مقتف السلف
01-02-2011, 07:43 PM
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن الناظر لأحداث معظم المحن والفتن التي تعرض لها العلماء الربانيين في هذه الأمة والدارس المتبصر لأسبابها ودوافعها يعلم علم اليقين أن التعصب الأعمى والحزبية المقيتة والخلاف المذهبي هو أس البلاء وسبب الاعتداء الذي تعرض له علماء هذه الأمة،والذي تولى كبره أهل البدع والضلال من المعطلة والجهمية والمعتزلة وأشباههم،الذين كانوا في صدر هذه الأمة في قرونها الثلاثة الفاضلة مقهورين مقموعين، حتى وقعت محنة الإمام أحمد وفتنة خلق القرآن، عندما أصبح للبدعة دولة أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين وبعدها أصبحت سنة ماضية وعادة جارية، أن يستطيل أهل البدعة والضلالة على أهل السنة، وتقع المحنة تلو الأخرى والفتنة كل يوم تستعر وتزيد ويروح ضحيتها العديد من علماء الأمة الربانيين، وكان معظم هؤلاء العلماء من أتباع الإمام أحمد بن حنبل الذين تمسكوا بعقيدة السلف الصالح عقيدة أهل السنة والجماعة وتعرضوا لصنوف البلاء والإيذاء من أتباع المذاهب المخالفة لأهل السنة، فصبروا عليها وضربوا أروع الأمثلة في الثبات حتى الممات، ونسجوا على منوال إمامهم فصبروا وصابروا ورابطوا حتى أتاهم اليقين، ومن هؤلاء الأئمة العظام صاحبنا الحافظ عبد الغني رحمه الله.
التعريف به: هو الإمام الكبير عالم الحفاظ الصادق القدوة العابد الأثري تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجمَّاعيلي ثم الدمشقي المنشأة الصالحي الحنبلي، وُلد سنة 541هـ قبل مولد الإمام الموفق صاحب كتاب "المغني" بأربعة أشهر والموفق هو ابن خالته ورفيقه في طلب العلم في الحل والترحال،وكان الحافظ ميله إلى الحديث، والموفَّق ميله إلى الفقه. وقد وصفه ابن خالته الإمام الموفق صاحب المغني رحمه الله في كلمة جامعة فقال: (كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصِّبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خيرٍ إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله وصيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعدواتهم، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمّر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها.)
خرج عبد الغني في رحلة علمية طويلة جاب فيها البلاد وجلس إلى العلماء وسمع من الشيوخ فدخل دمشق وبيت المقدس ومصر والإسكندرية وبغداد وحران والموصل وأصبهان وهمذان وقد أقام ببغداد أربع سنين، وقد حبب إليه سماع الحديث، فأكثر من سماعه وبرع فيه وأتقنه، ولم يزل يطلب ويسمع ويكتب ويسهر ويدأب حتى صار علم الحفاظ وعالمهم والمشار إليه من بينهم وعليه يدور الكلام في صحة الحديث أو تضعيفه، وصار الناس يقرنونه بأساطين علم الحديث.
صفاته:كان الحافظ عبد الغني المقدسي آية من آيات الله في الحفظ واستحضار النصوص والأصول وأسماء الرجال وألقابهم حتى شبهوه بالبخاري في معرفة الأسماء والكنى، وكان يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث والآثار حتى أن رجلاً قال له يومًا: لقد سمعت رجلاً يحلف بالطلاق أنك (أي عبد الغني) تحفظ مائة ألف حديث، فقال الحافظ: لو قال أكثر لصدق.
وكان الحافظ لا يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، قال أخوه العماد المقدسي: "ما رأيت أحداً أشدَّ محافظةً على وقته من أخي "فإنه كان يصلي الفجر ويشتغل بالقرآن والذكر ثم يعقد مجلسًا للتحديث ثم يقوم فيتوضأ ويصلي تطوعًا حتى وقت القيلولة ثم ينام نومة ثم يصلي الظهر وبعدها يشتغل بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائمًا أفطر وإلا صلى تطوعًا من المغرب إلى العشاء، وبعد العشاء ينام إلى نصف الليل ثم يقوم للتهجد والتطوع حتى قبيل الفجر ثم يهجع هجعة وجيزة ثم يقوم للفجر وهكذا دأبه أبدًا.
وكان آية في سخائه وجوده: فكان لا يدّخر شيئاً، ديناراً ولا درهماً، مهما حصّل أخرجه، وكان يخرج بالليل بقفاف الدقيق، إلى بيوتٍ متنكراً في الظلمة، فيعطيهم، ولا يُعرف.قال الإمام الموفَّق: كان الحافظ يؤثر بما تصل يده إليه، سراً وعلانية.
وكان الحافظ شديد الاجتهاد في طلب العلم، ويكرم طلبة الحديث ويحسن إليهم وله عين فاحصة تلتقط ذوي النبوغ من طلبة العلم، فكان الحافظ عبد الغني إذا صار عنده طالب له فهم وموهبة حرضه على سماع الحديث وطلب العلم، حتى عمت بركته على معظم طلبة وعلماء الحديث بالشام، وقد قال لتلاميذه عند موته: (لا تضيعوا هذا العلم الذي قد تعبنا فيه). قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ: (ما رأيت انتشار الحديث في الشام كله إلا ببركة الحافظ عبد الغني. فإني كل من سألته يقول: أول ما سمعت على الحافظ عبد الغني، وهو الذي حرّضني.)
مصنفاته:لقد ترك الحافظ عبد الغني ثروة علمية كبيرة، أغلبها في علم الحديث، بلغت الأربعين مصنفًا تقريبًا، منها كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح"، "نهاية المراد"، "الصفات"، "التهجد"، "تحفة الطالبين"، "ذكر القبور"، "فضل الصدقة"، "ذم الرياء"، "ذم الغيبة"، "وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" " ولاقتصاد في الاعتقاد"،" العمدة الكبرى في الحديث" ، "عمدة الأحكام" الذي أصبح من أصول طلب العلم ونفع الله به بسبب صلاح نية عبد الغني واتباعه للسنة،وله مؤلفات في حياة الصحابة والتابعين، ولكن درة كتبه وأعظمها نفعًا وأكثرها شهرة هو كتاب "الكمال في معرفة الرجال" وقد جمع فيه الحافظ عبد الغني رجال الكتب الستة وبيَّن حال كل واحد منهم وهو بذلك يعتبر أول من ألف في هذا الباب من العلم، وقد تناول العديد ممن جاء بعده هذا الكتاب بالشرح والتعليق والتهذيب والتقريب منهم المزي وابن حجر العسقلاني، ويعتبر هذا الكتاب هو العمدة عند المشتغلين بعلم الرجال في علم الحديث، والفضل كله يرجع لله عز وجل أولاً ثم للحافظ عبد الغني المقدسي في هذا الباب.
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: كان الحافظ عبد الغني آية من آيات الله عز وجل في القيام بهذه الفريضة المحكمة التي غابت من حياة المسلمين الآن، فقد كان جريئًا قوي الجنان ثابت الجأش في مواجهة الباطل لا يصبر على رؤية منكرًا أو سماعه، فيبادر بتغييره مباشرة بيده وبلسانه، ولا تأخذه في الله لومة لائم،وهذه الجراءة في الحق قد أورثته على حد السواء محبة في قلوب الناس وهيبة في صدورهم تجاهه وأيضًا عداوة في قلوب الفساق والحساد وأصحاب الضغائن.
وكان من شدة تمسكه بهذه الفريضة لا يجرؤ أحد على مراجعته فيها، وقد ألقى الله عز وجل في قلوب الناس مهابته حتى السلاطين منهم، فهذا السلطان العادل الأيوبي يقول عنه: ما خفت من أحد ما خفت من هذا، يعني عبد الغني، وقال أيضًا عنه: ما رأيت بالشام ولا مصر مثل عبد الغني، دخل عليَّ فخيل إليَّ أنه أسد، وكان السلطان العادل الأيوبي يحبه ويحترمه ويجله على الرغم من محاولات الحاسدين وسعي الوشاة ضد الحافظ مرات كثيرة من أجل إيذائه بل وحتى قتله، فلقد عرض بعضهم خمسة آلاف دينار على السلطان العادل من أجل قتل الحافظ ولكن الله عز وجل نجاه من هذه المكيدة.
ورغم اشتداد الحافظ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن الناس كانوا يحبونه ويجلونه ويمدحونه في كل موطن، حتى أنه لما كان مقيمًا في أصبهان كان كلما مشى في أسواقها اصطف الناس لرؤيته ومصافحته، حتى لو أنه أراد أن يملكها لملكها ولغلب على أمرها ولما وصل إلى مصر كان إذا خرج للجمعة لا يصل إلى الجامع إلا بصعوبة من كثرة الناس المجتمعين حوله، هذا يسأله وذاك يصافحه، والجميع يحبونه ويحترمه.
محنه المتتالية: تعتبر المحن التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي امتدادًا للمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل من قبل ولكن بصورة تختلف قليلاً، فكلاهما تعرض للمحنة بسبب ثباته على العقيدة الصحيحة وتمسكه بمذهب السلف وعقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن خصم الإمام أحمد في محنته كان المعتزلة الذين كانت لهم دولة وصولة أيام خلافة المأمون والمعتصم والواثق بني العباس، في حين أن خصم الحافظ عبد الغني في محنته كانوا الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري (ت324هـ).
وكان للأشعري أحوال: فهو في بداية حياته كان فيه معتزليًا من تلاميذ الجبائي، غارقًا في بدع المعتزلة من تعطيل وتأويل وخرافات، أما المرحلة الثانية وفيها تاب من الاعتزال وتفرغ للرد عليهم ولكن بأسلوبهم البدعي وطريقتهم الكلامية فأدى ذلك به لآراء وأقوال خالف بها عقيدة السلف الصالح ووقع في مزالق التأويل والتعطيل واخترع مذهبًا جديدًا عرف باسمه، وعقيدة عرفت باسم العقيدة الأشعرية، جاءت خليطًا من الاعتزال والإرجاء والتجهم وسائر الفرق المبتدعة في العقيدة، وبين ذلك ( السجزي) في رسالته الرائعة إلى أهل زبيد والتي كتبها بعد موت الأشعري بنحو قرن من الزمان وبين فيها أنه ثبت مع المعتزلة في الأصول وخالفهم في الفروع.
وأتباع الأشعري هم الذين تمسكوا بما كان عليه في المرحلة الثانية من حياته، وأصروا على المخالفات والبدع والتعطيل الذي وقع فيها الأشعري واتبعوا الأصول التي وضعها الأشعري في عقيدته والتي تقوم على التأويل والتعطيل والإرجاء والتي خالفوا بها عقيدة أهل السنة والجماعة في كل أبوابها وفصولها تقريبًا وظلت طريقة الأشعري مهجورة متروكة، يحذر منها أهل العلم وينهى عنها الصالحون،ويأمر بلعنها على المنابر السلاطين، مثلما حدث أيام السلطان طغرلبك السلجوقي سنة 433هـ، وظلت هذه العقيدة من جملة الفرق المبتدعة حتى أواخر القرن الخامس الهجري وتحديدًا أيام الوزير الشهري نظام الملك(ت 485هـ) الذي احتضن أتباع الأشعري وفتح لهم المدارس في بغداد وأرجاء العراق وبدأ المذهب الأشعري ينتشر في العراق والشام، وساهم بعض علماء الأشاعرة مثل الباقلاني والجويني وابن فورك والغزالي والقشيري في الترويج للعقيدة بقوة،كما ساهم بعضهم أيضًا في إشعال حرب كلامية ضروس مع الحنابلة الذين كانوا يمثلون عقيدة السلف وأهل السنة.
وكما فعلت المعتزلة من قبل مع الحنابلة استعدى الأشاعرة السلطة الحاكمة على الحنابلة، ورموهم بالتجسيم والتشبيه والتكفير والشرك، وبالغ الأشاعرة في أذية الحنابلة وفعلوا معهم ما لم يفعله مسلم بكافر ناهيك عن مسلم مثله وصاحب عقيدة صحيحة.
وتعرض علماء الحنابلة وبالأخص علماء الحديث منهم لحملة شعواء من جانب الأشاعرة، وطاردوهم في كل مكان وأشاعوا عليهم الأباطيل والأكاذيب حتى نفر كثير من الناس عنهم ولعل هذا يفسر قلة شيوع المذهب الحنبلي في العالم الإسلامي الآن، فهذا موروث قديم تسبب فيه الأشاعرة منذ أزمان بعيدة.
ولقد تعرض الحافظ عبد الغني لحملة شعواء قاسية من جانب الأشاعرة في كل موطن وبقعة زارها، نظرًا لعلمه الواسع ومحبة العامة له واجتماع طلبة العلم عليه وأيضًا نظرًا لحدته وصرامته عند النقاش بحيث كان يفحم خصومه بشدة تجعلهم يتمنون هلاكه، كما أنه كان جريئًا في الصدع بالحق لا يداهن ولا يداري بل هو مثل الصاعقة المحرقة على كل مخالف لله ولرسوله.
ولمحنة الحافظ عبد الغني فصول ومحطات كل واحدة منها تبين مدى الأذى وقدر المحن التي تعرض لها الحافظ رحمه الله منها:
فإن الناظر لأحداث معظم المحن والفتن التي تعرض لها العلماء الربانيين في هذه الأمة والدارس المتبصر لأسبابها ودوافعها يعلم علم اليقين أن التعصب الأعمى والحزبية المقيتة والخلاف المذهبي هو أس البلاء وسبب الاعتداء الذي تعرض له علماء هذه الأمة،والذي تولى كبره أهل البدع والضلال من المعطلة والجهمية والمعتزلة وأشباههم،الذين كانوا في صدر هذه الأمة في قرونها الثلاثة الفاضلة مقهورين مقموعين، حتى وقعت محنة الإمام أحمد وفتنة خلق القرآن، عندما أصبح للبدعة دولة أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين وبعدها أصبحت سنة ماضية وعادة جارية، أن يستطيل أهل البدعة والضلالة على أهل السنة، وتقع المحنة تلو الأخرى والفتنة كل يوم تستعر وتزيد ويروح ضحيتها العديد من علماء الأمة الربانيين، وكان معظم هؤلاء العلماء من أتباع الإمام أحمد بن حنبل الذين تمسكوا بعقيدة السلف الصالح عقيدة أهل السنة والجماعة وتعرضوا لصنوف البلاء والإيذاء من أتباع المذاهب المخالفة لأهل السنة، فصبروا عليها وضربوا أروع الأمثلة في الثبات حتى الممات، ونسجوا على منوال إمامهم فصبروا وصابروا ورابطوا حتى أتاهم اليقين، ومن هؤلاء الأئمة العظام صاحبنا الحافظ عبد الغني رحمه الله.
التعريف به: هو الإمام الكبير عالم الحفاظ الصادق القدوة العابد الأثري تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجمَّاعيلي ثم الدمشقي المنشأة الصالحي الحنبلي، وُلد سنة 541هـ قبل مولد الإمام الموفق صاحب كتاب "المغني" بأربعة أشهر والموفق هو ابن خالته ورفيقه في طلب العلم في الحل والترحال،وكان الحافظ ميله إلى الحديث، والموفَّق ميله إلى الفقه. وقد وصفه ابن خالته الإمام الموفق صاحب المغني رحمه الله في كلمة جامعة فقال: (كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصِّبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خيرٍ إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله وصيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعدواتهم، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمّر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها.)
خرج عبد الغني في رحلة علمية طويلة جاب فيها البلاد وجلس إلى العلماء وسمع من الشيوخ فدخل دمشق وبيت المقدس ومصر والإسكندرية وبغداد وحران والموصل وأصبهان وهمذان وقد أقام ببغداد أربع سنين، وقد حبب إليه سماع الحديث، فأكثر من سماعه وبرع فيه وأتقنه، ولم يزل يطلب ويسمع ويكتب ويسهر ويدأب حتى صار علم الحفاظ وعالمهم والمشار إليه من بينهم وعليه يدور الكلام في صحة الحديث أو تضعيفه، وصار الناس يقرنونه بأساطين علم الحديث.
صفاته:كان الحافظ عبد الغني المقدسي آية من آيات الله في الحفظ واستحضار النصوص والأصول وأسماء الرجال وألقابهم حتى شبهوه بالبخاري في معرفة الأسماء والكنى، وكان يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث والآثار حتى أن رجلاً قال له يومًا: لقد سمعت رجلاً يحلف بالطلاق أنك (أي عبد الغني) تحفظ مائة ألف حديث، فقال الحافظ: لو قال أكثر لصدق.
وكان الحافظ لا يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، قال أخوه العماد المقدسي: "ما رأيت أحداً أشدَّ محافظةً على وقته من أخي "فإنه كان يصلي الفجر ويشتغل بالقرآن والذكر ثم يعقد مجلسًا للتحديث ثم يقوم فيتوضأ ويصلي تطوعًا حتى وقت القيلولة ثم ينام نومة ثم يصلي الظهر وبعدها يشتغل بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائمًا أفطر وإلا صلى تطوعًا من المغرب إلى العشاء، وبعد العشاء ينام إلى نصف الليل ثم يقوم للتهجد والتطوع حتى قبيل الفجر ثم يهجع هجعة وجيزة ثم يقوم للفجر وهكذا دأبه أبدًا.
وكان آية في سخائه وجوده: فكان لا يدّخر شيئاً، ديناراً ولا درهماً، مهما حصّل أخرجه، وكان يخرج بالليل بقفاف الدقيق، إلى بيوتٍ متنكراً في الظلمة، فيعطيهم، ولا يُعرف.قال الإمام الموفَّق: كان الحافظ يؤثر بما تصل يده إليه، سراً وعلانية.
وكان الحافظ شديد الاجتهاد في طلب العلم، ويكرم طلبة الحديث ويحسن إليهم وله عين فاحصة تلتقط ذوي النبوغ من طلبة العلم، فكان الحافظ عبد الغني إذا صار عنده طالب له فهم وموهبة حرضه على سماع الحديث وطلب العلم، حتى عمت بركته على معظم طلبة وعلماء الحديث بالشام، وقد قال لتلاميذه عند موته: (لا تضيعوا هذا العلم الذي قد تعبنا فيه). قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ: (ما رأيت انتشار الحديث في الشام كله إلا ببركة الحافظ عبد الغني. فإني كل من سألته يقول: أول ما سمعت على الحافظ عبد الغني، وهو الذي حرّضني.)
مصنفاته:لقد ترك الحافظ عبد الغني ثروة علمية كبيرة، أغلبها في علم الحديث، بلغت الأربعين مصنفًا تقريبًا، منها كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح"، "نهاية المراد"، "الصفات"، "التهجد"، "تحفة الطالبين"، "ذكر القبور"، "فضل الصدقة"، "ذم الرياء"، "ذم الغيبة"، "وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" " ولاقتصاد في الاعتقاد"،" العمدة الكبرى في الحديث" ، "عمدة الأحكام" الذي أصبح من أصول طلب العلم ونفع الله به بسبب صلاح نية عبد الغني واتباعه للسنة،وله مؤلفات في حياة الصحابة والتابعين، ولكن درة كتبه وأعظمها نفعًا وأكثرها شهرة هو كتاب "الكمال في معرفة الرجال" وقد جمع فيه الحافظ عبد الغني رجال الكتب الستة وبيَّن حال كل واحد منهم وهو بذلك يعتبر أول من ألف في هذا الباب من العلم، وقد تناول العديد ممن جاء بعده هذا الكتاب بالشرح والتعليق والتهذيب والتقريب منهم المزي وابن حجر العسقلاني، ويعتبر هذا الكتاب هو العمدة عند المشتغلين بعلم الرجال في علم الحديث، والفضل كله يرجع لله عز وجل أولاً ثم للحافظ عبد الغني المقدسي في هذا الباب.
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: كان الحافظ عبد الغني آية من آيات الله عز وجل في القيام بهذه الفريضة المحكمة التي غابت من حياة المسلمين الآن، فقد كان جريئًا قوي الجنان ثابت الجأش في مواجهة الباطل لا يصبر على رؤية منكرًا أو سماعه، فيبادر بتغييره مباشرة بيده وبلسانه، ولا تأخذه في الله لومة لائم،وهذه الجراءة في الحق قد أورثته على حد السواء محبة في قلوب الناس وهيبة في صدورهم تجاهه وأيضًا عداوة في قلوب الفساق والحساد وأصحاب الضغائن.
وكان من شدة تمسكه بهذه الفريضة لا يجرؤ أحد على مراجعته فيها، وقد ألقى الله عز وجل في قلوب الناس مهابته حتى السلاطين منهم، فهذا السلطان العادل الأيوبي يقول عنه: ما خفت من أحد ما خفت من هذا، يعني عبد الغني، وقال أيضًا عنه: ما رأيت بالشام ولا مصر مثل عبد الغني، دخل عليَّ فخيل إليَّ أنه أسد، وكان السلطان العادل الأيوبي يحبه ويحترمه ويجله على الرغم من محاولات الحاسدين وسعي الوشاة ضد الحافظ مرات كثيرة من أجل إيذائه بل وحتى قتله، فلقد عرض بعضهم خمسة آلاف دينار على السلطان العادل من أجل قتل الحافظ ولكن الله عز وجل نجاه من هذه المكيدة.
ورغم اشتداد الحافظ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن الناس كانوا يحبونه ويجلونه ويمدحونه في كل موطن، حتى أنه لما كان مقيمًا في أصبهان كان كلما مشى في أسواقها اصطف الناس لرؤيته ومصافحته، حتى لو أنه أراد أن يملكها لملكها ولغلب على أمرها ولما وصل إلى مصر كان إذا خرج للجمعة لا يصل إلى الجامع إلا بصعوبة من كثرة الناس المجتمعين حوله، هذا يسأله وذاك يصافحه، والجميع يحبونه ويحترمه.
محنه المتتالية: تعتبر المحن التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي امتدادًا للمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل من قبل ولكن بصورة تختلف قليلاً، فكلاهما تعرض للمحنة بسبب ثباته على العقيدة الصحيحة وتمسكه بمذهب السلف وعقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن خصم الإمام أحمد في محنته كان المعتزلة الذين كانت لهم دولة وصولة أيام خلافة المأمون والمعتصم والواثق بني العباس، في حين أن خصم الحافظ عبد الغني في محنته كانوا الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري (ت324هـ).
وكان للأشعري أحوال: فهو في بداية حياته كان فيه معتزليًا من تلاميذ الجبائي، غارقًا في بدع المعتزلة من تعطيل وتأويل وخرافات، أما المرحلة الثانية وفيها تاب من الاعتزال وتفرغ للرد عليهم ولكن بأسلوبهم البدعي وطريقتهم الكلامية فأدى ذلك به لآراء وأقوال خالف بها عقيدة السلف الصالح ووقع في مزالق التأويل والتعطيل واخترع مذهبًا جديدًا عرف باسمه، وعقيدة عرفت باسم العقيدة الأشعرية، جاءت خليطًا من الاعتزال والإرجاء والتجهم وسائر الفرق المبتدعة في العقيدة، وبين ذلك ( السجزي) في رسالته الرائعة إلى أهل زبيد والتي كتبها بعد موت الأشعري بنحو قرن من الزمان وبين فيها أنه ثبت مع المعتزلة في الأصول وخالفهم في الفروع.
وأتباع الأشعري هم الذين تمسكوا بما كان عليه في المرحلة الثانية من حياته، وأصروا على المخالفات والبدع والتعطيل الذي وقع فيها الأشعري واتبعوا الأصول التي وضعها الأشعري في عقيدته والتي تقوم على التأويل والتعطيل والإرجاء والتي خالفوا بها عقيدة أهل السنة والجماعة في كل أبوابها وفصولها تقريبًا وظلت طريقة الأشعري مهجورة متروكة، يحذر منها أهل العلم وينهى عنها الصالحون،ويأمر بلعنها على المنابر السلاطين، مثلما حدث أيام السلطان طغرلبك السلجوقي سنة 433هـ، وظلت هذه العقيدة من جملة الفرق المبتدعة حتى أواخر القرن الخامس الهجري وتحديدًا أيام الوزير الشهري نظام الملك(ت 485هـ) الذي احتضن أتباع الأشعري وفتح لهم المدارس في بغداد وأرجاء العراق وبدأ المذهب الأشعري ينتشر في العراق والشام، وساهم بعض علماء الأشاعرة مثل الباقلاني والجويني وابن فورك والغزالي والقشيري في الترويج للعقيدة بقوة،كما ساهم بعضهم أيضًا في إشعال حرب كلامية ضروس مع الحنابلة الذين كانوا يمثلون عقيدة السلف وأهل السنة.
وكما فعلت المعتزلة من قبل مع الحنابلة استعدى الأشاعرة السلطة الحاكمة على الحنابلة، ورموهم بالتجسيم والتشبيه والتكفير والشرك، وبالغ الأشاعرة في أذية الحنابلة وفعلوا معهم ما لم يفعله مسلم بكافر ناهيك عن مسلم مثله وصاحب عقيدة صحيحة.
وتعرض علماء الحنابلة وبالأخص علماء الحديث منهم لحملة شعواء من جانب الأشاعرة، وطاردوهم في كل مكان وأشاعوا عليهم الأباطيل والأكاذيب حتى نفر كثير من الناس عنهم ولعل هذا يفسر قلة شيوع المذهب الحنبلي في العالم الإسلامي الآن، فهذا موروث قديم تسبب فيه الأشاعرة منذ أزمان بعيدة.
ولقد تعرض الحافظ عبد الغني لحملة شعواء قاسية من جانب الأشاعرة في كل موطن وبقعة زارها، نظرًا لعلمه الواسع ومحبة العامة له واجتماع طلبة العلم عليه وأيضًا نظرًا لحدته وصرامته عند النقاش بحيث كان يفحم خصومه بشدة تجعلهم يتمنون هلاكه، كما أنه كان جريئًا في الصدع بالحق لا يداهن ولا يداري بل هو مثل الصاعقة المحرقة على كل مخالف لله ولرسوله.
ولمحنة الحافظ عبد الغني فصول ومحطات كل واحدة منها تبين مدى الأذى وقدر المحن التي تعرض لها الحافظ رحمه الله منها: