المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسالة في الرد على ابن عربي في دعواه إيمان فرعون لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله


كيف حالك ؟

عبد الرحمن .
08-03-2010, 08:47 AM
رِسَالَة فِي الرَّد على ابْن عَرَبِيّ(ت638) فِي دَعْوَى إِيمَان فِرْعَوْن
هَذَا سُؤال أجَاب عَنهُ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الأوحد، شيخ الْإِسْلَام، تَقِيّ الدَّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي (المتوفى سنة728هـ) رحمه الله تعالى.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه التَّوْفِيق
الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم.
نَص السُّؤَال:
مَا تَقول السَّادة الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي قَول فِرْعَوْن عِنْد الْغَرق: {آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين} [سُورَة يُونُس: 90] هَل فِيهِ دَلِيل على إيمَانه وإسلامه؟ أَو هَل يُوجد فِي الْقُرْآن أَو السّنة أَو الْقيَاس دَلِيل على إيمَانه أَو إِسْلَامه؟ وَمَا يجب على من يَقُول: إِنَّه مَاتَ مُؤمنا، وَالْحَالة هَذِه؟
{الْجَواب}
الْحَمد لله.
فِرْعَوْن من أعظم الْخلق كفرا:
كفر فِرْعَوْن، وَمَوته كَافِرًا، وَكَونه من أهل النَّار هُوَ مِمَّا علم بالاضطرار من دين الْمُسلمين، بل وَمن دين الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن أهل الْملَل الثَّلَاثَة متفقون على أَنه من أعظم الْخلق كفرا، وَلِهَذَا لم يذكر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن قصَّة كَافِر كَمَا ذكر قصَّته فِي بسطها وتثنيتها، وَلَا ذكر عَن كَافِر من الْكفْر أعظم مِمَّا ذكر من كفره واجترائه وَكَونه أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُسلمُونَ متفقين على أَن من توقف فِي كفره وَكَونه من أهل النَّار فَإِنَّهُ يجب أَن يُسْتَتَاب، فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل كَافِرًا مُرْتَدا، فضلا عَمَّن يَقُول إِنَّه مَاتَ مُؤمنا.
لَا يُصَرح بِمَوْتِهِ مُؤمنا إِلَّا من فِيهِ نفاق وزندقة كالاتحادية:
وَالشَّكّ فِي كفره أَو نَفْيه أعظم مِنْهُ فِي كفر أبي لَهب وَنَحْوه، وَأعظم من ذَلِك فِي أبي جهل وَعقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث وَنَحْوهم مِمَّن تَوَاتر كفرهم وَلم يذكر باسمه فِي الْقُرْآن، وَإِنَّمَا ذكر مَا ذكر من أَعْمَالهم، وَلِهَذَا لم يظْهر عَن أحد بالتصريح بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤمنا إِلَّا عَمَّن فِيهِ من النِّفَاق والزندقة أَو التَّقْلِيد للزنادقة وَالْمُنَافِقِينَ مَا هُوَ أعظم من ذَلِك، كالإتحادية الَّذين يَقُولُونَ: إِن وجود الْخَالِق هُوَ وجود الْخلق، حَتَّى يصرحون بِأَن يَغُوث ويعوق ونسرا وَغَيرهَا من الْأَصْنَام هِيَ وجودهَا وجود الله، وَأَنَّهَا عبدت بِحَق، وَكَذَلِكَ الْعجل عبد بِحَق، وَأَن مُوسَى أنكر على هَارُون من نَهْيه عَن عبَادَة الْعجل، وَأَن فِرْعَوْن كَانَ صَادِقا فِي قَوْله: أَنا ربكُم الْأَعْلَى، وَأَنه عين الْحق، وَأَن العَبْد إِذا دَعَا الله تَعَالَى فعين الدَّاعِي عين الْمُجيب، وَأَن الْعَالم هويته، لَيْسَ وَرَاء الْعَالم وجود أصلا.
وَمَعْلُوم أَن هَذَا بِعَيْنِه هُوَ حَقِيقَة قَول فِرْعَوْن الَّذِي قَالَ: {يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب * أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا} [سُورَة غَافِر: 35] -36].
وَلَقَد خاطبت بعض الْفُضَلَاء مرّة بِحَقِيقَة مَذْهَبهم، وَأَنه حَقِيقَة قَول فِرْعَوْن فَذكر لي رَئِيس من رُؤَسَائِهِمْ أَنه لما دَعَاهُ إِلَى هَذَا القَوْل وَبَينه قَالَ: قلت لَهُ: هَذَا قَول فِرْعَوْن. فَقَالَ لَهُ: وَنحن على قَول فِرْعَوْن؛ وَمَا كنت أَظن أَنهم يقرونَ أَو يعترفون بِأَنَّهُم على قَول فِرْعَوْن. قَالَ: إِنَّمَا قلت ذَلِك اسْتِدْلَالا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِك، قلت لَهُ: مَعَ إِقْرَار الْخصم لَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة.
تَفْضِيل الاتحادية الْوَلِيّ على النَّبِي وَالرَّسُول:
وهم مَعَ هَذَا الْكفْر والتعطيل الَّذِي هُوَ شَرّ من قَول الْيَهُود وَالنَّصَارَى، يدعونَ أَن هَذَا الْعلم لَيْسَ إِلَّا لخاتم الرُّسُل وَخَاتم الْأَوْلِيَاء الَّذِي يَدعُونَهُ، وَأَن خَاتم الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا يرى هَذَا الْعلم من مشكاة خَاتم الْأَوْلِيَاء، وَأَن خَاتم الْأَوْلِيَاء يَأْخُذ من الْمَعْدن الَّذِي يَأْخُذ مِنْهُ الْملك الَّذِي يُوحى بِهِ إِلَى خَاتم الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ فِي الشَّرْع مَعَ مُوَافَقَته لَهُ فِي الظَّاهِر مشكاة لَهُ فِي الْبَاطِن، وَلَا يحْتَاج أَن يكون مُتبعا للرسول لَا فِي الظَّاهِر وَلَا فِي الْبَاطِن.
وَهَذَا -مَعَ أَنه من أقبح الْكفْر وأخبثه- فَهُوَ من أفسد الْأَشْيَاء فِي الْعقل، كَمَا يُقَال لمن قَالَ: "فَخر عَلَيْهِم السّقف من تَحْتهم": لَا عقل وَلَا قُرْآن؛ لِأَن الخرور لَا يكون من أَسْفَل، وَكَذَلِكَ الاستفادة، إِنَّمَا يَسْتَفِيد الْمُتَأَخر من الْمُتَقَدّم.
ثمَّ خَاتم الْأَوْلِيَاء الَّذين يَدعُونَهُمْ، ضلالهم فِيهِ من وُجُوه، حَيْثُ ظنُّوا أَن للأولياء خَاتمًا، وَأَن يكون أفضلهم قِيَاسا على خَاتم الْأَنْبِيَاء، وَلم يعلمُوا أَن أفضل الْأَوْلِيَاء من هَذِه الْأمة أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، وهم السالفون من الْأَوْلِيَاء لَا الْآخرُونَ، إِذْ فضل الْأَوْلِيَاء على قدر اتباعهم للأنبياء واستفادتهم مِنْهُم علما وَعَملا.
وَهَؤُلَاء الْمَلَاحِدَة يدعونَ أَن الْوَلِيّ يَأْخُذ من الله بِلَا وَاسِطَة، وَالنَّبِيّ يَأْخُذ بِوَاسِطَة، وَهَذَا جهل مِنْهُم، فَإِن الْوَلِيّ عَلَيْهِ أَن يتبع النَّبِي، ويعرض كل مَا لَهُ من محادثة وإلهام على مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي، فَإِن وَافقه وَإِلَّا رده، إِذْ لَيْسَ هُوَ بمعصوم فِيمَا يقْضِي لَهُ.
وَقد يلبسُونَ على بعض النَّاس بدعواهم أَن ولَايَة النَّبِي أفضل من نبوته، وَهَذَا مَعَ أَنه ضلال فَلَيْسَ هُوَ مقصودهم، فهم مَعَ ضلالهم فِيمَا ظنوه من خَاتم الْأَوْلِيَاء ومرتبته يَخْتَلِفُونَ فِي عينه بِحَسب الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس، لتنازعهم فِي تعْيين القطب الْفَرد الْغَوْث الْجَامِع، وَنَحْو ذَلِك من الْمَرَاتِب الَّتِي يدعونها، وَهِي مَعْلُومَة الْبطلَان بِالشَّرْعِ وَالْعقل. ثمَّ يتنازعون فِي عين الْمَوْصُوف بهَا، وَهَذَا بَاب وَاسع.
وَالْمَقْصُود هُنَا أَن هَؤُلَاءِ الاتحادية من أَتبَاع صَاحب "فصوص الحكم" وَصَاحب "الفتوحات المكية" وَنَحْوهم، هم الَّذين يعظمون فِرْعَوْن، وَيدعونَ أَنه مَاتَ مُؤمنا، وَأَن تغريقه كَانَ بِمَنْزِلَة غسل الْكَافِر إِذا أسلم، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يدل على كفره، ويحتجون على إيمَانه بقوله: {حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين} [سُورَة يُونُس: 90].
بطلَان حجتهم على إِيمَان فِرْعَوْن:
وَتَمام الْقِصَّة تبين ضلالهم، فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين} [سُورَة يُونُس: 91]، وَهَذَا اسْتِفْهَام إِنْكَار وذم، وَلَو كَانَ إيمَانه صَحِيحا مَقْبُولًا لما قيل لَهُ ذَلِك.
وَقد قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: {رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} [سُورَة يُونُس: 88]. قَالَ الله تَعَالَى: {قد أجيبت دعوتكما} [سُورَة يُونُس: 89]، فَاسْتَجَاب الله دَعْوَة مُوسَى وَهَارُون، فَإِن مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُون يؤمّن أَن فِرْعَوْن وملأه لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم.
وَقد قَالَ تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون * فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين * فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ} [سُورَة غَافِر: 82] - 85]، فَأخْبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن الْكفَّار لم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم حِين رَأَوْا الْبَأْس، وَأخْبر أَن هَذِه سنته الَّتِي قد خلت فِي عباده، ليبين أَن هَذِه عَادَته سُبْحَانَهُ فِي الْمُسْتَقْدِمِينَ والمستأخرين، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار} [سُورَة النِّسَاء: 18].
ثمَّ إِنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ بعد قَوْله: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتَكون لمن خَلفك آيَة} [سُورَة يُونُس: 91] - 92]، فَجعله الله تَعَالَى عِبْرَة وعلامة لمن يكون بعده من الْأُمَم لينظروا عَاقِبَة من كفر بِاللَّه تَعَالَى، وَلِهَذَا ذكر الله تَعَالَى الِاعْتِبَار بِقصَّة فِرْعَوْن وَقَومه فِي غير مَوضِع.
وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَأَصْحَاب الرس وَثَمُود * وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان لوط * وَأَصْحَاب الأيكة وَقوم تبع كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد} [سُورَة ق: 12] - 14]، فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، فِرْعَوْن وَغَيره، كذب الرُّسُل كلهم، إِذْ لم يُؤمنُوا بِبَعْض ويكفروا بِبَعْض كاليهود وَالنَّصَارَى، بل كذبُوا الْجَمِيع، وَهَذَا أعظم أَنْوَاع الْكفْر، فَكل من كذب رَسُولا فقد كفر، وَمن لم يصدقهُ وَلم يكذبهُ فقد كفر؛ فَكل مكذب للرسول كَافِر بِهِ، وَلَيْسَ كل كَافِر مُكَذبا بِهِ، إِذْ قد يكون شاكا فِي رسَالَته، أَو عَالما بصدقه لكنه يحملهُ الْحَسَد أَو الْكبر على أَلا يصدقهُ، وَقد يكون مشتغلا بهواه عَن اسْتِمَاع رسَالَته والإصغاء إِلَيْهِ؛ فَمن وصف بالْكفْر الْخَاص الأشد، كَيفَ لَا يدْخل فِي الْكفْر؟!
وَلَكِن ضلالهم فِي هَذَا نَظِير ضلالهم فِي قَوْله:
مقَام النُّبُوَّة فِي برزخ ... فويق الرَّسُول وَدون الْوَلِيّ
وَقد علم أَن كل رَسُول نَبِي، وكل نَبِي ولي، وَلَا ينعكس.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد * وَثَمُود وَقوم لوط وَأَصْحَاب الأيكة أُولَئِكَ الْأَحْزَاب * إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب} [سُورَة ص: 12] - 14]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} [سُورَة الحاقة: 9] - 10].
ثمَّ إِن الله تَعَالَى أخبر عَن فِرْعَوْن بأعظم أَنْوَاع الْكفْر: من جحود الْخَالِق، ودعواه الإلهية، وَتَكْذيب من يقر بالخالق سُبْحَانَهُ، وَمن تَكْذِيب الرَّسُول وَوَصفه بالجنون وَالسحر وَغير ذَلِك. وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار أَن الْكفَّار الْعَرَب الَّذين قَاتلهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -مثل أبي جهل وَذريته- لم يَكُونُوا يجحدون الصَّانِع، وَلَا يدعونَ لأَنْفُسِهِمْ الإلهية، بل كَانُوا يشركُونَ بِاللَّه ويكذبون رَسُوله.
وَفرْعَوْن كَانَ أعظم كفرا من هَؤُلَاءِ؛ قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب * فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه واستحيوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال * وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى وليدع ربه إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ أَو أَن يظْهر فِي الأَرْض الْفساد * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب * وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} [سُورَة غَافِر: 23] -28]، إِلَى قَوْله: {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب * أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} [سُورَة غَافِر: 36] - 37].
أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن فِرْعَوْن وَمن ذكر مَعَه قَالَ إِن مُوسَى سَاحر كَذَّاب، وَهَذَا من أعظم أَنْوَاع الْكفْر.
ثمَّ أخبر الله أَنه أَمر بقتل أَوْلَاد الَّذين آمنُوا مَعَه لينفروا عَن الْإِيمَان مَعَه كيدا لمُوسَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي تباب} [سُورَة غَافِر: 37]، فَدلَّ على أَنهم من الْكَافرين الَّذين كيدهم فِي تباب، فوصفهم بالتكذيب وبالكفر جَمِيعًا، وَإِن كَانَ التَّكْذِيب مُشْتَمِلًا مستلزما للكفر، كَمَا أَن الرسَالَة مستلزمة للنبوة، والنبوة مستلزمة للولاية.
ثمَّ أخبر عَن فِرْعَوْن أَنه طلب قتل مُوسَى وَقَالَ: {وليدع ربه}، وَهَذَا تَنْبِيه على أَنه لم يكن مقرا بربه، وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمام الْكَلَام: {مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} [سُورَة الْقَصَص: 38]، وَهَذَا جحد صَرِيح لإله الْعَالمين، وَهِي الْكَلِمَة الأولى.
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك لما ذكره الله تَعَالَى بقوله: {فكذب وَعصى * ثمَّ أدبر يسْعَى * فحشر فَنَادَى * فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى} [سُورَة النازعات: 21] - 24]، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى * إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} [سُورَة النازعات: 25] - 26]. قَالَ كثير من الْعلمَاء: أَي نكال الْكَلِمَة الْآخِرَة، ونكال الْكَلِمَة الأولى، فنكل الله تَعَالَى بِهِ على الْكَلِمَتَيْنِ باعترافه، وَجعل ذَلِك عِبْرَة لمن يخْشَى. وَلَو كَانَ هَذَا مِمَّن لم يُعَاقب على مَا تقدم من كفره، وَلم يكن عِقَابه عِبْرَة، بل من آمن غفر الله لَهُ مَا سلف، وَلم يذكرهُ بِكفْر وَلَا بذم أصلا، بل يمدحه على إيمَانه، ويثني عَلَيْهِ كَمَا أثنى على من آمن بالرسل، وَأخْبر أَنه نجاهم.
وَفرْعَوْن هُوَ أَكثر الْكفَّار ذكرا فِي الْقُرْآن، وَهُوَ لَا يذكرهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا بالذم والتقبيح واللعن، وَلم يذكرهُ بِخَير قطّ.
وَهَؤُلَاء الْمَلَاحِدَة المُنَافِقُونَ يَزْعمُونَ أَنه مَاتَ طَاهِرا مطهرا لَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْخبث، بل يَزْعمُونَ أَن السَّحَرَة صدقوه فِي قَوْله: مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي، وَأَنه صَحَّ قَوْله: أَنا ربكُم الْأَعْلَى، وَأَنه كَانَ عين الْحق.
وَقد أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن جحوده لرب الْعَالمين. قَالَ لما قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين * حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل} [سُورَة الْأَعْرَاف: 104] - 105]، {قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين * قَالَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين * قَالَ لمن حوله أَلا تستمعون * قَالَ ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين * قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون * قَالَ رب الْمشرق وَالْمغْرب إِن كُنْتُم تعقلون * قَالَ لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين} [سُورَة الشُّعَرَاء: 23] - 29]، فتوعد مُوسَى بالسجن إِن اتخذ إِلَهًا غَيره.
وَهَؤُلَاء مَعَ تنظيمهم لفرعون يشاركون فِي حَقِيقَة كفره، وَإِن كَانُوا مفارقين لَهُ من جِهَة أُخْرَى، فَإِن عِنْدهم: مَا ثمَّ مَوْجُود غير الله أصلا، وَلَا يُمكن أحد أَن يتَّخذ إِلَهًا غَيره، لِأَنَّهُ أَي شَيْء عبد العابد من الْأَوْثَان والأصنام وَالشَّيَاطِين، فَلَيْسَتْ عِنْدهم غير الله أصلا. وَهل يُقَال هِيَ الله؟ لَهُم فِي ذَلِك قَولَانِ.
إِخْبَار الله عَن عَذَاب فِرْعَوْن فِي الْآخِرَة:
وإخباره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن تَكْذِيب فِرْعَوْن وَغير ذَلِك من أَنْوَاع كفره كثير فِي الْقُرْآن، وَكَذَلِكَ إخْبَاره عَن عَذَابه فِي الْآخِرَة. فَإِن هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَة يَزْعمُونَ أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة تدل على عَذَابه، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار وَبئسَ الْورْد المورود} [سُورَة هود: 98]، قَالُوا: فَأخْبر أَنه يوردهم، وَلم يذكر أَنه دخل مَعَهم. قَالُوا: وَقد قَالَ: {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} [سُورَة غَافِر: 46]، فَإِنَّمَا يدْخل النَّار آل فِرْعَوْن لَا فِرْعَوْن.
وَهَذَا من أعظم جهلهم وضلالهم، فَإِنَّهُ حَيْثُ ذكر فِي الْكتاب وَالسّنة آل فلَان كَانَ فلَان دَاخِلا فيهم، كَقَوْلِه: {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} [سُورَة آل عمرَان: 33]، وَقَوله: {إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر} [سُورَة الْقَمَر: 34]، وَقَوله: {سَلام على إل ياسين} [سُورَة الصافات: 130]. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى"، وَقَوله: "لقد أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد". وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نجيناكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب} [سُورَة الْبَقَرَة: 49]، {كدأب آل فِرْعَوْن} [سُورَة آل عمرَان: 11]، {وَلَقَد جَاءَ آل فِرْعَوْن النّذر * كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا فأخذناهم أَخذ عَزِيز مقتدر} [سُورَة الْقَمَر: 41] - 42].
وَقَوله: {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} [سُورَة غَافِر: 46] متناول لَهُ وَلَهُم بِاتِّفَاق الْمُسلمين، وبالعلم الضَّرُورِيّ من دين الْمُسلمين.
وَهَذَا بعد قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه: {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} [سُورَة غَافِر: 28]، وَالَّذِي طلب قَتله هُوَ فِرْعَوْن، فَقَالَ الْمُؤمن بعد ذَلِك: {مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار * تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ} [سُورَة غَافِر: 41] - 42]، والداعي إِلَى الْكفْر هُوَ كَافِر كفرا مغلظا، فَهَذَا فِيهِ.
ووصفهم أَيْضا بالْكفْر إِلَى قَوْله: {فوقاه الله سيئات مَا مكروا وحاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب * النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} [سُورَة غَافِر: 45] - 46]، فَأخْبر أَنه حاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب، وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب. ثمَّ قَالَ: {وَإِذ يتحاجون فِي النَّار فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار * قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا إِن الله قد حكم بَين الْعباد} [سُورَة غَافِر: 47] - 48] وَمَعْلُوم أَن فِرْعَوْن هُوَ أعظم الَّذين استكبروا، ثمَّ هامان وَقَارُون، وَأَن قَومهمْ كَانُوا لَهُم تبعا، وَفرْعَوْن هُوَ متبوعهم الْأَعْظَم الَّذِي قَالَ: مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي، وَقَالَ: أَنا ربكُم الْأَعْلَى.
وَقد قَالَ: {واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ * فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين * وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ * وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} [سُورَة الْقَصَص: 39] - 42].
وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ نبذه وَقَومه فِي اليم عُقُوبَة الَّذِي هُوَ الْكفْر، وَأَنه أتبعه وَقَومه فِي الدُّنْيَا لعنة، وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين هُوَ وَقَومه جَمِيعًا، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد * يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار وَبئسَ الْورْد المورود * وأتبعوا فِي هَذِه لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود} [سُورَة هود: 96] - 99].
فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنهم اتبعُوا أمره، وَأَنه يقدمهم لِأَنَّهُ إمَامهمْ، فَيكون قادما لَهُم لَا سائقا لَهُم، وَأَنه يوردهم النَّار. فَإِذا كَانَ التَّابِع قد ورد النَّار فمعلوم أَن القادم الَّذِي يقدمهُ وَهُوَ متبوعه ورد قبله، وَلِهَذَا قَالَ بعد ذَلِك: {وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} [سُورَة الْقَصَص: 42]. وَالتَّابِع والمتبوع كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي تِلْكَ السُّورَة عَن فِرْعَوْن وَقَومه: {وأتبعوا فِي هَذِه لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود} [سُورَة هود: 99].
وَالْكَلَام فِي هَذَا مَبْسُوط، لم تحْتَمل هَذِه الورقة إِلَّا هَذَا، وَالله أعلم.
وَالْحَمْد لله وَحده، وصلوات الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.
تمّ وكمل.
انتهى كلامه رحمه الله (انظر: جامع الرسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق محمد رشاد سالم - ط1 : دار العطاء - الرياض - ج1/صـ201 وما بعدها)

حمل الرسالة على ملف وورد من الملفات المرفقة

12d8c7a34f47c2e9d3==