله عز وجل ( وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " انتهى كلام الآجري رحمه الله .
وبعد : فهذا هو الدليل المعتمد عندي في هذه المسألة ، وهو كما رأيت إجماع الصحابة والتابعين، وغير خاف عليك خطر الخروج عن اجماعهم ، والحيدة عن طريقهم ، فدونك هذه الحجة ، تأملها حق التأمل ، ودقق فيها من كل وجه ، فإذا سلمت بدلالتها على المطلوب ، فليس يخفى عليك أني لن أقبل في معارضتها قول قائل ، او استنباط مستنبط.
وليس من سبيل الى نقض هذا الاجماع الا بإثبات مخالف له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .

( كتبت هذا المقال بتاريخ 18/3/2001 ،
كتبه ... الموحد

12d8c7a34f47c2e9d3==