المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التوضيح والبيان التام في مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلامة ابن عثيمين


كيف حالك ؟

قاسم علي
02-15-2011, 05:02 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشّرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه بالحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين إلى الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا .

أما بعد:

أيها الناس، اتّقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به على عباده من إرسال الرسل وإنزال الكتب ونشر الحق بين الخلق؛ فإن العقل البشري لا يمكن أن يهتدي إلى معرفة الخالق تفصيلاً، ولا يمكنه أن يتعبّد لله بما لا يدركه تحصيلاً، ولا يمكنه أن يُعامل غيره بطريق الحق والعدل إلا بالوحي الذي بيّن الله به كيف يعرف العبد ربه وكيف يُقيم عبادته وكيف يعامل غيره من الخلق، فكانت الرسل - عليهم الصلاة والسلام - مبيّنين لعبادة الخلاق ومُتمّمين لمكارم الأخلاق، كان الناس على ملّة واحدة دين أبيهم آدم فلمّا كثروا تفرّقت كلمتهم واختلفت آراؤهم فبعثَ الله إليهم رسلَه +لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد: 25]، «فبدَأ الله الرسالة بنوح عليه الصلاة والسلام، لبثَ في قومه +أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا" [العنكبوت: 14]، يدعوهم إلى الله فيسخرون منه ويهزؤون به، يقول لهم +إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ" [هود: 38]، +وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ"»(م1) [هود: 40]، ثم أرسل الله تعالى الرسل تترى كلّما جاء أمة رسولُها كذّبوه فأتبع الله بعضهم بعضًا وأهلك الأمم المكذبين لرسله «ثم ختم الله الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وأفضلهم، أرسله الله تعالى على حين فترة من الرسل، فقد انقطعت الرسالة منذ زمن عيسى - صلى الله عليه وسلم - حتى زمن محمد صلى الله عليه وسلم»(م2)، «أنشأه الله تعالى من سلالة إسماعيل بن إبراهيم من صميم العرب فكان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس نسبًا وأطيبهم مولِدًا، ولِد صلى الله عليه وسلم بمكة في يوم الإثنين في العام الذي أهلك الله به أصحاب الفيل الذين أرادوا هدم الكعبة فكان إهلاكهم إرهاصًا لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدته أمه آمنة من أبيه عبد الله بن عبد المطلب وقد رأت أمه قبل ولادته أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام فمات أبوه في المدينة قبل أن يولد صلى الله عليه وسلم وماتت أمه بالأبواء في طريق المدينة وهو في السابعة من عمره فكفلَهُ جدُّه عبد المطلب ثم مات ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الثامنة من عمره فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيمَ الأبوين والجد ولكن الله تعالى آواه وهو نِعم المولى ونعم النصير، فيسَّر اللهُ له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمّه إلى عياله وأحسنَ كفالته وأحبّه حبًّا شديدًا وبارك الله له بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مالِه وحاله»(م3) .

«ولقد اشتغل صلى الله عليه وسلم بما اشتغل به الأنبياء من قبله: اشتغل برعي الغنم وما من نبي إلا رعى الغنم ليَعْتَاد بذلك حسن الرعاية والتصريف فيما يكون راعيًا له في المستقبل، ثم اشتغل صلى الله عليه وسلم بالتجارة فاشتهر عند الناس بالصدق والأمانة وحسن المعاملة»(م4)، «ثم لَمّا بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوّج خديجة - رضي الله عنها - ولها أربعون سنة وقد تزوّجت قبله برجلين وكانت رضي الله عنها من شريفات نساء العرب موصوفة بالعقل والحزْم والذكاء ورزقه الله تعالى منها أولادًا: ابنين وبنات أربع ولم يتزوّج صلى الله عليه وسلم عليها حتى ماتت رضي الله عنها»(م5) «في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين فتزوّج بعدها بعائشة ثم سَودَة رضي الله عنهما»(م6)، «وكان صلى الله عليه وسلم مُعظّمًا في قومه مُحترمًا فيهم يحضر معهم في مهمات الأمور: فحضر حلف الفضولِ الذي تعاقدوا به على درء المظالم ورد الحقوق إلى أهلها»(م7) «وكان حَكَمًا في قريش عند نزاعها في وضع الحجر الأسود في مكانه وذلك أن قريشًا هدموا الكعبة فلمّا بنوها وأرادوا أن يضعوا الحجر في مكانه تنازعوا بينهم أيهم يضع الحجر في مكانه ؟ فقيّض الله لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكّموه بينهم وانقادوا لحكمِه فبسَطَ صلى الله عليه وسلم رداءه ووضع الحجر فيه ثم قال لأربعة من رؤساء قريش: لِيَأخذ كل واحدٍ منكم بجانب من هذا الرداء فحملوه حتى إذا أدنوه من موضعه أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة فوضعه في مكانه فكان له صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم العادل شرفٌ كبيرٌ ونبأٌ عظيم»(م8) «وكان صلى الله عليه وسلم مُحفوظًا من عبادة الأوثان: لم يعبدها في حياته قط، محفوظًا من شرب الخمور: لم يشربها في حياته قط، محفوظًا من عمل الميسر - وهو القمار - لم يفعل ذلك في حياته قط»(م9) .

«ولَمَّا بلغ الأربعين من عمره جاءه الوحي من الله تعالى فكان أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبَّب الله إليه الخلوة وهو: الانفراد عن ذلك المجتمع الجاهلي في عقيدته وعبادته فكان صلى الله عليه وسلم يخلو بغار حراء وهو: الجبل الذي عن يمين الداخل إلى مكة من طريق الشرائع ويتعبّد فيه حتى نزل عليه الوحي هنالك فجاءه جبريل فقال له: اقرأ ؟ فقال: ما أنا بقارئ؛ أي: لا أُحسنُ القراءة، ثم قال: اقرأ ؟ فقال: ما أنا بقارئ، ثم قال له في الثالثة: +اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 1-5]، فرجعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله يرجف فؤاده فزعًا؛ لأنه رأى أمرًا عظيمًا لم يكن معهودًا له من قبل، فدخل على خديجة - رضي الله عنها - وأخبرها الخبر وقال لها: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له رضي الله عنها: كلا، واللهِ ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لَتَصِلُ الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتُعين على نوائب الحق، فاستدلّت رضي الله عنها بأفعاله الحميدة على أن حكمة الله تأبى أن يلحق العار والخزي مثل هذا .

وبنزول هذه الآيات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صار نبيًّا؛ لأن الله أوحى إليه فكانت هذه الآيات التي سمعتموها هي أول ما نزل عليه من القرآن ثم فترَ الوحي فأنزل الله بعد ذلك +يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" [المدثر: 1-5]، وبذلك صار نبيًّا رسولاً إلى جميع الثَّقَلين، فدعا إلى الله وبشّر وأنذر، خصّ وعمّ: أنذر عشيرته الأقربين ثم بقيّة الخلق أجمعين حتى أتَمَّ الله به النعمة على المؤمنين وأكمل به الدين وأظهر دينه ونصره وهو نِعم المولى ونِعم النصير»(م10) .

أيها المسلمون، إن حاجة الناس إلى الرسل، إن حاجتهم إلى شريعة الله التي توصلهم إليه أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب واللباس والهواء؛ إنه لا حياة لهم بدون شريعة الله ولا سعادة لهم بدون التمشّي على هدي الله، ولقد ذكّر الله هذه النعمة: ذكّرها عباده المؤمنين في قوله: +لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [آل عمران: 164] .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكْر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمَر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا .

أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أنه من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن يكون الإنسان مُخلصًا لله في عبادته، وأن من تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله: أن يكون الإنسان مجتهدًا في اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال بعض السلف: إن الإنسان يوم القيامة يُسأل بـ«لِمَ» و«كيف»: يُسأل لِمَ فعلت كذا ؟ ويُسأل: كيف فعلت كذا ؟ فلابد من السؤال عن العلّة والكيفية .

ولقد كان كثير من المسلمين إن لم نقل أكثر المسلمين في هذا الشهر يُقيمون في الليلة الثانية عشرة منه، يُقيمون عيدًا يحتفلون به يزعمون أن ذلك هو ليلة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم .

وإنني في هذا المقام أقول وبالله أقول وأستعين بالله تعالى على ما أقول: إنه يجب علينا معشر المسلمين أن نحلِّلَ هذه العادة التي اعتادها بعض المسلمين أو أكثر المسلمين: نحلّلها من الناحية التاريخية ومن الناحية الشرعية، أما من الناحية التاريخية فإنه لم يثبت أن ولادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت في الليلة الثانية عشرة وهذه كُتُبُ التاريخ بين أيديكم: اختلف المؤرخون متى ولِد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فمنهم مَن يقول: إنه ولِد في الليلة الثانية من هذا الشهر، ومنهم مَن يقول: إنه ولِد في الليلة السابعة منه، ومنهم مَن يقول: إنه ولِد في الليلة التاسعة منه، ومنهم مَن يقول: إنه ولِد في الليلة العاشرة منه، ومنهم مَن يقول: إنه ولِد في الليلة الثانية عشرة منه، ومنهم مَن يقول: إنه ولِد في الليلة السابعة عشرة منه، ومنهم مَن يقول: إنه ولِد في ليلة اثنتين وعشرين من هذا الشهر .

هذه الأقوال الكثيرة المضطربة تدلُّ على أنه ليس لمن ادَّعى أنه ولِد في الليلة الثانية عشرة ليس لديه مستند تاريخي يستند إليه؛ ولهذا حقّق بعض الفلكيين العصريين أنه ولِد في الليلة التاسعة من هذا الشهر تحقيقًا علميًّا؛ وعلى هذا فيبطل أن تكون ليلة ميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الليلة الثانية عشرة من هذا الشهر .

وأما من الناحية الشرعية فإنَّا نسأل الذين يُقيمون هذه العادة نسألهم: أَيُقيمونها تعبّدًا لله تعالى وإخلاصًا له أم تعظيمًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومحبّة له ؟ أم يقيمونها تخليدًا لذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم يُقيمونها مضاهاة للنصارى الذين اتّخذوا يوم مولد عيسى بن مريم عيدًا ؟ نسألهم لأي هذه الأغراض أقاموها ؟ فإن قالوا: نحن نُقيمها تعبّدًا لله وتعظيمًا له قلنا: إذن أقررتم بأنها عبادة والعبادة من دين الله والله تعالى قد أكمل دينه حين أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم +الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" [المائدة: 3]، فإذا كان دين الله كاملاً فأرونا هذه العادة، أرونا إياها في كتاب الله ؟ أو أرونا إياها في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو أرونا إياها في كلام الخلفاء الراشدين ؟ فإذا لم تكن في كتاب الله ولا في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كلام خلفائه الراشدين فليست من دين الله تعالى في شيء .

إذًا: فلا يصح أن تكون عبادة لله تعالى، وإذا قلتم إننا نُقيمها تعظيمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبّة له فإننا نقول: نِعم ما قصدتم، نِعم قصد المرء أن يكون مُعظِّمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإن الواجب على المرء أن يعظّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من تعظيم أي بشر حتى أعظم من والديه ومن أبنائه ومَن له حق عليه؛ لأنه لا حق لأحد من البشر أعظم من حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته، ولكن بماذا يكون تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

إن تعظيمه هو: التأدب بين يديه والتزام شريعته وعدم التقدم عليه، فهل من الأدب أن يشرع الإنسان في دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يشرعه ؟ هل من تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم الإنسان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله يقول: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" [الحجرات: 1-2]، فليس من تعظيم رسول الله وليس من أدب رسول أن يُلجئ الإنسان في شريعته ما ليس منها بل هذا خلاف الأدب وخلاف التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإذا قالوا: إننا نفعل ذلك تخليدًا لذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فنقول لهم: نعم، إن تخليد ذكرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمر محبوب إلى الله، محبوب إلى كل مؤمن ولكن ما هو الطريق لتخليد ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

إن كل مؤمن لابد أن يكون ذاكرًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل عبادة يقوم بها؛ ذلك لأن العبادات كلها مبنيَّة على أمرين: الإخلاص لله والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كنت مستحضرًا لهذين الأمرين في عبادتك فمعنى ذلك أنَّك لن تتعبّد لله بعبادة قوليّة أو فعليّة إلا كنت ذاكرًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه هي الذكرى الحسنة التي أُمرت والتي بها قيام دينك، ليست الذكرى أن تُقيم احتفالاً مجرّدًا عن الشريعة خاليًا من كل نص يدل عليه، إنها ذكرى جافَّة يذكرها الإنسان في تلك الساعة ثم يطوي ذكْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك .

إذًا: فذكرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كائنة في قلب كل عبدٍ مؤمن حين يفعل أي عبادة من عبادة الله؛ لأن الذي شرعها بل الذي بيَّنها للناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت تذكره عند كل عبادة: تذكر أنك متّبع له وأنه إمامك فيها وأنه هو الواسطة بينك وبين الله تعالى في بيان شريعة الله .

وإذا قالوا: إنا نفعلها مضاهاة للنصارى لئلا يظنوا أننا لا نعظم نبيّنا حيث كانوا يعظمون نبي الله المسيح بن مريم بتخليد ذكرى مولده بإقامة الأعياد له ؟ فنقول لهم: بئس ما صنعتم أن تكون قدوتكم في هذا الأمر ما سنّه النصارى في نبي الله عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وإنكم إذا كنتم تريدون أن تضاهوا النصارى في كل ما يفعلونه لنبي الله عيسى بن مريم فقولوا: إذن نضاهيهم فنقول: إن محمدًا ابن الله، حاشا لله عزّ وجل .

لقد قال النصارى: إن المسيح ابن الله فهل يمكن لأي مسلم أن يقول: إن محمدًا ابن الله ؟ كلا، ولكننا نحن نقول: إننا لا نُضاهي النصارى في أمرٍ لم يشرعه الله ورسوله في هذه الرسالة الكاملة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وإننا نكذب النصارى في قولهم: إن عيسى بن مريم هو ابن الله ولكننا نقول: إن عيسى بن مريم مخلوقٌ من مخلوقات الله عزَّ وجل، +إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [آل عمران: 59] .

فالكونُ كله لله عزَّ وجل، والمسيح بن مريم من الكون وهو نبي الله تعالى الذي بشّر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لقومه: +يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" [الصف: 6]، ولكن النصارى لم يقبلوا هذه البشارة ولم يصدقوا عيسى بها؛ ولذلك لَمَّا جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بالبيانات +قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" [الصف: 6] .

أيها الإخوة، بعد هذا التحليل التاريخي والتحليل الشرعي لهذه العادة التي اعتادها أكثر المسلمين نتوصَّل إلى أنها بدعة من البدع؛ لأنها اتُّخذت دينًا وكل شيء اتُّخذ دينًا ولم يثبت أنه مشروع من الله ورسوله فإنه كلُّه بدعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» .

وإنما بيَّنَّا هذا وأطْنبنا فيه وأكثرنا القول؛ لأن كثيرًا من الناس الذين يأتون إلى هذه البلاد من البلاد التي اعتادوا هذه البدعة ربما يستنكرون ويقولون: لماذا لا تُفعل في هذه البلاد وربما يكونون على جهل منهم في حقيقة الأمر نحو هذه البدعة ؟ ونحن نقول لهم: إنها لا تُفعل في هذه البلاد ونحن نفتخر بذلك ونعتزّ ونحمد الله أن هدانا لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ونسأل الله أن يهدي إخواننا المسلمين لاجتناب هذه البدعة وأن يرزقهم تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق تعظيمه والتأدب معه؛ حتى لا يتقدّموا بين يديه فيشرعوا في شريعته ما لم يشرعه، كما أننا نرجو أن إخواننا الذين يأتون إلينا من تلك البلاد يفهموا حق الفهم أنها ليست هذه البدعة بحق بل هي كما وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلالة وإنما نرجو منهم ونحمّلهم المسؤولية أن يكونوا دعاة خير وإصلاح لقومهم إذا رجعوا إليهم لعلّ الله أن ينفع بهم وأن يهدي على أيديهم مَن تورطوا في هذه البدعة والله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم .

ومَن أراد الحق بقلب مُخلص ونيَّة صادقة واتّباع للحكمة فإنه يوفّق إليه إن شاء الله .

أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم وأن يرزقنا الإخلاص له والاتّباع لرسوله، وأن يجعلنا هداة مهتدين ودعاة مُصلحين، وأسأله تعالى أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتّباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ونسأله تعالى أن يجعلنا مِمَّن يقدمون قول الله وقول رسوله على قول كل أحد، وأسأله تعالى أن يجعلنا مِمَّن يحكمون الله ورسوله حتى على أنفسهم، وأسأله تعالى ألا يجعلنا من المتعصِّبين لأهوائهم ولا من المناصرين لآرائهم بغير حق، وأسأله أن يوفّق المسلمين جميعًا لِمَا فيه الخير والصلاح؛ إنه جواد كريم .

أيها المسلمون، +إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت: 45] .

-------------------------

(م1) هذا المقطع الأول بدأ به شيخنا -رحمه الله تعالى- في هذه الخطبة المباركة التي فيها سيرة المصطفى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مولده إلى مبعثه وبدأها بقصة نوح عليه الصلاة والسلام، ذكرها الحافظ العلامة إمام المفسرين ابن كثير -رحمه الله تعالى- في كتابه المبارك: «البداية والنهاية» في ج (1) صفحة (100) إلى ج (2) صفحة (259) .

(م2) في ختام الرسالة ذكرها الإمام العلامة ابن كثير في كتابه المبارك: «البداية والنهاية» ج3/2 .

(م3) في مولده الشريف -صلى الله عليه وسلم- الذي أضاء الأرض نورًا وبهجة، ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: «البداية والنهاية» 2/252 .

(م4) في نشأته صلى الله عليه وسلم ورعيه للغنم والتجارة، ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- في «البداية والنهاية» 6/286 .

(م5) تزويجه بخديجة -رضي الله تعالى عنها- وصلى الله عليه وسلم نبينا محمد، ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: «البداية والنهاية» 5/293 .

(م6) في زوجاته وأولاده صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: «البداية والنهاية» 5/291 .

(م7) في حلف الفضول، ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: «البداية والنهاية» 2/291 .

(م8) في وضع الحجر الأسود، ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: «البداية والنهاية» 2/299، وكذلك ذكره ابن إسحاق -رحمه الله تعالى- في سيرته في 1/85 .

(م9) انظر إليه في كتاب: «فصول في السيرة» في 1/91 .

(م10) لَمَّا بلغ صلى الله عليه وسلم سن الأربعين من عمره الشريف، ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: «البداية والنهاية» 3/2 .

12d8c7a34f47c2e9d3==