المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رد الإمام عبد اللطيف قول ابن منصور اختلاف الأمة رحمة


كيف حالك ؟

البلوشي
10-03-2010, 12:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

[ رد الشيخ عبد اللطيف قول ابن منصور اختلاف الأمة رحمة ]

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور مدحه الاختلاف، وزعمه أنه رحمة، وإيجابه صوم يوم الشك:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له; وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فقد وقفت على كلام، كتبه بعض من يدعي العلم، في مسألة اختلاف الأمة، يزعم أنه رحمة، ويشنع على من ذمه; وقال: الرحمة في الجماعة والاتفاق؛ فرأيت له من الكلام في هذه المباحث، ما يوجب للمؤمن المعافى مما ابتلي به هذا، أن يكثر من حمد الله وشكره، ومن سؤال العافية; وأي بلية أعظم من القول على الله بلا علم؟!
وخلوّ الذهن من العلم، وعدم الشعور بشيء منه أخف ضرراً، وأقل خطراً مما ابتلي به هذا الرجل، من تحريف الكلم، والخروج عما عليه أهل العلم، وما يعرفه أهل هذه الصناعة من العدل والإنصاف، ومصاحبة التقوى، فيما يعانونه من الأحكام والفتوى; ومن نظر في كلام هذا من
أهل العلم والبصيرة، وتأمل أبحاثه واستدلاله في الإفتاء وتسطيره، عرف أنه أجنبي من هذه الصناعة، معدم من تلك التجارة والبضاعة.

وقـد يتزيا بالهـدى غيـر أهلـه ويستصحب الإنسان من لا يلائمهْ
لكنه، عافاه الله، يخرج عما عليه أهل التحقيق والعلم، ويظن أنه من ذوي الإصابة والفهم، ويتجاسر على تجهيل مشائخ الإسلام، ويعرض عند ذكرهم بقبيح المنطق والكلام؛ وهذا أعدل شاهد ودليل على أنه لم يتأهل للتوقيع عن الله ورسوله، والتسجيل; وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً. انتهى.
وإنما يلجأ إلى مثل هذا ناقص العلم والدين، إذا أفلس من الأدلة والبراهين، وقد نبهنا هنا على بعض ما في رسالته، مما يتعلق بالعلم وأبحاثه، وأعرضنا عما فيه من الغيبة والبهت، وفضول الكلام، الذي لا يصدر عن العقلاء من العوام.

فصل
فأما مدحه الاختلاف وزعمه أنه رحمة، فالعبارة فيها عموم لا يخفى، وهي متناولة مدح جميع أهل الشقاق والأهواء، الذين تواترت النصوص النبوية بذمهم وعيبهم، ودلت عليه الآيات القرآنية، كقوله تعالى:{ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وقوله:{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} والزبر: الكتب، قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }الآية، وقال تعالى:{ وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ }الآية
وقال تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا }، وقال تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وقال تعالى:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}الآية ونحو هذه الآيات التي فيها إطلاق ذم الاختلاف، وعيب أهله، وخروجهم عما جاءت به الرسل.
وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة " 1، وحديث العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فأقبل علينا، ووعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً مجدعاً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال: "إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب " 2، أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى كأنما في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب، فقال: أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم ".
وقال ابن سيرين: كانوا يقولون: "ما دام على الأثر، فهو
على الطريق "، وعن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من خطبته قال: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها " 1، وزاد في طريق آخر: "وكل بدعة ضلالة " 2، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم؛ وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "، وعنه: "إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحْدِثون ويحدث لكم؛ فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدى الأول ".
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال علي لعبيدة السلماني: "اقضوا ما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف". جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد، وألزمهم القراءة به، عن رأي واتفاق من الصحابة، خشية الاختلاف في القرآن.
فهذه الآيات الكريمات، وهذه الأحاديث النبويات دلت على ذم الاختلاف، وعيبه، وتحريمه، والتشديد فيه، والوعيد عليه بالنار، وبلغت من الشهرة، والتواتر، وقبول أهل العلم لها، واحتجاجهم بها، ما يورث العلم الضروري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها وصدرت عنه؛ وإن زعم هذا المفتي أنه
أراد خصوص أهل السنة والفتوى، فهو لا يعرف لما خرج من بين شفتيه حقيقة، ولا معنى; فإن عبارته صريحة في العموم، والحكم به في مقام البحث والإفتاء مسطور معلوم.
وأهل العلم يبحثون مع المتكلم، ويحكمون بما دل عليه كلامه، من النص والعموم الظاهر، ولا بحث فيما انطوت عليه الضمائر، وأخفته السرائر؛ بل ذلك أمره إلى الله، كما يعرفه ذوو العلم والبصائر; وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " 1؛ وهذا الوجه كاف في إبطال عبارته وردها، لأنه أطلق مدح ما أطلق الله ورسوله ذمه وعيبه، وفي هذا من الخروج عما دلت عليه النصوص، ما لا يخفى على أهل العلم والفتوى.
ويقال أيضاً: لو سلمنا أنه أراد خلاف أهل العلم والفتوى، لا أهل البدع والأهواء، فهو ضال مخطئ في فتواه، لأن ما تقدم من النصوص عام لكل اختلاف وقع في الأصول والفروع؛ والفقيه يعرف بفقهه وفطنته، ما قرره أهل العلم الأصوليون وغيرهم، من اعتبار العمومات القرآنية، والألفاظ النبوية؛ وبعضهم جزم أن العموم نص في الحكم، لكنهم يتكلمون ويبحثون في المخصصات.
وقد أجمعوا على أن لا تخصيص لكتاب الله وسنة رسوله بقول أحد، كائناً من كان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعندهم من الأحكام الثابتة في الأصول والفروع بعمومات النصوص، ما
لا يمكن حصره؛ والفقيه يعرف ذلك في كتب أصول الدين، وكتب فروعه، من كتاب الطهارة إلى آخر العتق والإقرار.
وقد أجمعوا على أنه لا تخصيص بالحديث الضعيف، وأنه لا يصلح أن يكون مخصصاً، ولا ينهض لذلك، لأنه نوع نسخ، والناسخ يشترط فيه المساواة في الحجة والقوة والدلالة؛ بل قال بعض العلماء لا يثبت به حكم شرعي، والقياس أولى منه، لكن أحمد يقول: الحديث الضعيف خير من القياس؛ والضعيف عندهم ما قصرت رتبته عن الصحيح والحسن.
وأما ما احتج به هذا من أن النووي ذكر عن الخطابي قوله: جاء الحديث، أو روى "أن اختلاف أمتي رحمة "، فهذا ليس بحجة بالإجماع؛ فإن على من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أن يصحح ما نسب وما ادعى، ويثبته بطريق تثبت به الأحكام، وإلا فمجرد الدعوى لا يفيد ولا يجدي; ولو فتح هذا الباب وأعطي الناس بدعواهم، لذهبت أحكام هذه الشريعة، وادعى كل مخالف ما ينصر دعواه، وفي الحديث: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " 1.
والخطابي قال: قد روي، ولم يتعرض لتصحيح ولا تضعيف، والنووي عزاه إلى الخطابي وخرج من عهدته؛ فأخذه وتلقيه بالقبول، ومصادمة النصوص له والحالة هذه، طريقة أحمق متهوك، لا يعقل شيئاً في هذا الباب، والأولى به أن يساس بسياسة الدواب.

وقد تكلم الديبع والسيوطي، على هذا الحديث بما يكفي ويشفي، وكشفوا عن وجه الصواب، وكذا السخاوي في المقاصد الحسنة والديبع في تمييز الطيب من الخبيث فيما يجري على ألسنة العوام من الحديث; بل صرح جمع من صيارفة الفن، بأنه لا أصل له؛ وأبو سليمان الخطابي لم يدع الصحة، لكنه جرى على ألسنة قوم عزب عنهم ضبط الحقائق، بل أورد الديبع في مختصر المقاصد، ما حاصله: خرج عبد الله بن أحمد، من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، بإسناد لا بأس به: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب " 1، أورده مستشهداً به على رد الأول؛ فاعرف هذا، ولا تلتفت إلى من لا عناية له ولا دراية بهذه الصنعة.
وقال شيخنا، رحمه الله، - في أثناء كلام له -: وأما قولهم: واختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، قال تعالى:{ وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } لما سمع عمر أن ابن مسعود وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر وقال: "اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفا، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "؛ لكن قد روي عن بعض التابعين أنه قال: "ما أحسب اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة " ،ومراده غير ما نحن فيه، ومع هذا فهو قول مستدرك، لأن الصحابة بأنفسهم ذكروا أن اختلافهم عقوبة وفتنة.
وأما قوله في حديث: "أصحابي كالنجوم ": وروى البيهقي من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، فقد أسقط منه السند؛ وانظر ما النكتة في ذلك، هل هو الجهل أو التدليس؟ ثم قد عارض البيهقي من هو أجل منه باتفاق الأمة، ونص على أنه موضوع كما سيأتي، فأي مزية رجحت حكاية البيهقي وروايته، على غيره ممن هو أجل منه من أئمة النقد والتصحيح. ثم البيهقي بتنبيهه على ضعفه خرج من عهدته وأدى ما عليه، وهو يعلم أن الحديث الضعيف لا تقوم به حجة، ولا تثبت به أحكام شرعية عند المحققين.
وأما أنت فتعرضت لهدم الأصول به، ومخالفة أهل العلم; فإن من أكبر أصولهم وقواعدهم: رد مسائل النّزل إلى الكتاب والسنة، وأن لا يحكم بأنها أهدى إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة، قال تعالى:{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }الآية والشرط يفيد انتفاء العمل إذا انتفى الجواب، وقال تعالى:{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [سورة الشورى آية: 10].
ونص أهل الأصول، وأهل الحديث، على أن قول الصحابي ليس بحجة إذا خالفه من هو مثله؛ والبيهقي وغيره إذا ذكروا الحديث وسكتوا عنه، لا يحكم عليه بالصحة عندهم، ولا بأنه حجة، إلا إذا بينوا ذلك وصححوه، فكيف إذا جزموا بضعفه؛ وهذا الحديث، قد نص الحافظ أبو بكر
ص -82-
البزار، ويوسف بن عبد الله النمري، وابن قيم الجوزية، وأبو محمد ابن حزم، وغيرهم، على أنه موضوع، وسيأتيك كلامهم.
قال ابن القيم، رحمه الله: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، جوابه من وجوه: أحدها: أن الحديث هذا قد روي من طريق الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها؛ قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد، أن أبا عبد الله بن مفرح حدثهم: حدثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزار: وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يوجب تقليد من ورث الجد مع الأخوة ومن أسقط الأخوة به معاً، وتقليد من قال: الحرام يمين ومن قال: هو طلاق، وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه، وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه، وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين ومن قال بوضع الحمل، وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه، وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه، وتقليد من أوجب الغسل من
الإكسال وتقليد من أسقطه، وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم، وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره، وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة ومن لم يره ثلاثاً، وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه، وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منه، وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره، وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره، وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه; وأضعاف أضعاف ذلك، مما اختلف فيه الصحابة.
فإن سوغت هذا، فلا تحتج بقول على قول، ومذهب على مذهب، بل اجعل الرجل مخيراً في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم، واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوغوه، فأنتم أول مبطل لهذا الدليل، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه؛ وهذا مما لا انفكاك لكم عنه; الرابع: أن الاقتداء بهم اتباع القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما، فالاقتداء بهم يحرم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل، كما كان عليه القوم، رضي الله عنهم. انتهى.
ص -84-
وقال: أبو محمد ابن حزم في أثناء كلام له: وحدثت طائفة يكثرون الاعتراض بما روي مسنداً: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وهذا خبر لو صح لكان مبطلاً لكل ما ينصره الحنفيون، والمالكيون، والشافعيون، لأنهم في كل مسألة من مسائل اختلافهم ينصرون قوله، ويبطلون خلافه من أقوال الصحابة، رضي الله عنهم؛ فعلى هذا يبطلون الهدى، وإبطال الهدى ضلال.
ولكن إن حدث من يقول بهذا الخبر ويطرده، ويصوب كل قول روي عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، وإن ضاده غيره عن آخر منهم، فليعلم أولاً أنه خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصح قط؛ وساق بالسند المتقدم إلى البزار، سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة، يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما مثل أصحابي كمثل النجوم، بأيها اقتدوا اهتدوا "، وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه.
قلت: قف على قول البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه، تعرف موافقته لما قررناه قبل.
ثم قال ابن حزم: قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث، ليس بشيء، وقال البخاري هو متروك؛ ورواه أيضاً: حمزة الجزري، وحمزة هذا ساقط هالك متروك؛ قال أبو محمد: بل هو مما يقطع على أنه كذب موضوع، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، اختلفوا، فحرم واحد منهم، وحلل آخر منهم ذلك الشيء الذي حرمه صاحبه، وأوجب بعضهم، وأبطل غيره منهم ما أوجب صاحبه.
فلو كان هذا الخبر صحيحاً، لكانت أحكام الله تعالى متضادة في الدين، مختلفة، حراماً وحلالاً، معاذ الله تعالى، فقد كذب بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} فصح أن الاختلاف ليس إلا من عند غير الله.
وأيضاً، فإنه لا يقدر أحد على اعتقاد تصحيح المتضادات معاً، ولا على القول والعمل بالمختلفات معاً; ونوه بعض فساقهم هاهنا فقال: وجدنا المرأة حلالاً لبعلها حراماً على غيره، وحراماً على بعلها حلالاً لغيره، فما ينكر؛ مثل هذا فتيا فقيه لعمرو، وفتيا فقيه آخر لزيد بمثلها، فقلنا: ينكر ذلك في حكم الله الذي:{ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ، وإنما أنكر أشد النكير من حكم من دونه برأيه بغير نص.
ثم قال أبو محمد: وأيضاً، فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم فتاوى قوم من الصحابة، كأبي السنابل بن بعكك في المتوفى عنها زوجها، وقد قال بعد ذلك بقول أبي السنابل ابن عباس وغيره، وأبطل قول من قال: حبط عمل عامر بن الأكوع; وقد أجمعت الأمة على أنه قد كان من بعض الصحابة، رضي الله عنهم، أشياء مغفورة لهم: فقد رجم ماعز والغامدية، وهما والله من أهل الجنة. وقال مسطح ما قال، وهو بدري مقطوع له بالجنة، ولو أن امرأ يقول بذلك اليوم لكان كافراً؛ وقد جلد قدامة بن مظعون في الخمر، وهو بدري من أهل الجنة، أفيحل الأخذ بقول من اقتدى بشيء من هذه الأمور بهؤلاء المتقدمين فهو مهتد؟ حاشا لله، بل يكون من قال ذلك في بعضه كافراً، وفي بعضه فاسقاً، بخلاف الفضلاء المغفور لهم بعض ذلك، أو كله، الذين فازوا، ولو تصدق من بعدهم بمثل جبل أحد من ذهب، لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أحدهم.
وفي صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة، أو خمس، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، وقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون؟ ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته، ثم أحل كما أحلوا " 1، قال أبو
محمد، رحمه الله: فنعوذ بالله من شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان من أولئك ففاضل مغفور له؛ ومن كان يتهم ويخطئ فلا يجوز أن يؤخذ من قوله وعمله، إلا من شهد له بالصحة، من لا يتهم في الشريعة، ولا يخطئ ولا يجوز فيها، وهو القرآن والسنة.
وأيضاً، فإن من حرم من الصحابة شيئاً فقد خطأ من حلله، ومن حلله فقد خطأ من حرمه، ومن أوجب منهم شيئاً فقد خطأ من لم يوجبه، ومن لم يوجبه فقد خطأ من أوجبه؛ هذا موجود نصاً حتى إن ابن عباس، رضي الله عنهما دعا إلى المباهلة باللعنة عند الحجر الأسود لمن خالفه. فلو كان ما قالوه في الفتيا، أو فيما يتعلق بها صواباً، وقد خطأ بعضهم بعضاً، لكان كلهم مخطئاً، لأن المخطئ لصاحبه منهم مصيب عند هذا؛ وأطال الكلام، رحمه الله، وفيما ذكرناه عنه كفاية.
وأما دعوى هذا المفتي: أن عثمان بن سعيد الدارمي ذكره في كتاب الرد على الجهمية، فأول الحديث وما فيه من الرد على الجهمية شاهد له، وقصده منه وجوب متابعة الإجما؛، ومثل هذا يذكر في المتابعات والشواهد، ويتسامحون فيه لأن الاعتماد على غيره، وأما قول: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فالجملة ليست من مراد الدارمي، ولا فيها ما يقصده من الرد، فإن الحجة في قول
الصحابي إذا لم يخالفه غيره؛ وينبغي النظر في كلام الدارمي وسياقه حتى يظهر مراده; ثم الاحتجاج بالحديث نوع، والحكم عليه بالصحة نوع آخر، يعرف من فن المصطلح، ولا ينبغي أن يتكلم في هذا من لا يدري اصطلاحهم.
وأما قوله: إن عمر بن عبد العزيز، قال: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "، فالاحتجاج بهذا على مدح الخلاف، وتصويب المختلفين، من أعجب الأشياء عند من استصحب أصول الكتاب والسنة، وعرف ما في الاختلاف والافتراق من المفاسد؛ وأهل العلم لهم من الأعذار إذا اجتهدوا، ما لا يخفى على طالب العلم، وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه رفع الملام ما فيه كفاية لمن وفقه الله.
وإنما الشأن فيمن مدح الاختلاف، وجعله من الدين الذي أمر الله به ورسوله، وقول عمر يريد به، رحمه الله: أن اختلافهم من أدلة الرخصة في الاجتهاد، وطلب الحق من مظانه ومعدنه؛ فمن أتى بعدهم ورزق فهماً في كتاب الله وسنة رسوله، فلا عليه أن يأخذ بذلك، ويدع التقليد، لأن الصحابة مضوا على ذلك وسنوه لمن بعدهم، ويشهد له قول علي رضي الله عنه لمن سأله، هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: "لا، والذي برأ النسمة، وفلق الحبة؛ ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهماً يؤتيه الله
من يشاء "، وكان في الصحيفة: العقل، وفك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
والمقصود: أن الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أجلّ النعم وأشرفها، وهو مراد عمر؛ ويشهد لهذا قول عمر نفسه: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وإنما يعرف هذه النعمة ويشكرها، أهل العلم بالله ودينه وشرعه، الذين يستنبطون الأحكام، ويستخرجونها من نصوص الكتاب والسنة. وفي المثل السائر: كم ترك الأول للآخر، ومائدة الله مبسوطة لعباده المؤمنين، ليست ممنوعة ولا محظورة، ولا يزال يهب من العلوم والفهوم، ما لم يخطر على بال كثير من أهل الدعاوي والرسوم، قال تعالى:{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }، فهو سبحانه يرفع درجة عبده بالفهم والعلم، ومصدر ذلك عن حكمته وعلمه.
اللهم إنا نتوسل إليك بما توسل به عبادك الصالحون، وأولياؤك المقربون، أن تجعل لنا من الفهم عنك، وعن رسولك ما نبلغ به منازل الصديقين، ونحشر به في زمرة العلماء العاملين، ونكتب به في ديوان السلف الصالحين. وما أحسن ما قيل:

لكـل بني الدنيا مـراد ومقصد وإن مرادي صحـة وفـراغُ
لأبلغ فـي علم الشريعـة مبلغـاً يكون به لي فـي الجنان بلاغُ

وبنحوه ما قلناه في كلام عمر، يقال في قول القاسم بن محمد، إن صح عنه؛ وأما قول الليث بن سعد: أهل العلم أهل توسعة، فليس معناه أنهم يأخذون بكل قول، من غير نظر للتحقيق والتأصيل، بل المراد: أنهم يراعون قاعدة اليسر، ورفع الحرج، قال تعالى:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، فيسقط الوجوب للعجز؛ وقد يسقط بالجهل والنسيان، بل وبالمشقة في بعض الصور، ويباح المحظور لمقتضٍ راجح. وليس المقصود أنهم يأخذون بالرخص، ويتبعون مسائل الخلاف؛ قال بعضهم: من تتبع الرخص تزندق. وقد أنكر الليث، رحمه الله، على الإمام مالك مسائل معروفة، ورسالته إليه حكاها العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين.
ثم المقرر في كتب الأصول والفقه: أن لا حجة في مسائل النّزاع، إلا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس قد قيل فيه ما قيل; هذا هو المقرر عند أهل العلم سلفاً وخلفاً، ثم جاء في هذه الأوقات من يحتج بكل قول رآه، ويمكن كل أحد أن يورد مثل هذه الأقوال، فإن كانت حجة في محل النـزاع، تعذر إقامة الدليل والبرهان على كل مخالف ومنازع.
وأما قوله: قال: شرف الدين البوصيري، فذكر هذا اللقب هنا ظاهر في مراغمة عباد الله الموحدين المؤمنين، الذين أنكروا قوله في منظومته المشهورة:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك.................
الأبيات
وقد عرف وعهد هذا وأمثاله عن الرجل، ونقل عنه ما هو أبلغ وأشد من هذا، وإلى الله تصير الأمور، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر،:{ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ونسأل الله أن يمن علينا وعلى هذا الرجل بتوبة نصوح، تمحو ما كان قبل ذلك.
وقد رأيت لهذا فيما كتبه على كتاب التوحيد، نقلاً عن تفسير قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وأن العبادة هي: موافقة القدر والقضاء وجريانهما على العبد، وأن ابن عباس قال: كفر الكافر تسبيح؛ فنعوذ بالله من الخذلان. ثم أي حجة في قول البوصيري، لو كان هذا يعقل، وقد مضت القرون المفضلة والتي بعدها إلى القرن السادس، ولم يعرف هذا عندهم، بل يختارون للقضاء غالباً، من له معرفة بالكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، ومعرفة لغة العرب وعلوم الآلة.
وأما جعل أربعة قضاة من أتباع الأئمة الأربعة، فهذا محدث؛ ونص أحمد على أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، عارفاً بالكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ فما مدحه البوصيري من نصب المقلدين خلاف ما عليه أهل العلم، من اشتراط الاجتهاد في القاضي. وسيأتيك عن هذا ما نقل عن الإمام أحمد وغيره، أنه لا يفتي إلا العالم بأقوال العلماء؛ وهذا مدح المقلدين، وجعل مدح البوصيري
حجة على ذلك، وزعم أنهم هم أركان الشريعة وطبائعها، فناقض أول الورقة آخرها، شعراً:

حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكـل كاسـر مكسـورُ
وأما احتجاجه بقول النووي: العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب؛ قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه.
فيقال في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي، بل تصرفت فيها، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة، لأنه عليك، مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض؛ قال النووي - بعد ما تقدم -: لكن إن أريد به على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق؛ فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة، أو وقوع في خلاف آخر، ثم ذكر كلام الماوردي فيمن تولى الحسبة، وذكر الخلاف في حمله الناس على مذهب غيره، ثم قال: ولذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي، أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصاً، أو إجماعاً أو قياساً جلياً، والله أعلم؛ هذا كلام النووي.
فقد استبان لك أن مراده: إذا لم يظهر دليل، ولم

يترجح جانب الإنكار، بكتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس جلي؛ والأمانة في نقل العلم مشترطة، والخيانة فيه أعظم من الخيانة في المال ونحوه، ثم هو احتجاج بما لا يجدي، ولا يثبت به حكم شرعي، فإن الأحكام تؤخذ عن الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
وأما أقوال الآحاد من العلماء، فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي، وما زال أهل العلم يردون على من هو أجل منه؛ قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: "أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء، ". وقال عمر رضي الله عنه: "أيها الناس، ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وثقلت عليهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيراً "؛ وهذا ظاهر.
وإن كان قوله هو أو مثله حجة عند هذا المفتي، عارضناه بمن هو أجل منه، وأعلم بشهادة أهل العلم، فإن أقوال أهل العلم تذكر وتورد في المعارضات والالتباس، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله؛ وقد ثبت عن الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، من الإنكار في مسائل الخلاف والتعزير على ذلك ما يعز حصره، فإن القوم قصدوا
تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف مع سنته، ولم يلتفتوا إلى خلاف أحد؛ بل أنكروا على من خالف السنة، كائناً من كان، كما أنكروا على من منع التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر، وعلى من أباح وطء المرتدة بملك اليمين، وعلى من حرق الغالية، مع أن القائلين بهذه الأقوال هم أفضل الأمة وخيرها، ولا يدانيهم من بعدهم في علم ولا غيره.
وهذه العبارة فاسدة من جهة قوله: كل مجتهد مصيب؛ وقد رد هذا غير واحد من المحققين، وفي كتب الأصول من بيان فساده ما لا يخفى على طالب العلم؛ وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في بعض كتبه، فإن أراد قائل هذا، رفع الإثم والحرج عمن اجتهد، وأن هذا معنى الإصابة، فهذا له وجه، لكن ليس الكلام في كون المجتهد مصيباً للحكم الشرعي، أو مخطئاً له، فقول النووي: هذا هو المختار عند المحققين أو أكثرهم، خلاف التحقيق؛ بل المحققون على خلاف ما قال.
ومن هذا الباب، نقل هذا المفتي عن صاحب كتاب الحجة على تارك المحجة، ونقله عن البيهقي، والحسن الحلبي، والقاضي حسين، وإمام الحرمين، فهؤلاء ليسوا بحجة، وليسوا من أصحاب الوجوه في مذاهبهم؛ فسرد هذا العدد لا يجدي شيئاً، وكون هؤلاء ذكروا أن اختلاف الأمة رحمة، لا يفيد صحته، وقد تقدم ذكر الحديث، ومجرد روايته ليس بحجة، والحجة في تصحيحه، وهؤلاء ليسوا من
أئمة النقد والتصحيح، كالبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمسانيد الثمانية، وكيحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأمثالهم.
وقد انتقد على الجويني في مسائل الصفات وغيرها من أصول الدين، ما يعرفه أهل العلم بأقوال الناس ومذاهبهم، فإن كان قوله هو وأمثاله حجة، لزم ترك ما عليه الإمام أحمد، وما عليه السلف والأئمة، في كثير من مسائل توحيد الصفات؛ بل قد انتقدوا على البيهقي ما يعرفه أهل المعرفة بهذا الشأن. وبالجملة، كل ما ذكر هذا من أدلته، لا يفيده شيئاً عند النقد، وإنما هو مجرد بهرج وحكاية; وأما قوله في حديث: "أصحابي كالنجوم... إلخ ": إن البيهقي قد أسنده في المدخل، فهذا تكرير منه، وإلا فهو بعينه ما تقدم.
وأما قوله: قد صنف أحد أعيان الشافعية كتابا سماه: "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، فالاستدلال بهذا عجيب جداً، وصاحب هذا الكتاب رجل من أهل حلب متأخر، ليس من أعيان الشافعية، واسمه: محمد بن عبد الرحمن بن الحسين، قاضي صفد، وإنما قصد المفتي البهرجة والترويج، في نسبة هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن المصنف قصد بهذه التسمية نفس الاطلاع على الاختلاف، والفرق بينهما ظاهر.
وأما استدلاله بقوله تعالى:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ أن العلماء يذكرون الخلاف، فهو يشير بهذا إلى أن الآية تدل على جواز الأخذ بكل قول من أقوال العلماء، وأن هذا هو رفع الحرج، ومن نسب هذا إلى كتاب الله، وجعله دالاً عليه، فقد قال على الله ما لا يعلمه، وخالف ما أجمع عليه المفسرون وأهل العلم في هذه الآية; وحكاية هذا عنه تكفي في رده، وأنه ممن يقول على الله وكتابه ورسوله بغير علم ولا برهان. وأما تشنيعه بعد ذلك على خصمه، ونسبته إلى الجهل، فهذا عليه لا له؛ وباب الدعوى واسع، أوسع من المشرق إلى المغرب، يسلكه كل أحد، عاقلاً أو سفيهاً، محقاً أو مبطلاً، عالماً أو جاهلاً.
وأما قوله تعالى:{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ }الآية فهذه الآية حجة عليه؛ فإن الله خص سليمان بالإفهام، فبطل قوله: كل مجتهد مصيب، لأن هذه من حجج أهل العلم على أن المصيب واحد، وهي أيضاً حجة في ترك التقليد، وحجة في نقض حكم الحاكم إذا لم يوافق، وهذا أبلغ من مجرد الإنكار؛ وقد ترجم النسائي بهذا، فقال: باب نقض حكم الحاكم إذا لم يطابق; وهذا هو معنى قول الحسن: لولا هذه الآية ما اجترأ أحد منا على الفتيا؛ وقد استدل هذا بقول الحسن على أن الاختلاف رحمة، وهو يدل على خلافه.

وأما قول الإمام أحمد: الذي يفتي الناس يتقلد أمراً عظيماً... إلخ، فهذا المفتي ينقل من أقوال العلماء ما هو عليه لا له، وما يهدم أصله ويرد قوله، وهو لا يشعر؛ وهذا من نصر الله للحق، وإظهاره على لسان من يجادل فيه ويماحل. فقول الإمام أحمد يرد على من قال: الاختلاف رحمة، لا يتجه إلا على القول بأن الاختلاف نقمة لا رحمة، فحينئذ يخاف على المفتي، ويتقلد أمراً عظيماً؛ هذا وجه التعظيم والتحذير في كلام أحمد، ويشهد له قوله: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدمه، وإلا فلا يفتي; يريد أن العلم بأقوال العلماء سبب للإصابة، ومعرفة الحق في نفس الأمر، وليس المقصود أنه يأخذ بكل قول ويفتي به، فيكون اختلافهم رحمة كما زعمه هذا. وكذلك فيه رد لقول من قال: كل مجتهد مصيب، لأنه إذا اجتهد فلا محذور عليه، فلا يتجه قوله: يتقلد أمراً عظيماً، يدل عليه قوله بعده: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ; وكلام الإمام من جنس واحد في ذم الخطإ والاختلاف، ولو كان الاختلاف ممدوحاً ورحمة لم يكن لهذا الخوف معنى.
وهذا المفتي دائماً يضع كلام أهل العلم في غير موضعه، ويزيل بهجته وطلاوته; وأعجب من هذا: أنه حكى عبارة الفروع، وهي قوله: وليس لحاكم أو غيره أن يبتدي الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ، وإلزامهم برأيه اتفاقاً، فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف؛
فقف على هذا وانظر هذه العبارة، وطابق بينها وبين ما يدعيه هذا من مدح الاختلاف وأنه رحمة، وانظر ما بينهما من التباين والتخالف؛ من ذلك أنه منع الحكام كالمفاتي ونحوهم من إلزام بمذاهبهم السائغة، وفي هذا أن قوله الذي منع من الإلزام به ليس برحمة، بل ولا يحكم عليه بأنه صواب، وإلا فما المانع من إلزام الناس بالرحمة والصواب؟ وفيه أن المنهي عنه الإلزام بترك ما يسوغ، ومن خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً، فقوله غير سائغ، فيلزم بترك ما لا يسوغ ويتعين عليه ذلك، وعند هذا المفتي: أن كل الاختلاف رحمة فلا إنكار فيه.
وقوله: فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف، يقال للمفتي أنقذه الله من أوحاله: متى كان التفرق والاختلاف عندك مذموماً، حتى تورد هذه العبارة؟! فإن مذهبك إلى أن التفرق والاختلاف رحمة، وهذا نص في ذمه وأنه ليس برحمة، ولذلك نهى عنه؛ فينبغي للرجل إن فاته العلم أن يتعقل ما يقول، أو يدع الناس من شره.
وكذلك ما نقله أبو الحارث عن الإمام أحمد من أنه لا يجوز الاختيار، إلا لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، يقال في جوابه: فأين اختلاف العلماء الذي هو رحمة؟ أما أفادت الرحمة جواز الاختيار؟ هذا أقل أحوال الرحمة، فكيف حصر الإمام أحمد الجواز لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، والاختلاف الذي هو رحمة قد شاع وذاع، وملأ البقاع؟! قد
ضيق الإمام أحمد على زعمك واسعاً يا أخا العرب; ويعجبني قول ربيعة بن عبد الرحمن: إن بعض من يفتي ببلدنا أحق بالحبس من اللصوص، وإذا فشا الجهل وعهد لم تنكره قلوب الأكثرين؛ فسبحان من منع وحجب من شاء من عباده أن يصيب الحق أو يعرفه، في كل قولة أوردها، أو نكتة بحثها.
وأما قوله: وما ذكرناه هو الذي أوجب قول العلماء، لا إنكار في مسائل الاختلاف، فبهذا صح أن اختلاف الصحابة رحمة، وكذلك الأئمة، لأن اختلافهم تابع لاختلاف الصحابة. انتهى. فهذا الكلام كلام واه ساقط، هجنته تكفي عن جوابه، ولا يقوله من شم رائحة العلم وعرف شيئاً مما هنالك. فأما زعمه أن العلماء قالوا: لا إنكار في مسائل الاختلاف، فالحكاية غير صحيحة، والمعنى فاسد: أما عدم الصحة، فالمعروف عن بعضهم قوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولم يقل مسائل الاختلاف؛ فالنقل غير صحيح، وفي عبارته أنه أضاف القول بذلك إلى العلماء، وهذا مفرد مضاف، فيعم جميع العلماء، والجمهور على إنكار هذا، فكيف ينسب إليهم؟ سبحان الله ما أحسن الحياء!
ثم اعلم: أن المحققين منعوا من قول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأوردوا عن الصحابة فمن بعدهم من الأئمة وعلماء الأمة من الإنكار ما لم يمكن حصره؛ قال شيخ الإسلام أبو العباس، رحمه الله: قولهم: مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى
القول بالحكم، أو العمل. أما الأول، فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعاً قديماً، وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه منكر بمعنى ضعفه، عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء; وأما العمل، إذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضاً، بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً، أو مقلداً. انتهى.
وقال في الفروع: وفي كلام الإمام أحمد وبعض الأصحاب، ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها، وإلا فلا; وللشافعية أيضاً خلاف، ولهم وجهان في الإنكار على من كشف عن فخذيه؛ قال ابن هبيرة في قول حذيفة، وقد رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده: "ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم "، فيه: أن إنكار المنكر في مثل هذا يغلظ له لفظ الإنكار؛ قال في حاشية الإقناع:، قال الشيخ في قولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي: المسائل التي ليس فيها دليل بحسب العمل به، وجوباً ظاهراً، مثل حديث لا معارض له من جنسه... إلى آخر عبارته.
وقول هذا المفتي: فبهذا صح أن اختلاف الصحابة،
رضي الله عنهم، رحمة، وكذا الأمة... إلخ، فالمقدمة باطلة، والتأصيل فاسد، والتفريع عليه أبطل وأفسد، وجميع ما تقدم لا يدل على هذه الدعوى; وقولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لم يعرف هذا غوره ومغزاه، وأن المراد منه: أن لا يقال على الله وعلى رسوله وعلى كتابه إلا الحق، قال تعالى:{ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [سورة الأعراف آية: 169]؛ وإذا لم يكن للمنكر مستند سوى رأيه واجتهاده، فلا يسوغ له الإنكار، لأنه لا يجب على غيره المصير إليه والأخذ به، بخلاف الكتاب والسنة والإجماع؛ هذا مرادهم، وهذا لا ينتج ولا يصحح أن اختلاف الصحابة والأمة رحمة.
وقوله: وكذا الأمة، يدخل فيه كل خلاف في الأصول والفروع، حتى من أفتى بجهل، وقال على الله ما لا يعلم؛ كل هذا رحمة على رأي هذا المفتي، وقد قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [سورة الأعراف آية: 33]، فجعل القول عليه تعالى بغير علم في الدرجة العليا، فإن في الآية الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فهو أكبر من الشرك؛ وهذا يقول: وكذا اختلاف الأمة.
وأيضاً، فهذه العبارة تأتي على جميع ما نقل عن الإمام

أحمد، وعن النووي وغيره، بالهدم والإبطال، كما تقدمت الإشارة إليه؛ فكيف ينقل عن أحمد أنه لا يفتي إلا العالم، وقد صوب كل مفت، وجعل خلافه رحمة؟
وأما قوله: فبهذا يتضح خطأ هذا المتكلم الجاهل... إلى آخر العبارة، بما فيها من التعريف بمن نقل خصمه كلامهم، فهذا الرجل مولع بمسبة أهل العلم، وعيبهم وتجهيلهم؛ ومن عادة أهل البدع إذا أفلسوا من الحجة، وضاقت عليهم السبل، تروحوا إلى عيب أهل السنة وذمهم، ومدح أنفسهم؛ والواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ }الآية وهذا الرجل يحمل خشبته منذ سنين، ولا يجد من يصلبه، وأهل السنة والحديث في كل مكان وزمان، هم محنة أهل الأرض، يمتاز أهل السنة والجماعة بمحبتهم، والثناء عليهم، ويعرف أهل البدع والاختلاف، بعيبهم وشنايتهم، وما أحسن ما قيل في إمام السنة، شعراً:

أضحى ابن حنبل محنـة مأمومة وبحب أحمد يعـرف المتنسـكُ
وإذا رأيت لأحمد متنقّصــاً فاعـلم بأن ستوره ستهـتّـكُ
وما ذكره عن المناوي: أن شرط الإنكار أن يكون مجمعاً عليه، فمنقوض بما صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتابعين وتابعيهم، في كل مصر وعصر، وما تقدم عن النووي وغيره، يرد هذا ويبطله، وأدلة إبطاله أكثر من أن تحصر. ونحيل طالب العلم، شريف النفس والهمة، على ما نجده من كلام أهل العلم والدين، وهو قريب المأخذ، سهل التناول؛ وفي النفس من هذا شيء، فإن صح، فالجواب ما تقدم من كلام النووي وغيره، من أن المخالف للكتاب والسنة ينكر عليه، وهل كلام النووي على هذا يتعين إحساناً للظن به؟
ثم إطلاق هذا، وأخذه على عمومه، فيه من تعطيل ما أمر الله به ورسوله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يخفى؛ بل هو سد لهذا الباب، وهدم لهذا الأصل، بل إطلاق هذا فيه تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم، وفيه تخطئة الإمام، لأنه أنكر كثيراً من مسائل الخلاف التي لم يجمع عليها، بل أنكر بعض الأقوال التي قال بها من قال من الصحابة؛ ومن لم يعرف معنى الكلام، وما يترتب عليه من الأحكام، فالسكوت حسبه. ثم ذكر عن ابن حجر، وابن فرج الأندلسي، من هذا النوع ما لا يفيد شيئاً، ثم زعم أن أصحاب الإمام أحمد نصوا على أنه لا إنكار في مسائل الاختلاف، وتقدم ما فيه، وأن بعضهم قال: مسائل الاجتهاد، لا مسائل الخلاف، وفرق بين العبارتين، وما أحسن ما قيل شعراً:

وليـس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظـرِ
ثم استدل بقول صاحب الفروع: وتصح الصلاة خلف من خالف في فروع، ولا أدري ما وجه الاستدلال إن كان يظن أن الصلاة خلف المخالف تقتضي مدح الخلاف، وتصويب من ذهب إليه، فهذا الظن لا يصدر من سليم العقل، فضلاً عن طالب العلم. وما ذكره عن حمزة الجزري، تقدم ما فيه، مع أن المراد إذا لم يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، وهذا مراد من أطلق؛ وعبارة هذا الرجل ودعواه، أعم من هذا، فالدليل أخص من المدعى، ولا ينهض للاستدلال إلا عكس هذا، بأن يكون الدليل أعم من المدعى.
وقول عمر بن عبد العزيز تقدم جوابه، لكن هذا المفتي زاد هنا بقوله: ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحدهم أخذ بالسنة، فإن هذا من لبس هذا الرجل لا من كلام عمر، فإنه أجل من أن يقول هذا، ولم ينقله أحد فيما علمنا، والمحفوظ عنه قوله: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا؛ والمفتي عافاه الله وجد كتباً، وهجم على ما فيها من غير نظر وأهلية للتحقيق والتأصيل، ولهذا ينقل أقوالاً متضادة يرد بعضها بعضاً؛ وقد رغب عمر عن كثير من الأقوال أن يأخذ بها، لرجحان الدليل، كما يعرفه من عرف شيئا من سيرته وعلمه. 1
-----------------------------
1 انتهى ما يناسب هذا الرد في هذا المقام، ويأتي باقيه إن شاء الله تعالى في الجزء الخامس من كتاب الصيام صفحة 287 .
الدرر السنية في الأجوبة النجدية
مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام
جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله (1312-1392 هـ)

12d8c7a34f47c2e9d3==