المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محن الحافظ عبدالغني المقدسي (رحمه الله) في السنة


كيف حالك ؟

مقتف السلف
01-02-2011, 07:43 PM
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :

فإن الناظر لأحداث معظم المحن والفتن التي تعرض لها العلماء الربانيين في هذه الأمة والدارس المتبصر لأسبابها ودوافعها يعلم علم اليقين أن التعصب الأعمى والحزبية المقيتة والخلاف المذهبي هو أس البلاء وسبب الاعتداء الذي تعرض له علماء هذه الأمة،والذي تولى كبره أهل البدع والضلال من المعطلة والجهمية والمعتزلة وأشباههم،الذين كانوا في صدر هذه الأمة في قرونها الثلاثة الفاضلة مقهورين مقموعين، حتى وقعت محنة الإمام أحمد وفتنة خلق القرآن، عندما أصبح للبدعة دولة أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين وبعدها أصبحت سنة ماضية وعادة جارية، أن يستطيل أهل البدعة والضلالة على أهل السنة، وتقع المحنة تلو الأخرى والفتنة كل يوم تستعر وتزيد ويروح ضحيتها العديد من علماء الأمة الربانيين، وكان معظم هؤلاء العلماء من أتباع الإمام أحمد بن حنبل الذين تمسكوا بعقيدة السلف الصالح عقيدة أهل السنة والجماعة وتعرضوا لصنوف البلاء والإيذاء من أتباع المذاهب المخالفة لأهل السنة، فصبروا عليها وضربوا أروع الأمثلة في الثبات حتى الممات، ونسجوا على منوال إمامهم فصبروا وصابروا ورابطوا حتى أتاهم اليقين، ومن هؤلاء الأئمة العظام صاحبنا الحافظ عبد الغني رحمه الله.

التعريف به: هو الإمام الكبير عالم الحفاظ الصادق القدوة العابد الأثري تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجمَّاعيلي ثم الدمشقي المنشأة الصالحي الحنبلي، وُلد سنة 541هـ قبل مولد الإمام الموفق صاحب كتاب "المغني" بأربعة أشهر والموفق هو ابن خالته ورفيقه في طلب العلم في الحل والترحال،وكان الحافظ ميله إلى الحديث، والموفَّق ميله إلى الفقه. وقد وصفه ابن خالته الإمام الموفق صاحب المغني رحمه الله في كلمة جامعة فقال: (كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصِّبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خيرٍ إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله وصيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعدواتهم، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمّر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها.)

خرج عبد الغني في رحلة علمية طويلة جاب فيها البلاد وجلس إلى العلماء وسمع من الشيوخ فدخل دمشق وبيت المقدس ومصر والإسكندرية وبغداد وحران والموصل وأصبهان وهمذان وقد أقام ببغداد أربع سنين، وقد حبب إليه سماع الحديث، فأكثر من سماعه وبرع فيه وأتقنه، ولم يزل يطلب ويسمع ويكتب ويسهر ويدأب حتى صار علم الحفاظ وعالمهم والمشار إليه من بينهم وعليه يدور الكلام في صحة الحديث أو تضعيفه، وصار الناس يقرنونه بأساطين علم الحديث.

صفاته:كان الحافظ عبد الغني المقدسي آية من آيات الله في الحفظ واستحضار النصوص والأصول وأسماء الرجال وألقابهم حتى شبهوه بالبخاري في معرفة الأسماء والكنى، وكان يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث والآثار حتى أن رجلاً قال له يومًا: لقد سمعت رجلاً يحلف بالطلاق أنك (أي عبد الغني) تحفظ مائة ألف حديث، فقال الحافظ: لو قال أكثر لصدق.

وكان الحافظ لا يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، قال أخوه العماد المقدسي: "ما رأيت أحداً أشدَّ محافظةً على وقته من أخي "فإنه كان يصلي الفجر ويشتغل بالقرآن والذكر ثم يعقد مجلسًا للتحديث ثم يقوم فيتوضأ ويصلي تطوعًا حتى وقت القيلولة ثم ينام نومة ثم يصلي الظهر وبعدها يشتغل بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائمًا أفطر وإلا صلى تطوعًا من المغرب إلى العشاء، وبعد العشاء ينام إلى نصف الليل ثم يقوم للتهجد والتطوع حتى قبيل الفجر ثم يهجع هجعة وجيزة ثم يقوم للفجر وهكذا دأبه أبدًا.

وكان آية في سخائه وجوده: فكان لا يدّخر شيئاً، ديناراً ولا درهماً، مهما حصّل أخرجه، وكان يخرج بالليل بقفاف الدقيق، إلى بيوتٍ متنكراً في الظلمة، فيعطيهم، ولا يُعرف.قال الإمام الموفَّق: كان الحافظ يؤثر بما تصل يده إليه، سراً وعلانية.

وكان الحافظ شديد الاجتهاد في طلب العلم، ويكرم طلبة الحديث ويحسن إليهم وله عين فاحصة تلتقط ذوي النبوغ من طلبة العلم، فكان الحافظ عبد الغني إذا صار عنده طالب له فهم وموهبة حرضه على سماع الحديث وطلب العلم، حتى عمت بركته على معظم طلبة وعلماء الحديث بالشام، وقد قال لتلاميذه عند موته: (لا تضيعوا هذا العلم الذي قد تعبنا فيه). قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ: (ما رأيت انتشار الحديث في الشام كله إلا ببركة الحافظ عبد الغني. فإني كل من سألته يقول: أول ما سمعت على الحافظ عبد الغني، وهو الذي حرّضني.)
مصنفاته:لقد ترك الحافظ عبد الغني ثروة علمية كبيرة، أغلبها في علم الحديث، بلغت الأربعين مصنفًا تقريبًا، منها كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح"، "نهاية المراد"، "الصفات"، "التهجد"، "تحفة الطالبين"، "ذكر القبور"، "فضل الصدقة"، "ذم الرياء"، "ذم الغيبة"، "وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" " ولاقتصاد في الاعتقاد"،" العمدة الكبرى في الحديث" ، "عمدة الأحكام" الذي أصبح من أصول طلب العلم ونفع الله به بسبب صلاح نية عبد الغني واتباعه للسنة،وله مؤلفات في حياة الصحابة والتابعين، ولكن درة كتبه وأعظمها نفعًا وأكثرها شهرة هو كتاب "الكمال في معرفة الرجال" وقد جمع فيه الحافظ عبد الغني رجال الكتب الستة وبيَّن حال كل واحد منهم وهو بذلك يعتبر أول من ألف في هذا الباب من العلم، وقد تناول العديد ممن جاء بعده هذا الكتاب بالشرح والتعليق والتهذيب والتقريب منهم المزي وابن حجر العسقلاني، ويعتبر هذا الكتاب هو العمدة عند المشتغلين بعلم الرجال في علم الحديث، والفضل كله يرجع لله عز وجل أولاً ثم للحافظ عبد الغني المقدسي في هذا الباب.

أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: كان الحافظ عبد الغني آية من آيات الله عز وجل في القيام بهذه الفريضة المحكمة التي غابت من حياة المسلمين الآن، فقد كان جريئًا قوي الجنان ثابت الجأش في مواجهة الباطل لا يصبر على رؤية منكرًا أو سماعه، فيبادر بتغييره مباشرة بيده وبلسانه، ولا تأخذه في الله لومة لائم،وهذه الجراءة في الحق قد أورثته على حد السواء محبة في قلوب الناس وهيبة في صدورهم تجاهه وأيضًا عداوة في قلوب الفساق والحساد وأصحاب الضغائن.

وكان من شدة تمسكه بهذه الفريضة لا يجرؤ أحد على مراجعته فيها، وقد ألقى الله عز وجل في قلوب الناس مهابته حتى السلاطين منهم، فهذا السلطان العادل الأيوبي يقول عنه: ما خفت من أحد ما خفت من هذا، يعني عبد الغني، وقال أيضًا عنه: ما رأيت بالشام ولا مصر مثل عبد الغني، دخل عليَّ فخيل إليَّ أنه أسد، وكان السلطان العادل الأيوبي يحبه ويحترمه ويجله على الرغم من محاولات الحاسدين وسعي الوشاة ضد الحافظ مرات كثيرة من أجل إيذائه بل وحتى قتله، فلقد عرض بعضهم خمسة آلاف دينار على السلطان العادل من أجل قتل الحافظ ولكن الله عز وجل نجاه من هذه المكيدة.

ورغم اشتداد الحافظ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن الناس كانوا يحبونه ويجلونه ويمدحونه في كل موطن، حتى أنه لما كان مقيمًا في أصبهان كان كلما مشى في أسواقها اصطف الناس لرؤيته ومصافحته، حتى لو أنه أراد أن يملكها لملكها ولغلب على أمرها ولما وصل إلى مصر كان إذا خرج للجمعة لا يصل إلى الجامع إلا بصعوبة من كثرة الناس المجتمعين حوله، هذا يسأله وذاك يصافحه، والجميع يحبونه ويحترمه.

محنه المتتالية: تعتبر المحن التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي امتدادًا للمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل من قبل ولكن بصورة تختلف قليلاً، فكلاهما تعرض للمحنة بسبب ثباته على العقيدة الصحيحة وتمسكه بمذهب السلف وعقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن خصم الإمام أحمد في محنته كان المعتزلة الذين كانت لهم دولة وصولة أيام خلافة المأمون والمعتصم والواثق بني العباس، في حين أن خصم الحافظ عبد الغني في محنته كانوا الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري (ت324هـ).

وكان للأشعري أحوال: فهو في بداية حياته كان فيه معتزليًا من تلاميذ الجبائي، غارقًا في بدع المعتزلة من تعطيل وتأويل وخرافات، أما المرحلة الثانية وفيها تاب من الاعتزال وتفرغ للرد عليهم ولكن بأسلوبهم البدعي وطريقتهم الكلامية فأدى ذلك به لآراء وأقوال خالف بها عقيدة السلف الصالح ووقع في مزالق التأويل والتعطيل واخترع مذهبًا جديدًا عرف باسمه، وعقيدة عرفت باسم العقيدة الأشعرية، جاءت خليطًا من الاعتزال والإرجاء والتجهم وسائر الفرق المبتدعة في العقيدة، وبين ذلك ( السجزي) في رسالته الرائعة إلى أهل زبيد والتي كتبها بعد موت الأشعري بنحو قرن من الزمان وبين فيها أنه ثبت مع المعتزلة في الأصول وخالفهم في الفروع.

وأتباع الأشعري هم الذين تمسكوا بما كان عليه في المرحلة الثانية من حياته، وأصروا على المخالفات والبدع والتعطيل الذي وقع فيها الأشعري واتبعوا الأصول التي وضعها الأشعري في عقيدته والتي تقوم على التأويل والتعطيل والإرجاء والتي خالفوا بها عقيدة أهل السنة والجماعة في كل أبوابها وفصولها تقريبًا وظلت طريقة الأشعري مهجورة متروكة، يحذر منها أهل العلم وينهى عنها الصالحون،ويأمر بلعنها على المنابر السلاطين، مثلما حدث أيام السلطان طغرلبك السلجوقي سنة 433هـ، وظلت هذه العقيدة من جملة الفرق المبتدعة حتى أواخر القرن الخامس الهجري وتحديدًا أيام الوزير الشهري نظام الملك(ت 485هـ) الذي احتضن أتباع الأشعري وفتح لهم المدارس في بغداد وأرجاء العراق وبدأ المذهب الأشعري ينتشر في العراق والشام، وساهم بعض علماء الأشاعرة مثل الباقلاني والجويني وابن فورك والغزالي والقشيري في الترويج للعقيدة بقوة،كما ساهم بعضهم أيضًا في إشعال حرب كلامية ضروس مع الحنابلة الذين كانوا يمثلون عقيدة السلف وأهل السنة.

وكما فعلت المعتزلة من قبل مع الحنابلة استعدى الأشاعرة السلطة الحاكمة على الحنابلة، ورموهم بالتجسيم والتشبيه والتكفير والشرك، وبالغ الأشاعرة في أذية الحنابلة وفعلوا معهم ما لم يفعله مسلم بكافر ناهيك عن مسلم مثله وصاحب عقيدة صحيحة.

وتعرض علماء الحنابلة وبالأخص علماء الحديث منهم لحملة شعواء من جانب الأشاعرة، وطاردوهم في كل مكان وأشاعوا عليهم الأباطيل والأكاذيب حتى نفر كثير من الناس عنهم ولعل هذا يفسر قلة شيوع المذهب الحنبلي في العالم الإسلامي الآن، فهذا موروث قديم تسبب فيه الأشاعرة منذ أزمان بعيدة.

ولقد تعرض الحافظ عبد الغني لحملة شعواء قاسية من جانب الأشاعرة في كل موطن وبقعة زارها، نظرًا لعلمه الواسع ومحبة العامة له واجتماع طلبة العلم عليه وأيضًا نظرًا لحدته وصرامته عند النقاش بحيث كان يفحم خصومه بشدة تجعلهم يتمنون هلاكه، كما أنه كان جريئًا في الصدع بالحق لا يداهن ولا يداري بل هو مثل الصاعقة المحرقة على كل مخالف لله ولرسوله.

ولمحنة الحافظ عبد الغني فصول ومحطات كل واحدة منها تبين مدى الأذى وقدر المحن التي تعرض لها الحافظ رحمه الله منها:

مقتف السلف
01-02-2011, 07:46 PM
محنته في أصبهان: دخل الحافظ عبد الغني أصبهان (وتقع الآن في إيران) لسماع الحديث وإسماعه عدة مرات وكانت أصبهان من المحطات الرئيسية التي يجب لطالب علم الحديث أن يدخلها، وخلال زياراته المتكررة لأصبهان كثر عليه التلاميذ والطلبة وأحبه الناس، حتى إنه كان إذا مشى في أسواقها اجتمع عليه الناس يسلمون عليه وينظرون إليه.


وكان شيخه الحافظ أبو موسى المديني الإصبهاني (581 هـ) قد أشار عليه أن يتتبع أبا نُعيم الإصبهاني، في كتابه: "معرفة الصحابة". فقد كان يشتهي أن يأخذ هو على أبي نُعيم فما كان يجسر، فأخذ عبد الغني على أبي نُعيم نحواً من مئتين وتسعين موضعاً، في كتاب سمّاه: "تبيين الإصابة لأوهام حصلت لأبي نعيم في معرفة الصحابة". قال الذهبي: "جزءان، تدل على براعته وحفظه". وقد أثار هذا حفيظة بيت الخُجَندي، فقد كانوا أشاعرة، وكانوا يتعصبون لأبي نُعيم وكان من الأشاعرة والمتصوفة، وكانوا رؤساء البلد، فطلب الصدر الخُجَندي عبد الغني، وأراد هلاكه، فاختفى وتحايل تلاميذه حتى أخرجوه خفية من أصبهان قبل أن يصل إليه الأشاعرة فيفتكوا به.
وخرج إلى الموصل، وقد أعجب الحافظ أبو موسى بكتاب عبد الغني، وكتب عليه تقريظاً بالغاً. قال التاج الكندي: لم يكن بعد الدّراقطني مثل الحافظ عبد الغني. وقال ـ أيضاً ـ: لم ير الحافظ مثل نفسه.


محنته في الموصل: خلال رحلة الحافظ العلمية دخل مدينة الموصل العراقية وجلس في جامعها الكبير وأخذ في تدريس كتاب "الضعفاء" للعقيلي، وعندما وصل لذكر أبي حنيفة شرح كلام العقيلي عن ضعفه وكلام السلف فيه،فثار أهل البلد وكانوا من الأحناف وحبسوه وقرروا قتله ولكن صديقه الواعظ ابن البرنس أنقذه بحيلة ذكية فأطلقوا سراحه.
قال رحمه الله: كنَّا بالمَوْصل نُسمع "الجرح والتعديل" للعُقََيلي، فأخذني أهل الموصل وحبسوني، وأرادوا قتلي من أجل ذكر أبي حنيفة فيه. فجاءني رجل طويل معه سيف، فقلت: لعله يقتلني واستريح. قال: فلم يصنع شيئاً، ثم أُطلقتُ" وسبب خلاصه: أنه كان يُسمع هو وابن البرني. فأخذ ابن البرني الكراس التي فيها ذكر أبي حنيفة ومزقها من الكتاب، ففتشوا الكتاب، فلم يجدوا شيئاً.
محنته في دمشق: وهي المحنة الكبيرة التي لازمته حتى آخر حياته رحمه الله تعالى.وذلك أنه بعد خروجه من الموصل، دخل دمشق، وبدأ بنشر علمه، فكان رحمه الله يقرأ الحديث يوم الجمعة بجامع دمشق، وليلة الخميس، ويجتمع خلق، وكان يقرأ ويبكي ويُبكي الناس، حتى إن من حضره مرة لا يكاد يتركه، وكان في أثناء ذلك يذكر أحاديث النزول والصفات، ويبين عقيدة السلف ومذهبهم بعبارة جلية واضحة، فثار عليه متعصبة الأشاعرة المعطلة، ورموهم بالتجسيم، وهكذا بدأت محنة الحافظ في ظاهر الأمر .. لكن الذين ترجموا للحافظ اتفقوا على أن محنته كانت بسبب (حسد) أولئك إياه: أن اجتمع إليه الناس، وعلا شأنه، وبَعُد صيته، وكثر الانتفاع به. ولا شك أن هناك مناسبة بين الأمرين، فإنهم كانوا يعادونه للمنهج السلفي الذي هو عليه، ويحسدونه على ما ظهر عليه من أثره مما هو من جنس: "عاجل بشرى المؤمن". وقد قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وهكذا شرعوا يعملون لهم وقتاً في الجامع، ويُقرأ عليهم الحديث، ويجمعون الناس، فبعضهم ينام، وبعضهم يحضر وقلبه غير حاضر، فلم يشفِ قلوبهم، فشرعوا في مكيدة: فأمروا الناصح ابن الحنبليّ بأن يعظ بعد الجمعة تحت المنبر، وقت جلوس الحافظ، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه، فأخر الحافظ ميعاده إلى العصر.


لقد كان الناصح أبو الفرج عبد الرحمن الأنصاري الحنبلي (634 هـ)، شيخاً "فاضلاً صالحاً" كما وصفه ابن كثير،فلا ندري كيف استطاع الأشاعرة تجنيده لمناوأة الحافظ عبد الغني، واختيارهم إياه يدل على ذكائهم، إذ أرادوا من هذا الصراع أن يكون (حنبلياً ـ حنبلياً)، ويلعبوا هم دور المتفرج، ولا شك أن المبتدعة يتقنون صناعة الفتنة، لكن سرعان ما انقلب عليهم الناصح رحمه الله، ووقف مع الحنابلة موقفاً جيداً.


ولما كان في بعض الأيام والناصح قد فرغ، فدسُّوا إليه رجلاً ناقص العقل من بيت ابن عساكر، فقال للناصح ـ ما معناه ـ: إنك تقول الكذب على المنبر؟ فضُرب الرجل وهرب، وخُبئ في الكلاسة. وهكذا تحقق لهم ما أرادوا، فمشوا إلى الوالي، وقالوا له: هؤلاء الحنابلة ما قصدهم إلا الفتنة، وهم .. وهم .. واعتقادهم. ثم جمعوا كبراءهم، ومضوا إلى القلعة، وقالوا للوالي: نشتهي أن تحضر الحافظ.
قال الضياء المقدسي: وسمع مشايخنا، فانحدروا إلى المدينة ـ يعني: من سفح جبل قاسيون إلى دمشق ـ : خالي الموفق، وأخي الشمس،والفقهاء. وقالوا: نحن نناظرهم. وقالوا للحافظ: اقعد أنت لا تجئ، فإنك حادٌ، ونحن نكفيك. فاتفق أنهم أرسلوا إلى الحافظ فأخذوه، ولم يعلم أصحابنا، فناظروه وكان أجهلهم يغري به، وكانت الغيرة قد أكلت قلوب الأشاعرة أمثال القاضي ابن الزكي والخطيب الدولعي وطلبوا المناظرة منه بين يدي والي البلد واسمه برغش، وفي المناظرة احتد الحافظ عليهم واشتد بعد أن علت حجته حجتهم فما كان من الأمير برغش إلا أن أمر بنفيه من دمشق، فدعا الحافظ على من ظلمه وشرده فأصيب ابن الزكي بصرع شديد حتى خولط في عقله، حتى مات على هذه الحالة وكذلك مات معه الدولعي وكلاهما في نفس العام الذي سعوا فيه على الحافظ ،وكانوا قد كتبوا شيئاً من اعتقادهم، وكتبوا خطوطهم فيه، قالوا له: اكتب خطَّك، فلم يفعل. فقالوا للوالي: قد اتفق الفقهاء كلهم وهذا يخالفهم، واستأذنوه في رفع منبره، فأرسلوا الأسرى،فرفعوا ما في جامع دمشق من منبرٍ وخزانة. وقالوا: نريد أن لا تجعل في الجامع إلا صلاة الشافعية. وكسروا منبر الحافظ، ومنعوه من الجلوس، ومنعوا أصحابنا من الصلاة في مكانهم، ففاتهم الظهر.

ثم إن النَّاصح جمع البنوية وغيرهم وقالوا: إن لم يخلُّونا نصلّي صلينا بغير اختيارهم. فبلغ ذلك القاضي، وكان صاحب الفتنة، فأذن لهم، وخاف أن يصلّوا بغير إذنه. وكان الحنفية حموا مقصوراتهم بجماعة من الجند .

وقد تناول ابن المظفَّر سبط ابن الجوزي في: "مرآة الزمان" هذه الفتنة تناولاً يدل على عقيدته الخبيثة فزعم: "إجماع الفقهاء على الفتيا بتكفير عبد الغني، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين "

ورد عليه الذهبي رداً يبين موقفه هو الآخر من أمور المعتقد فقال في "السِّير" :"قد بلوت على أبي المظفر المجازفة، وقلة الورع فيما يؤرخه، والله الموعد، وكان يترفض، رأيت له مصنفاً في ذلك فيه دواهٍ ،ولو أجمعت الفقهاء على تكفير الحافظ عبد الغني كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حياً، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر، والعلامة شمس الدين البخاري، وسائر الحنابلة، وعدّة من أهل الاثر!!!،

وكان بالبلد أيضا خلق من العلماء لا يكفرونه!!. نعم: ولا يصرّحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه، ولو كف عن تلك العبارات، وقال بما وردت به النصوص لأجاد ولسلم، فهو الأولى، فما في توسيع العبارات الموهمة خير. وأسوأ شيء قاله: أنه ضلل العلماء الحاضرين، وأنه على الحق!!. فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء، رحم الله الجميع وغفر لهم، فما قصدهم إلا تعظيم الباري عزوجل من الطرفين!!!، ولكن الأكمل!! في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم، وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصَّدْع بالحق، ومحاسنه كثيرة، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والافتراء، ونبرأ من كل مجسِّم!! ومعطِّل." قلت: ولو عرض كلام الذهبي هذا المليء بالألغام –كعادته- على الإمام أحمد لألحقه بأصحابه المماثلين له كالكرابيسي الذي أثنى عليه في السير وزعم أن مذهبه المخالف لأحمد هو الحق. وعلى كل حال فالله الموعد والزبد سيذهب جفاء ؛ سنة مسنونة.


محنته في مصر: بعدما حدث للحافظ من محن على يد أشاعرة دمشق، خرج منها إلى بعلبك فأقام بها مدة، فقال له أهلها: إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من آذاك فرفض الحافظ حرصًا على السلامة وعدم إثارة أدنى فتنة بين المسلمين، ثم توجه الحافظ إلى مصر وأخذ في التحديث والتدريس وذلك سنة 595هـ، فلم يُعجب ذلك أشاعرة دمشق الذين لم يكونوا ليرضوا بأي شيء سوى قتل الحافظ أو نفيه ومنعه من نشر العقيدة الصحيحة، فأرسلوا بالعديد من الفتاوى إلى صاحب مصر وهو الملك عماد الدين بن السلطان صلاح الدين الأيوبي تشنع ضد الحنابلة عمومًا والحافظ عبد الغني المقدسي خصوصًا، وترميهم بالتجسيم والتشبيه والزندقة وهكذا حتى عزم عماد الدين على طرد الحنابلة من كل أنحاء مصر والتنكيل بهم فدعا عليه الحافظ ألا يمكنه الله عز وجل من ذلك، فخرج عماد الدين للصيد وفي نيته إصدار منشور الطرد بعد عودته من رحلة الصيد، فكبا به فرسه فسقط عنه فانخشف صدره ومات بعد عدة أيام وهو في السابعة والعشرين من العمر، فعظم الحنابلة في أعين الناس وعدوها كرامة كبيرة للحافظ، الذي أقام في مصر معززًا مكرمًا، فلم ييأس الأشاعرة من محاولاتهم الدؤوبة لإسكات الحافظ، فأخذوا في تأليب الملك العادل وولده الأمير الكامل محمد ضد الحافظ، وبالغ بعض الأشاعرة فأفتوا بكفره وإباحة دمه وكتبوا أوراقاً بذلك، ولكن الله عز وجل نجاه من كل سوء، وحفظه بحفظه لعباده المؤمنين والصالحين.


ولكن الأمر قد ضاق بشدة على الحافظ وتكاثرت عليه الهموم والعلل وهو في كل يوم يترقب من يؤذيه ويسعى فيه حتى مات رحمه الله في القاهرة في ربيع الأول سنة 600هـ وهو دون الستين.
وفاته:قال الحافظ أبو موسى: مرض والدي ـ رحمه الله ـ في ربيع الأول، سنة ست مئة مرضاً شديداً، منعه من الكلام والقيام، واشتد به مدة ستة عشر يوماً، وكنت كثيراً ما أسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله، لا يزيد على ذلك. فلما كان يوم الإثنين جئت إليه، وكان عادتي أبعث من يأتي كل يوم بكرة بماء حار من الحمام يغسل به أطرافه. فلما جئنا بالماء على العادة مدَّ يده، فعرفت أنه يريد الوضوء، فوضأته وقت صلاة الفجر، ثم قال: يا عبد الله، قم فصل بنا وخفف، فقمت فصليت بالجماعة، وصلَّى معنا جالساً. فلما انصرف الناس جئت، فجلست عند رأسه، وقد استقبل القبلة، فقال لي: اقرأ عند رأسي سورة "يس" فقرأتها، فجعل يدعو الله وأنا أؤمن، فقلت: هاهنا دواء قد عملنا تشربه؟ فقال لي: يا بنيّ ما بقي إلا الموت، فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله تعالى. قلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى والله، أنا عنك راض، وعن إخوتك، وقد أجزت لك ولإخوتك ولابن أخيك إبراهيم. وكان أبو موسى يقول: أوصاني أبي عند موته: لا تضيعوا هذا العلم الذي تعبنا عليه؛ يعني الحديث. فقلت: ما توصيني بشيء؟ قال: مالي على أحد شيء، ولا لأحد علي شي

12d8c7a34f47c2e9d3==