المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العذر بالجهل للشيخ العلامة عبد الله أبا بطين رحمه الله


كيف حالك ؟

هادي بن علي
01-07-2012, 09:57 PM
العذر بالجهل للشيخ العلامة عبد الله أبا بطين رحمه الله


سئل الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين ، رحمه الله ، عن قول شيخ الإسلام تقي الدين ، رحمه الله، في رده على ابن البكري : فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم ،وإن كان ذلك المخالف يكفرهم ، لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله ، كم كذب عليك ، وزنى بأهلك ، ليس لك أن تكذب عليه ، وتزني بأهله ، لأن الزنى والكذب ، حرام لحق الله تعالى ، وكذلك التكفير حق لله ، فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله .
وأيضاً : فإن تكفير الشخص المعين ، وجواز قتله ، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية ، التي يكفر من خالفها ، وإلاّ فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر – إلى أن قال – ولهذا كنت أقول للجهمية ، من الحلولية والنفاة ، الذين ينفون أن يكون الله فوق العرش : أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر ، وأنتم عندي لا تكفرون ، لأنكم جهال … إلخ ، ما معنى قيام الحجة ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين ، تضمن كلام الشيخ رحمه الله ، مسألتين ، إحداهما : عدم تكفيرنا لمن كفرنا ، وظاهر كلامه : أنه سواء كان متأولاً أم لا ، وقد صرح طائفة من العلماء : أنه إذا قال ذلك متأولاً ، لا يكفر ، ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية ، أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول ، فنقل عن المتولي أنه قال : إذا قال المسلم يا كافر ، بلا تأويل كفر ، قال : وتبعه على ذلك جماعة .
واحتجوا بقوله : (( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما )) والذي رماه به مسلم ، فيكون هو كافراً ، قالوا لأنه سمى الإسلام كفراً ، وتعقب بعضهم هذا التعليل ، وهو قولهم :إنه سمى الإسلام كفراً ، فقال : هذا المعنى لا يفهم من لفظه ، ولا هو مراده ، إنما مراده ومعنى لفظه : إنك لست على دين الإسلام ، الذي هو حق ، وإنما أنت كافر ، دينك غير الإسلام ، وأنا على دين الإسلام ، وهذا مراده بلا شك .
لأنه إنما وصف بالكفر الشخص ، لا دين الإسلام ، فنفى عنه كونه على دين الإسلام ، فلا يكفر بهذا القول ، وإنما يعزر بهذا السب الفاحش ، بما يليق به ، ويلزم على ما قالوه أن من قال لعابد يا فاسق كفر ، لأنه سمى العبادة فسقاً ، ولا أحسب أحداً يقوله ، وإنما يريد إنك تفسق ، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق ، لا أن عبادتك فسق ، انتهى .
وظاهر كلام النووي ، في شرح مسلم يوافق ذلك ، فإنه لما ذكر الحديث ، قال : وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق : أن المسلم لا يكفر بالمعاصي ، كالقتل والزنا ، وكذا قوله لأخيه : يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام .
ثم حكى في تأويل الحديث وجوهاً ، أحدها : أنه محمول على المستحل ، ومعنى (( باء بها )) أي بكلمة الكفر ، فباء وحار ورجع بمعنى .
الثاني : رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره ، الثالث : أنه محمول على الخوارج ، المكفرين للمؤمنين ، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك ، وهو ضعيف ، لأن المذهب الصحيح المختار ، الذي قاله الأكثرون ، والمحققون : إن الخوارج لا يكفرون ، كسائر أهل البدع .
الرابع : معناه : أنه يؤول إلى الكفر ، فإن المعاصي كما قالوا : بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها ، أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر ، ويؤيده رواية أبي عوانة ، في مستخرجه على مسلم (( فإن كان كما قال ، وإلاّ فقد باء بالكفر )) .
الخامس : فقد رجع بكفره ، وليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير ، كونه جعل أخاه المؤمن كافراً ، فكأنه كفر بنفسه ، إما لأنه كفر من هو مثله ، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر ، يعتقد بطلان الإسلام انتهى .
وقال ابن دقيق العيد ، في قوله رحمه الله : (( ومن دعا رجلاً بالكفر ، وليس كذلك ، إلا حار عليه )) أي : رجع عليه ، وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحداً من المسلمين ، وليس هو كذلك ، وهي ورطة عظيمة ، وقع فيها خلق من العلماء ، اختلفوا في العقائد ، وحكموا بكفر بعضهم بعضاً .
ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ، أنه قال : لا أكفر إلا من كفرني ، قال : وربما خفي هذا القول على بعض الناس ، وحمله على غير محمله الصحيح ، والذي ينبغي أن يحمل عليه ، أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي : أن من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك ، رجع عليه الكفر ، وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم: (( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما )) .
وكان هذا المتكلم ، أي : أبو إسحاق ، يقول : الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين ، إما المكفِّر أو المكفَّر ، فإذا كفرني بعض الناس ، فالكفر واقع بأحدنا ، وأنا قاطع أني لست بكافر ، فالكفر راجع إليه . انتهى .
فظاهر كلام أبي إسحاق : أنه لا فرق بين المتأول وغيره ، والله أعلم ، وما نقله القاضي عن مالك ، من حمله الحديث على الخوارج ، موافق لإحدى الروايتين عن أحمد ، في تكفير الخوارج ، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم ، لأنهم كفروا كثيراً من الصحابة ، واستحلوا دماءهم وأموالهم ، متقربين بذلك إلى الله ، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل ، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم ، لتأويلهم ، وقالوا : من استحل قتل المعصومين ، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر ، وإن كان استحلالهم ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر ، والله أعلم .

المسألة الثانية : أن تكفير الشخص المعين وجواز قتله ، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية ، التي يكفر من خالفها … إلى آخره ، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة ، وقد صرح بذلك في موضع آخر ، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب: أنه لا يعاقب ، وقال : إن الله عفا عن الذي كان يعامل ويتجاوز ، لأنه لم تبلغه الدعوة ، وعمل بخصلة من الخير .
واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعاً (( والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي أو نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار )) قال في شرح مسلم : وخص اليهودي والنصراني ، لأن لهم كتاباً ، قال ، وفي مفهومه : أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور ، قال : وهذا جار على ما تقرر في الأصول ، لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح . انتهى .
وقال القاضي : أبو يعلى ، في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15] في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلاً ، وإنما تجب بالشرع ، وهو بعثة الرسل ، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك ، لم يقطع عليه بالنار . انتهى .
وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر : أنه يعاقب ، اختاره ابن حامد ، واحتج بقوله { أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [ القيامة : 36 ] والله أعلم ، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه و سلم، وبلغه القرآن ، فقد قامت عليه الحجة ، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل .
وقد أخبر الله سبحانه : بجهل كثير من الكفار ، مع تصريحه بكفرهم ، ووصف النصارى بالجهل ، مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم ، ونقطع : أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ، فنعتقد كفرهم ، وكفر من شك في كفرهم .
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر ، والشك هو التردد بين شيئين ، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه و سلم ولا كذبه ، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ، ونحو ذلك ، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها ، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولاعدم تحريمه ، وهذا كفر بإجماع العلماء ، ولا عذر لمن كان حاله هكذا ، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته ، لأنه لا عذر له بعد بلوغها ، وإن لم يفهمها .
وقد أخبر الله تعالى عن الكفار : أنهم لم يفهموا ، فقال : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [الأنعام : 25] وقال : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } [ الأعراف : 30 ] فبين الله سبحانه : أنهم لم يفقهوا ، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار ، كما في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } الآية [ الكهف : 103-105].
قال الشيخ : أبو محمد ، موفق الدين بن قدامة ، رحمه الله ، لما انجر كلامه في مسألة : هل كل مجتهد ، مصيب أم لا ؟ ورجح أن ليس كل مجتهد مصيباً ، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين ، قال : وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق ، فهو معذور غير آثم – إلى أن قال – أمَّا ما ذهب إليه الجاحظ ، فباطل يقيناً ، وكفر بالله تعالى ، ورد عليه وعلى رسوله .
فإنا نعلم قطعاً : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه ، وذمهم على إصرارهم ، وقاتل جميعهم ، وقتل البالغ منهم ، ونعلم : أن المعاند العارف مما يقل ، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليداً ، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه و سلم وصدقه .
والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة ، كقوله تعالى : { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } [ص:27] ، { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } [ فصلت : 23] ، { وإن هم إلا يظنون}- [ البقرة : 78] { ويحسبون أنهم على شيء } [المجادلة : 18 ] ، { ويحسبون أنهم مهتدون } [الأعراف : 30 ] ، { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [ الكهف : 104 ، 105 ] ، وفي الجملة : ذم المكذبين لرسول الله مما لا ينحصر في الكتاب والسنة . انتهى .
فبيّن رحمه الله : أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف ، لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى ، وهذا من أظهر الباطل ، فقول الشيخ تقي الدين ، رحمه الله : إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة ، يدل من كلامه على أن هذين الأمرين ، وهما : التكفير ، والقتل ، ليسا موقوفين على فهمك الحجة مطلقاً ، بل على بلوغها ، ففهمها شيء ، وبلوغها شيء آخر.
فلو كان هذا الحكم موقوفاً على فهم الحجة ، لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة ، وهذا بين البطلان ، بل آخر كلامه رحمه الله ، يدل على أنه يعتبر فهم الحجة ، في الأمور التي تخفى على كثير من الناس ، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة ، كالجهل ببعض الصفات .
وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد ،والإيمان بالرسالة ، فقد صرح رحمه الله في مواضع كثيرة بكفر أصحابها ، وقتلهم بعد الاستتابة ، ولم يعذرهم بالجهل ، مع أنا نتحقق : أن سبب وقوعهم في تلك الأمور ، إنما هو الجهل بحقيقتها ، فلو علموا أنها كفر ، تخرج من الإسلام لم يفعلوها .
وهذا في كلام الشيخ رحمه الله كثير ، كقوله في بعض كتبه : فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يدعوه من دون الله ، نحو أن يقول : يا فلان أغثني ، أو اغفر لي ، أو ارحمني ، أو انصرني ، أو اجبرني ، أو توكلت عليك ، أو أنا في حسبك ، أو أنت حسبي ، ونحو هذه الأقوال ، التي هي من خصائص الربوبية ، التي لا تصلح إلا لله ، فكل هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل .
وقال أيضاً : فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم ، كفر إجماعاً ، وقال : من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله ، فهو مرتد ، وإن جهل أن ذلك محرم عُرِّف ذلك ، فإن أصر صار مرتداً .
وقال : من سب الصحابة أو أحداً منهم ، أو اقترن بسبه دعوى أن علياً إله ، أو نبي ، أو أن جبرائيل غلط ، فلا شك في كفر هذا ، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره .
وقال أيضاً : من زعم أن الصحابة ارتدوا ، بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا نفراً قليلاً ، لا يبلغون بضعة عشر ، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك ، بل من شك في كفره ، فهو كافر ، انتهى فانظر كيف كفر الشاك ، والشاك جاهل ، فلم ير الجهل عذراً في مثل هذه الأمور .
وقال رحمه الله في أثناء كلام له ، قال ولهذا قالوا : من عصى مستكبراً كإبليس ، كفر بالاتفاق ، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة ، ومن فعل المحارم مستحلاً فهو كافر بالاتفاق .
وقد قال : والاستحلال : اعتقاد أنها حلال ، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها ، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة ، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة ، وتارة يعلم : أن الله حرمها ، ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند ، فهذا أشد كفراً ممن قبله ، انتهى .
وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير ، فلم يخص التكفير بالمعاند ، مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال ، لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر ، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد ، الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ، ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة ، المجمع عليها بين علماء المسلمين .
وقد نص السلف والأئمة : على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم ، مع العلم أنهم غير معاندين ، ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى : من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس ، أو جحد حل الخبز ونحوه ، أو جحد تحريم الخمر ونحوه ، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله ، كفر ، وإن كان مثله يجهله عُرِّف ذلك ، فإن أصر بعد التعريف ، كفر ، وقتل ، ولم يخصوا الحكم بالمعاند ، وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة ، أقوالاً وأفعالاً ، يكون صاحبها بها مرتداً، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند .
وقال الشيخ أيضاً : لما استحل طائفة من الصحابة الخمر ، كقدامة وأصحابه ، وظنوا أنها تباح لمن آمن بالله وعمل صالحاً ، على ما فهموه من آية المائدة ، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما ، على أنهم يستتابون ، فإن أصروا على الاستحلال كفروا ، وإن أقروا به جلدوا ، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة ، حتى يبين لهم الحق ، فإن أصروا كفروا .
وقال أيضاً : ونحن نعلم بالضرورة ، أن رسول الله لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات ، لا من الأنبياء ولا غيرهم ، لا بلفظ الاستغاثة ، ولا بلفظ الاستعانة ، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ، ولا إلى ميت ونحو ذلك ، بل نعلم : أنه نهى عن ذلك كله ، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، لكن لغلبة الجهل ،وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين ، لم يمكن تكفيرهم بذلك ، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول. انتهى.فانظر إلى قوله : لم يمكن تكفيرهم بذلك ,حت يبين لهم ما جاء به الرسول ,ولم يقل حتى يتبين لهم ، ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة .
وقال أيضاً : لما انجر كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس ، من الكفر ، والخروج عن الإسلام ، قال : وهذا غالب في الأعصار والأمصار ، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق ، فلهؤلاء من عجائب الجهل ، والظلم والكذب ، والنفاق والكفر والضلال ، ما لا يتسع لذكره المقال .
وإذا كان في المقالات الخفية ، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال ، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ، لكن ذلك يقع في طوائف منهم ، في الأمور الظاهرة ، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين ، أنها من دين الإسلام ، بل اليهود والنصارى والمشركون ، يعلمون أن محمداً بعث بها ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له . ونهيه عن عبادة أحد سواه ، من الملائكة والنبيين او غيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام .
ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ، ومثل تحريم الفواحش ، والربا والخمر والميسر ، ونحو ذلك ، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع ، فكانوا مرتدين ، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ، أو يعودون – إلى أن قال – وأبلغ من ذلك : أن منهم من يصنف في دين المشركين ، والردة عن الإسلام ، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب ، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ، ورغب فيه ، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين ، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام . انتهى .
فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية ، والأمور الظاهرة ، فقال في المقالات الخفية ، التي هي كفر ، قد يقال إنه فيها مخطئ ضال ، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة ، فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية ، فيكفر بالأمور الظاهرحكمها مطلقاً ، وبما يصدر منها من مسلم جهلاً ، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد التعريف .
ولا يكفر بالأمور الخفية جهلاً ، كالجهل ببعض الصفات، فلايكفر الجاهل بها مطلقاً ، وإن كان داعية ، كقوله للجهمية : أنتم عندي لاتكفرون ، لأنكم جهال ، وقوله عندي يبين أن عدم تكفيرهم ، ليس أمراً مجمعاً عليه ، لكنه اختياره ،وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب ، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن ، أو نفي الرؤية ، أو الرفض ونحو ذلك ، وتفسيق المقلد .
قال المجد ، الصحيح : أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية ، فإنا نفسق المقلد فيها ، كمن يقول بخلق القرآن ، أو أن علم الله مخلوق ، أو أن أسمائه مخلوقة ، أو أنه لا يرى في الآخرة ، أو يسب الصحابة تديناً ، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد ، وما أشبه ذلك ، فمن كان عالماً في شيء من البدع، يدعو إليه ويناظر عليه ، فهو محكوم بكفره ، نص أحمد على ذلك في مواضع ، انتهى .
فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم ، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم ، ويفسقون عنده ؛ ونحوه قول ابن القيم رحمه الله، فإنه قال : وفسق الاعتقاد ، كفسق أهل البدع ، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ، ولكن ينفون كثيراً مما أثبت الله ورسوله ، جهلاً وتأويلاً وتقليداً للشيوخ ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك ، وهؤلاء كالخوارج المارقة ، وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة ، وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم .
وأما غلاة الجهمية ، فكغلاة الرافضة ، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب ، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف ، من الإثنتين والسبعين فرقة ، فقالوا هم مباينون للملة . انتهى .
وبالجملة : فيجب على من نصح نفسه ، ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله ، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقلة ، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه ، أعظم أمور الدين ؛ وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها ، بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين فالواجب علينا : الاتباع وترك الابتداع ، كما قال ابن مسعود _ ، اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم .
وأيضاً : فما تنازع العلماء في كونه كفراً ، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم ؛ وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة ، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره ، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم .
ومن العجب : أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة ، أو البيع ونحوهما ، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله ، بل يبحث عن كلام العلماء ، ويفت بما قالوه ، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم ، الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطراً ، على مجرد فهمه واستحسانه ؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ! ومحنته من تينك البليتين !! .

ونسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم ، الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وصلى الله على محمد

12d8c7a34f47c2e9d3==