المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإمام ابن العثيمين إن نقل الأضاحي إلى خارج البلاد يفوت به مصالح كثيرة


كيف حالك ؟

البلوشي
11-15-2010, 03:38 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

أيها المسلمون، فإن التقرّب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي من أفضل الأعمال المقرّبة إلى الله، وقد قَرَنَ الله النحر له بالصلاة له فقال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، فَذَبْحُ الأضاحي قُربة إلى الله تعالى بنفسه يُقصد بها التعبّد لله قبل كل شيء؛ ولهذا كان لها حرمات كثيرة .

أيها المسلمون، إن بعض الإخوة الذين يحبون الخير يظنون أن المقصود بالأضاحي هو نفع الفقراء بلحمها؛ ولذلك نجدهم في هذه المناسبة يبثّون أوراقًا يحثّون الناس على أن يأخذوا منهم الأضاحي ليضحّوها في أفغانستان أو في غيرها من البلاد الفقيرة ولا أظن هؤلاء إلا يريدون الخير ولكنهم أرادوا الخير فاجتهدوا فأخطؤوا في اجتهادهم، والذي ينبغي للإنسان الذي يريد الخير أن يجعل إرادته مبنيّة على قواعد الشريعة حتى لا يَضِلّ ولا يُضِلّ .

إن الدين الإسلامي ليس مبنيًّا على العاطفة وليس مبنيًّا على الهوى، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71] .

إن الدين الإسلامي مبنيٌّ على قواعد عظيمة متينة وهي ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه الدعوة بل هذه الدعاية إنه يحصل بها فوات مقصود كبير في الأضاحي؛ لذلك فإني أنصح إخواني المسلمين ألا يقبلوا هذه الدعاية ولا يبعثوا بدراهمهم ليُشترى بها أضاحي في أفغانستان أو في غيرها بل يضحّون بأنفسهم في بلادهم، وإذا أرادوا التبرّع لهذه البلاد فإن باب التبرّع واسع وباب التبرّع مفتوح لهم أن يتبرّعوا بِما شاؤوا، أما الشعائر الدينية فإنه يجب أن تكون محترمة معظّمة .

أيها المسلمون، إن نقل الأضاحي إلى خارج البلاد يفوت به مصالح كثيرة:

الأولى: أنه يفوت به إظهار شعيرة من شعائر الله وهي الأضاحي فتُصبح البلاد معطّلة من هذه الشعيرة في بعض البيوت وربما أدى ذلك إلى التوسّع فتعطّلت كثير من البيوت من هذه الشعيرة، ومن المعلوم أن الأضاحي من شعائر الله وليس المقصود منها مجرّد الانتفاع باللحم، قال الله عزَّ وجل: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37]، وفرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأضحية واللحم فقال: «مَن صلَّى صلاتنا ونسَكَ نسكنا فقد أصاب النسك، ومَن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقال رجل: يا رسول الله، نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم»(9)، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ ذبح بعد الصلاة فقد تَمّ نسكه وأصاب سنَّة المسلمين»(10)، فتأمّل كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأصاب سنّة المسلمين»؛ ليتبيّن لك أن هذه طريقة المسلمين أن يضحّوا وأن الأضاحي شعيرة من شعائر الإسلام .

وفي هذه الآية وهذا الحديث دليل واضح على أنه ليس المقصود من الأضاحي مجرّد الانتفاع باللحم؛ إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن فرق بين المذبوح قبل الصلاة وبعدها، ويدل لذلك أيضًا أن الأضحية خُصَّت بنوع معيّن من البهائم وهي الإبل والبقر والغنم وقُيِّدت بشروط معيَّنة: كبلوغ السن، والسلامة من العيوب وكونها في أيام النحر، ولو كان المقصود مجرّد الانتفاع باللحم لأجزأت بكل بهيمة حلال كالدجاج والظباء ولأجزأت بالصغير من الأنعام ولأجزأت بالعضو من البهيمة .

فالأضاحي - أيها المسلمون - لها شأن كبير في الإسلام ولهذا جُعل لها حرمات، فمَن أراد أن يضحّي «فإنه لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا»(11)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، ولو كان المقصود بها مجرّد التصدّق باللحم لم تكن لها هذه الحرمة؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يتصدّق ولو بالملايين من الغنم والإبل والبقر فإنه لا يحرم عليه أن يأخذ شيئًا من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته .

إذنْ: فالأضحية عبادة مقصودة بذاتها .

وإنني أقف عند هذه النقطة لأُبيّن حكم ذلك، فإذا كان الإنسان يريد أن يضحّي فإنه لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته - يعني: جِلْده - شيئًا، وأما أهل البيت المضحّى عنهم فإن لهم أن يأخذوا من ذلك ما شاؤوا في الحدود الشرعية ولا يُنهون عن الأخذ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى مَنْ يضحي؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي عنه وعن أهل بيته ولم يُنقل أنه كان ينهى أهل بيته أن يأخذوا شيئًا من ذلك .

الثانية: أعني من المصالح التي تفوت إذا نُقلت الأضاحي إلى خارج البلاد: مصلحة مباشرة المضحّي ذبح أضحيته؛ فإن السنّة أن يذبح المضحي أضحيته بنفسه تقرّبًا إلى الله واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يذبح أضحيته بنفسه، وقد قال أهل العلم: إذا كان المضحّي لا يُحسن الذبح بنفسه فلْيحضر الذبح .

الثالثة: من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: شعورُ المضحي بالتعبّد لله تعالى بالذبح نفسه؛ فإن الذبح نفسه عبادة عظيمة قَرَنَها الله - عزَّ وجل - بالصلاة في قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2]، وفي قوله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، فأين التعبّد للإنسان الذي أخرج أضحيته عن بلاده ولم يشهدها ولم يباشرها بنفسه ؟ أين التعبّد الذي يحصل للقلب إذا كانت أضحيتك تُذبح في المشرق أو في المغرب ؟

الرابعة: من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: مصلحة ذكْر المضحي اسم الله على أضحيته، وقد أمر الله - عزَّ وجل - بذكر اسمه عليها فقال: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾ [الحج: 36]، وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [الحج: 34]، وفي هذا دليل على أن ذبح الأضحية وذكْر اسم الله عليها عبادة مقصودة بذاتها وأنها من توحيد الله وتمام الاستسلام له، وربما كان هذا المقصود أعظم بكثير من مجرّد انتفاع الفقير بها .

ومن المعلوم أن مَنْ نقلها إلى خارج البلاد لم يحصل له هذا الشعور العظيم الذي به تمام التوحيد والاستسلام لله عزَّ وجل .

الخامسة: من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد: مصلحة الأكل من الأضحية؛ فإن المضحّي مأمور بالأكل من أضحيته إما وجوبًا وإما استحبابًا على خلاف في ذلك بين العلماء، بل إن الله - عزَّ وجل - قدَّم الأكل منها على إطعام الفقير فقال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 28]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ [الحج: 36]، ومن المعلوم أن نقْلَها إلى خارج البلاد يؤدّي إلى عدم الأكل منها فيكون الناقل لها مخالفًا لأمر الله ويكون آثِمًا على قول مَن قال بوجوب الأكل منها من أهل العلم .

وإذا كانت الأضاحي وصايا فإن نقْلها قد يفوت به مصلحة سادسة وهي: مقصود الموصين؛ لأن الموصين لم يكن في بالِهم حين أوصوا بالأضاحي إلا أن تتمتّع ذريتهم وأقاربهم بهذه الأضاحي وأن يباشروا بأنفسهم تنفيذها، ولم يخطر ببالِهم أبدًا أن أضاحيهم ستنقل إلى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة فيكون في نقل أضاحي الوصايا مخالفة لِمَا يظهر من مقصود الموصين، ومع فوات هذه المصالح بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد فإن فيه مفسدة قد تكون كبيرة جدًّا لدى الناظر المتأمّل ألا وهي: أن الناس ينظرون إلى العبادات الماليّة نظرةً اقتصادية محضة أو نظرةً تعبّديّة قاصرة بحيث يشعر أنه استفاد منها مجرّد الإحسان إلى الغير مع أن الفائدة الكبرى من هذه العبادات المالية هي التعبّد لله وابتغاء مرضاته والتقرّب إليه بحيث يشعر الإنسان أنه بهذا الفعل متعبّد لله متقرّب إليه لا مجرّد أنه مُحسن إلى أخيه ونافع له؛ لأن العبادات المالية المتعدّية للغير لها جهتان: جهة تعبّدٍ لله تعالى، وجهة إحسانٍ إلى الغير، والجهة الأولى أعظم وأحق بالمراعاة من الجهة الثانية .

إذنْ: فَنَقْلُ الأضاحي إلى أفغانستان أو إلى غيرها من البلاد المحتاجة تفوت به ست مصالح، يفوت به: إظهار شعيرة الأضحية، ويفوت به: ذبح المضحي أضحيته بنفسه أو حضوره ذبحها، ويفوت به: شعور المضحي بالتعبّد لله بالذبح نفسه، ويفوت به: ذكْر المضحي اسم الله على أضحيته، ويفوت به: الأكل من الأضحية الذي قدّمه الله على إطعام الفقير وقال بعض العلماء بوجوبه، ويفوت به: إن كانت الأضحية وصيّة ما يظهر من مقصود الموصين، وبالإضافة إلى فوات هذه المصالح يحصل به مفسدة نظر الناس إلى العبادات المالية المتعدية للغير نظرةً اقتصادية محضة وهذا بلا شك يُخِلُّ بجانب التعبّد .

فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجل، وألا نُقدم على أمر إلا إذا وزناه بميزان الكتاب والسنّة؛ حتى نكون بذلك على بصيرة من الله وعلى بيّنة وبرهان .

وإني أقول أخيرًا كما قلت أولاً: لا تبذلوا دراهم لتضحّوا في أفغانستان ولا غيرها ولكن ضحّوا في بلادكم وعلى مشهد من أهليكم، ضحّوا لأنفسكم ولأهليكم، أما أفغانستان وغيرها من البلاد الأخرى المحتاجة إلى معونتكم فإني أحثّكم على معونتهم بقدر ما تستطيعون، فالمعونة شيءٌ والعبادات شيءٌ آخر، والأضحية عبادة لا ينبغي للإنسان أن يُخِلَّ بها .

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم مِمَّن يعبد الله على بصيرة، ومِمَّن يدعو إليه على بصيرة .

اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتّباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفّقنا لِمَا تحب وترضى؛ إنك جوادٌ كريم .

12d8c7a34f47c2e9d3==